مجموعة "البريكس" ودورها في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي

تنعقد بين 22 و24 أغسطس/آب 2023 القمة الخامسة عشر لمجموعة "البريكس". وتكتسي هذه القمة أهمية خاصة نظرا للثقل الذي تمثله هذه الكتلة على عدد من المستويات. وتزداد أهمية القمة والمجموعة لما يحمله مشروع البريكس من قابلية للتوسع والتطلع لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي على أسس جديدة.
مجموعة "البريكس" تسعى لتوسيع عضويتها وإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي

كان ظهور مجموعة دول "البريكس" (BRICS)، التي تضم كلًّا من البرازيل وروسيا الهند والصين وجنوب إفريقيا، سريعًا ولافتًا؛ فهي من أبرز التكتلات التي شهدها العالم في بداية القرن الحادي والعشرين. وقد تطور هذا التكتل بشكل ملحوظ مع استفحال الأزمة المالية العالمية، سنة 2008، والتي لا تزال تداعياتها تنخر الاقتصاد العالمي إلى اليوم. يطرح ظهور هذه المجموعة جملة من الرهانات الإستراتيجية ويكشف عن عدد من التحديات الجيواقتصادية والجيوسياسية التي تستدعي الرصد والمتابعة.

رغم تعدد التكتلات والمجموعات الإقليمية والدولية في العقود القليلة الماضية، على غرار الاتحاد الأوروبي ومجموعة الآسيان والتكتل الاقتصادي لأميركا الشمالية والحلف التجاري لأميركا اللاتينية والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا-إكواس، إلى جانب مجموعة السبع الصناعية الكبرى (7G) ومجموعة العشرين (G20) وغيرها، إلا أنها لم تحظ جميعها بنفس القدر من الاهتمام والمتابعة مثلما حظيت مجموعة البريكس. ويعود ذلك إلى عدد من الأسباب، منها ما هو جيوسياسي ومنها ما هو جيواقتصادي، ومنها ما هو جيوستراتيجي. وترتبط هذه العوامل، على اختلافها، بالصراعات الدولية على إدارة النظام العالمي وتطلُّع بعض الدول الصاعدة لإقامة نظام متعدد القطبية.

ترصد هذه الورقة التحولات الهيكلية في النظام العالمي مع التركيز على صعود مجموعة البريكس في ظرف زمني وجيز، وتستعرض التحديات التي تواجهها المجموعة مع محاولة استشراف الآفاق المستقبلية وما يمكن أن تحمله التفاعلات الإقليمية والدولية الراهنة من تطورات. منهجيًّا، تُغلِّب الورقة مقاربة التحليل الجيواقتصادي على التحليل الجيوسياسي، رغم الترابط الواضح بين البعدين في موضوع البريكس بالذات.

سياقات التأسيس والصعود

شهد العالم في العشرية الأخيرة من القرن الماضي، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، جملة من التحولات الهيكلية الكبرى. من أهم تلك التحولات، من المنظور الجيواقتصادي، تفكك منظومة الدول الاشتراكية سابقًا وتوجهها نحو نظام اقتصاد السوق، وبروز اليورو عملةً دولية منافسة للدولار، وتوسيع الاتحاد الأوروبي، وظهور مجموعات إقليمية ودولية أفرزت كتلًا تجارية وأقطابًا اقتصادية جديدة. أسهمت تلك التحولات في تطور المنافسة بشكل حاد؛ ما أعطى الجانب الجيواقتصادي زخمًا جعله يتبوأ موقع الصدارة في إدارة العلاقات الدولية على حساب الجانب الجيوسياسي(1). ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية، تتالت الأصوات الداعية إلى إصلاح النظام الاقتصادي العالمي وتوسيع عملية صنع القرار داخله.

