خلفيات عودة سوريا إلى الجامعة العربية وانعكاساتها الإقليمية

استعاد النظام السوري مقعده بالجامعة العربية، استجابة لحاجة النظام العربي إلى تسوية النزاعات التي استنزفته، وشكَّلت مدخلًا للتدخلات الخارجية.
لن ينجح هذا المسعى إلا إذا تمكن من تخطي عقبة العقوبات الغربية المفروضة على النظام السوري.
الأسد يستعيد مكانه بين القادة العرب (رويترز).

بعد أكثر من عقد على تعليق عضويتها في الجامعة العربية، وافق مجلس وزراء الخارجية العرب في جلسة طارئة عُقدت في القاهرة، يوم 7 مايو/أيار 2023، على استعادة النظام السوري مقعد سوريا الشاغر في الجامعة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2011. على الأثر، وجهت المملكة العربية السعودية دعوة، نقلها سفيرها في عمَّان، إلى رئيس النظام السوري، بشار الأسد، لحضور القمة العربية الـ 32 التي عقدت في جدة، يوم 19 مايو/أيار الجاري، بصفته ممثلًا للجمهورية العربية السورية، لتنفك بذلك عزلة نظام الأسد العربية دون تغيير في الظروف والأسباب التي أدت إلى تعليق عضوية سوريا في الجامعة في المقام الأول، ودون التزامات واضحة بشأن عودة اللاجئين، والكشف عن مصير المعتقلين، وتحريك العملية السياسية المعطلة لحل الأزمة، وهي الشروط التي طالما تمسكت بها الجامعة العربية، إلى جانب القوى الغربية، للتطبيع مع النظام السوري.

رحلة العودة إلى الجامعة

رغم الدعم الذي قدمته دول الخليج العربية، خصوصًا، لفصائل المعارضة السورية في محاولاتها الإطاحة بالنظام السوري نتيجة العنف الشديد الذي استخدمه في قمع الاحتجاجات السلمية، ورفضه التجاوب مع أي مبادرة سياسية لحل الأزمة، إلا أن هذا الهدف (إسقاط النظام) أخذ يبدو غير واقعي بشكل متزايد مع اتضاح عدم جدية الموقف الأميركي في الإطاحة بالأسد، خاصة بعد خرقه الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس باراك أوباما بشأن استخدام السلاح الكيماوي، في أغسطس/آب 2013، ثم التدخل العسكري الروسي، في سبتمبر/أيلول 2015، والذي أنهى تقريبًا كل احتمالية لإسقاط النظام في دمشق. وبين الانكفاء الأميركي والتدخل العسكري الروسي بدأت المقاربة العربية والإقليمية، بشأن الصراع في سوريا، تتغير لتصبح أكثر انسجامًا مع الرؤية الأميركية التي باتت تنصب على هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد سيطرته على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، عام 2014. ومع بلوغ الحرب على تنظيم الدولة نهاياتها عام 2018، وتمكن النظام السوري، بدعم روسي/إيراني، من استعادة مناطق واسعة حول دمشق، وفي جنوب ووسط البلاد، من فصائل المعارضة، كانت ديناميات الصراع السوري قد تغيرت كليًّا، وأخذت دول عربية، بناء عليه، تفكر باستعادة العلاقات مع النظام، مع تأكد استمراره في الحكم. بدأ الأمر بالأردن الذي قرر إعادة فتح معبر جابر-نصيب الحدودي لاستئناف حركة التجارة التي توقفت منذ عام 2012. جاءت هذه الخطوة بعد أن أوقفت الولايات المتحدة عمل غرفة العمليات العسكرية الموك(Military Operations Center, MOC)  التي أنشئت عام 2012 في الأردن لدعم فصائل المعارضة السورية، والتي تم على إثرها التوصل إلى "اتفاق درعا" بمشاركة أميركية-روسية-أردنية لوقف إطلاق النار، الذي تضمن تسليم قوات المعارضة أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، وإجلاء المقاتلين والمدنيين الرافضين للتسوية إلى شمال غرب البلاد. وفي ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، قامت الإمارات والبحرين بإعادة فتح سفارتيهما في دمشق، ثم قامت سلطنة عمان بتعيين سفير لها في دمشق، في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وفي يوليو/تموز 2021، طرح الملك عبد الله الثاني، ملك الأردن، خلال القمة التي جمعته بالرئيس الأميركي، جو بايدن، في واشنطن "خريطة طريق" للحل في سوريا "تضمن استعادة سيادتها ووحدتها". اشتملت الخريطة على تخفيف العقوبات الأميركية على سوريا وإعادتها إلى الجامعة العربية في مقابل تعاون روسيا في إضعاف النفود الإيراني في سوريا والذي كان السبب الرئيس الذي دفع عددًا من الدول العربية إلى دعم الثورة السورية في المقام الأول. مع نهاية العام 2021، تكثفت التحركات العربية للتطبيع مع دمشق ومحاولة إعادتها إلى الجامعة العربية؛ حيث قام عبد الله بن زايد، وزير خارجية الإمارات، بأول زيارة لوزير خارجية عربي إلى دمشق، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. وفي مارس/آذار 2022، قام بشار الأسد بأول زيارة عربية له منذ عام 2011 إلى أبو ظبي، فيما كثفت الجزائر جهودها لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية خلال القمة العربية العادية الـ31 التي تم تأخير عقدها في الجزائر من مارس/آذار إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2022 في محاولة لتحقيق إجماع عربي بشأن استعادة سوريا مقعدها في الجامعة، إلا أن هذه الجهود لم تفلح بسبب معارضة السعودية ومصر وقطر خصوصًا، نتيجة فشل الأسد في تقديم أي التزامات لحل الأزمة.

