الإستـراتيجية الصينيـة لأمـن الطـاقة وتأثيـرها علـى الاستقـرار فـي محيطهـا الإقليمـي آسيـا الوسطـى – جنـوب آسيـا- شـرق وجنـوب شـرق آسيـا

تدرس هذه الأطروحة التأثيرات المحتملة للإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة على الاستقرار في جوارها الإقليمي، وما إذا كان عامل الطاقة كعنصر جديد في علاقات الصين بجوارها الإقليمي سيكون دافعا نحو تأجيج الصراع مع جيرانها الآسيويين، أم سيكون عاملا جالبا لمزيد من التعاون وتأكيد الصعود السلمي للصين، لأن المنطقة ككل تشكل مركبا أمنيا إقليميا طاقويا يجعل من التغيرات المسجلة في كل منطقة على حدة أو في إحدى دولها فقط يؤثر على بقية الأطراف، فكيـف يمكـن بناء على ذلك أن تؤثـر الإستـراتيجية الصينيـة لأمـن الطاقـة علـى الاستقـرار فـي محيطهـا الإقليمـي؟
(الجزيرة)

مقدمة

الطاقة عنصر حيوي لجميع المجتمعات والدول والاقتصادات، سواء كانت الدول المصنعة والمتقدمة منها، التي تبحث عن ضمان تدفق مستمر للموارد الطاقوية من أجل الحفاظ على مكانتها الريادية سياسيا واقتصاديا على المستوى العالمي. أو الدول التي قطعت شوطا كبيرا في طريق الارتقاء باقتصاداتها لمنافسة الاقتصاديات الأقوى في العالم، وهي ما تعرف بالقوى الصاعدة كالهند والصين والبرازيل وغيرها. وحتى بالنسبة للدول التي توصف بالمتخلفة وذات الاقتصادات الضعيفة في سياق جهودها للخروج من دائرة الفقر والتخلف.       

وكثيرا ما كان اكتشاف مصادر جديدة للطاقة يقف وراء مراحل التطور الكبرى التي عرفتها البشرية، فالفحم كان أساس قيام الثورة الصناعية في أوربا مع النصف الثاني للقرن 18 الميلادي، واكتشاف البترول والغاز والطاقة النووية غير وجه العالم نهائيا. ومنذ أن قررت البحرية البريطانية غداة الحرب العالمية الأولى استبدال الفحم بالنفط كوقود في تشغيل قطعها البحرية العسكرية بدأ الربط التقليدي بين البترول والأمن. ومنذ ذلك الحين أخذ مفهوم "أمن الطاقة" أبعادا جديدة لم تعد مرتبطة بالنفط، بالضرورة بل تعدته إلى كل الموارد ومصادر الطاقة الأخرى وهياكل إنتاجها ومنشآتها القاعدية التي تؤثر على نمو وتطور الاقتصاد العالمي.

لقد أصبح مفهوم "أمن الطاقة" أحد تجليات المفاهيم الأمنية التي بدأت تتشكل وتأخذ مكانتها ضمن العديد من المتغيرات والمفاهيم التي تلت نهاية الحرب الباردة، فالأمن لم يعد يقتصر على الجوانب العسكرية والإستراتيجية التقليدية فحسب، بل تشعبت وتعددت أبعاده لتشمل القضايا البيئية والإنسانية  والثقافية وغيرها، ومن بينها قضايا الطاقة. إذ أن سوق المحروقات أخذ مكانة معتبرة في الخيارات الإستراتيجية للفواعل الرئيسية في العلاقات الدولية، فالأقوياء يبحثون عن تأمين مستقبلهم على المدى الطويل، وجزء هام من شروط تحقيق هذا الهدف مرهون بضمان أمنهم الطاقوي.

فمسألة أمن الطاقة ضمن الأجندة الإستراتيجية لمختلف القوى الفاعلة في المحيط العالمي، أصبحت تنافس الاعتبارات والأولويات الأمنية التقليدية، كحماية الحدود، والتوسع، وتأكيد مكانة وهيبة الدولة، بل أن تلك المسائل الأمنية التقليدية أصبحت تبدو تابعة لأمن الطاقة، لأن هذا الأخير يؤثر على صلب مفهوم المصلحة الوطنية، نظرا لارتباط المحددات الرئيسية لقوة الدولة بتحقيقها لأمنها الطاقوي، مثل الحفاظ على النمو الاقتصادي وتسريع وتيرته، وزيادة قوة الدولة السياسية، والحفاظ على أمنها القومي.

لذلك ليس من المفاجئ أو المستغرب ألا تكون الطاقة اليوم مصدرا للتقدم ولتلبية احتياجات الإنسان المختلفة فحسب، بل أن تكون كذلك مصدرا من مصادر الصراعات بين الجماعات المتقاتلة داخل البلدان الغنية بمواردها الطاقوية كالسودان ونيجيريا مثلا. أو بين الدول المالكة لهذه الثروات والدول الساعية للسيطرة عليها باستعمال القوة كحال الولايات المتحدة الأمريكية في العراق. أو بين القوى الكبرى في حد ذاتها والبدايات الأولى لذلك كانت في الحرب العالمية الثانية، حين تقاتلت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان والاتحاد السوفييتي بضراوة، من أجل السيطرة على منابع النفط التي كانت عاملا حاسما في تغليب كفة الصراع لصالح الحلفاء.

التعـريف بالموضوع

يندرج موضوع هذه الأطروحة ضمن الدراسات الأمنية والإستراتيجية، حيث يتناول مشكلة أمن الطاقة في الصين وإستراتيجيتها في التعامل معها، فمع النمو الاقتصادي الهائل الذي ما فتئت تسجله الصين منذ البدء في سياسة الإصلاحات الاقتصادية، أصبحت من الدول الأكثر حاجة واستهلاكا للطاقة استجابة لمتطلبات عجلة النمو من جهة، وللتماشي مع زيادة الاستهلاك الداخلي الذي يعود للارتفاع الكبير في نسب النمو الديمغرافي. وللتحسن التدريجي في مستويات المعيشة بين أفراد المجتمع الصيني بالشكل الذي أثر على مستوى الرفاهية في البلاد، واتساع فئة الأفراد المالكين لسياراتهم الخاصة مثلا من جهة أخرى.