في خضم هذه السياقات، مثَّل ظهور مجموعة البريكس، عام 2006، قبيل اندلاع الأزمة المالية العالمية، حدثًا نوعيًّا بارزًا. وقد عبَّر ظهور المجموعة عن تحول مهم في نمط الحوكمة الاقتصادية للنظام العالمي وإنهاء المركزية والتحيز لمصالح دول مجموعة السبع الصناعية (7G) التي تهيمن عليه منذ نشأته عبر نظام بريتن وودز، عام 1946. تزامن حدث التأسيس مع الإرهاصات الأولى للأزمة المالية العالمية وتراجع النمو الاقتصادي في معظم البلدان الصناعية وتراجع الثقة في الاقتصاد الأميركي خاصة. كما تزامن مع بداية التخلي عن الدولار (Dedollarization) في المبادلات التجارية العالمية وتوسعها لتشمل عددًا مهمًّا من الدول الحليفة تاريخيًّا للقطب الأميركي-الأوروبي. وما زاد من أهمية تأسيس البريكس، ما تتميز به دول المجموعة من خصوصيات تختلف بها عن المجموعات والتكتلات الإقليمية والدولية الأخرى، التي غالبًا ما يجمع بينها البعد الجغرافي أكثر من غيره. ومن أهم تلك الخصوصيات:

  • سرعة النمو: فهذا التكتل يضم 5 دول تعد صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم؛ ما يجعل منها أحد أهم التكتلات الاقتصادية، مقابل تراجع نمو المجموعات المنافسة، وفي مقدمتها مجموعة السبع الصناعية (7G). وقد أغرت تلك الخاصية عددًا من الدول الأخرى بطلب الانضمام للمجموعة.
  • الثقل السكاني والجغرافي: فالمجموعة تمثل 40% من مساحة العالم، وتضم أكبر خمس دول في العالم من حيث المساحة الجغرافية، متوزعة على أربع قارات. كما تمثل 43% من سكان العالم، وبها أكبر بلدين من حيث الكثافة سكانية، هما: الهند والصين؛ ما يجعل من البريكس أكبر الأسواق عالميًّا.
  • الوزن الاقتصادي: تستحوذ المجموعة على ما لا يقل عن 40% من الثروة العالمية و31.5% من حجم الاقتصاد العالمي؛ ما جعلها تتجاوز مجموعة السبع الصناعية التي تمثل 30.7%. كما تمتلك المجموعة حوالي 20% من حجم التجارة العالمية، وتوفر أكثر من ثلث الإنتاج العالمي من الحبوب، وتتحكم في 50% من احتياطي الذهب والعملات في العالم(2).
  • طبيعة العلاقة: فالرابط الذي يجمع بين بلدان المجموعة ليس رابطًا تاريخيًّا أو جغرافيًّا وإنما هو رابط جيواقتصادي بالأساس، يعكس إرادة جماعية لإرساء نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب، ويسعى للتصدي للهيمنة الغربية بزعامة أميركا وأوروبا بحلول عام 2050. وهذا الهدف عبَّرت عنه المجموعة في جملة أهدافها التي رسمتها في وثائق التأسيس؛ ما يجعل منها مبادرة عالمية بامتياز، وليست مجرد تكتل إقليمي كباقي التكتلات.
  • نموذج العمل: تقدم المجموعة نموذجًا غير تقليدي يتوجه نحو الاقتصادات الصاعدة التي لها القدرة على النمو ومنافسة التكتلات الكبرى، بالتوازي مع تأثيرها في المؤسسات المالية العالمية. مرجعية هذا النموذج النظام الرأسمالي القائم على الاقتصاد الحقيقي بدلًا من الاقتصاد المالي الذي يهيمن في الوقت الراهن على النظام العالمي. ويهدف هذا النموذج إلى إنشاء نظام نقدي جديد بديلًا من نظام بريتن وودز المترهل، ومستقلًّا عن هيمنة الدولار عبر إرساء عملة عالمية جديدة. كما يسعى إلى الحد من دور صندوق النقد الدولي وتمكين مشاركة الدول النامية في المؤسسات المالية العالمية، إلى جانب إنشاء وكالة تصنيف دولية مستقلة.

