قطر ودول آسيا الوسطى: تشابك مطرد للمصالح

تتوالى الزيارات المتبادلة بين القيادة القطرية وقيادات دول آسيا الوسطى، كمؤشر على أهمية العلاقة بين الطرفين في تحقيق مصالحهما الوطنية.
13 يونيو 2023
الأمير تميم يوثق علاقات بلده بآسيا الوسطى(رويترز).

أنهى أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في 8 يونيو/حزيران الجاري، زيارة أربع دول في آسيا الوسطى: كازاخستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، بدعوة من قادتها، وكان ضيف الشرف في منتدى أستانا الدولي بكازاخستان. وتأتي هذه الزيارة بعد عام فقط من زيارته العام الماضي لتركمانستان، في يونيو/حزيران 2022، وكازاخستان، في أكتوبر/تشرين الأول 2022. وسبقتهما زيارته لكازاخستان في 2017، وتركمانستان في 2016. وفي الاتجاه المقابل، زار عدد من قادة دول آسيا الوسطى الدوحة عدة مرات. فقد زارها رئيس أوزباكستان، شوكت ميرضيايف، في 2021، وزارها رئيس تركمانستان، قربان قولي محمدوف في 2020، وزارها رئيس كازاخستان، قاسم توكاييف، ورئيس قيرغيزيستان، سورونباي جينبيكوف، وزارها رئيس طاجيسكتان، إمام رحمون، ورئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف في 2018. تؤشر هذه الزيارات على المكانة المهمة للعلاقة بين الطرفين في سلم مصالحهما الوطنية.

مصالح متشابكة

تأتي أهمية العلاقة بين الطرفين في خدمتها لمقتضيات مصالحهما الوطنية، فقطر تنظر إلى دول وسط آسيا من خلال خطتها الإستراتيجية الوطنية 2030، التي تعطي الأولوية للتنويع الاقتصادي للتحرر من التبعية لمداخيل المحروقات المتقلبة والمنقضية بعد حين. وتجد في دول آسيا الوسطى الفرص السانحة لتنويع استثماراتها في قطاعات عدة، الزراعية والبنية التحتية والنقل، والهيئات المالية، وقطاعات الطاقة. تبلغ قيمة التبادل التجاري بين الطرفين في 2019، حسب بيانات البنك الدولي، 1.2 مليار دولار، تستولي كازاخستان على الحصة الأكبر، بنحو 1.1 مليار دولار، تتبعها أوزباكستان بنحو 0.08 مليار دولار، ثم قيرغيزستان بنحو 0.01 مليار دولار، ثم طاجيكستان بنحو 0.003 مليار دولار، وبعدها تركمانستان بنحو 0.001 مليار دولار. ليس هذا المبلغ كبيرًا مقارنة بحجم تبادل الطرفين مع مناطق أخرى، لكنه مرشح للارتفاع بعد أن تمهد عوائق إجرائية، مثل التوصل إلى اتفاقية للتجارة الحرة، وتيسير سبل النقل.

توفر دول آسيا الوسطى أيضًا فرصة كبيرة لقطر كي ترتبط بشبكة الحزام والطريق الصينية التي ستمر من خلالها إلى أوروبا، وتمر الشبكة في آسيا الوسطى من ثلاثة مسارات: الجسر الأراضي الأوراسي، ويمر من الأستانة بكازاخستان إلى موسكو، والثاني: ممر الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا، ويمر عبر ألما آتي بكازاخستان وطشقند بأوزباكستان وطهران بإيران وأنقرة بتركيا، والثالث: ممر الصين-باكستان، ويمر عبر  ألما آتي بكازاخستان نحو إسلام أباد وغويدار بباكستان.

الملاحظ أن الممرات الثلاثة تمر عبر كازاخستان، وقد يفسر ذلك جزئيًّا تصدرها أولويات اهتمام قطر بالعلاقات مع دول آسيا الوسطى، وتسهم عوامل إضافية في تفسير هذه المكانة الاستثنائية، فكازاخستان تقع في المرتبة التاسعة عالميًّا في إنتاج الفحم، والسابعة عشرة في إنتاج البترول، والرابعة والعشرين في إنتاج الغاز، وتعد من أهم الدول المحتوية على المواد النادرة التي تقوم عليها صناعات التقنية العالية، مثل الإلكترونيات والصناعات الفضائية، والطاقة النووية، والطب، فهي الأولى في احتياطيات مادة الكروم، والثانية في احتياطيات اليورانيوم والفضة، والمرتبة الثالثة في احتياطيات الزنك والمنغنيز، والخامسة في الحديد، والثامنة في احتياطيات القصدير والذهب، والتاسعة في الكوبالت وثاني أوكسيد التيتانيوم، والثالثة عشرة في النيكل والبوكسيت. ويتوقع الخبراء أن العالم سيشتد زحامه على المواد الأولية النادرة لأنها ضرورية لصناعات إستراتيجية مثل صناعات تخزين البيانات ومعالجتها ونقلها، والطاقة، والفضاء.

