مقدمة
أظهرت الأيام السبعون الأولى من الحرب التي شنَّتها إسرائيل على غزة، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مفارقتيْن متتاليتين في تطور المواقف الجماهيرية خلال المظاهرات وتصريحات النخب السياسية في الدول الغربية، وأسهمتا في حدوث تحوُّل نسقي في الرأي العام الغربي بين تراجع خطاب الصَّهْيَنَة وتقدُّم خطاب الحقوق الفلسطينية وضرورة التوصل إلى حلٍّ سياسي لإنهاء احتلال فلسطين، أو ما يمكن اختزاله بتيار "الفَلَسْطَنَة". فانطوت المفارقة الأولى على توجيه الحكومات الغربية في أميركا الشمالية وأوروبا دعمًا مطلقًا لإسرائيل بعد هجوم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكن استهداف إسرائيل لمستشفى المعمداني بغزة، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، وقصف المدنيين الذين لجؤوا إليه، حرَّك مئات الآلاف من المحتجين الذين خرجوا في آلاف المظاهرات حول العالم. فتقلصت نسبة المظاهرات المؤيدة لإسرائيل من 31% خلال الأسبوع الأول من الحرب إلى 5% بينما ارتفعت نسبة المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين من 69% إلى 95% منذ 13 أكتوبر/تشرين الأول، وفق دراسة مسحية أجراها المعهد الإسرائيلي لأبحاث الأمن القومي(1).
يقول مدير معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية، فيجاي براشاد (Vijay Prashad) : "من المستحيل مواكبة وتيرة الاحتجاجات. وهذا بدوره يدفع الأحزاب والحكومات إلى توضيح مواقفها من الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة. وقد أسفرت المظاهرات الحاشدة عن ثلاثة أنواع من النتائج: أ) اجتذاب النضالات الجماهيرية الآن جيلًا جديدًا من المواطنين، ليس إلى النشاط المؤيد لفلسطين فحسب، بل وأيضًا إلى الوعي المناهض للحرب، إن لم يكن المناهض للإمبريالية. ب) إِلْهَام قسم جديد من الناشطين، وخاصة النقابيين، لوقف شحن البضائع من وإلى إسرائيل. ت) بدء عملية سياسية برمتها على أساس نفاق "النظام الدولي القائم على القواعد" الذي يقوده الغرب، لمطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه الاتهام إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من كبار المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية"(2).
أما المفارقة الثانية فكانت، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2023، بين مقر الأمم المتحدة في نيويورك والبيت الأبيض في واشنطن عندما تبنَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة قرارًا، غير ملزم، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة. وصوَّتت 153 دولة لصالح القرار مقابل معارضة 10 دول للقرار. فوجدت الولايات المتحدة وإسرائيل نفسيهما معزولتين على نحو متزايد، وانضمت إليهما أقلية صغيرة من الدول: النمسا، وجمهورية التشيك، وغواتيمالا، وليبيريا، وميكرونيزيا، وناورو، وبابوا غينيا الجديدة، وباراغواي. ومن التحولات المثيرة أن أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، 17 دولة من أصل 27، أيَّدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الذي يدعو إلى "وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية" إذا أخذنا هذا التصويت في سياق المقارنة مع ثماني دول من الاتحاد الأوروبي مؤيدة، وأربع معارضة، وامتناع 15 دولة عن التصويت عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار مماثل لوقف إطلاق النار في 27 أكتوبر/تشرين الأول.
مهَّد هذا التصويت في الأمم المتحدة لموقف نقدي غير مرتقب من قبل الرئيس الأميركي، جو بايدن، لحكومة نتنياهو وسير إستراتيجيتها في الحرب على غزة؛ فقال: "لست متأكدًا من أن بن غفير ومجلس وزراء الحرب (في إسرائيل) يمكن أن يعتمدوا على الولايات المتحدة في أمن إسرائيل... لقد بدؤوا يفقدون الدعم بسبب القصف العشوائي الذي يحدث" في غزة. وأشار إلى "تصاعد معاداة السامية هنا في أميركا وفي جميع أنحاء العالم" ضد الإسرائيليين واليهود. ومن النقاط النقدية التي ذكرها بايدن "يتعين على نتنياهو تغيير الحكومة الإسرائيلية لإيجاد حلٍّ طويل الأمد للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي... الحكومة الحالية أكثر الحكومات تطرفًا في تاريخ إسرائيل وهي لا تريد حلَّ الدولتين... لا يمكنك القول: لا توجد دولة فلسطينية على الإطلاق في المستقبل... هذا أمر صعب"(3). ويُعد ذلك انتقاد حادًّا لدولة تعتبرها واشنطن حليفًا إستراتيجيًّا لها في الشرق الأوسط، وقد منحتها أكثر من 70 مليار دولار، أو نسبة 32% من إجمالي المساعدات الأمنية الأميركية للدول الأجنبية بين عامي 2000 و2022.
يتردَّد صدى هذه العزلة السياسية الدولية التي أصبحت تعانيها إسرائيل والولايات المتحدة في السجالات السياسية والحزبية داخل حكومة الرئيس بايدن وخارجها، فضلًا عن مراكز التفكير وحلقات النقاش في جلِّ الجامعات الأميركية ووسائل الإعلام المختلفة التقليدية والرقمية. وجاء في مقالة تحليلية بصحيفة "واشنطن بوست" (The Washington Post)، بعنوان "الولايات المتحدة أصبحت أكثر عزلة بشأن إسرائيل مع تفاقم أزمة غزة وتزايد الحاجة إلى المساعدات"، أن "الدول الغربية الآن منقسمة بشكل متزايد. ومع إعلان وزارة الصحة في غزة عن مقتل أكثر من 18 ألف شخص وإصابة ما يقرب من 50 ألفًا آخرين، أدى الوضع الإنساني في غزة إلى تحول في المشاعر العامة، مما دفع القادة إلى مواصلة إظهار الدعم للفلسطينيين من خلال المساعدات الإنسانية والتفاني في جهود وقف إطلاق النار"(4).
في ضوء هذا التغيُّر غير المسبوق في اتجاهات الرأي العام وموجة الانتقادات الرسمية المتزايدة لإسرائيل والولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وأيضًا ميول البيت الأبيض إلى انتقاد حكومة نتنياهو بأن الإسرائيليين "يفقدون الدعم بسبب القصف العشوائي في غزة"، يدخل التنافس ذروته بين خطاب الصَّهْيَنَة (تأييد الغرب لإسرائيل في بناء دولة على أساس ديني وعرقي وخُطَطِها في توسيع الاستيطان من ناحية) وخطاب الفَلَسْطَنَة (أو رؤية الغرب واقع الصراع التاريخي منذ 1948 بمنظور الشرعية الدولية وحق شعب محتلٍّ في الوجود على أرضه التاريخية، فضلًا عن معارضته لاستهداف المدنيين والأطقم الطبية والصحفيين في غزة من ناحية أخرى). وأصبح المجال العام الممتد بين سائر الجغرافيات من خلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة بمنزلة ساحة معركة بين سرديات مختلفة تتنافس على "الحقيقة" النهائية والأرضية الأخلاقية العليا، وبناء الواقع "الحقيقي".
وهنا، تركز الدراسة على قياس مدى التحوُّل في الخطاب العام وتمثُّلات الرأي العام الدولي لكل من خطاب الصهيونية من ناحية والحقوق الفلسطينية من ناحية أخرى. وتنطلق من فرضية أن الخطاب الصهيوني داخل إسرائيل وخارجها يستنفد، على ما يبدو، طاقة الدفع إلى الأمام، سواء من حيث القدرة على بلورة خطاب ذاتي لاستدامة الاحتلال وتجاوز مجموعة مع العثرات التي وقعت فيها حكومة يمينية متطرفة بقيادة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أو قدرة الأوساط السياسية والإعلامية الموالية لها في الغرب على حشد دعم سياسي ومعنوي مستدام في هذه المرحلة. ومن تداعيات هذا التحوُّل أن الخطاب المؤيد لإسرائيل دخل مرحلة الانحباس الإستراتيجي والتآكل من تلقاء ذاته حتى في العواصم المؤيدة تاريخيًّا لإسرائيل، وكأنه يُكمِل دورة الحضارة كما تصوَّرها عبد الرحمن بن خلدون، وسط قلق عدد من المثقفين والسياسيين الإسرائيليين من سؤال: "هل ستُكمِل إسرائيل ثمانين عامًا في الوجود؟"
وتعتمد الدراسة مدخلًا نظريًّا وتحليليًّا مركبًا في استقصاء فرضية الدراسة وتحليل مرتكزاتها في ضوء نظريات مختلفة في حقول الاتصال والإعلام والتحليل النقدي للخطاب. وتكشف دور وسائل الإعلام والقوى الرمزية في دعم خطاب الصهيونية والترويج لأطروحاته ومراميه منذ مرحلة التأسيس إلى اليوم. كما تستند إلى منهج التحليل الإستراتيجي الأمني في سياق نظرية "الأَمْنَنَة"، من خلال أطروحات باري بوزان (Barry Buzan) وزملائه في مدرسة كوبنهاغن. وتوظف الدراسة في التحليل نتائج بعض استطلاعات الرأي التي أنجزتها مراكز ومعاهد دولية متخصصة.
1. لحظة مفصلية في تقابل الأنساق
تُجسِّد الحرب الإسرائيلية على غزة بداية تحوُّل نسقي (Paradigm shift) بلغة توماس كون (Thomas Kuhn) الذي غيَّر الفهم المعاصر لتطور فلسفة العلوم وبلورة المعرفة في كتابه الشهير: "بنية الثورات العلمية". فهو يرى أن النسق، ويترجمه البعض بـ"النموذج"، يوفر للعالم ثلاثية جدلية بنَّاءة: أ) فهم الطبيعة الأساسية للشيء موضع الدراسة، ب) واستنادًا إلى هذه الطبيعة الأساسية يبتكر العلماء طرقًا جديدة أو خاصة أو محددة لمراقبة العالم، ج) ونتيجة للسؤاليْن الأوليْن، فإن أولئك الذين يتبنون النسق ذاته يتفقون أيضًا على الأسئلة الأساسية التي ينبغي طرحها حول هذه الظاهرة(5). وبالنظر إلى تاريخ النكبة الفلسطينية عام 1948، وسلسلة الحروب المتتالية، في 1967 و1973 حتى عام 2021، لم يحدث تحوُّل قياسي أو طفرة غير مسبوقة في انطباعات الجماهير ومواقفها، خاصة في دول أميركا الشمالية وأوروبا، مثلما يحدث حاليًّا في ظل تداعيات الحرب الجديدة على غزة. ومن مؤشرات هذا التحوُّل أن "القناة 12" الإسرائيلية مثلًا توصلت إلى أن الإسرائيليين بعد شهر واحد من الحرب "يواجهون واقعًا جديدًا، فالصور التي تَبرُز في وسائل الإعلام الدولية ليست صور المذبحة في المستوطنات اليهودية، بل هي صور الموت والدمار في غزة". وأضافت القناة في بيانها أن "رواية "الدفاع عن النفس" التي تتبنَّاها إسرائيل فشلت في الوفاء بتوفير مساحة كافية لأنشطة الجيش، وتمَّ التأكيد أن السرديات والصور الفلسطينية أثرت في الرأي العام العالمي"(6).
ويمكن دراسة التحوُّل النسقي في تمثُّلات الرأي العام الدولي، خاصة الغربي، للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، من خلال بنية تركيبية متوازية تنطوي على مستويات أربعة:
أولًا: هبَّت العواصم الغربية من واشنطن إلى برلين للتعبير عن التأييد المعنوي والمادي غير المحدود لإسرائيل عقب هجوم كتائب القسام على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة ضمن أسوأ هزة أمنية وتهديد وجودي تتعرض لهما إسرائيل منذ خمسين عامًا. وهو تدفق سياسي من عواصم الغرب لدعم إسرائيل بنَفَس أكبر وعتاد متطور ومظلة سياسية أفضل مما كانت عليه الحال خلال حربي 1967 و1973، ثم الحروب الخمس الجديدة بين 2006 و2023، وبقية الأزمات والانتقادات التي واجهتها إسرائيل من قِبَل بعض الهيئات الدولية. وعلى الرغم من مرجعية الحداثة وقيمها السياسية منذ عصر التنوير في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فضلًا عن التعددية العرقية والثقافية السائدة في دول الغرب منذ القرن الثامن عشر، فهي تجاري اعتداد إسرائيل بالاستثناء الخارج عن القاعدة في طبيعة المجتمع السياسي الغربي لكون الحركة الصهيونية ارتأت قيام قومية عرقية يهودية يتحمَّل الغرب مساندة طموحاتها وتبرير خطاياها والدفاع عنها ضد قرارات الأمم المتحدة فديةً عن حدوث المحرقة النازية يدفعها الغرب منذ الأربعينات من القرن الماضي. وقد صاغ المستشار الألماني، أولاف شولتس، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حجة أخرى للدفاع عن إسرائيل بأنها "دولة ديمقراطية، ويجب أن يُقال ذلك بوضوح شديد". وجاء تعليقه ردًّا على تصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأن شرعية إسرائيل "يتم التشكيك فيها بسبب فاشيتها". ويقول الأكاديمي الألماني، دانييل مارويسكي ( Daniel Marwecki)، مؤلِّف كتاب "ألمانيا وإسرائيل: تبييض الدولة وبناؤها"*: "عندما يتحدث السياسيون الألمان اليوم عن إسرائيل، فإنهم يفعلون ذلك من وجهة نظر أخلاقية ويعتقدون جميعهم أن الدفاع عن إسرائيل هو الأمر الصحيح الذي يجب القيام به من الناحية الأخلاقية بسبب الماضي الألماني"(7).