تغير الموقف السعودي

مع أن الموقف السعودي تجاه الأزمة السورية أخذ يتغير تدريجيًّا منذ ما قبل التدخل العسكري الروسي في سبتمبر/أيلول 2015، إلا أن السعودية بدأت تعطي إشارات واضحة حول استعدادها للانفتاح على نظام الأسد فقط في مطلع 2023، وتولى وزير الخارجية، فيصل بن فرحان، الترويج للموقف الجديد. وأثناء مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن، في 18 فبراير/شباط 2023، قال الوزير السعودي: "إن إجماعًا يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي، بل في العالم العربي بأن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار"، وإن هناك نهجًا آخر "بدأ يتشكل"، وإن هذا ينبغي أن يمر "عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما".

تمحور النهج الجديد الذي أشار اليه ابن فرحان حول أن غياب الدور العربي عن الأزمة السورية قد أضر بالمصالح العربية، وترك مصير سوريا لتقرره دول غير عربية، خاصة في إطار مسار أستانا الذي نشأ بتفاهم روسي/تركي، مطلع 2017، قبل أن تنضم إليه إيران. وقد سمح الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، مطلع فبراير/شباط 2023، بتسهيل إعادة التواصل العربي مع سوريا؛ حيث قام وزراء خارجية الإمارات والأردن ومصر بزيارة دمشق للإعراب عن تضامنهم، فيما تدفقت المساعدات من دول عربية عديدة على سوريا لمساعدة منكوبي الزلزال. وبعد توصل السعودية وإيران إلى اتفاق لاستئناف العلاقات بينهما بوساطة صينية في العاشر من مارس/آذار 2023، بدا واضحًا أن الرياض تستعد لاتخاذ خطوة مماثلة تجاه النظام السوري. وعليه، دعت الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، بناء على طلب سعودي، إلى اجتماع تشاوري في جدة، في 14 أبريل/نيسان 2023، لمناقشة الأزمة السورية. حضر الاجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الست إضافة إلى مصر والعراق والأردن. وكانت السعودية دعت قبل ذلك وزير خارجية النظام السوري إلى جدة في محاولة لانتزاع تنازلات منه تساعد في إقناع الدول العربية التي ستجتمع في جدة بعد يومين للقبول بعودة سوريا إلى الجامعة العربية. صدر عن الاجتماع السعودي-السوري بيان أعلن فيه الطرفان استئناف الخدمات القنصلية والرحلات الجوية بين البلدين، والاتفاق على "تهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، وتعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب بكافة أشكاله وتنظيماته، والتعاون بشأن مكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها، ودعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري". لكن فشل اجتماع جدة في التوصل إلى اتفاق بشأن استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية، دعا إلى عقد اجتماع تشاوري آخر في عمَّان حضره إلى جانب الأردن، مصر والعراق والسعودية ووزير خارجية النظام السوري. وبين الاجتماعين، قام وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، بزيارة إلى دمشق كانت الأولى لوزير سعودي منذ عام 2011. صدر في ختام اجتماع عمَّان بيان وافقت سوريا بموجبه على التعاون في مكافحة تهريب المخدرات وإنتاجها، وعلى تسهيل العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين. وفي السابع من مايو/أيار 2023، عقد وزراء الخارجية العرب اجتماعًا طارئًا في القاهرة توافق فيه الوزراء دون تصويت على استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية، وقامت بعد ذلك السعودية بتوجيه دعوة رسمية إلى رئيس النظام السوري، بشار الأسد، لحضور قمة جدة لينهي بذلك نحو 12 سنة من غياب سوريا عن الجامعة العربية.

