اعتمدت الآلة العسكرية الإسرائيلية -منذ اليوم الأول للحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة- إستراتيجية غير تقليدية لا تعمل بمبدأ "آلة الحرب عمياء ومن يحركها ضرير"، لأن ذلك يضفي الطابع الأهوج والعشوائي على بعض الخسائر والضحايا الذين يسقطون في الحرب، بل ظلت هذه الآلة تتحرك خلال العشرين يومًا الماضية بإستراتيجيات عسكرية ممنهجة تستهدف في الأصل وجود الذات الفلسطينية. وهذا ما يفسر المجازر التي ترتكبها إسرائيل في حق المدنيين الفلسطينيين بالقطاع، وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها حتى في المناطق التي طلبت منهم النزوح إليها، فضلًا عن استباحة المقدسات والرموز الدينية والمستشفيات (المعمداني والشفاء والقدس...)، والمؤسسات التعليمية ومرافق الخدمات العامة. لذلك لم تكن الآلة العسكرية الإسرائيلية عمياء ولا من يحركها ضريرًا؛ إذ استهدفت فئات مجتمعية حيوية تحتاج إليها ظروف الحرب ومتطلبات البقاء على قيد الحياة، مثل الطواقم الطبية والمسعفين وسائقي سيارات الإسعاف، والموظفين العاملين في بعض المنظمات الإغاثية الدولية... فقد كانت الآلة الحربية مبرمجة بالرغبة في القضاء على سبل استمرار الحياة، ومصادر صمود وثبات الفلسطينيين في أرضهم وديارهم.
كان الصحفيون الفلسطينيون أيضًا، ومنذ اليوم الأول من الحرب على قطاع غزة، في دائرة استهداف الآلة العسكرية التي تقتنص أهدافها الواحد تلو الآخر ليصل عددهم، في اليوم التاسع عشر من الحرب، 22 صحفيًّا -كما أشار مدير مكتب الجزيرة، وليد العمري- من مجموع 126 صحفيًّا اغتالتهم إسرائيل منذ العام 1967. ويمثِّل هذا العدد نسبة كبيرة، خلال 56 عامًا، بلغت 17.46% في غضون 19 يومًا فقط.
سياسة الانتقام والاجتثاث
في هذه الحرب التي تشنُّها إسرائيل على قطاع غزة أصبحت الفئات المجتمعية المهنية التي تحتاج إليها ظروف الحرب هدفًا للآلة العسكرية بشكل ممنهج، فيُعاقب الفلسطينيون عقابًا جماعيًّا، بما في ذلك الشهود على الجرائم والمجازر التي يرتكبها الاحتلال في حق هؤلاء الفلسطينيين. وهنا، نفهم لماذا تغتال إسرائيل الصحفيين؟ وإذا لم تتمكن من ذلك، تستهدف أفراد أسرهم عبر قصف البيوت وتدمير المساكن على رؤوسهم بالصواريخ، كما حصل لأفراد عائلة مراسل الجزيرة ومدير مكتبها في قطاع غزة، وائل الدحدوح، في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023. فاغتالت هذه الآلة العسكرية زوجته وابنه وابنته وحفيده في منزل نزحوا إليه بمخيم النصيرات وسط القطاع. ويُوثِّق تقرير لنقابة الصحفيين الفلسطينيين مجازر الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحفيين وأسرهم، والانتهاكات التي تتعرض لها المؤسسات الإعلامية، خلال الأسبوع الأول من الحرب على غزة، فيشير إلى قصف حوالي 20 منزلًا للصحفيين بشكل كامل أو جزئي. كما قصف الاحتلال عددًا من منازل هؤلاء الصحفيين على رؤوس ساكنيها، من دون إنذار أو تحذير.
وإذا لم يُقتل الصحفي بالآلة العسكرية لجيش الاحتلال، أو يُقصف منزله ويُقتل أفراد عائلته بالصواريخ، فقد يتعرض لإصابة بالغة، أو ينتظره الاعتقال مثلما حصل للصحفي نضال الوحيدي، خلال تغطية الأحداث التي اندلعت أثناء اقتحام حاجز إيرز "بيت حانون" شمالي قطاع غزة، في سياق عملية طوفان الأقصى. كما اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية الصحفيين مصطفى الخواجا، وصبري جبر، وعبد الناصر اللحام، ومعاذ عمارنة. ولا يُستثنى من سياسة القصف الممنهج ما يحصل لمقرات ومراكز المؤسسات الإعلامية؛ حيث تم تدمير 50 مقرًا ومركزًا إعلاميًّا. ويُعد ذلك جزءًا من تاريخ الاحتلال الإسرائيلي في التعامل مع الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، سواء خلال فترات الحروب أو خارجها. وهنا، يتذكر المجتمع الصحفي اغتيال مراسلة الجزيرة، شرين أبو عاقلة، في 11 مايو/أيار 2022، الذي كشف ظروف الرصد والترصد التي أحاطت بعملية اغتيال الاحتلال لصحفية أثناء ممارسة نشاطها الإعلامي. كما يتذكر الصحفيون اعتداء قوات الاحتلال على مراسلة الجزيرة، جيفارا البديري، واعتقالها بالقدس المحتلة لساعات، في يونيو/حزيران 2021، خلال تغطيتها لمظاهرات المتضامنين مع حي الشيخ جراح في الذكرى 54 للنكسة.