ثانيًا: تأتي المقارنة مثيرة بين ويلات المدنيين والمعاناة الإنسانية وخطر المجاعة والموت بين الحرب على غزة، والحرب في أوكرانيا، فوق اجتهادات الخطابيْن، السياسي والإعلامي، في الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية، ويتسع حجم المفارقات التي ينطوي عليها موقف الدول الغربية بين الأزمتين على اختلاف مستوى التهديد وعدد الفئات المستهدفة بالقتل العمد. وتعكس سجالات مجلس الأمن الدولي حاليًّا حدوث انشطار داخل أهم منظمة عالمية إلى معسكرين سياسيين متقابلين بحكم الأمر الواقع: معسكر القوة والواقعية السياسية واستخدام حق النقض (الفيتو) ضد دعوات وقف إطلاق النار من أجل مصلحة إسرائيل وتوفير الغطاء السياسي لها في وجه ستة مشاريع قرارات اقترحت أغلبَها دولٌ غيرُ دائمة العضوية مثل البرازيل والإمارات. في المقابل، معسكر سياسة القيم والتشديد على تذكير الدول الخمس الكبار (الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين) بمسؤولياتها بشأن حفظ السلم والأمن الدوليين بموجب ميثاق الأمم المتحدة. وقد لجأ الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى استخدام المادة 99 من الميثاق لتذكير الدول الأعضاء بمسوؤلياتها بعدما تبيَّن أن الوضع في غزة يشهد أسوأ كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين. ويقول أحد المراقبين عن متاهة الكيل بمكيالين بين الحرب في أوكرانيا والحرب على غزة: "إن التماثل الانعكاسي مع إسرائيل، من قِبَل كل من الإعلاميين والسياسيين الأميركيين، يحجب دائمًا الصورة الكاملة لما يحدث بين إسرائيل والفلسطينيين… هناك النفاق المزعج للحرب في أوكرانيا. والعديد من الأفراد في مختلف أنحاء العالم يؤيدون مقاومة أوكرانيا للاحتلال الأجنبي (كما ينبغي لهم)، ولكنهم يحرمون الفلسطينيين بكل سرور من أي وسيلة لمقاومة احتلالهم. حتى أساليب المقاومة غير العنيفة، مثل حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، يتم التشهير بها وتجريمها"(8).
ثالثًا: استقطبت إسرائيل شركات الإعلام الغربية وصناعة السينما في هوليود، والنخب السياسية وممثلي البرلمانات الغربية لعقود طويلة من أجل تعزيز خطاب مُتَصَهْيِن يجد لها الأعذار ويسعى لقلب رذائلها إلى فضائل تحت ذريعة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" دون السؤال عن مبدأ التناسب في الحروب بين المقاتلين ونوعية الأسلحة الفتاكة. وتستهدف هذه الحروب في المقام الأول قتل المدنيين الأطفال والنساء كما هو واقع الحال في قطاع غزة، ناهيك عن حروب 2021، و2014، و2008-2009، و2006. وخلال الأسبوع الأول من الحرب على غزة، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، انتعش الخطاب الذي حاول تقليص العدسة فقط على أزمة المحتجزين الإسرائيليين في القطاع، وغدا السؤال المرجعي النمطي: "هل تُدِين حماس؟" بمنزلة بسملة لازمة لدى جل إعلاميي الغرب خلال المقابلات التي أجريت مع السياسيين والنشطاء من شتى المشارب، خاصة من العرب الأميركيين أو العرب الأوروبيين.
كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، قال ذات مرة عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ عام 1986: "لو لم تكن هناك إسرائيل لكان على الولايات المتحدة الأميركية أن تخلق إسرائيل لحماية مصالحنا في المنطقة". غير أن استهداف مستشفى المعمداني بقطاع غزة وقتل 471 مدنيًّا ممن جاء أغلبهم لتلقي العلاج أو طلب ملاذ آمن، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قبيل سفر الرئيس بايدن إلى إسرائيل كان بمنزلة صحوة نفسية وإنسانية عبر العالم. وكلما ارتفع عدد القتلى المدنيين من الفلسطينيين في غزة -وسط شح موارد المياه والغذاء والمعدات الطبية والوقود، فضلًا عن تدمير البنية التحية للقطاع- ازداد السؤال النقدي بشأن سياسة إسرائيل والسردية التي تبرِّر وقوف دول الغرب في صفها بالعتاد العسكري والتأييد السياسي والمظلة الدبلوماسية في المنظمات الدولية.
بين تدهور الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة والسجالات المحتدمة دون التوصل إلى وقف لإطلاق النار في مجلس الأمن والجمعية العامة، تبيَّن للرأي العام الدولي حتى في دول الغرب مدى المفارقات وازدواجية المعايير. فخرجت إلى الشوارع مئات المظاهرات في مختلف القارات ضمن موجة احتجاجات دولية تُندِّد بالإبادة الجماعية واستهداف المدنيين ومراكز الإيواء والمستشفيات وما حذَّرت منه الأمم المتحدة بشأن جرائم حرب تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني. ويقول الباحث رامي خوري، من الجامعة الأميركية في بيروت: إن "إسرائيل تمتلك العديد من الصفات المثيرة للإعجاب في مجالات العلوم والتعليم والزراعة وغيرها من المجالات، لكنها تغرق في واقع الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني الذي يطحن الروح ونراه على شاشات التليفزيون يوميًّا. لذا، فإننا نسير في الشوارع من أجل العدالة الاجتماعية والحرية للجميع، كما فعل الناس الطيبون دائمًا لإصلاح نقاط ضعف عالمهم وتصحيح أخطائه"(9).
رابعًا: في ضوء التباين بين مواقف التصعيد والمطالبات بوقف إطلاق النار، نجحت الوساطة القطرية والمصرية في هدنة استمرت أسبوعًا، وتمَّ خلالها تبادل 80 من المحتجزين الإسرائيليين مقابل الإفراج عن 240 من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية من أصل قائمة شملت 300 اسم، في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. ولكن الولايات المتحدة لا تزال تعارض الدعوة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس حتى في اجتماع مجلس الأمن الدولي، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2023. غير أن هذه المعارك السياسية المتواترة في الأمم المتحدة لا تُضعف عنفوان الجماهير المنادية بمكيال منصف لجميع الأطراف، بل يتعمَّق النقاش عبر مختلف المنصات الرقمية التي تُفسِح مساحات زمنية آنية متعددة لتقديم ما يحدث ميدانيًّا. كما أن بعض العينات المثيرة عن معاناة المدنيين تُعبِّر عن البعد الإنساني التلقائي دون وسيط، وتُبيِّن أن تأييد إسرائيل الذي اعتمد على الإعلام التقليدي ومناصرة إحدى عشرة شركة تهيمن على صناعة الإعلام في الولايات المتحدة لم يعد المؤثر الأكبر في رأي الجماهير.
يقول أحد أهم منظِّري الواقعية السياسية الدفاعية والأستاذ في جامعة شيكاغو، جون ميرشايمر (John Mearsheimer): إن "هناك فرصة ضئيلة لأن ينسى الأشخاص الذين يتابعون الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في مختلف أنحاء العالم قريبًا العقوبة المروعة التي تفرضها إسرائيل على غزة. فالدمار واضح للغاية؛ إذ لا يمكن تجاوزه، والعديد من الأفراد، خاصة في العالم العربي والإسلامي، يهتمون بمصير الفلسطينيين. فضلًا عن ذلك، فإن الخطاب حول هذا الصراع الطويل الأمد شهد تغيُّرًا جذريًّا في الغرب في الأعوام الأخيرة، والعديد منَّا، الذين كانوا ذات يوم متعاطفين تمامًا مع إسرائيل، يرون الآن أن الإسرائيليين هم المعتدون وأن الفلسطينيين هم الضحايا. إن ما يحدث في غزة سيؤدي إلى تسريع تلك الصورة المتغيرة للصراع وسيُنْظَر إليه لفترة طويلة على أنه وصمة عار على سمعة إسرائيل"(10). يمثِّل ذلك صورة مرجعية في تتبُّع طبيعة التحوُّل المرتقب في ظل عملية الإبادة الجماعية والدمار الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي من شدة تشبع جنرالات وزارة الدفاع وحتى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بمقولة: "الجيش الذي لا يُقهر"، وأن قدرة إسرائيل تكمن في "ما تستطيع فرضه بالقوة".
ولا تخرج إسرائيل خلال الفترة الممتدة بين 1948 و2023 عن سياق حتمية مراحل القوة والتمدد والضعف والاندحار الحضاري. وثمة من المثقفين والأمنيين الإسرائيليين من يتبنون نظرية ابن خلدون في استشراف تفكُّك إسرائيل في عقدها الثامن. ومن هؤلاء: مائير بن شاحر، واللواء احتياط النائب، عوزي دايان، في مقالة بعنوان "في العقد الثامن". ويستندان في التحليل إلى عدد من القرائن التي تستشرف احتمال أن تعيش إسرائيل حاليًّا حقبة محمَّلة بالمخاطر. وفي التاريخ اليهودي، ثمة دولتان بلغتا نهايتهما بحلول العقد الثامن: المملكة الموحدة لداود وسليمان التي تفكَّكت بعد نحو 70 سنة من قيامها، ومملكة الحشمونائيم التي انهارت بعد نحو 80 سنة(11). وقد قال بنيامين نتنياهو عام 2018: إن "وجودنا ليس بديهيًّا"، خاصة أن مملكة الحشمونائيم ظلت قائمة 80 عامًا فقط(12). وتعهَّد ببذل كل ما في وسعه للدفاع عن الدولة، وأن تنجح إسرائيل هذه المرة وتظل في الوجود مئة سنة. وقد عبَّر رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، إيهود باراك، بدوره عن الخشية من اندثار إسرائيل في عيد تأسيسها الثمانين بحلول 2028، في مقالة بصحيفة "يديعوت أحرونوت"، في 8 مايو/أيار 2022(13).
ويلاحظ أن الإسرائيليين، منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، لم يعايشوا انغماسًا نفسيًّا وذهنيًّا بمزيج من مشاعر الذعر الأمني وفقدان الثقة في المؤسسة العسكرية والاستخباراتية، بمن في ذلك رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، نفسه. وتزداد حاليًّا موجة القلق على مصير الصهيونية التي كانت في صالح اليهود القادمين من أوروبا وأميركا الشمالية أكثر من اليهود الشرقيين القادمين من البلاد العربية. وتنقلب إسرائيل في أعين كثيرين، خاصة فئات الشباب، من أرض ميعاد تاريخي إلى أرض افتراق تاريخي باتجاه أوروبا وأميركا الشمالية. وقبل عشرين عامًا، وقف رئيس الكنيست السابق، أفروم بورغ، يُحذِّر من حتمية ردود الفعل العنيفة، وقال: "اتضح أن النضال الذي دام ألفي عام من أجل بقاء اليهود يعود إلى حالة المستوطنات، التي تُديرها زمرة غير أخلاقية من منتهكي القانون الفاسدين الذين لا يسمعون صوت مواطنيهم وأعدائهم على حدٍّ سواء". وكتب في صحيفة "إنترناشيونال هيرالد تريبيون" (The International Herald Tribune) عبارة عميقة المعنى: "لا يمكن لدولة تفتقر إلى العدالة أن تستمر"(14).