تطبيع مشروط؟

تفاوتت مصالح الدول العربية ومواقفها من مسألة تطبيع وضع النظام السوري بين رافض بدون حصول تغيير في الظروف التي أدت إلى عزله (قطر) ومتحفظ (الكويت ومصر) ومتحمس (السعودية والإمارات وإلى حدٍّ ما الأردن). انطلقت سياسة التطبيع من مقاربة نصَّت عليها المبادرة الأردنية والتي سميت بمبادرة "خطوة مقابل خطوة"، فكل خطوة يخطوها النظام باتجاه الحل سوف تترتب عليها خطوة من الجانب العربي لفك العزلة عن سوريا وإقناع القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، بتخفيف العقوبات لإطلاق عملية إعادة الإعمار، أقله في إطار مشاريع التعافي المبكر التي نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 2642 لعام 2022. وتقوم المقاربة على أنه وفي ظل الوضع الاقتصادي المنهار للنظام وعجز حلفائه عن تقديم يد العون (إيران بسبب الحصار والعقوبات الناتجة عن أزمة برنامجها النووي وروسيا بسبب أوضاعها الاقتصادية المتأزمة بعد حرب أوكرانيا والعقوبات الناشئة عنها) فإن النظام بات مضطرًّا إلى طلب يد العون من دول الخليج العربية التي باتت تملك الآن فرصة لاستعادة دورها في حل الأزمة، ودفع النظام للإذعان لشروطها.

تتفاوت هذه الشروط بتفاوت مصالح الدول العربية، ففيما يركز الأردن أكثر على قضية إعادة اللاجئين، نظرًا لوجود نحو 650 ألف لاجئ سوري على أراضيه، تتشارك السعودية ودول خليجية أخرى مع الأردن المخاوف من ازدياد عمليات تهريب المخدرات بعد أن باتت سوريا مصدرًا رئيسًا لإنتاجها. وتتهم جهات مختلفة النظام باللجوء إلى إنتاج وتهريب المخدرات وذلك لتأمين مورد مالي يساعده على البقاء في ظل العقوبات المفروضة عليه، لاستخدامها من جهة ثانية أداة ضغط على الدول العربية والمجتمع الدولي للتفاوض معه وتخفيف العقوبات، وهو ما يمكن استنتاجه من التزام النظام السوري بالتعاون على مكافحة إنتاج المخدرات وتهريبها متزامنًا بعودته للجامعة العربية، والتزامه بإعادة اللاجئين أمام دول خليجية يتطلع إلى مساهماتها المالية في إعادة الإعمار. وفيما تبدو الإمارات مهتمة أكثر بطي صفحة الربيع العربي والقضاء على تيارات الإسلام السياسي، لا يحظى موضوع الدفع بالحل السياسي للأزمة السورية إلا باهتمام مباشر من جانب قطر، التي جعلت منه شرطًا للتطبيع مع النظام. ويبدو أن السعودية ماضية من جهتها في محاولة "تصفير المشاكل، مع دول الإقليم، بما في ذلك مع سوريا، في إطار سياسة الانكفاء نحو الداخل للتركيز على المشاريع التنموية التي تقع في إطار رؤية 2030 التي يقودها ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان". وكان اتفاق استعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع إيران منذ مطلع عام 2016 الخطوة الأبرز بهذا الاتجاه.