أمام هذا الوضع أصبحت الطاقة أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الصين في طريقها نحو أخذ مكانتها ضمن القوى العظمى في العالم على مختلف الأصعدة، فسارعت القيادة الصينية لوضع إستراتيجية كفيلة بالاستجابة للتحديات التي تفرضها مشكلة أمن الطاقة، وقد أخذت هذه الإستراتيجية بعدين أساسيين أحدهما داخلي والآخر خارجي، ولكل بعد منهما خصوصيته المميزة. فالبعد الداخلي يقوم على تطوير القدرات الذاتية من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتوفرة رغم قلتها مقارنة بحجم الطلب المتزايد. أما البعد الخارجي وهو ما يهمنا أكثر ونركز عليه بالدراسة والتحليل في هذه الأطروحة، فيقوم على سياسة الاتجاه نحو الخارج، وينبني على مبدأ التنويع في مصادر الطاقة وعدم الاعتماد على دولة واحدة أو منطقة واحدة فقط لتأمين الاحتياجات الطاقوية، ويتخذ الاستثمار الخارجي كأداة ووسيلة لاستغلال أو تطوير حقول الطاقة النفطية والغازية في الدول التي تمتلك هذه الثروات ولكنها تفتقد للإمكانات اللازمة لاستغلالها.

لذلك أصبح عامل أمن الطاقة أحد المحددات الرئيسية في رسم وتوجيه سياسة الصين الخارجية، وفي إعادة تعريف مصلحتها الوطنية، وتحديد الفواعل (الدول والأقاليم) التي تتجه إليها السياسة الخارجية الصينية بالاهتمام والتأثير، فلم يعد الشرق الأوسط مركز الاهتمام الصيني الوحيد باعتباره أحد أهم مصادر تمويل الصين بالطاقة، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وسيطرته على منابع النفط هناك، بل تعدته إلى مناطق أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وفي قارة آسيا بالذات.

 ولأن دراسة الإستراتيجية الصينية في مختلف هذه المناطق دفعة واحدة يعد من الصعوبة بما كان، بفعل اتساع مجال الدراسة إلى حد لا يمكن التحكم فيه بشكل جيد، وبسبب أيضا الاختلاف في، الخصوصيات والمعطيات بين هذه المناطق، بل وفي داخل المنطقة الواحدة. فقد ارتأينا أن نركز على مميزات وأبعاد وتأثيرات الإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة في المناطق الآسيوية التي تشكل جوارها الإقليمي المباشر.   

 وبهذا نكون قد حددنا مجال الدراسة الجغرافي ليشمل قارة آسيا عموما ومناطق معينة خصوصا، تتمثل في منطقة آسيا الوسطى الغنية بثرواتها النفطية حول بحر قزوين والمحاذية للصين، والتي تربطها بها صلات تجارية وثقافية تاريخية، وتمثل أهمية استراتيجيه للصين لكونها منطقة نفوذ تقليدي لروسيا أحد أكبر الدول المنتجة للطاقة في العالم، وتشهد تواجدا عسكريا للولايات المتحدة الأمريكية أكبر مستهلك للطاقة في العالم.

ثم منطقة جنوب آسيا، والتي رغم فقرها لمصادر الطاقة مقارنة بمنطقة آسيا الوسطى، إلا أن ما بها من موارد طاقوية تعد مهمة أيضا للصين، ولكن أهميتها الحقيقية تتمثل في كونها تشرف على المحيط الهندي الذي يعتبر من أكثر طرق الملاحة البحرية التي تمر عبرها شحنات النفط والغاز القادمة من الشرق الأوسط وإفريقيا نحو الصين، لذلك فعلاقة الصين بدول جنوب آسيا المطلة على المحيط الهندي تمثل أولوية للصين من أجل ضمان أمن ناقلات النفط والغاز المتجهة إلى موانئها، ولكون جنوب آسيا كذلك منطقة مفصلية تربط بين مناطق آسيا الوسطى وشرق آسيا وغربها، وتمثل أراضيها ممرا لخطوط الأنابيب و لمشاريع طموحة مستقبلية لنقل الطاقة عبرها. إضافة إلى ذلك يكفي أن تكون الهند إحدى دول جنوب آسيا لكي توضع المنطقة بأكملها ضمن مجال اهتمام الصين، لأن الهند بدورها من القوى الصاعدة اقتصاديا وسياسيا ومنافس إقليمي للصين في قارة آسيا، واستهلاكها للطاقة يتزايد بشكل كبير بسبب اقتصادها المتنامي، ولذلك تصنف ضمن الدول الأكثر استهلاكا للطاقة، ويعتبر الخبراء ذلك من بين أسباب الارتفاع العالمي للطلب على الطاقة، ومن أسباب ارتفاع الأسعار في السوق الدولية، ومن الأطراف المرشحة للدخول في صراعات من أجل ضمان حصتها من الطاقة العالمية.

أما منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، فهي مجال حيوي للقوة الصينية ومجال للنفوذ الاقتصادي  والثقافي، وقد أدت جغرافيتها المميزة بتواجد رابطة طبيعية بين الشرق والجنوب الشرقي من جهة، وإطلالتها على بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي من جهة أخرى، إلى جعلها محط اهتمام الإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة، لأنها تشرف على طرق الملاحة البحرية التي تمر عبرها الإمدادات الطاقوية الصينية بعد خروجها من المحيط الهندي عبر "مضيق ملقا" وصولا إلى المسطح المائي في بحر الصين الجنوبي والشرقي، مع وجود سلاسل جزرية في المنطقة غنية بثرواتها الطاقوية والمعدنية، وتقع محل نزاع بين العديد من دول المنطقة على رأسها الصين وفيتنام وتايوان وإندونيسيا واليابان غيرها، وكلها راغبة في السيطرة على هذه الجزر واستغلال مخزوناتها من النفط والغاز في جزر "باراسيل" و"سبراتلي" وجزر سنكاكو/ دياويو المتنازع عليها مع اليابان.