واليوم، غدا عدد متزايد من الإسرائيليين يُشكِّكون في أهمية استشرافات تيودور هرتزل (Theodor Herzl) في المقام الأول عندما قال في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني في لندن، يوم 2 أغسطس/آب 1900: "تطالب الصهيونية بوطن معترف به علنيًّا ومضمون قانونيًّا في فلسطين للشعب اليهودي. وهذا البرنامج الذي وضعناه قبل ثلاث سنوات غير قابل للتغيير. لابد أنها استجابت لضرورة عميقة جدًّا، لشوق قديم جدًّا لشعبنا، وإلا فإن آثاره ستكون غير قابلة للتفسير"(15). وكتب أحد المعلِّقين المعروفين في إسرائيل، ديفيد برين، في مقالة رأي بعنوان: "هل هذه نهاية الحلم الصهيوني؟" نشرها في صحيفة "جيروزاليم بوست" (The Jerusalem Post)، يقول: "لقد كان تاريخ إسرائيل مليئًا بالآثار في كل زاوية من زواياه بمعارك حاولت إثبات خطأ نظرية الملاذ الآمن. لقد احتفلنا للتو بالذكرى الخمسين لأكبر حرب، حرب يوم الغفران عام 1973؛ إذ أدى الرضا عن النفس والشعور الزائف بالأمان في أعقاب النصر غير المسبوق في حرب الأيام الستة عام 1967، وضعف الاستخبارات إلى دفع البلاد إلى حافة الانقراض"(16).
ويشير الكاتب البريطاني، رالف ليونارد(Ralph Leonard) ، إلى مفارقة تاريخية وجودية في علاقة الطموحات الصهيونية قديمًا وواقع إسرائيل حاليًّا بقوله: "لَكَمْ أتمنى في بعض الأحيان لو أن ثيودور هرتزل وماكس نورداو وحاييم وايزمان وديفيد بن غوريون لم يقنعوا اليهود والأمميين بأن الجواب على "السؤال اليهودي" هو إنشاء دولة يهودية وحدوية على الأراضي العربية في غرب آسيا؟... أصبح الأسلوب المعتاد هو شجب إسرائيل باعتبارها دولة شريرة وشيطانية ومارقة، وتعمل خارج حدود القانون الدولي والآداب". ويضيف ليونارد أن "المقصود بالصهيونية، وفقًا لأبطالها، أن تكون دليلًا على الاستقلال اليهودي. لم يعد اليهودي هو الوديع المثير للشفقة، الذي اقتلعته فيافي المنافي. ولن يُذكر اليهودي بعد الآن في التاريخ باعتباره جثثًا هيكلية لبيرغن بيلسن (معسكر اعتقال نازي). ولن يكون اليهودي بعد الآن ساذجًا لدرجة الاعتماد على كرم الأمم من أجل بقائه وسلامته. لا، سيكون (Muskeljuden)، وهو اللفظ الألماني الذي يرمز إلى اليهودي ذي العضلات، بل رجلًا من مقام الإسبرطي الماهر في التعامل مع المحراث من جهة والبندقية من جهة أخرى. من وودي آلن إلى موشيه ديان. من ضحايا إلى ملوك"(17).
وتعود هذه الصورة المُتَخيَّلة لليهودي العضلي، أو اليهودي ذي الإرادة الجريئة في الفكر الصهيوني، إلى تمثُّل مركَّب لمقولة: (Muskeljudentum) بالألمانية، أو (Muscular Judaism) اليهودية العضلية، وهو مصطلح صاغه ماكس نورداو(Max Nordau) في خطابه خلال المؤتمر الصهيوني الثاني في بازل، 28 أغسطس/آب 1898. وتحدث وقتها عن ضرورة تصميم "اليهودي الجديد"، ليحلَّ محلَّ "اليهودي التقليدي العجوز"، وهو يتمتع بالقوة العقلية والجسدية لتحقيق أهداف الصهيونية. ورأى نورداو أن "اليهودية العضلية" هي الرد على (Judennot)، كناية عن متاعب اليهود في أوروبا(18).
2. تدرج الدوائر المعرفية والنفسية والسلوكية في أعين العالم
تعتبر الدراسة حركية المظاهرات المتواترة في شتى عواصم العالم، والسجالات الراهنة في البرلمانات ومنتديات الطلاب في الجامعات وحيوية النقاش عبر المجال العام الرقمي، تجسيدًا لحقبة مفصلية في ميزان القوة بين سياسة القوة وسياسة القيم، وفق مقولة مشتركة دقيقة المعنى بين الفيزياء والعلاقات الدولية والصراعات الممتدة أوردها إسحاق نيوتن (Isaac Newton) قائلًا: "لكل فعل ردُّ فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه". ولا يعني التضاد هنا رد الصاع صاعين بنفس العملة السياسية أو الأداة العسكرية، بل خروج التصورات والانطباعات والمواقف الجماهيرية عن دائرة التأطير التقليدي بحكم انتشار شعبية قنوات إعلامية معينة أو قوالب خطابية لا تبحث في ثنايا السردية الإسرائيلية والسرديات المناصرة لها. وعندما تُحاجِج الدراسة بحدوث تحوُّل نسقي في تنافس خطابيْ الصهيونية والحقوق الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية، لا تكتمل الصورة عند تحوُّل الخطاب ودراسة تجلياته الجديدة لذاتها، بل هناك ثلاثة مستويات تحليلية متكاملة لأبعاد هذا التحوُّل.
أولًا: التحول المعرفي: تتقدَّم أفكار معينة إلى الواجهة حاليًّا لتُصحِّح المعنى والانطباع، وتُلغي قناعات أو موروثات أو مقولات أخرى تجاوزتها المرحلة بعد نجاح بعض الأطروحات الصهيونية في التسلُّل إلى سرديات الإعلام ومقررات الجامعات، أو بمحفزات أيديولوجية، أو بحكم عدم جرأة الكثيرين في الرد عليها بفعل الخشية من لسعة قريبتها معاداة السامية. وشهدت الحُرُم الجامعية في جلِّ المؤسسات الجامعية الأميركية نقاشات محتدمة ومشحونة عاطفيًّا بحكم التداخل بين أضلاع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي قبل تعقيدات الوضع المتفاقم حاليًّا في غزة. وتلاحظ المديرة التنفيذية للمركز الوطني لحرية التعبير والمدنية بجامعة كاليفورنيا، ميشيل دويتشمان(Michelle Deutchman) ، أن "هذا مثير للجدل بشكل لا يُصدق بسبب تاريخ الصراع والمشاعر التي يُثيرها التاريخ على جانبي القضية... عندما تكون لديك مثل هذه المشاعر والآراء الراسخة، يصبح من الصعب المشاركة دون ممارسة الضغط على أي شخص يختلف مع جانب معين"(19).
وتحوَّل المشهد إلى ما وصفته شبكة "سي إن إن" (CNN) "تمرُّد المانحين في جامعتي هارفارد وبنسلفانيا"، وأن هذه القضية ربما لم تكن أكثر علانية من أي مكان آخر كما كانت في مؤسسات النخبة، مثل الجامعتين المذكورتين. وبالنسبة لجامعة هارفارد، بدأ الجدل العنيف ببيان أصدره ائتلاف من المجموعات الطلابية بعد وقت قصير من هجوم مقاتلي حركة حماس على مستوطنات إسرائيلية في غلاف غزة، في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وجاء في البيان الصادر عن مجموعات التضامن مع فلسطين في الجامعة: "نحن، المنظمات الطلابية الموقعة أدناه، نُحمِّل النظام الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن جميع أعمال العنف التي تتكشف". وأضاف أن ملايين الفلسطينيين في غزة "أُجبروا على العيش في سجن مفتوح"، ودعا جامعة هارفارد إلى "اتخاذ إجراءات لوقف الإبادة المستمرة للفلسطينيين"، وأثار رد فعل عنيفًا من عدد من الخريجين ذوي النفوذ وقادة الأعمال، بمن في ذلك الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار الملياردير، بيل أكمان، الذي دعا "لتحديد هوية أولئك الذين وقَّعوا على الرسالة وإدراجهم في القائمة السوداء الممنوعة من التوظيف"(20).
ازدادات الخشية على الحرية الأكاديمية وحرية التعبير بين الأساتذة والطلبة في سائر الجامعات. وجسدت جلسات الاستماع في الكونغرس لرؤساء بعض الجامعات، مثل هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس وكولومبيا وكورنيل وبنسلفانيا وكانساس، ما يقترب من أجواء محاكم التفتيش والحكم على النوايا وليس مجرد الأفعال. قد يكون التحوُّل على المستوى الأكاديمي محدودًا، لاسيما هيئات التدريس في الجامعات الأميركية والبريطانية والألمانية، في ظل احتضانها تظاهرات مؤيدة للقضية الفلسطينية. ويُعد زخم هذا التأييد مؤشرًا مهمًّا على تحوُّل نوعي على المستوى المعرفي والفكري في صفوف طلاب الجامعات الغربية، فضلًا عن التحول المعرفي الذي وصل المجتمع الدبلوماسي، خصوصًا الأميركي والفرنسي، ورسائل الاعتراض التي توصلت بها وزارة الخارجية الأميركية والفرنسية على السياسة التي تتبعها الإدارة السياسية في البلدين تجاه ما يجري في غزة. كما أن هناك تحوُّلًا في مجتمع الاستخبارات (أميركا بالخصوص) وإن كان طفيفًا.
في الوقت ذاته، لا تزال بعض الأعراف الخفية تحدُّ من التفكير النقدي في الجامعات إزاء إسرائيل. وتُبيِّن دراسة جديدة بعنوان: "العلماء الذين يدرسون الشرق الأوسط يخشون التحدث علنًا: بيانات استطلاع تشير إلى انتشار الرقابة الذاتية" أشرف عليها مارك لينتش (Mark Lynch) وشبلي تلحمي، أن "النتائج صارخة؛ إذ قال 82% من جميع المشاركين في الاستطلاع المقيمين في الولايات المتحدة، بمن فيهم جميع الأساتذة المساعدين تقريبًا (98%)، إنهم يمارسون الرقابة الذاتية عندما يتحدثون بشكل احترافي عن القضية الإسرائيلية الفلسطينية. وقال ما يزيد قليلًا عن 81% ممن يمارسون الرقابة الذاتية إنهم أحجموا في المقام الأول عن انتقادهم لإسرائيل، بينما قال 11% إنهم أحجموا عن انتقاد الفلسطينيين. وقال 2% فقط: إن انتقاد السياسة الأميركية هو القضية الأكبر"(21).
وبصرف النظر عن نقاشات جلسات الجامعات، ثمة مؤشرات متعددة على حدوث هذا التحوُّل بين الأوساط الجماهيرية كذلك في مختلف الدول، ويمكن رصده عبر النصوص والفيديوهات والأدوات الرمزية المختزلة التي يتداولها نشطاء الإعلام الاجتماعي والمواطنون الصحفيون. ولم تعد تعقيدات الصراع والمعاناة الإنسانية في غزة عصية على إدراك المواطن الغربي؛ فاتضحت القناعات والانطباعات لدى المواطن الأميركي خصوصًا، والغربي عمومًا، عندما يُعبِّر بجرأة عن أن ما يجري ضد الفلسطينيين في قطاع غزة ساعد في تشكيل وعيه وإدراكه نحو الانتهاكات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي وغيَّر من قناعاته تجاه نظام الفصل العنصري، بل بات المواطن الغربي يعتقد أن القضية الفلسطينية حرَّرته هو نفسه من الروايات التقليدية الصهيونية بشأن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". كما أن هناك تحوُّلًا ملحوظًا على المستوى الفكري يتمثَّل في دعوة البعض إلى أن يكون منطلق "المقاومة الفلسطينية في الغرب"؛ لأن جيل الشباب (18-34) ليس لديه إحساس بـ"العقدة النازية" التي نشأ عليها جيل من السياسيين الغربيين من الفئة العمرية المتقدمة، ولم يُعايش أحداث تلك العقدة.