منجزات البريكس

بانعقاد القمة الخامسة عشرة 2023، تكون مجموعة البريكس قد تخطت طور التأسيس واستكملت هيكلتها لتنتقل إلى طور الإنجاز وتنزيل المشروعات التي خططت لها طيلة السنوات الماضية. ومن أبرز هذه المشروعات:

  • تجذير الثقل الاقتصادي للمجموعة، التي تحولت إلى قوة اقتصادية عالمية تستقطب الاهتمام وتحتل موقع الصدارة داخل الاقتصادات العشرين الأكبر عالميًّا خلال العقدين الماضيين، وتعزيز قدرتها على منافسة مجموعة السبع الكبار (G7) لتشكيل واقع جيوسياسي وجيواقتصادي جديد.
  • إرساء مجموعة من مؤسسات البنية التحتية الخاصة بها كمؤسسات موازية وربما بديلة عن المؤسسات الدولية القائمة مثل بنك التنمية الجديد (NDB)، الذي يؤمَّل أن يكون بديلًا عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وصندوق احتياطي (CRA) كإطار جديد لتوفير الحماية من ضغوط السيولة العالمية. إلى جانب ذلك، أنشأت الصين البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية (AIIB)، كمؤسسة مالية دولية متعددة الأطراف، وكذلك صندوق طريق الحرير، الذي أُسِّس عام 2014. وتأتي أهمية هذه المؤسسات المالية في طريقة عملها وإدارتها حيث تعمل وفقًا لشروط أفضل بكثير بالنسبة إلى الدول النامية والصاعدة، مقارنة بمؤسسات بريتن وودز.
  • استخدام نظام الاتفاقيات الثنائية القائم على العملات الوطنية وتشجيع سياسة إزالة الدولرة في المبادلات التجارية الدولية. وقد بدأ هذا النمط من المعاملات يشهد إقبالًا متزايدًا من عدد كبير من الدول تجاوز الخمسين دولة، مع الشروع في الإعداد لإنشاء عملة بديلة أو على الأقل قادرة على منافسة الدولار.
  • تهيئة الأرضية الملائمة لنظام دفع جديد متعدد الأطراف، يكون بديلًا لنظام الاتصالات المالية بين البنوك العالمية "سويفت" (SWIFT)، من شأنه أن يوفر قدرًا أكبر من الضمان والاستقلالية لدول المجموعة والدول المتعاملة معها. وقد بدأت بعض دول المجموعة في استخدام أنظمة محلية بديلة في انتظار تحولها إلى نظام دولي موحد. من بين تلك الأنظمة نظام تحويل الرسائل المالية الروسي (SBFC)، ونظام الدفع بين البنوك الصيني (CIPS)، وقد تم الربط الفعلي بين هذين النظامين منذ العام 2019.
  • الانفتاح على الاقتصادات الناشئة والتوجه نحو التوسع واستقطاب بلدان جديدة تملك ثروات كبيرة لتشكل إضافة نوعية للمجموعة، وذلك من خلال آلية "بريكس+" التي أضحت تحظى باهتمام كبير من قبل العديد من الدول مثل الأرجنتين وإندونيسيا وكازاخستان ونيجيريا والإمارات والسعودية ومصر والسنغال وتايلاند والجزائر. وإذا ما تم قبول هذه الدول فإن تلك الخطوة ستُحدث تحولًا جذريًّا في مشروع البريكس ليصبح قوة عالمية ضاربة، نظرًا لثقلها الديمغرافي واتساعها الجغرافي إضافة إلى مقدراتها العسكرية.

تحديات تواجه المجموعة

بقدر ما تتمتع المجموعة بنقاط قوة فعلية تؤهلها للعب دور إستراتيجي مهم في مسرح العلاقات الدولية في المستقبل المنظور، بقدر ما تشكو من صعوبات ذاتية، وتواجه تحديات موضوعية تحتاج إلى معالجات ضرورية عاجلة حتى تقوم بالدور المنوط بها في تعديل الاقتصاد العالمي ووضع حدٍّ للهيمنة الغربية على مفاصل النظام الدولي.