ومن الناحية الزمنية تمتد فترة الدراسة بداية من 1993 إلى 2013، أي على امتداد عقدين من الزمن. وقد تم اختيار سنة 1993 بالذات لتكون فاتحة الدراسة لأنه العام الذي شهد لأول مرة حدوث اختلال بين الطلب على النفط وإنتاجه في الصين، بحيث خرجت الصين في هذه السنة من حالة الاكتفاء الذاتي في مجال النفط التي طالما تمتعت بها منذ تأسيسها عام 1949، ودخلت في دائرة التبعية الطاقوية منذ ذلك التاريخ، وهو ما مثل تحولا جذريا في الإستراتيجية الصينية بدخول البعد الطاقوي كمكون أساسي في حسابات صناع القرار الصينيين. 

أهمية الموضوع

 تنبع أهمية هذا الموضوع من أهمية القضية التي يعالجها، فقضية أمن الطاقة من أهم القضايا الحساسة المطروحة على الساحة العالمية والمدرجة في أجندة مختلف الدول ضمن القضايا ذات الأولوية، وضمن الخيارات الإستراتيجية المؤثرة عند رسم السياسات الداخلية والخارجية، لا سيما مع ازدياد حدة التنافس بين الدول المستهلكة للطاقة فيما بينها ومع الدول المنتجة، والهزات الكبيرة التي تشهدها أسعار المحروقات في الأسواق الدولية. بالتزامن مع انعكاسات الأزمة المالية العالمية 2008، والتخوف من أن يكون هنالك إلزامية لتوقف النمو العالمي عند حد معين بسبب السيناريوهات المحتملة لنفوذ مصادر الطاقة التقليدية، والتأثيرات البيئية التي يتركها الاستغلال والاستعمال المكثف وغير العقلاني لمصادر الطاقة الملوثة. وتضافر الجهود للبحث عن مصادر للطاقة تكون متجددة ورخيصة وغير ملوثة أو ما يعرف بالطاقات البديلة.

كما أصبحت فرضيات قيام النزاعات بسبب التنافس للحصول على الموارد في ظل ندرتها وتزايد الحاجة إليها أمرا واردا في إطار مبدأ الندرة والحاجة. وهو ما ينطبق على عالم اليوم حيث يزداد البشر    واحتياجاتهم، ويزداد التقدم التكنولوجي والاقتصادي ومتطلباته من المواد الأولية والمصادر الطاقوية، في مقابل تقلص الموارد الطبيعية بسبب الاستغلال المفرط وغير العقلاني، وسيادة مبدأ الأنانية وتغليب المصالح القومية، مما يقلص فرص إيجاد آليات لمعالجة المشاكل الناجمة عن السعي لتحقيق الدول لأمن الطاقة في نطاق أوسع، يقلل احتمالات الدخول في صراعات قد تأخذ بعدا دمويا مسلحا.

لا شك أن الدراسات التي تختص بمواضيع تتعلق بتحليل واقع ومستقبل العلاقات والتوازنات الإستراتيجية في النظام الدولي تعد ذات أهمية كبيرة، خصوصا تلك التي تدرس ما يعرف بالقوى الصاعدة والقضايا التي تطرح كلما أتى ذكر تلك القوى، مثل تطلعاتها لإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، وطموحاتها في أخذ مكانة أفضل في هيكل النظام الدولي، وسعيها لمواصلة مسيرتها التنموية التي حققت نتائج باهرة. والمخاوف التي تبرز بسبب هذه الأهداف المذكورة عند بقية الدول، كالتخوف من أن يكون صعود هذه القوى عدائيا وغير سلمي، مثلما كان عليه الحال تاريخيا عند صعود فرنسا في عهد نابليون، وصعود ألمانيا قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتخوف الأبرز حاليا يأتي من التقدم والنمو الاقتصادي الكبير الذي تحققه هذه القوى الصاعدة، ومنافستها لمنتجات القوى الاقتصادية الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوربي واليابان، وغزوها للأسواق التي كانت حكرا على الاقتصادات سابقة الذكر، ولعل التخوف الأكبر ينتج عن انعكاس تلك الطفرة الاقتصادية لدى القوى الصاعدة على زيادة حاجتها للطاقة، ودخولها بالتالي كمنافس للقوى الأخرى للحصول على الموارد الطاقوية، وما يترتب عن ذلك التنافس من تضييق لهامش المناورة للقوى التقليدية لصالح القوى الجديدة، الساعية بدورها لضمان أمنها الطاقوي الذي يعني بالضرورة زيادة فرصها في تحقيق أهدافها المستقبلية في مختلف المجالات.

 والصين التي تعد محور هذه الدراسة، هي أهم وأخطر تلك القوى الصاعدة وأكثرها تنظيما وتحديدا لأهدافها الآنية والمستقبلية، وأكثرها طموحا وتمسكا بتبوؤ مكانة عالمية تليق بتاريخها وحضارتها وإرثها كمالكة لمجد المملكة الوسطى، وأكثرها استعدادا لتجاوز كل ما من شأنه أن يعيق وصولها لأهدافها، ويجمع صناع القرار الصينيون والمحللون على أن "أمن الطاقة" يأتي في مقدمة التحديات التي تواجه الصعود الصيني، لذلك يدرك الصينيون خطورة هذا التحدي حيث قد يصبح في حال عدم التصدي له أحد أسباب فشل الصين في تحقيق تطلعاتها العالمية، بل وسببا في حدوث تفكك داخلي وتصدع في النظام السياسي، لأن الحزب الشيوعي الصيني يبني شرعيته على مدى قدرته على تحقيق تنمية اقتصادية معتبرة، لضمان استمرارية مسيرة التقدم واستيعاب اليد العاملة الكثيفة، وهذا ما لا يمكن أن يتأتى إلا عبر توفير الموارد الطاقوية اللازمة لدفع عجلة النمو الاقتصادي في الصين قدما نحو تحقيق الأهداف المرجوة.