كان المفكر إدوارد سعيد (1935-2003) يتمسك بالقول، سواء في كتابيه: "القضية الفلسطينية والمجتمع الأميركي" (1979) أو "نهاية عملية السلام" (2000)، بأن مفهومه عن الصراع في فلسطين ينطوي على "حرب تصورات وأفكار" بقدر ما هو مسألة تتعلق بالسياسة والسياسات، وأن "السياسة والإعلام يكونان متكافئين" في ظل "العالم المعولم". وعن المغزى من استمرار تأييد الولايات المتحدة وبقية الغرب لإسرائيل بشكل مطلق، يُبيِّن سعيد أن "التأييد الأميركي للصهيونية -مهما يمكن أن يُخفي هو أيضًا من شعور كامن باللاسامية- إنما هو دعم إيجابي لسياسة استعمارية غربية لا يمكن التشكيك في أهدافها النبيلة، وهي سياسة الاستيطان في أرض صحراوية، وخلق مؤسسات حديثة، وحلُّ المشكلات التقنية بكفاءة وبصورة تثير الإعجاب بحسب أفضل التقاليد الغربية"(22). ويتعقب سعيد أيضًا المفارقة التي تنمُّ عن أن تأييد الصهيونية لا يقتصر على الأوساط ومؤسسات التفكير المحافظة في الغرب فحسب، بل وأيضًا تلك الليبرالية ضمن تعلُّقها بقيم الحداثة والحرية وحقوق الإنسان. ويقول: "ليس عبثًا إن عبَّر ليبراليون أميركيون محترمون من غير اليهود، مثل إدموند ويلسون (Edmond Wilson) ورينولد نيبور (Reinhold Niebuhr) -كما لا يزال يفعل ورثتهم الليبيراليون اليوم- عن استحسان كامل للصهيونية، وهو أمر يرتبط في أذهانهم إما بالآباء المؤسسين الأميركيين البيوريتانيين، وإما بالمقاتلين المخلصين من أجل الحرية والمعادين للشيوعية"(23).
ثانيًا: التحول النفسي الذي يكتشفه كثير من الغربيين من مختلف المستويات، وهم يتحدثون عن أنفسهم من خلال تفاعلهم مع المعاناة الإنسانية الفردية في الأراضي الفلسطينية، وكأنهم يسعون لترميم قناعتهم الفكرية والقيمية في آن واحد. وغالبًا ما يتحدَّث هؤلاء الخارجون من دائرة تأثير الخطاب الصهيوني عن رفضهم أن تكون حكوماتهم تكيل بمكيالين، أو يتم تقسيط الإنسانية لكي يحتكرها شعب على حساب أحقية شعب آخر بها وتكثر معها الأسئلة حول طبيعة الاحتلال والعودة إلى التشكيك في عدد من السرديات التي قامت عليها إسرائيل والمغالطة القديمة أنها "كانت أرضًا بلا شعب"، ولماذا لم يقبل اليهود الانصهار في المجتمعات الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كما تكثر الأسئلة المثيرة الأخرى في هذا الباب، مثل اهتمام فئات واسعة من الشباب الغربي حاليًّا بمعرفة أسباب إصرار الحركة الصهيونية على معارضة الاندماج الأوروبي والبحث عن فرصة تاريخية لتأسيس دولة عرقية وحيدة في العالم اليوم على أساس يهودي، واعتبار من هم غير اليهود فئة في مرتبة أقلَّ ثقافيًّا واعتباريًّا ومعنويًّا.
وتتغيَّر الصورة النمطية لسياسات إسرائيل والحقوق الإنسانية والوطنية للفلسطينيين في ضوء النقاشات والمظاهرات الحاشدة منذ بدء الحرب على غزة. وهي تؤكد إلى حدٍّ معين بعض استشرافات إدوارد سعيد، ومنها أن "الفلسطينيين يعرفون، عقلانيًّا، أن الاحتمالات ضدهم، لكن ثقتهم في عدالة قضيتهم وصدقها من جهة أخرى ترسم صورة أكثر إشراقًا. إنه، كما قال غرامشي، تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة. إن الاحتمالات ضد القضية الفلسطينية في إطار رؤية المجتمع الأميركي عظيمة جدًّا. ومجرد الحقيقة إنه لكي نتحدث عن الحقوق الفلسطينية، علينا أن نتعامل مع المشكلة اليهودية، يشير إلى مدى كون كفاحنا غير موجه ضد حركة استيطانية استعمارية "عادية" .(24)
ثالثًا: التحول السلوكي التعبيري لترجمة الوعي وتأكيد قناعة الفرد بشكل علني وبلورة مواد إعلامية وإشهارية تسلط العدسة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي وسقطاته الأخلاقية والإنسانية، وتسهم في إعادة تركيب ما يكون خطابًا فلسطينيًّا إنسانيًّا قادرًا على التنافس على هذه المرحلة، وتوثيق حق الفلسطينيين في الأرض وفي التاريخ وفي الثروات المادية وغير المادية المسلوبة. وثمة قرينة مؤثرة ستتضح لاحقًا بين الشهور الأولى لحرب غزة والنقاشات القانونية المرتقبة حول سؤال الاحتلال في محكمة العدل الدولية، في التاسع عشر من فبراير/شباط 2024.
ارتفع منسوب هذا الاستعراض الواضح لدعم القضية الفلسطينية خلال تخليد "اليوم العالمي لحقوق الإنسان"، يوم العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2023، وخرجت آلاف الحشود في مسيرات احتجاجية تضامنية مع فلسطين في بلجيكا وسويسرا وألمانيا وهولندا؛ حيث طالب المئات بوقف دائم لإطلاق النار في غزة، ورُفعت لافتات تحمل رسائل مثل "الحرية لفلسطين"، و"أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة"، و"أوقفوا جرائم الحرب ضد الأطفال". وفي برلين بألمانيا، تجمع المتظاهرون أمام مقر الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الشريك الرئيسي في ائتلاف الحكومة الألمانية، مطالبين بوقف إطلاق النار، وهم يردّدون شعارات: "الحرية لفلسطين"، و"الحرية لغزة"، و"وقف إطلاق النار الآن"، و"ألمانيا تموِّل وإسرائيل تقصف"، و"أوقفوا الإبادة الجماعية". وعلى طول طريق المسيرة، أظهر بعض سكان برلين دعمهم من خلال التلويح بالأعلام الفلسطينية من نوافذهم .ويخلص المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه، في ملاحظاته التاريخية العميقة إلى أن كل ما سبق السابع من أكتوبر/تشرين الأول، "والذي تراوح بين الإنكار والإخفاء (مذابح الكيان ضد الفلسطينيين)، وبين التلاعب والهروب إلى الأمام (معركة مستقبل "إسرائيل" والثورة القضائية في إسرائيل)؛ تلاقى في منحدرٍ واحد، وسرعان ما انفجر في وجه الإسرائيليين؛ ما جعلهم يعانون من الصدمة المجنونة، والإصابة بالوهم البصري كما يقول بابيه، والذي أعماهم عن رؤية الشقوق التي تنتشر في الصرح الصهيوني المترنح(25).
ضمن تدرج هذه التحولات الذهنية والعاطفية والتعبيرية الراهنة لدى الرأي العام الغربي، تبرز معضلة أكثر عمقًا فيما تعانيه إسرائيل والتيار الوصي على استمرارها باعتبارها مشروعًا غربيًّا في الشرق، وهي بحكم القرينة بينهما تمثِّل معضلة التراجع البنيوي الشامل لرأسمالية الغرب وجشعه السياسي، وهما لم ينجحا في "القضاء" على حماس أو في "تذويب" القضية الفلسطينية. لذلك، لا يكون التعثر في المشروع الصهيوني فحسب، بل يعكس الضعف الأكبر في المشروع الغربي برمته والذي بدأ منذ غزو الولايات المتحدة أفغانستان (2002) والعراق (2003)، وسياسات حكومة الرئيس السابق دونالد ترامب (2017-2021). وهناك من يعتبر هذا التعثر الإسرائيلي والضعف الغربي "هشاشة لا تصيب الكيان الصهيوني وحده فحسب، بل التركيبة الإمبريالية بأسرها. فرأس المال هشٌّ، ذلك أنه رأس مال خيالي. والهشاشة ليست خاصية له وحده فحسب، بل تصيب كل متناثراته الواقعية (من سلاح وقدرات أخرى) فهي خيالية وهشة أيضًا. كما أن العلاقة الاجتماعية الحاكمة للعالم، والتي تفرض نفسها نمطًا وحيدًا لتنظيم الحياة دون غيرها، هي علاقة خيالية وهشة أيضًا؛ إذ تقوم على أساس رأس المال"(26).
بهذه الوتيرة، يتراجع التمثُّل الجماهيري في الغرب لتلك الصورة المنشودة لليهودي الجديد ورومانسية تأسيس دولة إسرائيل بإيعاز من حركات الفكر الصهيوني القديم والجديد منذ أكثر من قرن. ويكثر حاليًّا الاستفهام والتشكيك في جملة من السرديات التي كانت تستديم تأييد تلك الطموحات الصهيونية في الغرب ذهنيًّا وعاطفيًّا وسلوكيًّا. وقد نادى إدوارد سعيد بأن "الأفكار السياسية الفعالة مثل الصهيونية تحتاج إلى فحص تاريخي بطريقتين: أ. من الناحية الجينية حتى يمكن تحديد مصدرها، وقرابتها ونسبها، وانتمائها إلى كل من الأفكار الأخرى والمؤسسات السياسية. ب. كنظام عملي للتراكم (تراكم السلطة، الأرض، الشرعية الأيديولوجية)"27)).
في الوقت ذاته، تكثر حركة الانتقاد للسردية الدينية بأن إسرائيل دولة يهودية بين الأوساط الأكاديمية والجماهيرية على حد سواء. ومما يزيد في الشرخ بين مستوى الوعي النقدي المتنامي بين حشود المتظاهرين ومستوى ما يتبقى من تأييد إسرائيل النقاش الذي يفضي إلى معارضة فكرة الدولة التي تقوم على أساس ديني وعرقي لليهود فقط، دون القبول بالتعددية العرقية والثقافية التي تقوم عليها فلسفة الدول المعاصرة في عز الحداثة السياسية. ويلاحظ بعض الباحثين في تطور الحركة الصهيونية أن "فكرة التفوق اللاهوتي (في إسرائيل) ليست جديدة، وقد كانت متأصلة تاريخيًّا في جميع مجالات الفكر الصهيوني الكلاسيكي منذ بدايتها، في كتابات هاينريش غيرتز (Heinrich Gertz)، وموشيه هيس (Moshe Hess)، وليون بينسكر (Leon Pinsker)، وتيودور هرتزل، وإسرائيل زانجويل (Israel Zangwill)، وآرون ديفيد جوردون (Aaron David Gordon)، وفلاديمير (زئيف) جابوتنسكي (Vladimir (Zeev) Jabotinsky). ويلاحظ المرء تكريس جهد لتقديم إجابة يهودية أصيلة للتحديات التي واجهها اليهود في عصر التحرر والقومية في أوروبا من خلال التأكيد على التفسير "العلماني" للتصور الديني للرابطة التاريخية والثقافية بين الشعب اليهودي ووطنه"(28).
3. تقابل النظريات وأسبقية الفكر على الواقع
دخلت حرب إسرائيل على غزة شهرها الثالث (ديسمبر/كانون الأول 2023) دون تحقيق معادلة صفرية لصالح أي من الطرفين، ودون توصل المجتمع الدولي إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس أو تحديد مخرج للأزمة الإنسانية المتفاقمة لأكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وذلك خلال مناقشة سادس مشروع قرار قدمته الإمارات نيابة عن المجموعة العربية بالأمم المتحدة، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2023. لكن الحرب على غزة تؤكد أن حروب الجيل الرابع، وفق منظِّريها، وليم ليندل (William Lindl) وتوماس هامز (Thomas Hammes)(29)، تستخدم كافة الضغوط الممكنة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو العسكرية، وحتى الهجوم المباشر على ثقافة العدو، بما في ذلك أعمال الإبادة الجماعية ضد المدنيين، كما تفعل إسرائيل حاليًّا إزاء الفلسطينيين في غزة. ويوضح ليندل كيف أن حروب الجيل الرابع "تمثِّل التغيير الأكثر جذرية منذ معاهدة صلح وستفاليا عام 1648، وأن الدولة تفقد خلالها احتكار الحرب. فعلى امتداد كل العالم، تجد جيوش الدولة نفسها تقاتل المعارضين من غير الدول، مثل القاعدة وحماس وحزب الله والقوات المسلحة الثورية في كولومبيا. وتخسر الدولة في كل مكان تقريبًا"(30).