يُشير مسار الحرب على قطاع غزة وأهدافها -كما يُعلن الاحتلال الإسرائيلي نفسه الذي يسعى إلى محو حركات المقاومة- إلى أن اغتيال الصحفيين وتدمير مساكنهم أو اعتقالهم، أو قتل أفراد من عائلاتهم بقصف مساكنهم، لم يعد يهدف إلى التخويف والترهيب والردع فقط، كما كان يحصل في الحروب السابقة (2008-2009، 2012، 2014، 2021). فقد حصل تحول نوعي في سياسة الاحتلال التي تستهدف الصحفيين، وهي لا تنفصل عن سياساته الإستراتيجية تجاه القضية الفلسطينية وما يجري اليوم في الحرب على قطاع غزة؛ إذ إن هناك اتجاهًا لتصفية هذه القضية. وهو ما تشير إليه سياسات الاحتلال على الأرض من خلال توسع الاستيطان، والمسارعة في تهويد القدس، والنزعة التوسعية التي كشف عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال الدورة الـ78 للأمم المتحدة، عندما أبرز خريطة للشرق الأوسط لا تُظهِر الأراضي الفلسطينية. لذلك لا يُراد من اغتيال أفراد عائلة الصحفي، كما حدث للزميل وائل الدحدوح، أن يدخل في دوامة من الحزن تستغرق مشاعره وتبعده عن نشاطه المهني، أو تجبره على الانكفاء والانعزال عن المهنة، بل إن الاحتلال يحاول أيضًا اجتثاث الصحفيين الشهود من ساحة الحرب مثلما يقوم باجتثاث الطواقم الطبية والمسعفين والعاملين في المنظمات الإغاثية الدولية، ويهدم الرموز والمقدسات الدينية وكل ما يشكِّل الهوية الفلسطينية.
يمثِّل العدد الكبير من الصحفيين الذين استهدفتهم آلة الحرب الإسرائيلية حتى اليوم (22 صحفيًّا بنسبة 17.46%) مؤشرًا على تجاوز الاحتلال الإسرائيلي سياسة الترهيب والتخويف والردع. فلم يعد آبهًا بذلك، بل ينتقم من المجتمع الفلسطيني بكل فئاته ويعرضهم للعقاب الجماعي. ويُعد المجتمع الصحفي هدفًا مطلوبًا أكثر من غيره في سياسات الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ يتعرض لأشكال مختلفة من الانتقام والمجازر والانتهاكات، وهو ما أشار إليه أيضًا وائل الدحدوح: "ينتقمون منا في الأولاد" بعد قصف الاحتلال للبيت الذي كان يقيم فيه أفراد أسرته وتدميره فوق رؤوسهم.
تتصاعد هذه الجرائم في ظل الضوء الأخضر الذي حصل عليه الاحتلال الإسرائيلي من القوى الغربية التي أعلنت دعمها المطلق لروايته وسياسته، وأضفت عليها ما يحتاج إليه من شرعية دولية. ولم تكتف تلك القوى بإعلان دعمها السياسي للاحتلال، بل تجاوزته إلى تبرير أعماله الحربية ضد الفلسطينيين، واشترك بعضها في عمليات التخطيط والتنفيذ وتزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح والمال والمعلومات، ودافعت عن جرائمه في المنظمات والمحافل الدولية. لذلك لا ترى هذه القوى الوقت مناسبًا لوقف إطلاق النار في قطاع غزة؛ لأن إسرائيل "ما زال أمامها عمل يتعيَّن عليها القيام به". ولا يعني ذلك سوى أعمال الإبادة والتطهير في حق الفلسطينيين واجتثاث وجودهم من الخريطة.