الإشكاليــة البحثية

 أصبح أمن الطاقة رهانا إستراتيجيا وأحد العوامل المحددة في سياسة الصين الخارجية، خاصة ما تعلق بسياستها تجاه جوارها الإقليمي المباشر في آسيا الوسطى وجنوب آسيا وشرق وجنوب شرق آسيا لضمان أمنها الطاقوي، والاحتمالات القائمة بشأن إمكانية تأثير تلك الإستراتيجية على الاستقرار في هذه المناطق، خاصة إذا علمنا أن هنالك في الأصل خلفيات تاريخية لخلافات متوارثة بين الصين وعدد من الدول في تلك المناطق.

لذلك تدرس هذه الأطروحة التأثيرات المحتملة للإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة على الاستقرار في جوارها الإقليمي، وما إذا كان عامل الطاقة كعنصر جديد في علاقات الصين بجوارها الإقليمي سيكون دافعا نحو تأجيج الصراع مع جيرانها الآسيويين، أم سيكون عاملا جالبا لمزيد من التعاون وتأكيد الصعود السلمي للصين، لأن المنطقة ككل تشكل مركبا أمنيا إقليميا طاقويا يجعل من التغيرات المسجلة في كل منطقة على حدة أو في إحدى دولها فقط يؤثر على بقية الأطراف، فكيـف يمكـن بناء على ذلك أن تؤثـر الإستـراتيجية الصينيـة لأمـن الطاقـة علـى الاستقـرار فـي محيطهـا الإقليمـي؟

 وهي الإشكالية التي تتفرع عنها الأسئلة الفرعية التالية:

  •  كيف يمكن التأصيل لأمن الطاقة سواء كمفهوم مرتبط بتطور أجندة ومجال مفهوم الأمن ككل؟ أو كقضية محورية في التفاعلات الدولية الجارية؟
  • ما مدى أهمية عامل أمن الطاقة في أجندة صناع القرار الصينيين، وفي إعادة توجيه ورسم سياسة الصين الخارجية؟
  •  ما هو المنظور المهيمن على المفهوم الصيني لأمن الطاقة؟ وكيف يؤثر على أبعاد ومضامين الإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة؟
  •  ما أهم الفرص والتحديات الطاقوية التي تواجهها الصين في مختلف الأقاليم المجاورة لها؟
  •  ما العوامل التي تؤدي لجعل إستراتيجية الصين لأمن الطاقة سببا لزعزعة الاستقرار ونشوب نزاعات في محيطها الإقليمي؟ وهل يمكن بالمقابل أن تكون حاجة الصين لتلك المناطق في تلبية احتياجاتها من الطاقة سببا في تعزيزها للتعاون مع دولها؟
  •  وكيف يمكن أن تستغل القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية الحاجة الصينية المتزايدة للموارد الطاقوية للضغط عليها ومحاصرتها، ومنعها من مواصلة مسيرة صعودها المتسارعة؟

 الفـرضـيات

ننطلق في تحليل إشكاليتنا البحثية المطروحة من اختبار الفرضيات التالية:

  •  كلما ازداد الطلب على الموارد الطاقوية في ظل تناقصها، كلما زادت احتمالات حدوث نزاعات للسيطرة على مناطق إنتاجها.
  •  إذا كان للصين خلفيات نزاعية مع الدول المجاورة لها، فإن مسألة أمن الطاقة ستزيد من عدم الاستقرار بينها وبين محيطها الإقليمي.
  •  الحاجة المشتركة لتوفير الموارد الطاقوية تزيد من فرص التعاون بين الصين ومحيطها الإقليمي في شكل مركب أمن طاقوي متكامل.
  •  يعيق العامل الخارجي والمتمثل خصوصا في دور الولايات المتحدة الامريكية الإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة عن تحقيق أهدافها في جوارها الإقليمي.

التقسيم: تنقسم الأطروحة إلى الفصول التالية:

الفصل الأول

يهدف إلى توضيح الخلفية المفاهيمية والنظرية التي تقوم عليها الأطروحة، من خلال تناول التعريف بمفهوم أمن الطاقة وأبعاده، وقبل ذلك توضيح الإطار الأشمل الذي جاء ضمنه أمن الطاقة والمتمثل في مفهوم الأمن وتطوره بين التصورات العقلانية والنقدية، لنعرج بعدها على مركب الأمن الإقليمي باعتباره المقاربة النظرية التي ندرس على أساسها طبيعة علاقات التأثير والتأثر بين الصين     ومحيطها الإقليمي فيما يخص مسألة أمن الطاقة، ضمن ما أصبح يعرف بمركب أمن الطاقة، لنصل إلى دراسة الطاقة كعامل من عوامل التوتر في العلاقات الدولية، في ظل الاتجاه نحو نضوب الموارد الطاقوية التقليدية كالنفط والغاز والفحم، وبطء عملية تطوير طاقات بديلة، في مقابل تزايد الطلب العالمي على هذه المواد الحيوية.

الفصل الثاني

يعمل على إعطاء خلفية حول الوضعية الطاقوية في الصين لإدراك مدى أهمية مسألة أمن الطاقة في الإستراتيجية الصينية، من خلال الوقوف على إنتاج واستهلاك الطاقة في الصين ومدى التناسب بينهما، ودراسة المفهوم الصيني لأمن الطاقة الذي يتناسب مع طبيعة احتياجات ومشكلات الطاقة في هذا البلد، وتحليل مرتكزات ومنطلقات الإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة، ومن ثم تحديد الأهداف التي يتوخاها صناع القرار الصينيون من خلال وضعهم لتلك الإستراتيجية، ومعرفة أهم الفواعل المؤثرة في عملية صنع القرار الصينية فيما يخص مسألة أمن الطاقة. 

الفصل الثالث

 يتطرق للسياسة الطاقوية الصينية تجاه منطقة آسيا الوسطى التي تعد مركزا استراتيجيا لإنتاج الطاقة عالميا، وتوضيح مدى الأهمية الإستراتيجية للثروات الطاقوية التي تتمتع بها المنطقة بالنسبة للصين ولقوى أخرى، وللاستثمارات الصينية في مناطق إنتاج الطاقة في آسيا الوسطى وبحر قزوين، سواء في مجال الاستكشاف أو الاستغلال أو بناء المنشآت القاعدية للإنتاج ولنقل الطاقة نحو حدودها الغربية، وتسليط الضوء على ما يعرف بـ "اللعبة الكبرى الجديدة في آسيا الوسطى"، وهي اللعبة التي تحتل فيها الطاقة موقعا متميزا في التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وقوى أخرى على كسب نفوذ متزايد لها بين دول المنطقة، يمكنها مستقبلا من الدخول لمصادر الطاقة هناك بفاعلية أكبر.