بحكم تباين ميزان القوة بين طرفين غير متكافئين في الجيل الرابع من الحروب المعاصرة، تتفرع الحرب إلى ثلاث معارك متوازية: أولًا: معركة قتالية في الميدان بكافة أدوات العنف النظامية وما يرتجله الطرف الآخر من أدوات محلية الصنع؛ ثانيًا: معركة سياسية بين الحكومات المؤيدة أو المعارضة لهذا الطرف أو ذاك وأيضًا السجالات حامية الوطيس خلال اجتماعات مجلس الأمن والجمعية العامة في نيويورك؛ وثالثًا: معركة الخطاب ومواقف الرأي العام وشعارات القيم والعدالة والفضيلة السياسية. ويُلاحظ رامي خوري كيف أن الانفجار المستمر في النشاط العام في الولايات المتحدة وبقية العالم من أجل وقف إطلاق النار في غزة وتوفير الحقوق المتساوية للإسرائيليين والفلسطينيين يشكِّل ساحة معركة لا تقل أهمية عن المواجهة العسكرية بغزة في هذا الصراع المستمر منذ قرن من الزمان. ويكشف تآكل فعالية الدعاية التقليدية المؤيدة لإسرائيل في مواجهة سياسات الفصل العنصري الأكثر وضوحًا من قِبَل إسرائيل، والتعبئة واسعة النطاق والمتقنة تقنيًّا من طرف الحركات المؤيدة لفلسطين وللعدالة(31).
4. شيوع خطاب صهيونية إسرائيل في الغرب
سارعت إسرائيل والحكومات الغربية المناصرة لها منذ ما قبل 1948 إلى توظيف كافة الاجتهادات في المفاهيم والنظريات ومنطلقات تعبئة الرأي العام لقضيتها. وكان التعليم والإعلام والسينما وكل ما يكرس بنائية الواقع البديل ضمن المنطلقات النظرية المتسقة من أجل بلورة الخطاب المنشود. كانت وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة على رأس ترسانة الأدوات الإستراتيجية لشيوع المشروع الصهيوني وضمان رواجه في الغرب. وكانت نظريات الاتصال والإعلام في بداياتها وسط انبهار الكثيرين بمقولة المنظِّر الكندي، مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan)، التي اختزل بها قوة تأثير الإعلام وقتها بعبارة "الوسيلة هي الرسالة". وأوضح في كتابه "فهم وسائل الإعلام: امتدادات الإنسان"، الصادر عام 1964، أن "كل وسيلة، من خلال الطريقة التي تُناشد بها الحواس البشرية، تشكِّل تجربة جمهورها بشكل مختلف؛ إذ إن لدى كل وسيلة مجموعة مختلفة من الأجهزة التي تؤدي إلى معالجة الرسالة بشكل مختلف"(32).
جادل مؤيدو هذه النظرية بأن وسائل الإعلام ليست مجرد قنوات لنقل المعلومات بين البيئات، ولكنها في حد ذاتها إعدادات أو بيئات اجتماعية ونفسية متميزة تشجع أنواعًا معينة من التفاعل وتثبط الآخرين. وكان جوشوا ميروفيتز (Joshua Meyerowitz) قد نحت مفهوم (Medium) بمعنى "الوسيلة" أو "الوسيط" للإشارة إلى مجموعة الجوانب التكنولوجية لوسائل الإعلام بما يتجاوز محتواها، وذلك ضمن كتابه "لا معنى للمكان" (No Sense of Place) الصادر عام 1985. وبفعل دينامية الإعلام وتعدُّد القنوات والمنصات خلال العقود الموالية، أصبح المجال العام في الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا مثلًا ساحة تنافس شرس بين سرديات مختلفة تتنافس على "الحقيقة" النهائية، وتتسابق على الأرضية الأخلاقية "العليا"، وتحاول احتكار بناء الواقع "الحقيقي" كل على طريقته. وخلَّف هذا التنافس معركة وجودية أخرى بين قوة المال والتحكُّم في مآل المشروعات الإعلامية. ويجادل إدوارد هيرمان (Edward Herman) ونعوم تشومسكي (Noam Chomsky) بأن وسائل الاتصال الجماهيري في الولايات المتحدة تُعد "مؤسسات أيديولوجية فعالة وقوية تقوم بوظيفة دعائية داعمة للنظام، من خلال الاعتماد على قوى السوق، والافتراضات الداخلية، والرقابة الذاتية، ودون إكراه علني، عن طريق نموذج الاتصال الدعائي"(33). ويُفسِّر عالم السياسة، إيان شابيرو (Ian Shapiro)، كيف أن المنظِّرين غالبًا ما "يفشلون في تقدير أي ادعاء حول كيفية تنظيم السياسة، وأنه لابد أن يكون ادعاءً علائقيًّا يشمل الفاعلين، والأفعال، والشرعية، والغايات"(34).
في المقابل، يقول فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama): إن هناك "عمى غريبًا تجاه أهمية المؤسسات السياسية الذي أثر في العديد من الأفراد على مر السنين، أعني الأشخاص الذين يحلمون بعالم سنتجاوز فيه السياسة بطريقة أو بأخرى" .(35) ومن خلال السرديات المتنافسة في وسائل الإعلام ومدى الاقتراب منها، يميل الأفراد إلى تقييم الوضع الراهن لأنظمتهم الاجتماعية، والتفاوض مع المؤسسات القوية، ومحاولة إقناع بعضهم البعض بالبدائل. ويمكن للمرء أن يجادل بأن اتجاهات تلك السرديات توضح كيف يبني البشر واقعهم من خلال شتى الأطر المعرفية والمعيارية، وكيف يمكن النظر إلى السرديات التي ينفتحون عليها؛ إذ تمثِّل نوافذ على الحياة الداخلية والعوالم الاجتماعية لديهم.
يظل الخطاب الغربي متشبعًا في أغلبه بضرورة وجود إسرائيل وتفوقها العسكري والإستراتيجي على حساب الفلسطينيين وبقية دول الجوار العربي. ويعكس انغماسُ النخب السياسية الغربية في "قداسة" الأمن القومي الإسرائيلي -أكثر من حرصهم أحيانًا على أمن دولهم القومية- مسألتين أساسيتين؛ الأولى: أن عضوية الأمم المتحدة وجلسات وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة هي أدوات وظيفية حسب تقدير حكومات إسرائيل، تنادي بها متى تشاء وترى فيها مصلحة إستراتيجية آنية، أو ترميها عرض الحائط ولا تشعر بأي قلق بوجود الرفيق الأكبر: الولايات المتحدة. ثانيًا: اعتماد الجبروت العسكري وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء في غزة لا يأتي من جموح شارد، وإنما من قناعة حكومة الحرب حول نتنياهو بأن على الغرب أن يُهندس منطقًا مناسبًا وعقلانية أخرى لإقناع العالم بأن ما تفعله في غزة "رد فعل منطقي وعقلاني ولا غبار عليه".
استثمر خطاب الصهيونية ومناصروه أيضًا في نظرية التأطير (Framing theory) إحدى أهم النظريات التي قادت دراسات الإعلام وكيفية اجتذاب الجماهير في العقود الأربعة الأخيرة. وتقوم فكرة التأطير هنا -كما يقول روبرت إنتمان (Robert Entman)- على "اختيار ما ينفع لتلميع بروزه. وهو أيضًا انتقاء لجوانب محددة من واقع مُدرَك، والدفع به نحو هالة من البريق في إيصال النص إلى الآخرين بطريقة تُروِّج لتعريف مشكل معين، و/أو تقديم تأويل عشوائي غير رسمي، و/أو تحديد تقييم معنوي بمعايير القيم، و/أو عرض توصية لكيفية التعامل مع المصطلح الموصوف"(36). ويلاحظ أنه بينما نعيش الآن في مجتمعات شبكية ووسائطية، فإننا غالبًا ما نواجه الصراع ببنية سردية جاهزة ومقبولة ثقافيًّا لشرحها وروايتها، على الرغم من أن هذا الاختيار ليس واعيًا على الأرجح(37). وينطوي خطاب الإعلام في تبنِّيه سردية معينة على تداخل متواز بين هذا التأطير من ناحية وبنائية الواقع الاجتماعي من ناحية أخرى.
على هذا المنوال، كانت التوليفة الإعلامية اليومية تُبرِز خطاب الصهيونية من خلال دوغمائية الخطاب القائل بحق إسرائيل في الوجود، دون استكمال الشطر الثاني، وحق فلسطين في الوجود أيضًا. وتُعزِّز هذا التأطير بمحفزات ثقافية وتاريخية وسوسيولوجية لصالح خطاب دون الآخر مع ظهور قناة "فوكس نيوز" (Fox News) عام 1996 وغيرها من القنوات المتخصصة في خدمة ذلك الخطاب المبرَّز وتبعات مقتضياته الأيديولوجية. وليس من السهل على المشاهد العادي أن يفكِّك الوقائع من الأيديولوجيا، والتأطير من التغطية المهنية المحايدة. وهناك من يجادل بأن نظرية التأطير تُعد في حد ذاتها تركيبًا للواقع الاجتماعي، ولا يفترض وجود تقابل بين تأطير الإعلام والتأطيرات الذاتية للأفراد، مثل ديترام شوفيل (Diertram Scheufele)، الذي يرى أن الأبحاث يجب أن تركز على دراسة التأطير من خلال منطلق نظري شامل (metatheoretical perspective)، وأيضًا للتمييز بينه وبين أبحاث تأثيرات وسائل الإعلام.(38) ويقول غوستاف لوبون (Gustave Le Bon)، في كتابه "سيكولوجيا الجماهير": إن "الجماهير غير ميَّالة كثيرًا للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جدًّا للانخراط في الممارسة والعمل، والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة جدًّا، والعقائد الجديدة التي نشهد ولادتها أمام أعيننا اليوم سوف تكتسب قريبًا نفس قوة العقائد القديمة: أي القوة الطغيانية والمتسلطة التي لا تقبل أي مناقشة أو اعتراض" .(39)
ويركز آخرون على العلاقة بين التأطير في منحاه الآخر، وهو ما يتجاوز معنى أدوات التأطير وعلاقتها بنظرية تحديد الأجندة، كما يجادل بعض رواد البحث فيها مثل ماكسويل ماكوب (Maxwell McCombs) ، ودونالد شو (Donald Shaw) ، وديفيد ويفر (David Weaver). وهم يهتمون أكثر بالمستوى الثاني لتحديد الأجندة (second-level agenda-setting) كناية عن التأثير الضمني والخفي الذي تمارسه وسائل الإعلام في تفسير وتأويل القصص الإخبارية الجديدة. غير أن آني لانغ (Annie Lange) تجادل بأن المفهوم الأساسي للاتصال الجماهيري والإعلام هو أنه "عامل تغيير خارجي عن الأفراد وبيئاتهم الاجتماعية المباشرة، فيما تعمل وسائل الإعلام في المقام الأول على تعطيل وتغيير البيئة والشخص"(40).
تابع خطاب الصهيوينة كافة تحولات التواصل والإعلام والمحفزات الكفيلة بأن تتم استمالة الفرد المستهلك للمادة الإعلامية إلى تأييده وترديد مغزاه. ومنذ منتصف التسعينات، اتسع تأثير نظرية جديدة عرَّفها الباحثون الألمان والإسكندنافيون بـ(Mediatization theory)، ويمكن ترجمتها إلى نظرية الأعْلَمَة أو التحكم الإعلامي في الحياة العامة وبلورة قناعات الأفراد ومواقفهم. وقد أثار الكاتب جون تومسون (John Thompson)، عام 1995، ارتباط تطور وسائل الإعلام بالحداثة، وركز على الأشكال الرمزية وأشكال الإنتاج والترويج للمحتوى الإعلامي، ونبَّه إلى التحول الثقافي الممنهج عبر وسائل الإعلام وتأثيرها في التعامل مع الرموز، وتوصل إلى أن مقومات الاتصال والتفاعل عميقة، وأن أثرها غير قابل للتدارك أو الإلغاء. وهنا بلور مفهوم "التحول الإعلامي للثقافة" (Mediazation of culture)، واستخدم مصطلح (mediazation) وليس (mediatization).