تتعلق الصعوبات الذاتية بتفاوت القدرات وتباين الأولويات بين دول المجموعة من جهة، وكذلك بتعدد الأقطاب داخلها واختلاف الأجندات من جهة ثانية، إلى جانب غياب الانسجام في الأنظمة السياسية والنماذج التنموية من جهة ثالثة. وتشير بيانات البنك الدولي المتعلقة بالدول الخمس المكوِّنة للمجموعة إلى أن هناك تفاوتًا معتبرًا في أحجامها الاقتصادية وقدراتها التنموية يجعل علاقاتها البينية غير متكافئة، وقد يكون ذلك عائقًا أمام الاندماج والتكامل. فالناتج الإجمالي لدولة مثل الصين يعادل 40 ضعف ما تنتجه جنوب إفريقيا، و11 ضعف إنتاج البرازيل، و10 أضعاف إنتاج روسيا، و5 أضعاف إنتاج الهند(3). وينعكس هذ التفاوت على الأجندات الخاصة بكل دولة والأولويات التي ترسمها لشق طريقها داخل المجموعة. في هذا السياق، ليس خافيًا عن العيان التنافس الصيني-الروسي والتنافس الهندي- الصيني. فالصين لها أجندتها الخاصة في منافسة الولايات المتحدة على تصدر المشهد الاقتصادي العالمي، وروسيا تشارك نفس الهدف ولكن بدرجة أقل نسبيًّا بسبب دخولها في صراعات إقليمية تستنزف قدراتها وتقضم من ثرواتها. أما تطلعات الدول الثلاث الأخرى فتقتصر على تحسين تموقعها في خارطة القوى الصاعدة وتطوير قدراتها الذاتية. تعاني المجموعة كذلك من التباين بين أنماط الأنظمة السياسية والاقتصادية، فضلًا عن الدول الجديدة التي ترغب في الانضمام للمجموعة. فالجمع بين أنظمة سلطوية داخل دول المجموعة وأخرى ديمقراطية يعوق تقدمها ويحول دون تقديم نموذج قائم على التعددية السياسية التي هي عماد التنمية المستدامة.

أما التحديات الموضوعية فأبرزها الاختلالات الهيكلية وارتفاع معدلات الدين العام(4) وأسعار الفائدة وارتفاع معدلات الفقر والفوارق الاجتماعية داخل كل دولة، إلى جانب تعدد المرجعيات الثقافية والفكرية وغياب الإرث التاريخي والحضاري المشترك ووجود النعرات العرقية والدينية والاثنية. بالإضافة إلى ذلك، تواجه بعض دول المجموعة حروبًا وتحديات عسكرية على غرار الحرب الروسية-الأوكرانية، والنزاع الأميركي-الصيني في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان. ورغم أن دول المجموعة الخمس تعد الأسرع نموًّا في العالم طيلة السنوات الأخيرة، إلا أن التأمل في تفاصيل الأوضاع الاقتصادية يكشف عن وجود اختلالات هيكلية داخل اقتصاد بعض البلدان مما يجعل من معالجتها أولوية قصوى لضمان التقدم في بناء المشروع وتحقيق وعوده. فباستثناء روسيا، تشكو دول المجموعة من ارتفاع نسبة الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي بشكل يهدد استدامة النمو، وذلك بمعدل إجمالي قدره 71% من الناتج الإجمالي للدول الخمس. وتفصيلًا، بلغت نسبة ديون الصين 77% والبرازيل 86% والهند 84% وجنوب إفريقيا 71%. أما روسيا فلا تتجاوز نسبة ديونها 16%. ويعزى الاستثناء الروسي، رغم كلفة الحرب التي تخوضها ضد أوكرانيا ومن ورائها حلف الناتو، إلى التأثيرات العكسية للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وارتفاع عائداتها من الغاز بعد أن تمكنت من تعويض الأسواق التقليدية الغربية بأسواق شرقية جديدة. ويكشف ارتفاع الدين العام في البلدان الأربعة عن مفارقة بين سرعة النمو وتباطؤ التنمية. فهذه المفارقة تشير إلى اختلال تنموي ولَّد فوارق اجتماعية كبيرة خاصة في كل من الهند والصين وجنوب إفريقيا(5). إن تباين القوة داخل دول المجموعة ونزوع الصين للهيمنة والريادة من شأنه أن يؤدي إلى الانكماش وتباطؤ مسار التكامل بين دول المجموعة.