الفصل الرابع

 يسلط الضوء على الرهانات الإستراتيجية الطاقوية للصين في جنوب آسيا، التي تشرف على خطوط مواصلات بحرية في المحيط الهندي حيوية لنقل الموارد الطاقوية الصينية القادمة من إفريقيا والشرق الأوسط، ولكون جنوب آسيا مجاورة لمنطقة آسيا الوسطى المهمة في إستراتيجية أمن الطاقة الصينية، وإمكانية استغلال أراضي دول جنوب آسيا لمد خطوط أنابيب نحو الأراضي الصينية.          ولوجود الهند بالمنطقة باعتبارها أحد المستهلكين الكبار للطاقة، وذات التاريخ الصراعي مع الصين في قضايا حدودية، وأخرى متعلقة بالقيادة الإقليمية وبطبيعة علاقات نيودلهي بالولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا بعد التواجد العسكري الأمريكي في أفغانستان وتبني الصين لما عرف باسم "إستراتيجية عقد اللؤلؤ" لحماية خطوط مواصلاتها البحرية عبر المحيط الهندي، والتهديدات المحتملة لهذه الإستراتيجية على أمن الهند.

الفصل الخامس

 يركز على منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، واحتمالات تسبب المساعي الصينية لضمان أمنها الطاقوي في الدخول في نزاعات مع جيرانها في المنطقة، خاصة بسبب استغلال موارد جزيرتي "باراسيل" و"سبراتلي" اللتان تشكلان بؤرة توتر في بحر الصين الجنوبي تشترك فيها الصين مع دول أخرى كفيتنام وتايوان وماليزيا، والصراع حول جزر سينكاكو أو دياويو في بحر الصين الشرقي بين الصين واليابان، بعد الدراسات التي تفيد بوجود احتياطيات هامة من الغاز والنفط هناك، وبروز مسألة حماية خطوط المواصلات البحرية التي تنقل عبرها الواردات النفطية الصينية في بحر الصين الجنوبي   والشرقي. والدور المحوري للولايات المتحدة هناك والمناوئ للمصالح الصينية الطاقوية وغيرها في ذلك النطاق الإستراتيجي المضطرب.  

وتحتوي الأطروحة على عدد من الملاحق ذات الصلة بالموضوع، والهدف منها التوسع في نقاط معينة متعلقة بما جاء مجملا في متن الأطروحة، مع تدعيم العمل بعدد من الجداول والأشكال والخرائط التفصيلية، كأدوات تعبيرية لا غنى عنها في موضوع بهذه الطبيعة.   

خــاتمـة

تمحورت هذه الأطروحة حول معالجة إشكالية كيفية تأثير الإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة على الاستقرار في محيطها الإقليمي، والذي حددناه في المناطق الإقليمية التالية: آسيا الوسطى، جنوب آسيا، شرق وجنوب شرق آسيا، وتوصلت الأطروحة بعد الدراسة والتحليل إلى أهم النتائج التالية:

  • أضحى أمن الطاقة من المفاهيم المركزية في الإستراتيجيات الأمنية للقوى الكبرى، وهو مفهوم محل خلاف وجدل كبيرين، إذ يفتقد لوحدة وجهة النظر بخصوصه، لأن تحديد المقصود منه يتوقف على جملة من العوامل المؤثرة، مثل موقع كل دولة فيما يعرف بـ "سلسلة الإنتاج"، والتي تتشكل من منتجين ومستهلكين ودول عبور، ولكل دولة بحسب موقعها في سلسلة الإنتاج مصالح تختلف بالضرورة عن طبيعة مصالح الدول ذات الموقع المغاير، وحتى الدول التي تتقاسم كونها في نفس الفئة كدول مستهلكة مثلا تتضارب مصالحها ويتضارب بالتالي مفهومها لأمن الطاقة، وعامل آخر يتعلق بكون أمن الطاقة مفهوم متعدد الأبعاد، منها البعد الاقتصادي، والبعد البيئي، والبعد الاجتماعي، والبعد التقني، والبعد الأمني، وبعد السياسة الخارجية، وهي كلها أبعاد معقدة ومتداخلة وتتفاعل مع بعضها البعض، وهو ما يبقي أمن الطاقة مفهوما يقبل مدى واسعا من التأويلات، فهو يعني أشياء مختلفة لشعوب مختلفة، ولم يكن واضحا في ذهن أي كان ما المقصود بأمن الطاقة، وإن كان المفهوم التقليدي السائد ينصب على كونه توفر إمدادات كافية وموثوقة من الطاقة وبأسعار معقولة.
  • تعرف الصين اختلالا كبيرا بين حجم استهلاك الطاقة الآخذ في الارتفاع وبين الموارد الطاقوية الداخلية المحدودة، مما جعلها مرتبطة بالخارج بنسبة كبيرة في تلبية احتياجاتها الطاقوية، مع ما ينجر عن ذلك من تحديات كبيرة تتعلق بأمن شحنات وإمدادات الطاقة العابرة لمياه المحيط الهندي وبحري الصين الجنوبي والشرقي.
  • طورت الصين مفهومها الخاص لأمن الطاقة، الذي يعتبر الطاقة قضية إستراتيجية رئيسية للتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والأمن القومي في الصين، لذلك فهي تنظر لأي نقص في الطاقة على أنه أحد التهديدات الكبرى المحتملة لها، ومع تحولها إلى مستورد للنفط منذ عام 1993، أصبح المنظور الصيني لأمن الطاقة يتمحور حول كونها مسألة حيوية، إلى درجة تبنيها للمنظور الواقعي الذي يؤكد على أن الموارد النفطية تتجه لأن تكون نادرة، والعلاقة بين أمن الطاقة والأمن القومي من وجهة نظر الواقعية السياسية هي مسألة ربح وخسارة، ونجم عن ذلك رؤية الصين لأمن الطاقة على أنه مسألة إستراتيجية لكونها تتطلب التنافس على مراقبة المصادر الإستراتيجية للموارد الطاقوية، ويتحول النفط هنا إلى سلعة نادرة وثمينة ومركزة جغرافيا، يمكن أن تستخدم كسلاح للضغط في الساحة العالمية، والصين تخشى أن يمنع أعداؤها وصول الإمدادات الطاقوية نحوها، من خلال محاصرة المضايق التي تمر عبرها إمداداتها الطاقوية وخاصة مضيق ملقا، وإعاقة خطوط المواصلات البحرية التي تربطها بمراكز الإنتاج في مختلف أنحاء العالم.
  • وضعت الصين إستراتيجية لتحقيق أمنها الطاقوي تقوم على مجموعة من المرتكزات، وأهمها: ضمان وفرة الموارد الطاقوية الكافية لتلبية احتياجاتها، وأن تكون إمدادات موثوقة وتدفقها مضمون بالقدرة على حمايتها وردع كل ما من شأنه إحداث اضطراب في التزويد، والعمل على تحسين كفاءة الطاقة بالاستهلاك الرشيد للموارد المتوفرة والتقليل قدر الإمكان من ضياع الطاقة المستعملة في الاستهلاك، والحصول على الموارد الطاقوية بأسعار معقولة لا تثقل كاهل الخزينة الصينية، ومبدأ السماح بوصول مصادر الطاقة للاستعمال التجاري والمنزلي في الصين بأسعار معقولة، إلى جانب مبدأ حاسم وهو مبدأ التنويع في مصادر الإمدادات، لتفادي الاعتماد الكبير على منطقة واحدة في التزود بالطاقة، والمتمثلة في الشرق الأوسط بالنسبة للصين مع ما تعرفه تلك المنطقة من اضطرابات، والهدف الصيني هو التوسع نحو الاستثمار الخارجي في ميدان إنتاج ونقل الطاقة في مناطق مختلفة من العالم في إفريقيا وآسيا الأمريكيتين ومنطقة الكاريبي وغيرها.
  • تطبيقا لإستراتيجية التوجه نحو الخارج لضمان أمن الطاقة، وسعت الصين من نطاق اهتمامها بالاستثمار في المجال الطاقوي في جوارها الإقليمي، انطلاقا من آسيا الوسطى التي تعتبر مركزا عالميا مهما لإنتاج النفط والغاز، مرورا بجنوب آسيا التي تلعب دورا محوريا في أمن الطاقة الصيني من حيث ضمان سلامة إمدادات الطاقة الصينية العابرة للمحيط الهندي، وصولا إلى شرق وجنوب شرق آسيا ذات الثروات النفطية والغازية المتمركزة في مناطق محل ادعاءات إقليمية متضاربة مثل مخزونات الطاقة في بحر الصين الجنوبي ) في جزر سبراتلي و باراسيل(، أو في بحر الصين الشرقي )في جزر سينكاكو أو دياويو(، واعتبار مياه تلك المناطق ممرا لحوالي 90% من إمدادات الطاقة الصينية.
  • يحتدم الصراع على موارد الطاقة في تلك المناطق بين الصين وعدد من القوى الإقليمية الرئيسية هناك، وحتى مع قوى كبرى عالمية مثل الولايات المتحدة الأمريكية ذات المصالح العميقة في تلك الأقاليم، وهو ما يزيد احتمالات نشوب نزاعات قد تصل إلى حد عسكرة أمن الطاقة واستعمال كل دولة للقوة للدفاع عن مصالحها الطاقوية، فحتى وإن لم تحدث صدامات مسلحة عنيفة على نطاق واسع في تلك المناطق من أجل الطاقة لحد الآن، إلا أن هنالك مؤشرات تنذر بإمكانية وقوع مثل تلك الصراعات المسلحة، على النحو التالي:

أولا: رغم علاقات الصين الجيدة مع دول آسيا الوسطى، إلا أن احتمالات تحول المنطقة إلى ساحة صراع حول الموارد الطاقوية، تبقى واردة بسبب إفراز نهاية الحرب الباردة لظهور ما يعرف باللعبة الكبرى الجديدة في آسيا الوسطى حول مراكز إنتاج الطاقة بين الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وحتى مع تواجد قوى إقليمية هناك مثل تركيا وباكستان والهند وإيران.

ثانيـا: في جنوب آسيا يثير دخول العامل الطاقوي مخاوف متزايدة بشأن تأزم الوضع هناك بين الصين    والهند، لأن هذه الأخيرة تنظر للصين كمنافس لها على الزعامة الإقليمية في جنوب آسيا، وتزامن صعود الدولتين معا في الساحة العالمية، مع ما يجمعهما من عداوة تاريخية خاصة مع قدرة الصين الكبيرة على اجتذاب جيران الهند الصغار، وحيازتها على أهم الاستثمارات الطاقوية في جنوب آسيا خاصة في حقول الغاز في بنغلاديش وميانمار، وهي المناطق التي فشلت الهند في منافسة النفوذ الصيني فيها وهو الأمر الذي يزيد من حساسية الهند من التواجد الصيني. وموقع الهند المتميز على المحيط الهندي وعلاقاتها القوية بالولايات المتحدة، تزيد من مخاوف الصين من تحالف القوتين معا لإعاقة مرور الإمدادات النفطية الصينية عبر خطوط المواصلات البحرية في المحيط الهندي، الذي تعتبره الهند مجالا خالصا لنفوذها، وبالمقابل تعمل الصين عبر إستراتيجية عقد اللؤلؤ لزيادة تواجدها فيه، ولذلك وضعت عددا من المنشآت العسكرية وغير العسكرية في بنغلاديش وميانمار وسريلانكا وباكستان بشكل يحيط بالهند من جهات مختلفة، ضمن ما عرف بإستراتيجية عقد اللؤلؤ.