واقترح باحث آخر هو روجر سيلفرستون (Roger Silverstone) لفظ (Mediation)، عام 2005، كناية عن التحول المتراكم في المجتمع والثقافة، واعتبره مفهومًا "ديالكتيكيًّا" أو جدليًّا يختلف عن طبيعة التفاعل التقليدي بين الإعلام والجمهور، وحثَّ الباحثين على دراسة عمليات التواصل باعتبارها "منساقة ومتداخلة على المستوى المؤسسي والتكنولوجي". وعرَّفها كنتيجة تتطلب منَّا أن نفهم كيف تُغيِّر عمليات الاتصال الفضاءات الاجتماعية والثقافية التي تدعمها، فضلًا عن العلاقات التي تربط بين المشاركين، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، والبيئة العامة وأيضًا ما يجمعهم إلى بعضهم بعضًا".(41)
يتقوَّى خطاب الصهيونية حاليًّا في الغرب أيضًا بنظرية الأَمْنَنَة التي اتسع ظلها على تطور الخطاب العام منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. وغدت مقولة: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" من أساسيات الخطاب الغربي. والملاحظ أن تلويح مناصري إسرائيل بهذا الشعار ينمُّ عن دوغمائية جديدة تُسقط عنصر الأمن وضرورة الأَمْنَنَة في كل سياق، وتحويل شتى القضايا غير السياسية أو حتى القضايا العادلة إلى "مسائل أمنية". وهذا يُفسر توافق إسرائيل والحكومات المؤيدة لها على استخدام كافة الأسلحة والقوة الفتاكة، وإبادة المدنيين، وانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني وكل مواثيق الأمم المتحدة تحت ذريعة "أَمْنَنَة المرحلة" في الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط. وقد أوضح باري بوزان، وأول ويفر (Ole Weaver)، وجاب دي ويلد (Jaap de Wilde)، منظِّرو الأَمْنَنَة في مدرسة كوبنهاغن، خلال تعاونهم في معهد أبحاث الصراع والسلام في كوبنهاغن مدى الإطار التحليلي الفضفاض لمفهوم الأَمْنَنَة، وأن الأخطر أَنْ يَسْهُل تحويل قضية معينة إلى قضية "مُؤَمْنَنَة" أو "غير مُؤَمْنَنَة" وفق تقديرات الدولة أو الدول في كل مرحلة. وأهم ما استفادت منه إسرائيل والمناصرون لها في الغرب هو أن الحجة الأساسية التي تقوم عليها الأَمْنَنَة هي أن "الأمن خطاب أساسًا.. خطاب إعلامي" في أصله وتجلياته، وأنه "فقط من خلال تصنيف شيء ما بأنه مشكلة أمنية، فإنه يصبح كذلك"، فضلًا عما يثيره من سياسة الطوارئ والتحلُّل من تطبيق القوانين(42).
5. آفاق جديدة في الغرب لخطاب المحنة الفلسطينية
يميل الخطاب المناصر للقضية الفلسطينية في الغرب حاليًّا نحو بنائية موازية تستحضر بعض المنطلقات المعيارية (مطلب إنهاء الاحتلال، والمناداة بالحرية للفلسطينيين، وتشبيه سياسة إسرائيل ضد الفلسطينيين بالأبارتايد أو الفصل العنصري الجديد في الشرق الأوسط). وبدأت تشاكس الخطاب المنافس من داخل منطقه السياسي، وتشكِّك في "أحقية إسرائيل" بالدعم العسكري والمادي والغطاء السياسي من قبل الغرب. ولا يُعفي هذا التحوُّل بعد عن استمرار البناء التظلمي والاحتجاجي والعاطفي في مواجهة الخطاب المؤيد لإسرائيل. وفضلًا عن المظاهرات الجماهيرية الكبرى التي خرجت في عدة ولايات أميركية وأوروبية، كان أضخم حشد جماهيري مناصر للقضية الفلسطينية، في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عندما سار عشرات الآلاف من ساحة الحرية في واشنطن العاصمة إلى البيت الأبيض في أكبر مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في تاريخ الولايات المتحدة. وتوجه المتظاهرون إلى بيت الرئيس، جو بايدن، في بلدة ويلمنجتون بولاية ديلاوير وسار مئات المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين على طول الشارع وأعلنوا حضورهم خارج منزله.
يقول أحد المتظاهرين من السود الأميركيين، واسمه جيف ووكر (Jeff Walker)، في مقابلة مع برنامج "الديمقراطية الآن" (Democracy Now): "من المهم بالنسبة لنا أن نكون هنا اليوم، لأننا نرى الاضطهاد يحدث في كل مكان. وإذا سمحنا للاضطهاد بالاستمرار في الحدوث دون قول أي شيء، فسيستمر في التفاقم". وقد أحضر هذا المواطن أولاده معه لمعايشة أجواء المظاهرة بتفاصيلها. وأضاف: "أقول لهم دائمًا أن يكونوا على الجانب الصحيح من التاريخ، هل تعلمون؟ وبالتأكيد، ذلك لأن الأشياء التي تحدث لفلسطين هي الأشياء التي تعرضنا لها أيضًا، كما تعلمون، في وقتنا في أميركا هنا أيضًا. ولذا، أقول لأطفالي أن يفهموا ما يحدث في هذا البلد، وأُخبرهم بذلك.. أذكر لهم مقولة لمالكولم إكس (Malcolm X)، كما تعلمون: وسائل الإعلام ستجعلك تمدح الظالم وتفضح المظلوم. ولذلك أريد فقط أن يدرك أطفالي: كما دافع الفلسطينيون عنَّا وتحدثوا عن حركة "حياة السود مهمة"، يجب علينا أيضًا أن نتحدث عنهم"(43).
وخلال المظاهرة، أوضح المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية، نهاد عوض، أنههم منذ بداية الحرب على غزة "تحدثوا إلى الرئيس بايدن بلغة المنطق، ولغة القانون، ولغة الإنسانية. لقد ناشدناه أن يتخذ موقفًا أخلاقيًّا، وأن يتعرف على 2.3 مليون من السكان المدنيين المحاصرين في غزة تحت هجوم القوات الإسرائيلية من كل نوع يمكن تصوره من الأسلحة الحديثة، وأن يدعو إلى وقف إطلاق النار. كل هذه النداءات ونداءات المجتمع الدولي لم تلق آذانًا صاغية. ومع تزايد صور الإبادة الجماعية، جُرِّد الفلسطينيون من إنسانيتهم ويتم تجاهل معاناتهم. لقد نُفي بل حُرِمَ القتلى الفلسطينيون من حقهم في الاعتراف بهم كأموات". ويذكر عوض أن الرئيس بايدن "أصرَّ على أنه ينبغي ألا يكون هناك وقف لإطلاق النار. وطلبت وزارة الخارجية من موظفيها عدم الحديث عن التهدئة.. لقد اكتشفنا اللغة التي يفهمها الرئيس بايدن، واسمحوا لي أن أشارككم إياها: اللغة التي يفهمها الرئيس بايدن وحزبه هي لغة الأصوات في انتخابات 2024. ورسالتنا هي: لا وقف لإطلاق النار، لا تصويت..."(44).
أصبحت المواقف المؤيدة للقضية الفلسطينية تُحسِن استخدام ميزان التموقع وكشف مغالطات التأييد الغربي لإسرائيل وتهوُّر السياسيين المحليين. ومن خلال المقومات النفسية والاجتماعية في تفاعل الأفراد عبر المجموعات البشرية المختلفة، تتباين المواقف التي تظل مجموعة قابلة للتغيير من معتقدات الأفراد بشأن حقوقهم وواجباتهم والتزاماتهم. ويمكن موازاة هذا التموقع مع التمركز الذي يمثِّل آلية سوسيولوجية ومعيارية في تعيين الأفراد أدوارًا معينة بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والمقبول أو المرفوض عرفيًّا وثقافيًّا، وترسم أيضًا حدودًا للأدوار والقصص المرنة التي تحدد الأفعال في المستقبل ومعاني ما يقولونه ويفعلونه. وتوسعت نظرية التموقع (Positioning theory) في ضوء كتابات عالم النفس، ليف فيجوتسكي (Lev Vygotsky)، وطورها في التسعينات كل من توم هاري (Rom Harré) وفضالي مقدم (Fathali Moghaddam).
يتعزَّز الخطاب المناصر للحقوق الفلسطينية أيضًا بمجموعة من التحولات الفكرية المعاصرة. ومن أهم هذه الروافد النظرية القرينة القوية بقيم التحديث والديمقراطية أو التحول الديمقراطي. وقد جادل سيمور مارتن ليبسيت (Seymour Martin Lipset) منذ خمسة عقود بأن التحديث يمكن أن يتحول إلى ديمقراطية(45). ويستمر النقاش بين الأكاديميين حول دوافع الديمقراطية نظرًا لوجود عدة نظريات تدعم النمو الاقتصادي كسبب ونتيجة لمؤسسة الديمقراطية، وأن الديمقراطية مرتبطة بالتنمية الاقتصادية، والتي تم تقديمها أول مرة عام 1959، وقد ولدت أكبر مجموعة من الأبحاث في السياسة المقارنة.
يستشف الخطاب النقدي لسلوك إسرائيل وجبروتها وطابعها العرقي الكثير من نظرية العدالة ومغزى الفلسفة السياسية في ضوء كتابات الفيلسوف جون راولز (John Rawls) (2002-1921) الذي حاول بلورة نظرية أخلاقية بديلة للنفعية والتي تتناول مشكلة العدالة التوزيعية (التوزيع العادل اجتماعيًّا للثروة). وقدَّم نظرية سياسية للعدالة بشكل كامل مقارنة بأشكال العدالة الأخرى التي تمت مناقشتها في تخصصات وسياقات أخرى، ضمن كتابه الشهير "نظرية العدالة" الذي صدر عام 1971، من خلال نظرة تحديثية لفلسفة إيمانويل كانط (Immanuel Kant) ومنطلق مغاير عن النظريات التقليدية للعقد الاجتماعي. وتمَّ نشر إعادة تقييم مهمة في مقال عام 1985 بعنوان: "العدالة كإنصاف"، وكتاب "العدالة كإنصاف: إعادة صياغة"، عام 2001؛ وفيه قام راولز بتطوير نظريتيه. ويُقدِّم توضيحه النهائي حول مبدأي العدالة بقوله: "يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو في النظام الشامل الأكثر شمولًا للحريات الأساسية المتساوية والمتوافق مع نظام مماثل من الحرية للجميع"(46).
يتنفس مناصرو القضية الفلسطينية الصعداء حاليًّا لوجود تحرُّر ومرونة في الإعلام الرقمي بعيدًا عما يمارسه الإعلام التقليدي الذي قضى عقودًا في خدمة الأطروحة الصهيونية و"مظلومية" إسرائيل. ومع طواعية مختلف المنصات والأدوات التكنولوجية وإمكانية البث المباشر لمقاطع قد تصل مشاهدتها إلى عشرات الملايين، أصبحت الحتمية التكنولوجية في خدمة المستضعفين ولا تزيد في تفوق المستقوين. وتقوم فكرة هذا التحوُّل على أن تكنولوجيا المجتمع تتقدَّم من خلال اتباع منطق الكفاءة الداخلي الخاص بها، مع تحديد تطور البنية الاجتماعية والقيم الثقافية. ويعتقد أن نحت المصطلح يعود في الأصل إلى ثورستين فيبلين (Thorstein Veblen)، وهو عالم اجتماع وخبير اقتصادي أميركي. وتسعى هذه النظرية إلى إظهار كيف تثير التطورات التقنية، أو وسائل الإعلام، أو التكنولوجيا، التغيير، باعتبارها المحرك الرئيسي في التاريخ والتغيير الاجتماعي(47)، وهي نظرية يؤيدها "أنصار العولمة المفرطة" الذين يزعمون أنه نتيجة لتوافر التكنولوجيا على نطاق واسع، فإن العولمة المتسارعة أمر لا مفر منه. ولذلك، يصبح التطور التكنولوجي والابتكار المحرك الرئيسي للتغيير الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي.