العقدة الأميركية

شكَّل التوجه العربي للتطبيع مع النظام السوري، الذي بدأته الإمارات، قبل أن تقود اندفاعته السعودية، أحد تجليات الانكفاء الأميركي عن المنطقة، وأزمة الثقة في العلاقات السعودية-الأميركية التي بدأت مع إدارة أوباما واستمرت مع ترامب وبلغت ذروتها مع بايدن. شكَّل تراجع باراك أوباما عن إنفاذ وعده بمعاقبة النظام السوري على استخدامه أسلحة كيماوية ضد المدنيين في غوطة دمشق، في أغسطس/آب 2013، صدمة في الرياض وغيرها من عواصم الخليج. وكانت العلاقات بين الرياض وواشنطن في حالة تراجع أصلًا بسبب ما رأت فيه الرياض تخليًا أميركيًّا عن الحلفاء بعد أن دعا الرئيس أوباما الرئيس مبارك للتنحي استجابة لمطالب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. وازدادت أزمة الثقة على نحو أكبر بعد الكشف عن مفاوضات سرية أميركية-إيرانية بدأت في سلطنة عُمان، في 2013، وانتهت بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، في 2015. ورغم أن العلاقات تحسنت في عهد ترامب، الذي انسحبت إدارته من الاتفاق النووي وأعادت فرض العقوبات على إيران، إلا أن سياسة ترامب لم تغير الميل الأميركي نحو تقليل انخراطها في المنطقة، بل عمَّقته في واقع الأمر. وقد اتضح ذلك على نحو خاص في رد فعل ترامب على الهجمات التي تعرضت لها منشآت نفط أرامكو في بقيق وخريص، شرق المملكة، في سبتمبر/أيلول 2019، واتهمت واشنطن والرياض إيران بالوقوف وراءها.  وعلى الرغم من أن ترامب أبدى استعداده للرد على الهجوم أول الأمر، إلا أنه أكد أن مسؤولية الرد عليه تقع على عاتق السعودية؛ "هذا هجوم على السعودية وليس على الولايات المتحدة"، قال ترامب في ردٍّ على سؤال صحفي. وقد أثارت تصريحاته هذه صدمة في الرياض التي أخذت تعيد النظر في سياستها المتشددة نحو إيران، فوافقت على بدء حوار معها بوساطة عراقية في بغداد. وتعمقت الاستدارة السعودية تجاه إيران بعد وصول إدارة الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض. وكان بايدن قد أطلق خلال حملته الانتخابية تصريحات معادية للسعودية، وأبدى رغبته في إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران. وبمجرد استلام إدارته السلطة، أخرجت الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية، كما أوقفت تصدير الأسلحة الهجومية إلى السعودية وبدأت بالضغط عليها لوقف الحرب في اليمن.

دفع ما بدا للرياض تخليًا أميركيًّا عنها نحو تبني سياسة أكثر واقعية في علاقاتها الإقليمية قامت بموجبها بإنهاء أزمة حصار قطر، مطلع 2021، ثم أطلقت مبادرة لحل الأزمة في اليمن، قبل أن تقبل بفتح حوار مع إيران في بغداد، توج باتفاق بكين، في 10 مارس/آذار 2023. وقد ساعد هذا الاتفاق بدوره في الانفتاح على النظام السوري؛ حيث تسارعت بعدها خطوات التطبيع معه، وصولًا إلى إعادة عضويته في الجامعة العربية وحضوره قمة جدة. ورغم أن إدارة بايدن كانت شجعت السعودية على الانفتاح على إيران ووقف الحرب في اليمن، إلا أن واشنطن لم تبد ارتياحًا للدور الصيني في إبرام الاتفاق السعودي-الإيراني، كما أبدت تحفظًا على الانفتاح السعودي على النظام السوري، والذي تم بناء على جهود وساطة قادتها روسيا التي شهدت علاقتها بالرياض تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، بما في ذلك في مجال إنتاج النفط وضبط أسعاره. وبرزت المعارضة الأميركية لخطوات التطبيع العربي مع النظام السوري خصوصًا على مستوى الكونغرس الذي مرَّر حزمة من القوانين باتت تمثل عقبة فعلية أمام أي نتائج ملموسة يمكن أن يسفر عنها التطبيع العربي مع النظام السوري، وأبرزها قانون قيصر لعام 2019، وقانون مكافحة الكبتاغون لعام 2022. كما مرر الكونغرس في 11 مايو/أيار الجاري قانونًا لمحاربة التطبيع مع النظام السوري، طالب فيه الإدارة الأميركية بعدم الاعتراف بأي حكومة سورية يرأسها الأسد أو تطبيع العلاقات معها، وفرض عقوبات على من يفعل ذلك. وبرز فوق ذلك توافق دولي، قادته واشنطن، خلال قمة مجموعة الاقتصادات السبع الكبرى في هيروشيما في اليابان، في 20 مايو/أيار 2023، على ربط التطبيع مع النظام السوري وإعادة الإعمار بحصول تقدم حقيقي في العملية السياسية، والتزمت المجموعة كذلك بمحاسبة المسؤولين عن الهجمات بأسلحة كيماوية في سوريا ومحاكمتهم.