من التحديات الموضوعية كذلك، ما يمكن تسميته بسياسة الإلهاء الغربية والأميركية تحديدًا، عبر إثارة النزاعات والحروب. فروسيا تخوض منذ بداية العام 2022 حربًا على أوكرانيا تستنزف قدراتها وتزداد كلفتها المالية والاقتصادية، ولا أحد يعلم متى يتوقف هذا النزيف. ومما لا شك فيه أن استمرار الحرب وارتفاع كلفتها سيؤثر سلبًا على الدور الروسي في التسريع في مشروع البريكس وبناء نظام جيوسياسي عالمي جديد(6). ويندرج التلويح الأميركي بإشعال حرب أخرى على الحدود الصينية بشأن جزيرة تايوان في نفس سياسة الإلهاء التي تستهدف كلًّا من روسيا والصين، القوتين الأساسيتين في المجموعة، لتعطيل نموهما ومنعهما من مراكمة المزيد من القوة التي يمكن أن تنافس، وربما تتفوق على الدور الأميركي في النظام الاقتصادي العالمي.

من التحديات الأخرى التي تواجه مجموعة البريكس التباين في العلاقات الدولية وغياب التجانس في المواقف إزاء القوى الغربية الكبرى، وتحديدًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ففي حين تتبنى روسيا موقفًا متشددًا بحكم الحرب التي تخوضها ضد أوكرانيا، تبدي الصين موقفًا حذرًا تغلب عليه الاعتبارات الجيواقتصادية. فتجارة الصين الخارجية تعتمد على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بنسبة لا تقل عن 75%. أما الهند فتغلب البراغماتية السياسية على علاقاتها بالغرب، ضمن رؤية جيوسياسية تعكس خصوصية التطلعات والاهتمامات الجيوستراتيجية لهذا البلد الذي تتعاظم قوته باطراد، والتي لا تنسجم بالضرورة كليًّا مع أهداف البريكس. يضاف إلى هذا التباين في العلاقات مع الغرب، اختلافُ المواقف من مسألة توسيع البريكس. فانضمام دول أخرى للمجموعة يحمل معه المزيد من التحديات ويعقِّد الصورة أكثر في علاقة بالأجندات الخاصة لكل طرف(7).

أخيرًا، يبقى التحدي الأكبر الذي يواجه المجموعة هو مدى قابليتها للاستمرار وانتقالها من طور الظاهرة الظرفية إلى طور المشروع البديل الواعد الذي يبشر بميلاد نظام اقتصادي عالمي جديد، يقطع مع الأحادية والهيمنة ويجسد التعددية القطبية والتعايش السلمي بين المجموعات الإقليمية والدولية. ويظل هذا الانتقال رهين الإجابة على سؤال الجدلية بين السياسي والاقتصادي، وتجنب الصراعات والحروب، والتوجه نحو عالم أكثر تعاونًا وأكثر عدالة وإنسانية.

تطلعات البريكس ودورها المستقبلي في الاقتصاد العالمي

تسعى مجموعة البريكس إلى أن تكون فاعلًا رئيسيًّا ورياديًّا في ساحة الاقتصاد السياسي الدولي في أفق 2050(8). ومن شأن هذا التطور أن يضع حدًّا للأحادية القطبية في النظام العالمي، ولهيمنة الولايات المتحدة على مفاصل الاقتصاد العالمي، ومن ثم إعادة تشكيله على أنقاض نظام بريتن وودز الذي يتسم بدرجة كبيرة من المركزية والتحيز لمصالح الدول الصناعية الغربية.