6. خطاب الصهيونية يدور حول ذاته
تناول جون ميرشايمر بالتحليل خلاصة ما كشفه تقرير جديد أعدَّه المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي، والذي انكب على متابعة حجم وشعارات المظاهرات التي خرجت في شتى الدول منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وأظهر تحليل البيانات أنه منذ اندلاع الحرب، تم تنظيم 3891 مظاهرة مؤيدة لإسرائيل ومؤيدة للفلسطينيين في 92 دولة، وأن عدد المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين كان يبدو أعلى بكثير من عدد المظاهرات المؤيدة لإسرائيل، وأن "هذا الاتجاه يكتسب زخمًا". وأشار المعهد أيضًا إلى أنه خلال الأيام الستة الأولى من الحرب، كانت نسبة 69% من إجمالي المظاهرات ضد إسرائيل، بينما كان 31% من المتظاهرين مؤيدين لها. في المقابل، منذ "يوم الغضب" الذي أعلنته حماس في 13 أكتوبر/تشرين الأول، طرأت زيادة كبيرة في عدد المظاهرات المناهضة لإسرائيل، وأصبحت تمثِّل 95% مقارنة بالمظاهرات المؤيدة لإسرائيل التي انخفضت إلى 5% فقط. وعلاوة على ذلك، أظهر التحليل أن المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين جرت في 88 دولة على الأقل من دول العالم(48). (انظر الجدول رقم 1)
جدول (1): توزيع نسب المظاهرات المناهضة والمؤيدة لإسرائيل
بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023(49)
3891 من المظاهرات الدولية بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 |
بين 7 و13 أكتوبر/تشرين الأول 2023 |
نسبة المظاهرات المناهضة لإسرائيل |
نسبة المظاهرة المؤيدة لإسرائيل |
%69 | %31 | ||
بين 13 أكتوبر/تشرين الأول و12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 |
نسبة المظاهرات المناهضة لإسرائيل | نسبة المظاهرة المؤيدة لإسرائيل | |
%95 | %5 | ||
عدد المظاهرات المؤيدة لفلسطين |
486 (اليمن) | 402 (أميركا) | 355 (تركيا) |
عدد المظاهرات المؤيدة لإسرائيل |
182 (أميركا) | 62 (ألمانيا) | 21 (فرنسا) |
تؤشر هذه النسب على الانحباس الإستراتيجي الذي تعانيه حكومة بنيامين نتنياهو والعواصم المؤيدة لها في الترويج لها. ويكشف مدى التراجع في مستوى خطاب الصهيونية والتطرف الذي تبنته حكومة نتنياهو في الإبقاء على ائتلاف هش من أحزاب يمينية متطرفة. وتزداد القناعة لدى عدد من محلِّلي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أن "التصدعات في الرواية الصهيونية الرسمية آخذة في التزايد، ويتم النظر إلى الأيديولوجية على حقيقتها تهديدًا خطيرًا للسلام العالمي"(50). في الوقت ذاته، تضيف طريقة إدارة حكومة بايدن الحرب على غزة، في ضوء مقارنتها مع حرب أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط 2022 وطريقة الانسحاب الأميركي من أفغانستان في أغسطس/آب 2021، مضاعفات سلبية في أعين الناخبين، خاصة في صفوف الشباب والتقدميين في يسار الحزب الديمقراطي والأقليات، على الرصيد السياسي للرئيس بايدن. فبلغت نسبة تأييد الرئيس 32% لتعامله مع الوضع بين إسرائيل وحماس أقل من النسبة الضعيفة لتأييده الوظيفي بالفعل والتي تبلغ 37%، وفق استطلاع جديد أجرته مؤسسة غالوب للأبحاث، في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2023(51).
يظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، بشكل نشط على القنوات التليفزيونية، منذ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لحشد الدعم لاستمرار الحرب، لكنه يقرُّ بأن وضع إسرائيل في السياق الدولي ليس جيدًا، ويعتزم الذهاب في جولة إعلامية سياسية إلى نيويورك وواشنطن بهدف "المساعدة في تعزيز موقف الحكومة الإسرائيلية في نظر الجمهور والكونغرس الأميركي والإدارة من أجل منح قادة الجيش الحرية الكاملة في العمل للقضاء على حماس"(52). ويلفت الانتباه إلى أن الرأي العام الدولي لم يعد يساند إسرائيل، بل إن المحتوى المؤيد للفلسطينيين يزيد 15 مرة عن المحتوى المؤيد لإسرائيل على منصة التواصل الاجتماعي "تيك توك". وبالإضافة إلى المتحدثين الرسميين، كلَّف الجيش الإسرائيلي أيضًا العديد من المسؤولين العسكريين بالتحدث في وسائل الإعلام الأجنبية للدفاع عن هجماته. كما تمَّ حشد العشرات من الصحفيين الإسرائيليين لنشر "الرواية الإسرائيلية" عبر منصات التواصل الاجتماعي(53). وتزداد المفارقة في غير صالح إسرائيل عندما يكون للجماعات اليهودية في الولايات المتحدة دور بارز في المظاهرات المناهضة للحرب على غزة في نيويورك وواشنطن وسان فرانسيسكو ومدن أخرى. وشارك اليهود في جميع أنحاء العالم في مظاهرات مؤيدة لوقف إطلاق النار في غزة وإنهاء الحرب، مما أثار استغراب العالم، وأصاب بالصدمة الجمهور الإسرائيلي والصحفيين المواليين لإسرائيل.
وفي استطلاع رأي عام أجرته مؤسسة "غالوب"، خلال الفترة الممتدة من 1 إلى 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وشاركت فيه عينة متنوعة عرقيًّا من المستجوبين، يظهر مدى التباين في مواقف الأميركيين من الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، وكيف تختلف القراءات والمواقف حسب السن والعرق والجندر ومستوى التعليم والهوية الحزبية. وتكمن الملاحظة الرئيسية في أنه كلما كان المواطن الأميركي رجلًا متوسط العمر من الفئة البيضاء ومنتميًا إلى الحزب الجمهوري، كان تأييده لإسرائيل أكيدًا. في المقابل، تبتعد مواقف النساء والشباب والأقليات والمنتمين إلى الحزب الديمقراطي أو المستقلين عن تأييد إسرائيل وعملياتها العسكرية. ويصل الفارق بين الشباب بين سن 18 و34 إلى فارق 37 نقطة بين نسبة المؤيدين (30%) والمعارضين (67%).
شكل (1): تباين آراء الأميركيين بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة
بحسب السن والعرق والجندر ومستوى التعليم والهوية الحزبية(54)
ويركز جزء من استطلاع "غالوب" على التمحيص في تباين المواقف بشأن المساعدات الأميركية التي تمنحها الحكومة إلى إسرائيل ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية بمستويات مختلفة. وكانت صيغة السؤال: "هل تعتقد أن الولايات المتحدة تفعل الكثير، أم القدر كافٍ، أم غير كافٍ؟" (انظر الشكل رقم 2). وأجابت نسبة 31% أن الولايات المتحدة تقدم الكثير من المساعدات، فيما ذكرت نسبة 42% أن تلك المساعدات إلى الشرق الأوسط هي بالقدر الكافي. وارتأت نسبة بلغت 25% من المستجوبين أن تلك المساعدات غير كافية. وجاء السؤال الآخر حول المساعدات الإنسانية المخصصة إلى الفلسطينيين، فتباينت بين نسبة 22% ممن يعتبرونها أكثر من اللازم، ونسبة 34% ممن اعتبروها في الحد المناسب، لكن نسبة 40%، وهي الكتلة الأوسع، اعتبرتها غير كافية.
شكل (2): توزيع نسب آراء المبحوثين بشأن المساعدات الأميركية
التي تمنحها واشنطن إلى إسرائيل والسلطة الفلسطينية(55)
ويستعرض الشكل رقم (3) تطور مدى التضامن الصافي مع إسرائيل بين الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين في الولايات المتحدة خلال الأعوام الاثنين والعشرين الماضية. وتعكس المقارنة تباينًا على حد طرفي نقيض بين تأييد الجمهوريين في حدود 42% عام 2001، وكيف ارتفع تدريجيًّا إلى نسبة 82% أيام رئاسة دونالد ترامب عام 2018، قبل أن تتراجع نسبة التأييد إلى 67% في العام 2023. في المقابل، تحرك المستقلون في تأييد إسرائيل من نسبة 22% عام 2001 إلى نسبة 52% عام 2013 خلال رئاسة باراك أوباما، قبل أن تنحدر إلى نسبة 17% في العام 2023.
وسارت وتيرة تأييد الحزب الديمقراطي على خلاف وتيرة الحزب الجمهوري. فظلت دون نسبة 35%، وتذبذبت بين نسبة 22% عام 2001، ونسبة 18% عام 2018، لتنقلب سلبًا إلى نسبة -11% في العام 2023 مما يعكس ارتفاعًا في وتيرة تأييد القضية الفلسطينية.
شكل 3: التضامن الصافي مع إسرائيل
بين الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين في أميركا(56)
وأظهر استطلاع منفصل أجرته مؤسسة "يوغوف" قبل الحرب على غزة، في الفترة بين 10 و23 مايو/أيار 2023، تباين مواقف الجمهور من تأييد إسرائيل أو الفلسطينيين أو إبقاء كفتي الميزان على وضع متساو. وتبيَّن وقتها، أي قبل خمسة أشهر من اندلاع الحرب، أن الولايات المتحدة تُعد الدولة الغربية الأكثر تأييدًا لإسرائيل بنسبة 29%، تليها ألمانيا بنسبة 17%، ثم السويد بنسبة 16% وأخيرًا بريطانيا بنسبة 10%. في المقابل، يتركز تأييد الفلسطينيين في إسبانيا بنسبة 31%، تليها السويد بنسبة 23%، وفرنسا بنسبة 22%، وبعدها الدنمارك بنسبة 20%، وفي آخر القائمة الولايات المتحدة بنسبة 15%(57).
جدول (2): توزيع نسب آراء الجمهور بشأن تأييد
إسرائيل والفلسطينيين قبل الحرب على غزة(58)
م | الدول | مؤيد لإسرائيل (%) | مؤيد للفلسطينيين (%) | تأييد متساو للطرفين (%) | غير متأكد (%) |
1 | أميركا | 29 | 15 | 21 | 34 |
2 | ألمانيا | 17 | 15 | 26 | 43 |
3 | السويد | 16 | 23 | 16 | 45 |
4 | الدنمارك | 14 | 20 | 19 | 47 |
5 | فرنسا | 13 | 22 | 25 | 40 |
6 | إسبانيا | 12 | 31 | 20 | 37 |
7 | إيطاليا | 11 | 19 | 24 | 46 |
8 | بريطانيا | 10 | 23 | 19 | 48 |
المصدر: YouGov 10 -23 عام 2023 عدد العينات: 2037 مبحوثًا من البالغين في بريطانيا، 1004 في فرنسا، 2054 مبحوثًا في ألمانيا، 1022 في الدنمارك، 1008 في السويد، 1019 في إسبانيا، 1018 مبحوثًا في إيطاليا، و1000 مبحوث في أميركا.
7. ملامسة الأسئلة الكبرى
أصبح السجال بين المثقفين والرأي العام في الغرب يتناول بجدية مجموعات من الأسئلة العميقة حول مسار إسرائيل كدولة احتلال، ومصير هذا الاحتلال بموازاة شعب فلسطيني وأرض كانت تُسمَّى فلسطين، ونظام تمييز بسبب الدين والعرق، فضلًا عن منع الصحفيين من دخول قطاع غزة. يقول جون ميرشايمر: إن "السياسة الوحشية تنعكس بوضوح في سلوك إسرائيل في حرب غزة. وتزعم إسرائيل ومؤيدوها أن جيش الدفاع الإسرائيلي يبذل قصارى جهده لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، وفي بعض الحالات يجازف بما يُعرِّض الجنود الإسرائيليين للخطر. أحد الأسباب للتشكيك في هذه الادعاءات هو أن إسرائيل ترفض السماح للصحفيين بالدخول إلى منطقة الحرب؛ فهي لا تريد للعالم أن يرى ما يفعله جنودها وقنابلها داخل غزة. وفي الوقت نفسه، أطلقت إسرائيل حملة دعائية واسعة النطاق لإضفاء لمسة إيجابية على قصص الرعب التي تظهر"(59).
ويفاضل مراقبون آخرون بين سؤال الموت وسؤال الإصلاح للنزعة الصهيونية بين مقرها في إسرائيل ودوائر الدعم لها في العواصم الغربية. ويتراءى للكثيرين بداية نهاية هذه الصهيونية وإن ظلت أيديولوجية قوية داخل إسرائيل، سواء في سياساتها أو بين شعبها، ولا يزال يتعين على الشخصيات السياسية والمرشحين الغربيين التعبير عن التزامهم بهذه الأيديولوجية إذا كانوا يهدفون إلى تولي مناصب عامة من نوع ما. لكن يرى البعض أن "التمسك بمبادئ الصهيونية ودعم ما يسمى بالدولة اليهودية، وتأييد "حقها" في "الدفاع عن النفس"، والحق الأصيل المفترض للشعب اليهودي في "استعادة" أرضه القديمة على حساب الإبادة الجماعية الفلسطينية والتطهير العرقي يضعف بشكل كبير بين الناس في جميع أنحاء العالم الغربي(60).
والأهم من ذلك -بحسب رأي ميرشايمر- لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن "الإسرائيليين قادرون على التغلب على حماس وإجبارها على الخضوع، وإجبار الفلسطينيين على العيش بهدوء في حفنة من البانتوستانات داخل إسرائيل الكبرى. لقد قامت إسرائيل بإهانة وتعذيب وقتل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، ولم تقترب من إخضاعهم. والحقيقة أن رد فعل حماس على وحشية إسرائيل يبدو وكأنه يضفي المصداقية على ملاحظة نيتشه التي قال فيها: إن الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوى"(61).