لكن، وفي ضوء غياب أي رغبة لدى إدارة بايدن لتعريض علاقاتها مع السعودية للخطر بسبب التطبيع مع نظام الأسد، خاصة مع تنامي التنافس الأميركي-الصيني في منطقة الخليج وتوجه دول خليجية عديدة إلى تطوير علاقاتها مع الصين في مختلف المجالات بما في ذلك العسكرية والأمنية، قد تحاول إدارة بايدن ربما "ضبط" التطبيع العربي مع نظام الأسد بدلًا من منعه، بحيث يكون التطبيع بثمن، بدل أن يكون مجانيًّا، ويسفر عن تقدم في معالجة القضايا الإنسانية خصوصًا (المعتقلين واللاجئين والمعابر والمساعدات الإغاثية) وكذلك على مستوى إيجاد حل للمسألة السورية.

التداعيات الإقليمية للعودة

منذ استقلالها عن فرنسا، عام 1946، لعبت سوريا دورًا مركزيًّا في موازين القوى الإقليمية، وكان موقفها مرجِّحًا بين القوى العربية الرئيسة التي نافست على زعامة العالم العربي في الخمسينات والستينات (مصر والعراق والسعودية). وقد برز دور سوريا خصوصًا في السياسة العربية مع خروج مصر من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي بتوقيعها اتفاقية كامب ديفيد، في 1978، ثم اتفاقات السلام مع إسرائيل، في 1979، وتعليق عضويتها نتيجة لذلك في الجامعة العربية. كما استفادت سوريا من انشغال العراق في حربه مع إيران (1980-1988) لتعزيز موقعها في النظام الإقليمي العربي. وسمح انضمام سوريا لمصر والسعودية بعد حرب تحرير الكويت (1991) بلعب دور مركزي في السياسة العربية استمر حتى هجمات سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. لكن دور سوريا الإقليمي بدأ يضعف بوضوح بعد الغزو الأميركي للعراق، في 2003، وخصوصًا بعد انسحاب قواتها من لبنان، في 2005، بضغط أميركي/سعودي على خلفية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري. مع ذلك، تمكنت سوريا -نتيجة العلاقات الوثيقة التي أقامتها مع تركيا في العقد الأول من حكم العدالة والتنمية (2002-2011) إضافة إلى تحالفها الطويل مع إيران- من الاستمرار في لعب دور مهم في موازين القوى الإقليمية حتى اندلاع الثورة عام 2011، وتحول سوريا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي.

من غير الواضح كيف ستؤثر عودة سوريا إلى الجامعة العربية في موازين القوى الإقليمية، وفي الاصطفافات الجديدة التي تشهدها المنطقة، في ضوء الضعف الشديد الذي يعتري موقفها بعد 12 سنة من الحرب، وفي ظل وجود خمسة جيوش أجنبية على أراضيها، وفقدان النظام السيطرة على مناطق واسعة من شمال وشمال شرقي البلاد؛ حيث تتركز أكثر ثروات سوريا المائية والطبيعية (النفط والغاز) فضلًا عن انهيار قدراتها العسكرية، وحدوث دمار واسع في بنيتها التحتية، تقدر تكلفة إعادة بنائه وفق أكثر التقديرات تحفظًا بـ 400 مليار دولار، والأهم من كل ذلك هو فقدان سوريا أكثر من نصف مواردها البشرية، مع اقتلاع نحو 12 مليون سوري من بيوتهم، موزعين بين لاجئ ونازح، فيما يعيش 90 بالمئة ممن يقيمون في مناطق سيطرة النظام تحت خط الفقر الأدنى. رغم كل ذلك، تحاول إيران استباق نتائج التطبيع العربي مع دمشق، التي تبدو اليوم بحاجة للاستثمارات العربية وشركات البناء التركية أكثر من حاجتها للميليشيات الإيرانية، لتأمين مصالحها في سوريا. هذه المخاوف تفسر زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي الأخيرة لدمشق والتي تأجلت عدة مرات بسبب خلافات حول الاتفاقيات الاقتصادية التي تنشدها إيران لضمان سداد ديونها لسوريا التي تتراوح التقديرات بشأنها بين 30-60 مليار دولار، بما في ذلك المطالبة باستملاك أراض في سوريا مقابل هذه الديون.