يتوقف إنجاز هذه التطلعات الجيوستراتيجية التي ستحدد مستقبل المجموعة على قدرتها على رفع التحديات التي تواجهها على الصعيدين، الذاتي والموضوعي. وكذلك على جملة من العوامل، أبرزها:

  • الحفاظ على استدامة النمو الذي تحقق وإعادة التوازن لاقتصاداتها وتعزيز مكانة كل منها في الاقتصاد العالمي. في هذا السياق، تشير التقديرات الأولية إلى تصدر دول البريكس قائمة الدول العشرين الكبرى مع حلول 2050، ويُتوقع أن تحتل الصين المرتبة الأولى. وكذلك الحال بالنسبة إلى الهند والبرازيل وروسيا التي من المنتظر أن تصل إلى المراتب الثالثة والرابعة والخامسة على التوالي(9).  
  • تخطي مرحلة التوسع بنجاح وتحويل صيغة "بريكس+" إلى فرصة لزيادة القدرات وتعزيز التكامل، خصوصًا إذا انضمت للمجموعة دول ذات وزن كبير جغرافيًّا وبشريًّا واقتصاديًّا، مثل: إندونيسيا والأرجنتين وإيران، إلى جانب دول أخرى غنية بالثروات. فتشكيل "بريكس+" وفرز مطالب البلدان الراغبة في الانضمام ينبغي أن يكون وفق معيار المصلحة العامة للمشروع في المستقبل وبعيدًا عن أية اعتبارات ضيقة أو أجندات خاصة، لاسيما مع وجود اختلافات ملحوظة داخل المجموعة بين مؤيد ومتحفظ. فالهند، على سبيل المثال، وعلى خلاف الصين، لا ترغب في التوسيع خشية أن يخدم ذلك الأجندة الصينية الخاصة، علمًا بأن فكرة التوسيع مقترح صيني بالأساس، يهدف إلى مشاركة الجنوب العالمي وإدماج تكتلات إقليمية مختلفة. وهذا المسار لا يحظى بإجماع الدول الخمس.
  • ضمان الاستقرار عبر التقريب بين النظم السياسية باتجاه ترسيخ الديمقراطية واحترام الحريات العامة وفض النزاعات الداخلية والخارجية سلميًّا. وهنا تكمن نقطة الضعف الرئيسية للمجموعة، التي تضم أنماطًا مختلفة من النظم السياسية تجمع بين الديمقراطية (الهند، جنوب إفريقيا، البرازيل)، والسلطوية (الصين، روسيا)، فضلًا عما ستفرزه عملية التوسيع المرتقبة من أنماط أخرى تزيد من تعقد المشهد.
  • تقديم نموذج تنموي بديل عن نموذج اقتصاد السوق النيوليبرالي السائد. وحتى تصبح البريكس أساسًا لنظام عالمي جديد، عليها أن تقدِّم إلى دول أخرى في الاقتصاد العالمي نماذج تنموية جديدة ومختلفة عن النموذج الغربي بما يحمله من أزمات. ولا يكفي الانفتاح على نظام اقتصاد السوق وإطلاق العنان للقطاع الخاص وتقليص دور الدولة في التحكم في دواليب الاقتصاد، بل يجب تقديم معالم نموذج (أو نماذج) تلائم الخصوصيات الاجتماعية والهويات الثقافية لمختلف الدول الرافضة للوصاية الغربية ونموذجها النيوليبرالي السائد. إن الأنظمة الاقتصادية في دول البريكس خليط من الليبرالية والاشتراكية، تجمع بين نمط اقتصاد السوق الاجتماعي واقتصاد السوق الاشتراكي، إلى جانب اقتصاد السوق الليبرالي. يحتاج الاقتصاد السياسي لهذه البلدان إلى مراجعة الأسس التي تستند إليها نماذجها التنموية المتعددة للوقوف على ما يجمع بينها وبناء نماذج جديدة تفسر بطريقة أفضل علاقات القوى الدولية على أساس منصة عالمية جديدة وتشكل إطارًا لنظام جديد قادر على تحديث الاقتصاد العالمي(10). ولن يتم ذلك إلا بتغليب البعد الجيواقتصادي على البعد الجيوسياسي. فهذه الفكرة هي التي قام عليها مشروع البريكس، وهي في الوقت ذاته الدافع الأساسي لإقبال عدد من الدول الصاعدة والناشئة على المشروع. ففي حين تدافع دول البريكس عن نظام عالمي تشاركي وفق قانون اللعبة المربحة للجميع، تعمل الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة على ترسيخ نظام عالمي قائم على قانون اللعبة الصفرية الذي يكون فيه كل طرف إما رابحًا أو خاسرًا.
  • تطوير هيكلة المجموعة وتقوية مؤسساتها مثل بنك التنمية الجديد، الذي انضمت إلى عضويته بعض الدول الراغبة في الانضمام مثل الإمارات العربية المتحدة وبنغلاديش وأوروغواي ومصر. يضاف إلى ذلك المؤسسات التي أنشأتها الصين مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية وصندوق طريق الحرير.
  • بعث عملة دولية جديدة وتوسيع دائرة التخلي عن الدولار كعملة مهيمنة على الاقتصاد العالمي، وهو أهم المشاريع الإستراتيجية على أجندة المجموعة. لقد اتسعت دائرة إزالة الدولرة وأضحت سياسة تتبناها، ليست فقط دول منافسة للولايات المتحدة مثل مجموعة البريكس، بل صارت خيارًا مستخدمًا من قبل دول صديقة لأميركا باتت تفضل استبدال التعامل بالعملات المحلية بالتعامل بالدولار في التجارة الدولية والعلاقات الاقتصادية الأخرى، على غرار الإمارات والمملكة السعودية إلى جانب نيجيريا واليابان وأستراليا وإندونيسيا ودول آسيوية أخرى(11). وقد جرى بالفعل استخدام العملات المحلية بدلًا من الدولار في تسوية المعاملات المالية المتعلقة بالمواد الإستراتيجية، بما في ذلك السلع والطاقة والمعادن، إضافة إلى التخلص من السندات والأصول المقوَّمة بالدولار وخفض احتياطيات الدولار الأميركي وتحويل اتفاقيات التجارة الثنائية إلى العملات المحلية.

