انقطع الانتظار المتطلع لمعرفة ما سيصدر عن المجلس الدستوري السنغالي وذلك بإعلان المجلس قراره مساء السبت، 20 يناير/كانون الثاني 2024، والذي أبقى فيه على عشرين مرشحًا للرئاسيات، وقد تم انتقاؤهم من أكثر من 90 ملفًّا. ولعل هذه هي أول مرة في تاريخ السنغال الانتخابي يصل عدد المرشحين إلى هذا الرقم. وسيتقدم هؤلاء المرشحون لاستحقاق رئاسي محموم سيتم في 25 فبراير/شباط 2024، استحقاق من شأنه أن يحرك الساحة السياسية في بلد غرب إفريقي طالما تشبث بتقاليده الديمقراطية رغم أزمة سياسية مزمنة.
الغائبان البارزان: عثمان سونكو وكريم واد
أول ما يستخلص من قرار المجلس الدستوري هذا هو أن الباب قد سُدَّ في هذا الاستحقاق أمام المعارض والمرشح السابق للرئاسيات، عثمان سونكو، والذي ربما بلغه هذا القرار وهو داخل زنزانته في سجن "كاب مانوال" بالعاصمة السنغالية، داكار. ذلك أن القضاء السنغالي كان قد حكم على سونكو في فاتح يونيو/حزيران 2023، بالسجن سنتين نافذتين جراء اتهامه بـ"إفساد ورشوة الشباب"، كما تم حل حزبه "باستيف" بعد شهرين من الحكم عليه.
وفي الأيام الأخيرة لم تنفع محاولات فريق المحامين المدافعين عن سونكو، عندما حركوا ملفه كي يُسمح له بخوض سباق الرئاسيات؛ حيث رفض القضاء السنغالي تلك المحاولة قبل أسبوعين من صدور قرار المجلس الدستوري الخاص بالمرشحين المقبول ترشحهم.
ومن المتوقع، وعثمان سونكو ذو التسعة والأربعين عامًا خارج هذا السباق، أن يصطف أنصاره، وأغلبهم من الشباب، خلف مرشح آخر. وتذهب التأويلات إلى أن أنصار سونكو وحزبه المنحل "باستيف" لن يساندوا إلا المرشح باسيرو ديوماي فاي، وهو أحد مساعدي سونكو ومسجون معه أيضًا، ولكنه تقدم ضمن لائحة المرشحين للمجلس الدستوري وظهر اسمه ضمن العشرين الذين تم تبريزهم. وقد بدأت تظهر في شوارع المدن السنغالية شعارات من قبيل "باسيرو مُويْ سونكو" التي تعني باللهجة الوولفية "باسيرو هو سونكو". وسيكون على المرشح باسيرو ذي الثلاث وأربعين سنة أن يستنهض أصوات الشباب الانتخابية في حملة سيكون صوت الشباب فيها عاملًا حاسمًا.
وفي نفس الوقت لم يكن اسم الرئيس الحالي، ماكي صال، ضمن المرشحين؛ لأن الدستور السنغالي لا يمنحه سوى عهدتين تنتهي آخرهما بعد أسابيع، لكن الرئيس الحالي يضع ثقله السياسي والدعائي خلف رئيس الوزراء الحالي، أمادو با، الذي سيكون مرشح الأغلبية الحاكمة المنضوية تحت ماكي صال. وفي تحليلات تستبق النتائج يرى بعض المحللين أن المرشح أمادو با، الذي لا يرغب دائمًا في الظهور في وسائل الإعلام، قد لا يتمتع بالكاريزما التي يحظى بها الرئيس الحالي، ماكي صال، ويتعين عليه -والحال هذه- أن يتغلب على ذلك القصور، وهو أمر صعب خصوصًا وأنه لم يعد يفصلنا عن الاقتراع الرئاسي سوى أربعة أسابيع. وسيجد مرشح الأغلبية الرئاسية أمامه منافسين من حجم عمدة داكار السابق، خليفة صال، وهو سياسي ذو تجربة عميقة في السياسة السنغالية، وتقتضي مواجهته حملة قوية وتعاملًا جادًّا مع القواعد الانتخابية السنغالية.
ويبقى رفض ملف المرشح كريم واد، وهو نجل الرئيس السابق، عبد الله واد، للمشاركة في الاستحقاق الرئاسي أمرًا ذا دلالة. وقد استند المجلس الدستوري السنغالي في إقصائه من هذا السباق على كونه يحمل الجنسية الفرنسية إلى جانب جنسيته السنغالية، وهو ازدواج يمنعه القانون السنغالي، الذي يحظر على مزدوجي الجنسية الترشح للانتخابات. وكان أنصار كريم واد، ذي الخمس والخمسين سنة والمقيم في الدوحة، يرون في مرشحهم أحد أبرز الأوجه السياسية التي يمكن أن تغير بشكل جذري المعادلة السياسية بالسنغال.
وكريم واد هو النائب الأول للأمين العام لحزب الديمقراطي السنغالي الذي له خمسة وعشرون نائبًا في البرلمان السنغالي المكون من 167 مقعدًا. إلا أن قرار المجلس الدستوري أصاب منتسبي هذا الحزب بإحباط كانوا قد أصيبوا به سنة 2019 عندما رُفض ملف كريم واد للترشح كذلك.