ورغم الشكوك المحيطة بقدرة نظام الأسد على الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، وهو أحد أهداف التقارب العربي مع دمشق، إلا أن الدول العربية المتحمسة لمسار التطبيع تجادل بأن عودة الدور العربي إلى سوريا أقله من بوابة العمل الإنساني ومشاريع التعافي المبكر سوف يعزز موقف الأسد التفاوضي تجاه الضغوط الإيرانية التي تتعاظم على دمشق لتسديد ديونها. وقد اعتبر بعض المراقبين أن إزالة الأعلام الإيرانية من مواقع تشغلها ميليشيات مؤيدة لطهران في مناطق في دير الزور والبوكمال، شرقي البلاد، ورفع أعلام سوريا مكانها يعد مؤشرًا على إمكانية حصول ذلك. وفي كل الأحوال لا يمكن التقليل من أهمية التنافس على مسار إعادة الإعمار، الذي تتطلع دول الخليج العربية إلى لعب دور رئيس فيه، في حسابات التطبيع العربية مع سوريا؛ ذلك أن عملية إعادة الإعمار بمقدار ما أنها تتطلب استثمارات طائلة إلا أنها توفر من جهة أخرى فرصًا كبيرة في مجالات البنية التحتية والخدمات، والسياحة، والزراعة، وغيرها.

فيما تشكِّل عودة سوريا العربية انتصارًا للجناح المناهض للتغيير والرافض للإصلاح السياسي في الجامعة العربية وتعزيزًا لموقفه، فإن هذه العودة توفر من ناحية ثانية مدخلًا جديدًا للتعاون الذي يتنامى مع روسيا التي تشارك هذا الجناح الموقف من الثورات العربية، إلى جانب مصالح مشتركة أخرى عديدة تبدأ بالطاقة وتمتد إلى الأمن والموقف من التيارات الإسلامية. وتأمل هذه القوى أن تعزز عودة سوريا موقفها الرامي إلى طي صفحة الثورات العربية نهائيًّا، وبالنسبة للسعودية فإنها تمثل رافعة لتعزيز دورها الدبلوماسي المتنامي على الساحتين الإقليمية والدولية، واختبارًا مهمًّا لجدية إيران في التعاون لحل أزمات المنطقة.

عود على المحك

من الواضح أن فك عزلة سوريا العربية جاء ليعبِّر عن حاجة عربية وإقليمية لتسوية الخلافات البينية والانتقال من مرحلة الاستنزاف المتبادل، خصوصًا بعد التقارب السعودي-الإيراني، والتقارب التركي-المصري، والتركي-الخليجي وفي ظل تنامي التنافس الصيني-الأميركي في المنطقة، وأن هذه الحاجة هي التي ستحدد حتمًا طبيعة الدور الذي ستقوم به سوريا في الإقليم وموقعها في اصطفافاته الجديدة. لكن المضي في هذا المسار لن يكون سهلًا؛ إذ سيترتب على الدول العربية مقاومة الضغوط الغربية، الأميركية خصوصًا، الرافضة لمسار التطبيع، وإقناعها بجدوى المقاربة الجديدة، بما يسمح بتجاوز العقوبات أو تخفيفها لإطلاق عملية إعادة الإعمار. سوف يترتب على الدول العربية أيضًا إقناع النظام السوري بتقديم تنازلات تساعدها في هذا المسعى مع وجود شكوك عميقة حول قدرة هذا النظام أو رغبته في تنفيذ أي تعهدات يقطعها في مقابل مساعدته اقتصاديًّا وفي إعادة الإعمار. في كل الأحوال، سوف تتضح خلال الشهور القليلة القادمة جدوى المقاربة العربية الجديدة القائمة على استخدام نظام الحوافز بدل العقوبات لإقناع النظام السوري بتغيير سياساته، وسيكون الاختبار الأول أمامها متصلًا بمكافحة المخدرات وتوفير بيئة آمنة لإعادة اللاجئين.