ثالثـا: تنتشر في شرق وجنوب شرق آسيا مؤشرات أكبر وأكثر وضوحا عن إمكانية تسبب البحث عن الموارد الطاقوية في اضطراب البيئة الأمنية، وذلك عندما تتحالف مع الخلفيات النزاعية المتأصلة من قبل في المنطقة، مثل الخلفيات الصراعية التاريخية والعداوات بين شعوب تلك المنطقة مثل الصين وفيتنام واليابان، ووجود تنافس على الزعامة الإقليمية مع إندونيسيا في جنوب شرق آسيا واليابان في شرق آسيا، وتواجد المناطق الغنية بموارد الطاقة هناك محل ادعاءات متضاربة بين مختلف الأطراف، وكون المسطحات المائية في بحر الصين الجنوبي والشرقي معبرا لنسبة كبيرة من الإمدادات الطاقوية القادمة نحو الصين، ولكنها خطوط مواصلات عرضة لأخطار القرصنة والإرهاب البحري وهيمنة أسطول الولايات المتحدة الأمريكية البحري في آسيا المحيط الهادي. 

رابعـا: بالعودة إلى تطبيق نموذج الارتباط بين مركب أمن الطاقة ومركب الأمن الإقليمي على علاقات الصين الطاقوية بجيرانها، نجد أن علاقات الصين الطاقوية بجوارها الإقليمي تعرف درجة كبيرة من التسييس والأمننة، وذلك راجع إلى وجود خلفيات نزاعية وعدائية بين الصين وعددا من الدول التي تعتمد عليها في تحقيق أمنها الطاقوي في جوارها الإقليمي، مثل العداوة والحساسية التاريخية مع الهند واليابان   وفيتنام خصوصا والفيليبين بدرجة أقل. ويبدو أن نماذج العداوة تتغلب على نماذج الصداقة لحد الآن في علاقات الصين بجوارها الإقليمي خاصة في جنوب آسيا وشرق وجنوب شرق آسيا، وهذا ما يفسر فشل مساعي التعاون بين الصين والدول الرئيسية ذات النزاعات التاريخية المؤثرة في تلك المناطق، في مقابل وجود قدر أكبر من الاستقرار والتعاون مع جمهوريات آسيا الوسطى ذات العلاقات التاريخية المتينة      والطيبة مع الصين، وحتى التحديات التي تواجه الصين في آسيا الوسطى مصدرها قوى خارجية كروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وليس دول المنطقة في حد ذاتها. وعلى العموم و بالعودة إلى التفسيرات الممكن استنتاجها من خلال توظيف نموذج مركب الأمن الطاقوي دائما، فإن الطاقة في علاقات الصين بجوارها الإقليمي ليست لحد الآن موضوعا لعلاقة تبعية إيجابية سلمية وتعاونية، بل تبرز أكثر كعلاقة تبعية سلبية تؤدي إلى جعل الطاقة مصدرا محتملا من مصادر النزاع وعدم الاستقرار في علاقات الصين بجيرانها، بسبب أمننة قضايا الطاقة ووضعها ضمن أجندة التهديدات الأكثر خطورة بالنسبة للدول الرئيسية المؤثرة في تفاعلات الصين الإقليمية، بتبني مختلف الأطراف - وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة في الحدة بحسب الظروف- لخطاب قوة ولغة تهديد وإدراك سلبي لاستراتيجيات الطاقة المتبناة من مختلف الفواعل المعنية، وهو المدلول الذي تحمله الإستراتيجية الصينية لأمن الطاقة بالنسبة لجيرانها الإقليميين، خاصة تلك الدول ذات الماضي العدائي والنزاعي مع الصين.

خامسـا: رغم أن الطاقة لم تصل بعد لتكون مصدرا لنزاعات عسكرية مباشرة وعنيفة بين الصين          وجوارها الإقليمي، والقوى الكبرى الخارجية ذات المصالح المتناقضة مع الصين في المنطقة لحد الآن، إلا أن هنالك عددا من العوامل يمكنها أن تؤدي إلى عسكرة أمن الطاقة هناك، مثل العداوات التاريخية بين الصين وجيرانها، ووجود مطالب وادعاءات إقليمية متعارضة، وعدم يقينية سلامة خطوط المواصلات البحرية، والرغبة الأمريكية في عرقلة الصعود الصيني المتسارع، وتأكيد العقيدة الإستراتيجية الصينية على إمكانية اللجوء إلى القوة العسكرية لحماية أمنها الطاقوي، وهو ما يبرز في تبني الصين لمنظور واقعي في تحديد مفهومها لأمن الطاقة، وعدم ثقتها في الترتيبات الاقتصادية والأمنية في السوق العالمية، كميكانيزم كفيل بتحقيق الاحتياجات الطاقوية لكل دولة بعيدا عن خطر انقطاع الإمدادات، الناجم عن اضطرابات جيوسياسية في مناطق الإنتاج أو عن تعرض شحنات الطاقة لأخطار تعيق وصولها إلى السوق الصينية المتعطشة، لها سواء كانت أخطارا طبيعية أو بشرية ناجمة عن عمليات قرصنة و إرهاب، ناهيك عن وجود قانون صيني يمنح الضوء الأخضر لقوات الجيش الشعبي لاستعمال القوة دفاعا عن مناطق إنتاج الطاقة الواقعة محل نزاع مع قوى أخرى مثل جزر سبراتلي وباراسيل وسينكاكو أو دياويو كما يسميها الصينيون، والعودة إلى التاريخ تثبت أن عوامل العداء المتجذرة بين الصين وعدد من جيرانها أخذت زخما جديدا بدخول الطاقة كعامل مؤثر في العلاقات بين مختلف تلك الأطراف، واستعمال القوة وإن كان على نطاق محدود بين الصين وفيتنام في عدد من المناسبات، وبين الصين والفيليبين عام 1995 بالخصوص من أجل ما يعرف برصيف الأذى، خير دليل على إمكانية تطور مثل تلك الصدامات العسكرية المحدودة إلى نزاعات كبرى تكون لها تأثيرات تتعدى النطاق الإقليمي لتهدد الأمن والسلام العالميين ككل.