خلاصة
بغض النظر عن الأمد الزمني الذي ستستغرقه الحرب على غزة كصراع ممتد وارتفاع عدد القتلى من المدنيين وتفاقم الأزمة الإنسانية في المحصلة النهائية تحت أنظار وكالات الأمم المتحدة، أضحى خطاب الصهيونية والتأييد السياسي الغربي له في منطقة الانحباس السياسي والثقافي والإعلامي، خاصة وأن الإعلام التقليدي لم يعد يُستقبَل سوى بالتشكيك والاتهام بأنه يكيل بمكيالين. وسيزداد هذا الانحباس في المستقبل بوتيرة أسرع نتيجة تقابل أربعة عوامل رئيسية: بنيوية وديمغرافية وتواصلية وتكنولوجية.
1. يكمن العامل البنيوي في إسرائيل ذاتها كدولة قامت على الصراع وتكابر نفسها على أن استمرار وجودها سيظل قائمًا على الصراع، دون صيغة تفاوضية بين المكاسب والتنازلات، كما هو منطق الأرض مقابل السلام في معادلة حلِّ الدولتين. وقد جرَّ التأييد الأميركي والأوروبي رِجْل العواصم الغربية إلى موقف العسكرة والصراع كل أربع سنوات تقريبًا في السنوات الثماني عشرة الماضية. ولا يرى منظِّرو الواقعية السياسية الحكمة في تواتر هذه الحروب في أي لحظة من زمن الشرق الأوسط التصعيدي باستمرار، بل يخشون أكثر الآن على الطبقة السياسية في إسرائيل بسبب ما تعانيه حاليًّا من أرق وقلق وهلع من شبح أن يتكرر هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
2. يتمثل العامل الثاني في التركيبة الديمغرافية لكل من مؤيدي إسرائيل ومنتقديها. وكما أوضحت الدراسة آنفًا، تتمحور فئة مناصري إسرائيل في الرجال أغلبهم من البيض بين الخمسينات والسبعينات ومن مؤيدي الأحزاب المحافظة. وهي فئة عمرية لا تعمَّر طويلًا حسب معدل الأعمار حاليًّا. وستخسر إسرائيل الكثير من المؤيدين؛ إذ إن الشباب بين سن 18 و34 هم الشريحة الاجتماعية الأكبر عددًا والأكثر انتقادًا لإسرائيل. ولهذا العامل قرينة مباشرة مع العامل الثالث المتعلق بطبيعة التحوُّل في أدوات التواصل وطبيعة التواصل وزيادة حرية الفرد في اختيار المادة الإعلامية التي يود الاطلاع عليها أو مشاركتها مع حلقة أصدقائه.
3. فَقَدَ الإعلام التقليدي والمحطات التليفزيونية والإذاعية التي كانت تُبشِّر بإسرائيل بريقها وتأثيرها في أذهان الجمهور. وتحلُّ حاليًّا علاقة جدلية بديلة تختلف دينامياتها عن طبيعة التفاعل التقليدي بين الإعلام والجمهور. ولا تستطيع إسرائيل أو مناصروها في الغرب إيجاد لمسة سحرية لكي يظل الجمهور في العالم بمنزلة مريدين لفتاوى الشيخ القديم.
4. العامل الرابع وهو التأثير الرقمي في حركية المجال العام دون وصاية مؤسسة أو حركة أيديولوجية. وقد وصلت البشرية إلى أن الحتمية التكنولوجية أصبحت في خدمة المستضعفين ولا تزيد في تفوق المستقوين. ويتضح تضافر العامل الثالث والعامل الرابع بشكل جيد في تنسيق 3891 من المظاهرات المناهضة لإسرائيل في شتى مدن العالم. ولا تستطيع أي طاقة بشرية أو قوة مادية أو كوابح تقنية تجاهل استخدام المجال العام الرقمي منطقة التحضير الأولي قبل النزول إلى الشوارع وأمام المؤسسات السياسية المنشودة.
- Israeli Research Institute, "95% of world demonstrations support Palestine, compared to 5% with Israel”, Dearborn, November 12, 2023, "accessed November 12, 2023". https://shorturl.at/cvBI9.
- Vijay Prashad, "Mistrust of West defines Global South attitudes to Palestine," The Electronic Intifada, November 15, 2023, "accessed November 15, 2023". https://rb.gy/tuwg1o.
- "بايدن: إسرائيل بدأت تفقد الدعم بسبب القصف العشوائي في غزة وسلامة الشعب اليهودي على المحك حرفيًّا"، روسيا اليوم، 13 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 13 ديسمبر/كانون الأول 2023)، https://rb.gy/5wigt2.
- Szu Yu Chen, Hanna Zakharenko, "U.S. more isolated on Israel as Gaza crisis deepens, need for aid grows," the Washington Post, December 12, 2023, "accessed November 15, 2023". https://rb.gy/y3roky.
- Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, Second Edition, Volume 2, (Enlarged, The University of Chicago Press, 1970), 38-39.
- Abdel Ra'ouf Arnaout, Halime Afra Aksoy, "Israel losing support from global public amid its relentless attacks on Gaza," aa.com.tr, November 20, 2023, "accessed November 20, 2023". https://rb.gy/yjvann.يبرز كتاب دانييل مارويسكي "ألمانيا وإسرائيل: تبييض الدولة وبنائها" سياق الدعم الألماني السياسي والعسكري والاقتصادي لإسرائيل، ويربط ذلك بمحاولة صنَّاع السياسة الألمانية تبييض ماضيهم النازي من خلال دعم الدولة الإسرائيلية. Daniel Marwecki, Germany and Israel: Whitewashing and Statebuilding, (London: Hurst & Company, 2020).
- Alasdair Soussi, "As war in Gaza rages, what’s behind Germany’s support of Israel?," Aljazeera, December 7, 2023, "accessed December 7, 2023". https://rb.gy/ngmxi3.
- Moustafa Bayoumi, "The double standard with Israel and Palestine leaves us in moral darkness," the Guardian, October 11, 2023, "accessed November 20, 2023". https://rb.gy/4i00z9.
- Rami Khouri, "Israel deserves every bit of the global public criticism it is receiving," Aljazeera, December 2, 2023, "accessed December 2, 2023". https://shorturl.at/fnBF0.
- John Mearsheimer, "Israel: Another War, Another Defeat," Brave New Europe, November 16, 2023, "accessed November 16, 2023". https://shorturl.at/BQVY7.
- حلمي الأسمر، "هل تنبأ ابن خلدون بزوال إسرائيل؟"، العربي الجديد، 30 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://rb.gy/xmgbq3.
- المرجع السابق.
- "ما لعنة "العقد الثامن" التي تخوف منها إيهود باراك ولوح بها أبو عبيدة؟"، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://rb.gy/zeuhcj.
- نقلًا عن:Tony Karon, Daniel Levy, "Israel Is Losing this War," The Nation, December 8, 2023, "accessed December 8, 2023". https://shorturl.at/rBDV5.
- Asaf Romirowsky, "The Zionist Dream at 75," Middle East Forum, April 25, 2023, "accessed November 15, 2023". https://t.ly/mrMmX.
- David Brinn, "Is this the end of the Zionist dream?," The Jerusalem Post, October 13, 2023, "accessed October 13, 2023". https://shorturl.at/gqIZ0.
- Ralph Leonard, "Can Israel Survive For 100 Years?," The Medium, April 27, 2021, "accessed November 15, 2023". https://rb.gy/g9bo4o.
- Franklin Foer, How Soccer Explains the World: An Unlikely Theory of Globalization, (New York: HarperCollins, 2004), 68.
- Eric Levenson, "Debate over the Israel-Gaza war has raised tensions – and the stakes – on college campuses," CNN, October 19, 2023, "accessed November 15, 2023". https://rb.gy/n9g6ec.
- Ibid.
- Mark Lynch, Shibley Telhami, "Scholars Who Study the Middle East Are Afraid to Speak Out: Polling data indicate widespread self-censorship," The Chronicle of Higher Education, December 5, 2023, "accessed December 5, 2023". https://shorturl.at/gvw79.
- إدوارد سعيد، القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي، (بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1980)، ص 25.
- المرجع السابق، ص 25.
- المرجع السابق، ص 32.
- نادر المتروك، "إيلان بابيه: نموذج "غزة" في مواجهة إستراتيجية "الحدث المنفصل"، الخندق، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://rb.gy/scohe5 .
- بشار اللقيس، "حوار مع المفكر العربي الدكتور علي القادري"، الخندق، 10 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://rb.gy/zprnsk.
- Edward Said, The Question of Palestine, (New York: Vintage, 1992), 125.
- Amal Jamal, "Neo-Zionism and Palestine: The Unveiling of Settler Colonial Practices in Mainstream Zionism," Journal of Holy Land and Palestine Studies, Vol. 16, Issue. 1, (2017): 55-56.
- كان وليم ليندل أول من نحت مفهوم حروب الجيل الرابع في مقالة نشرها بعنون: "الوجه المتغير للحرب: نحو الجيل الرابع"
(The Changing Face of War: Into the Fourth Generation) عام 1989. وتمَّ توسيع المفهوم في أعمال كتَّاب آخرين، منهم: توماس هامز (Thomas Hammes)، في كتابه الصادر عام 2006 بعنوان: "المقلاع والحجر" (The Sling and The Stone).
- William S. Lindl, "Understanding Fourth Generation War," Military Review, September -October 2004, "accessed November 15, 2023". https://rb.gy/enfm55.
- Rami Khouri, "Israel deserves every bit of the global public criticism it is receiving," Aljazeera, December 2, 2023, "accessed December 2, 2023". https://shorturl.at/beuE9.
- James W. Carey, "Harold Adams Innis and Marshall McLuhan," The Antioch Review, Vol. 27, No. 1, (1967): 5–39.
- Edward Herman, Noam Chomsky, Manufacturing Consent: The Political Economy of the Mass Media, (New York: Pantheon, 2002), 306.
- Ian Shapiro, The Flight from Reality in the Social Sciences, (Princeton University Press, 2007), 14.
- Francis Fukuyama, The Origins of Political Order: From Prehuman Times to the French Revolution, (Macmillan, 2011), 11.
- Robert M. Entman, "Framing: Toward Clarification of a Fractured Paradigm," Journal of communication, Vol. 43, Issue. 4, (December 1993): 51-58.
- Ibid.
- Dietram Scheufele, "Framing as a Theory of Media Effects," Journal of Communication, Vol.49, Issue. 1, (March 1999): 103-122.
- غوستاف لوبون، "مقدمة: عصر الجماهير"، في سيكولوجية الجماهير، ترجمة هاشم صالح، (لندن، دار الساقي، 1991)، ص 43 -49.
- Annie Lang, "Discipline in Crisis? The Shifting Paradigm of Mass Communication Research," Communication Theory, Vol. 23, Issue. 1, (February 2013): 10-24.
- Roger Silverstone, Media and Morality: On the Rise of the Mediapolis, 1st edition, (Polity, 2006), 189.
- Barry Buzan et al., Security: A New Framework for Analysis, (Lynne Rienner Publisher, 1998), 25.
- Messiah Rhodes, María Taracena, "Voices from Largest Pro-Palestinian Protest in U.S. History: Stop the Siege on Gaza Now!," Democracy Now, November 6, 2023, "accessed November 6, 2023". https://shorturl.at/EILU4.
- Ibid.
- Seymour Martin Lipset, "Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy," The American Political Science Review, Vol. 53, No. 1, (March 1959): 69–105.
- John Rawls, A Theory of Justice: Revised Edition, (Harvard University Press, 1999), 266.
- William M. Kunz, Culture Conglomerates: Consolidation in the Motion Picture and Television Industries, (Rowman & Littlefield Publishers, Inc, 2006), 2.
- Israeli Research Institute, "95% of world demonstrations support Palestine, compared to 5% with Israel”, op, cit.
- Ibid.
- Muhammad Hussein, "Amid Israel’s genocide in Gaza, are we witnessing the fall of Zionism?," Middle east Monitor, November 14, 2023, "accessed November 14, 2023". https://shorturl.at/jmzBJ.
- Lydia Saad, "Americans Back Israel's Military Action in Gaza by 50% to 45%," GALLUP, November 30, 2023, "accessed November 30, 2023". https://shorturl.at/bGIN3.
- Arnaout, Aksoy, "Israel losing support from global public amid its relentless attacks on Gaza," op, cit.
- Ibid.
- Saad, "Americans Back Israel's Military Action in Gaza by 50% to 45%," op, cit.
- Ibid.
- Ibid.
- Matthew Smith, "Attitudes to the Israel-Palestine conflict in Western Europe and the USA in 2023," yougov, July 3, 2023, "accessed October 15, 2023". https://rb.gy/0myewa.
- Ibid.
- Mearsheimer, "Israel: Another War, Another Defeat," op, cit.
- Hussein, "Amid Israel’s genocide in Gaza, are we witnessing the fall of Zionism?," op, cit.
- Mearsheimer, "Israel: Another War, Another Defeat," op, cit.