توفر أيضًا دول آسيا الوسطى، خاصة كازاخستان، موقعًا جيوبوليتيكيًّا استثنائيًّا، فمن ناحية الشرق توجد الصين الناهضة، وشمالًا روسيا، وغربًا أوروبا المطلة على بحر قزوين، وجنوبًا إيران وتركيا، وهي قوى رئيسية على المستوى الدولي والإقليمي، ويؤدي التعامل معها إلى المساهمة في صناعة الأحداث وتوجهيها. وقد تحتاج هذه القوى إلى قطر في إنجاز مشاريعها الاقتصادية بآسيا الوسطى أو في تسوية خلافاتها الجيوسياسية.

تتيح دول آسيا الوسطى للحليفين، قطر وتركيا، ساحة للتعاون المشترك، فلقد دأب الطرفان على التحرك سويًّا في عدة ساحات. فتركيا تضع أيضًا دول آسيا الوسطى ضمن أولوياتها الجيوستراتيجية، وقد سعت للارتباط بها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات، فأنشأت رابطة الدول الناطقة بالتركية، وهي: كازاخستان، وطاجيكستان، وأوزباكستان، وقيرغيزستان، ولا تزال تركيا تضمِّن خطابها مرجعيات الأخوة التركية التي تتجاوز الحدود السياسية للدول. وقد تسهم قطر في تقوية هذه الرابطة لتمتين التحالف مع تركيا.

دول آسيا الوسطى تدرج أيضًا العلاقة مع قطر في مسعى تحقيق مصالحها الوطنية. تحتاج هذه الدول إلى مستثمرين أجانب في عدد من القطاعات التي تنهض باقتصاداتها وتوفر الشغل لمواطنيها وتدفع بصادراتها إلى مراتب عليا في الأسواق الخارجية. وقد ألحت هذه المقتضيات عليها مؤخرًا. فلقد شهدت كازاخستان احتجاجات شديدة على رفع أسعار البنزين، في يناير/كانون الثاني 2022، وقد استغاثت الحكومة بالجار الروسي لإعادة الهدوء وفرض النظام، لكن لا تزال الأوضاع هشة؛ لأن أسباب السخط لا تزال قائمة. فمعدل التضخم بآسيا الوسطى في 2021، يبلغ 8.9%، وهو معدل ارتفاع أسعار سلة من المواد الأساسية، مقارنة بمعدل التضخم العالمي البالغ 4.4%. تلجأ الحكومات عادة إلى رفع أسعار الفائدة لتقليص كتلة النقود المتداولة، فتخفض من نسبة التضخم. وقد فعلت دول آسيا الوسطى ذلك، فبلغت نسبة الفائدة في كازاخستان 16.75%، في شهر أبريل/نيسان 2023. وفي أوزباكستان 6.9%، في ديسمبر/كانون الأول 2021، وطاجيكستان 10.8% في نفس الشهر. هذه نسب مرتفعة جدًّا مقارنة بمعدل نسب الفائدة العالمية المقدر بنحو 4.9%، في يناير/كانون الثاني 2023. يؤدي سعر الفائدة إلى خفض التضخم لكنه يجعل الاقتراض مكلفًا، فتعجز الشركات عن تحقيق أرباح تفوق سعر الفائدة على الاقتراض؛ إذ لا توجد شركات تستطيع مثلًا تحقيق أرباح تفوق نسبة الفائدة 16 بالمئة في كازاخستان، فتسرح عمالها، ويميل أصحاب رؤوس الأموال  إلى ادخار أموالهم في البنوك للحصول على سعر فائدة مرتفع لا يستطيعون تحقيقه في الاستثمار بأنشطة اقتصادية، فتصاب البلاد بالركود الاقتصادي، فترتفع البطالة، وتقل البضائع، وتنهار الخدمات، وقد يتزايد تذمر الناس على الأوضاع ويسعون لتغييرها بالاحتجاجات على الحكومات القائمة.