  • يعتمد مستقبل الاستقرار أو الاضطراب في المناطق الإقليمية لإنتاج وعبور الطاقة التي توجه إليها الصين استراتيجيتها للأمن الطاقوي، في كل من آسيا الوسطى وجنوب آسيا وشرق وجنوب شرق آسيا، على مؤشرات مؤثرة في مستقبل المنطقة ومدى ميل علاقاتها الطاقوية نحو التعاون أو النزاع أو على الأقل التوتر والاضطراب. ونورد في هذا الصدد العوامل التالية:
  • دخول الصين عهدا جديدا بانتخاب "شي جين بينغ" رئيسا جديدا للبلاد منذ عام 2013، وهو الرجل الذي تدل عملية انتخابه وما رافقها من جمع غير معهود بين عدد من السلطات، وكذلك حصوله على الأعمدة الثلاثة للقوة في الحزب الشيوعي الصيني، على أنه سيكون ذو تأثير بارز في المرحلة المقبلة من تاريخ الصين، وما يشاع عنه من روح وطنية محافظة، قد تكون دافعا نحو تبني سياسات أكثر صرامة في مختلف القضايا الخلافية مع الجيران الإقليميين، ومع الولايات المتحدة الأمريكية كذلك، وهذا ما قد يمنح السياسات الصينية دافعية قوية نحو إعلان الصين كقوة مؤثرة، ومن المشروع لها تخطي طموحاتها الإقليمية كقوة صاعدة، نحو تطلعات عالمية أكثر طموحا، خصوصا إذا تمكنت الصين من تطوير أكثر فاعلية لدبلوماسية متعددة الأبعاد خصوصا الاقتصادية منها، ومواصلتها لتطوير وتحديث قواتها العسكرية لتقارب نظيرتها الأمريكية ولما لا تتفوق عليها وخاصة بحريا.  
  • تواصل النمو الاقتصادي الصيني بوتيرة عالمية وهو ما ينجر عنه طلب طاقوي متزايد، ومدى نجاح الصين في تطوير بدائل طاقوية داخلية وخاصة على مستوى الطاقات البديلة والمتجددة، التي أخذت فيها الصين خطوات عملاقة خلال فترة الدراسة، وهو النهج الذي من المرجح أن يستمر مستقبلا، حتى وإن كانت إمكانية تعويض تلك الطاقات لنظيرتها التقليدي الكربونية غير ممكنة، بل فقط تخفيف العبء قليلا على الواردات الطاقوية من نفط وغاز.
  • مدى النجاعة في إقامة ترتيبات سياسية وأمنية واقتصادية لتقريب العلاقات ووجهات النظر مع الجيران الإقليميين في الأقاليم محل الدراسة، وخاصة مع الدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي، ودول جنوب آسيا خاصة الصغرى منها، لا سيما مع امتلاك الصين لعناصر رافعة قوية يمكنها جذب بقية دول المنطقة لمشاريعها وسياساتها المختلفة، مثل إحياء مشروع الحزام والطريق كما أعلن عن ذلك الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، وهو مشروع سيكون كفيلا في حال نجاحه وخروجه بالصورة التي عرضها عليه المسؤولون الصينيون، بأن يحدث تغيرا ملموسا في توطيد وتشبيك علاقات الصين بجيرانها الإقليميين، وهو ما تعول عليه الصين لجذبها نحوها وإبعادها ولو قليلا عن دائرة النفوذ الأمريكية.
  • مآلات المشاريع التي تعتزم الصين إقامتها وإتمامها لخلق طرق بديلة لنقل مواردها الطاقوية، مثل ميناء غوادار وغيرها، حيث أن نجاحها في تجسيد تل المشاريع يخفف من حساسيتها تجاه مأزق ملقا، وتجاه القوى المنافسة لها مثل الولايات المتحدة الأمريكية والهند.
  • يرتبط احتمال غلبة نمط التعاون في مجال الطاقة على علاقات الصين بدول جوارها الإقليمي، على طبيعة علاقاتها التاريخية والآنية مع تلك الدول، لذلك تكون اكثر احتمالات التوتر وحتى الصراع مرجحة أكثر مع جيرانها في شرق وجنوب شرق آسيا مثل اليابان والفيليبين وفيتنام وغيرها، وكذلك في علاقاتها مع الهند في جنوب آسيا بالنظر للعداوة التقليدية بينهما، وتنافسها على الزعامة الإقليمية، فيما يرجح أن تتغلب علاقات التعاون والصداقة أكثر على علاقاتها بالدول الصغرى في جنوب آسيا مثل باكستان وبنغلاديش وميانمار، ومع جمهوريات آسيا الوسطى الخمس.
  • رغم ما ننتظره من تطوير أكبر للصين لقدراتها العسكرية ولزيادة نفوذها الدولي عبر دبلوماسيتها النشيطة، إلا أننا نرجح ميلها أكثر ورغبتها في إرساء علاقات تعاونية وسلمية مع محيطها الإقليمي، وخاصة في مجال التفاعلات الطاقوية. لأن حالة السلم والاستقرار أكثر خدمة لمصالحها على المدى المتوسط والطويل، بما أنها تركز على تنمية اقتصادها وتجارتها وهذا ما يتطلب سكينة إقليمية وعالمية. غير أننا لا نستبعد توظيفها لتلك القوة للوقوف أمام أي محاولة جادة وخطيرة للمساس بمصالحها الطاقوية بالخصوص، لأن مستقبل الصين يعتمد بشكل كبير على مدى قدرتها على ضمان إمدادات مستمرة وآمنة لاقتصادها الشره لتلك الموارد، فالحرب أو العسكرة وإن لم تكن خيارا أولا ومفضلا بالنسبة لبكين، إلا أنها تبقى خيارا واردا ومطروحا ومأخوذا بالجدية اللازمة، ومُحضَّر له بشكل جيد من طرف صناع القرار الصينيين، رغم تكاليفه العالية ومخاطره الكبيرة.         

للاطلاع على نص الأطروحة (اضغط هنا).

الآراء الواردة في الأطروحة تمثِّل صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات.

نبذة عن الكاتب