بالتوازي مع هذا المسار المرحلي والعملي، انطلقت المجموعة في إعداد إطار توافقي لتطوير عملة احتياطية جديدة على أساس سلة العملات للدول الأعضاء. ومن المنتظر أن تحسم القمة الخامسة عشرة شكل العملة الجديدة. وتأتي العملات الرقمية ضمن الأفكار المطروحة التي ستُنشئ العملة الجديدة على أساس إستراتيجي، لا على أساس الدولار أو اليورو. وسيعتمد تأمينها على الذهب أو بعض السلع الحيوية الأخرى. فالمجموعة تتحكم فيما لا يقل عن 50% من رصيد الذهب في العالم، ومع ذلك يحتاج تفعيل هذه العملة في الواقع إلى بضع سنوات لتتسع دائرة التعامل بها وتصبح عملة مستقرة.

خاتمة

لا تبدو تقديرات مجموعة البريكس بخصوص المكانة التي تسعى للوصول إليها بعيدة عن الواقع، رغم التحديات التي تواجهها على المستويين الذاتي والموضوعي. فهذا التكتل يستمد قوته، ليس من قوة الدول المكونة له وحسب، بل كذلك من ضعف المنظومة المقابلة وحالة الترهل المتواصل التي عليها القطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة وشريكها الأوروبي. من هذه الزاوية، تبدو حظوظ نجاح مشروع البريكس في فرض التعددية القطبية وتعديل بنية الاقتصاد العالمي وإدماج القوى الصاعدة وافرة.

ومع ذلك، تحتاج المجموعة إلى مزيد التدقيق في هوية مشروعها وتحديد مرجعياته بالانفتاح أكثر على القيم الإنسانية والكونية التي تسند خياراته وتوجهاته الاقتصادية والتنموية. بدون ذلك، لا يمكن للمشروع أن يكون قابلًا للتطبيق على أوضاع بلدان متعددة المشارب والثقافات والأنظمة السياسية. فهذا المشروع، الذي يتخطى حدود الجغرافيا، ذو طبيعة عالمية تجعله يختلف عن باقي التكتلات والتجمعات والمجموعات الإقليمية والدولية. فهو مشروع فوق إقليمي لكونه يجمع بلدانًا من أربع قارات مختلفة، وبانضمام عدد آخر من الدول، ستتكرس هذه الخاصية أكثر، ما يقتضي أخذها بعين الاعتبار في تحليل المشروع ورصد تطوراته.

ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار أيضًا، تداخل البعد الجيواقتصادي الذي قام عليه هذا المشروع مع البعدين الجيوسياسي والجيوستراتيجي، حتى وإن ظل البعد الأول غالبًا على طبيعته وأهدافه وتوجهاته. فقد أصبح العامل الجيواقتصادي في عالم اليوم يكتسي أهمية بالغة في التنافس الجيوسياسي. ولا نجانب الصواب إذا قلنا: إن ذلك العامل هو المحرك الأول للعلاقات الدولية والصراعات على الموارد الاقتصادية والأسواق التجارية. ومن مصلحة مشروع البريكس مراعاة هذا الترتيب في تحديد الأولويات وتقدير التوازنات.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) Edward N. Luttwak, From Geopolitics to Geo-Economics: Logic of Conflict, Grammar of Commerce, The National Interest, Issue 20, Summer 1990, pp. 17-23.

https://www.jstor.org/stable/42894676/ (accessed on 22/08/23)

(2)  حسب بيانات البنك الدولي لسنة 2022.

(3) تقدير النسب طبقًا لبيانات البنك الدولي: الناتج الإجمالي حسب البلدان، بيانات 2022.

(4) Country Economy Portal (countryeconomy.com): BRICS.

https://fr.countryeconomy.com/pays/groupes/brics/ (accessed on 22/08/23)

(5) Laila Porras, Croissance, inégalités et pauvreté au sein des pays émergents: le cas des BRICS, Revue de la Régulation - Capitalisme, Institutions, Pouvoirs, Vol. 18, Autumn 2015.

https://journals.openedition.org/regulation/11480/ (accessed on 22/08/23)

(6) Michael Grömling, Auswirkungen des Krieges in der Ukraine auf die Weltwirtschaft, German Economic Institute (IW), 21/02/2023.

https://www.iwkoeln.de/studien/michael-groemling-auswirkungen-des-krieges-in-der-ukraine-auf-die-weltwirtschaft-iw-schaetzung-der-groessenordnungen.html/ (accessed on 22/08/23)

(7) للمزيد حول هذا الموضوع، يُنظر: زينب حسين حرز الحميداوي وفيان أحمد محمد لاوند، التحديات التي تواجه تكتل بريكس والآفاق المستقبلية، مجلة أوروك للعلوم الإنسانية، مجلد 13، عدد 2، يونيو/حزيران 2020، ص 675-695.

(8) Shraddha Naik, The Emergence of BRICS: An Extension of Interregionalism to the Global South, in eds. Elise Feron, Jyrki Kakonen and Gabriel Rached, Revisiting Regionalism

and the Contemporary World Order: Perspectives from the BRICS and beyond, Verlag

Barbara Budrich, 2019, pp. 61-82.

(9) Bandi R. Prasad, BRICS and the Global Economy, Financial Technologies Knowledge Management Company (FTKMC).

https://nkibrics.ru/system/asset_docs/data/54cf/72c4/6272/690a/8b12/0000/original/BRICS_and_The_Global_Economy.pdf?1422881476/ (accessed on 22/08/23)

(10) Vai Io Lo, ‎Mary Hiscock, The Rise of the BRICS in the Global Political Economy: Changing Paradigms? 2014.

(11) عن ظاهرة "إزالة الدولرة"، انظر على سبيل المثال:

Henri Fouquereau, La dé-dollarisation du monde, un mouvement qui s’amplifie, Entreprendre, 04/05/23.

https://www.entreprendre.fr/la-de-dollarisation-du-monde-un-mouvement-qui-samplifie/ (accessed on 22/08/23)