الملاحظ أن الظرف الحالي يضيق خيارات الحكومة في التحكم بالأوضاع، فلقد كانت من قبل تعتمد على الدعم الأمني الروسي لفرض النظام واستعادة الهدوء، لكن روسيا حاليًّا مشغولة بالحرب في أوكرانيا، وتعاني من عزلة غربية شديدة، وقد تقع الدول التي تسعى إلى دعمها في عزلة تزيد من سوء أوضاعها، وقد لا تحصل في نفس الوقت على الدعم الذي تتطلع إليه من روسيا، وقد يكون هذا الدعم مكلفًا جدًّا مثل أن تطلب روسيا مساعدتها في التملص من العقوبات الغربية أو المساهمة في جهودها العسكرية بأوكرانيا.

تراجع خيار الاستعانة بروسيا، يدفع دول آسيا الوسطى إلى التركيز أكثر على خيار النهوض الاقتصادي بجلب استثمارات أجنبية من دول يستبعد أن تطالب بتنازلات جيوبوليتيكية مثل روسيا والصين. تعد قطر أنموذجًا لذلك.

تشترك دول آسيا الوسطى وقطر في مركب أمني واحد، فهما يرتبطان بشراكة أمنية مع الولايات المتحدة؛ إذ ترتبط الولايات المتحدة بدول آسيا الوسطى بشراكات ثنائية، وجماعية في إطار سي5+1 الدبلوماسي واتفاق الولايات المتحدة وآسيا الوسطى للتجارة والاستثمار. من جهتها، ترتبط قطر والولايات المتحدة بحلف إستراتيجي وثيق يشمل تأثيره كلًّا منهما؛ لأن قطر تستضيف القيادة المركزية للجيش الأميركي التي تشرف على العمليات في آسيا الوسطى. وقد كانت أفغانستان أولوية لعمليات هذه القيادة، ولا تزال تراقب ما يجري هناك؛ لأن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال نشطًا، ويخوض مواجهات مع تنظيم طالبان الذي تولى السلطة في أفغانستان. وأفغانستان مجاورة لطاجيكستان إحدى دول آسيا الوسطى التي تأثرت بما وقع في جارتها ولا تزال تتأثر، مثل استقبال اللاجئين الأفغان ولكن يمكنها في المقابل التأثير في الأوضاع الأفغانية، كتوفير تسهيلات للجيش الأميركي، والتأثير في المكون الطاجيكي بأفغانستان. تبرز إذن مصلحة مشتركة بين قطر والولايات المتحدة ودول آسيا الوسطى في المجال الأمني، توثق العلاقة بين الأطراف المعنية، وتجعل من قطر طرفًا مهمًّا في أمن آسيا الوسطى.

دوافع الغد

تدفع الديناميات الجارية إلى مزيد من توثيق العلاقة بين قطر ودول آسيا الوسطى. ستزداد أهمية آسيا الوسطى الاقتصادية مستقبلًا، سواء لزيادة الطلب المتوقع على المواد النادرة التي توجد بها، أو على موارد الطاقة، أو للنشاط الاقتصادي الناتج عن خطة الحزام والطريق الصينية، أو للاهتمام الأميركي المتزايد بالإحاطة بالصين وروسيا لمنعهما من مزاحمتها على قيادة العالم.

في نفس الوقت، ستحتاج دول آسيا الوسطى إلى استثمارات اقتصادية تبعث اقتصاداتها، للوقاية من الاضطرابات الاجتماعية، وتحرص أن تكون تلك الاستثمارات دون اشتراطات سياسية باهظة، خاصة من الجار الكبير الصيني. وتعد دول الخليج الجهة الاستثمارية الأمثل في هذا السياق.

يسرِّع الغزو الروسي لأوكرانيا من هذه الاتجاهات، فدول آسيا الوسطى ستقلِّل الاعتماد على الدعم الأمني الروسي لضبط الاحتجاجات، وستعتمد أكثر على الرخاء الاقتصادي، وسيجعل الإنهاك الروسي في الحرب دول آسيا الوسطى أقل خشية من موسكو، وأوسع حرية في الاقتراب من الغرب والبحث عن شركاء في مجالات إستراتيجية. كذلك ستستغل الصين الفراغ الناتج عن الإنهاك الروسي للتمدد في آسيا الوسطى وجعلها سوقًا لمنتجاتها ومجالًا لنفوذها وجسرًا لأوروبا، وتحصل دول آسيا في المقابل على مشاريع اقتصادية كبرى.

كل هذه الديناميات تجعل من دول آسيا لوسطى مركزًا من مراكز الجذب الرئيسية في العالم، وتجعل من رهان قطر عليها، إستراتيجية بعيدة النظر، قد تحقق مردودًا معتبرًا في المستقبل يسهم في تحقيق إستراتيجية قطر الوطنية.

 

 

نبذة عن الكاتب