حسابات المعركة الرمزية
ظهرت خلال الحرب على قطاع غزة أهمية التغطية الإخبارية للمجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين وعمليات العقاب الجماعي للمجتمع الفلسطيني. وكانت قناة الجزيرة الإخبارية عبر شبكة مراسليها (وائل الدحدوح وغيره من الصحفيين العاملين في القطاع والضفة الغربية) شاهدة على هذه المجازر والجرائم الإسرائيلية. وهو ما يتحسَّب له الاحتلال الذي يُدرك أيضًا أهمية الرواية التي ينقلها الصحفيون من وسط ركام البيوت التي استهدفها القصف وأودت بحياة الأطفال والنساء والآمنين على أنفسهم في أماكن طلب إليهم اللجوء إليها. وينقلون أيضًا فظاعات الاحتلال من داخل المستشفيات التي تتعرض للقصف، ودور العبادة، والمؤسسات التعليمية، ومقرات المنظمات الدولية، ومن كل ربوع الجغرافيا الفلسطينية التي يستهدفها القصف. لذلك يأخذ الاحتلال في سياساته بعين الاعتبار تلك الرواية، التي تؤثر في الرأي العام العربي والدولي، لاسيما أن محتوى الجزيرة شكَّل في كثير من المناسبات وثيقة لتتبُّع جرائم الاحتلال وانتهاكاته ضد المواطنين الفلسطينيين، فيحاول طمسها واجتثاثها عبر قتل الصحفيين والإبادة الجماعية لأفراد أسرهم.
يُدرك الاحتلال أهمية هذه الرواية التي تفضح جرائمه، ويرى فيها تهديدًا لسياساته التطهيرية. لذلك لا يتردد في محاربتها بآلته العسكرية عبر اغتيال الشهود الناقلين لهذه الرواية بالصوت والصورة. فهو يراهن على كسب الحرب الرمزية التي تسمح له بطمس الرواية الفلسطينية واستهداف الوسائل التي تساعد على انتشارها. ويعمل في الوقت نفسه على كسب "معركة القصة" كما يراها الاحتلال، والتي تُجرِّد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتجعلهم مجرد "حيوانات بشرية" لا تستحق الحياة مثل باقي البشر. لذلك فإن المراهنة على "ربح معركة القصة" لا يقل أهمية في نظر الاحتلال الإسرائيلي عن ربح "معركة الأرض" في الحرب التي يشنُّها على قطاع غزة. لهذا السبب نفهم سبب تركيز الإعلام الإسرائيلي والغربي منذ اليوم الأول على شَيْطَنَة حركة المقامة الإسلامية (حماس)، ونفهم حرص تلك الآلة الدعائية على التسوية بين حركات المقاومة وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وبرزت الدعوة من قِبَل بعض الدول الأوروبية إلى إنشاء تحالف إقليمي ودولي لمكافحة حماس أو توسيع نطاق عمل التحالف الدولي الذي أُنْشِئ في العام 2014 لمواجهة تنظيم الدولة برعاية الولايات المتحدة. يُبيِّن هذا المسار أهمية الحرب الرمزية من المنظور الإسرائيلي في سياق الحرب على قطاع غزة، لذلك تقوم بالتعبئة الدبلوماسية والعسكرية من أجل ربح "معركة القصة" قبل "معركة الأرض".
خلاصة
يدرك الاحتلال الإسرائيلي أهمية الرواية التي تنقلها قناة الجزيرة وغيرها من الفضائيات الإخبارية، في التأثير على الرأي العام الدولي، وهو ما يتحسَّب له ويأخذه بعين الاعتبار في تطورات مسارات الحرب التي يشنُّها على قطاع غزة. لذلك لا يتوانى الاحتلال في استهداف الصحفيين الشهود على الجرائم والمجازر التي يرتكبها ضد المدنيين الفلسطينيين وكل سبل ومصادر الحياة ومقومات صمود المجتمع الفلسطيني. وهو في ذلك يعمل على اجتثاث الرواية الفلسطينية وطمس معالمها، ومحاولة محو آثار الوسائل التي تستخدمها هذه الرواية. ولهذا يقصف ويُدمِّر مقرات ومراكز المؤسسات الإعلامية، وإذا لم يتمكن من اغتيال الشهود فهو يسارع الخطى إلى أفراد عائلاتهم ويُدمِّر البيوت فوق رؤوس ساكنيها. وذلك حلقة من حلقات تصفية القضية الفلسطينية. فهل سيظل الاحتلال الإسرائيلي دائمًا خارج القانون الدولي ولا يُحاسب على الجرائم والمجازر التي يرتكبها في حق الفلسطينيين الذين ينشدون الحرية والانعتاق من نير الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة؟