وعلى هذا سوف يكون الغائبان الأبرزان عن الاستحقاق الانتخابي، هما: عثمان سونكو وكريم واد، وهو ما يعني غياب عناصر فاعلة في المشهد السياسي السنغالي عن مناسبة ربما كان حضورهما فيها سيعطي للعملية شكلًا آخر.
الحاضران الأساسيان: الصوت الشبابي والمؤسسة الصوفية
أحد أبرز رهانات هذا الاستحقاق الانتخابي هو الجواب على التساؤل: لمن ستذهب أصوات الشباب السنغالي الذي تزيد نسبته في الخريطة الديمغرافية على أكثر من 70% من أصوات الناخبين. فالسكان البالغون من العمر 35 عامًا أو أقل، لابد أن يكونوا جزءًا أساسيًّا من حملة كل مرشح في بلد يتجاوز معدل البطالة الشبابية فيه 20%، كما يتعرض شبابه لاستنزاف مستمر؛ حيث يحاول الكثير منهم، في ظل الفقر والأوضاع الاقتصادية الصعبة، ركوب زوارق الموت في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو أوروبا.
ولا ننسى أنه في رئاسيات 2019، استقطب مرشح المعارضة، عثمان سونكو، آلاف أصوات هؤلاء الشباب ممن كانوا مؤيدين لمرشح يرفع شعارات القومية الإفريقية "الإفريقانية"، وتحمل مفردات خطابه هجومًا لاذعًا لفرنسا المتغلغلة في الملفات الاقتصادية والأمنية والسياسية بالسنغال.
أما شيوخ الطرق الصوفية في السنغال فهم العنصر الحاضر باستمرار في أي انتخابات سنغالية. وقد جرى العرف الطرقي الصوفي بالسنغال أن ينأى شيوخ الطرق قبيل كل استحقاق انتخابي عن الصراعات السياسية المحمومة، على الرغم من قربهم من جميع المرشحين، بل واعتماد هؤلاء المرشحين على أتباعهم ومحاولة استمالتهم.
وفي هذا السياق، أعلن الخليفة العام للطريقة المريدية بالسنغال، الشيخ المنتقى البشير امباكي، منع عاصمة الطريقة المريدية، مدينة طوبا، من أي تظاهرة سياسية من شأنها أن تكون في صالح أي مرشح، لكن باب الخليفة الشيخ المنتقى سيبقى مفتوحًا لزيارات جميع المرشحين والاستماع إليهم، بل إن هذه المدينة ستصبح محج المرشحين للرئاسة في الأسابيع القليلة القادمة. ويشار إلى أنه يوجد ضمن العشرين مرشحًا لهذا الاستحقاق السياسي، سيرين عبدو امباكي دولي، وهو أحد مواليد مدينة طوبا.
وهذا العرف القاضي بابتعاد المشيخات الصوفية الظاهر عن الصراعات على كرسي الرئاسة لا تختلف فيه الطريقة المريدية عن الطريقة التجانية بمدينة تواون ولا عن الطريقة القادرية البكائية بمدينة انجسان ولا كذلك عن الطريقة التجانية الإبراهيمية بمدينة كولخ أو الطريقة القادرية الفاضلية أو التجانية العمرية وغير ذلك. فالجميع يحرص على عدم الاصطفاف مع أي مرشح مع ترك الباب مفتوحًا لزيارات الجميع والحديث مع الجميع.
سياق متأزم تصعب معه معرفة النتائج
ستجرى هذه الانتخابات الرئاسية بالسنغال وعدم اليقين حاضر والتجاذبات السياسية هي سيدة الموقف. ولا يخفى علينا أن آخر منازلة سياسية كبرى كانت في 31 يوليو/تموز 2022 عندما تم تنظيم انتخابات تشريعية شكَّلت منعطفًا حاسمًا في المشهد السياسي السنغالي؛ حيث أسفرت عن شبه تعادل بين أحزاب الأغلبية وأحزاب المعارضة، فلم يحصل التحالف الرئاسي الحاكم على أغلبية في البرلمان إلا بشق الأنفس؛ بل إن الفارق بين الكتلتين الحاكمة والمعارضة كان صوتًا واحدًا فقط.
وعقب هذا الاستحقاق التشريعي شاهد الجميع مظاهر توحي بعمق الأزمة السياسية في السنغال؛ حيث تمت مضايقة بعض المعارضين مثل عمدة داكار السابق والمرشح الرئاسي الحالي، خليفة صال، وتم سجن عثمان سونكو وحل حزبه "باستيف"، وقد نزل الشباب إلى الشوارع في مظاهرات عنيفة تميزت بنهب الممتلكات العامة وعمت الاشتباكات مع الأمن، وتم الإبلاغ عن 23 حالة وفاة، حسب منظمة العفو الدولية. هذا فضلًا عن حجب شبكة الإنترنت لأيام عن مجتمع سنغالي صار لمواقع التواصل الاجتماعي فيه مكانة في صياغة الرأي العام، وحجمًا في التأثير على الشارع.
هل ستكون رئاسيات 25 فبراير/شباط 2025 مثل تشريعيات 31 يوليو/تموز 2022، فنكون أمام ترسيخ لأزمة سياسية لم يستطع الأطراف السياسية تجاوزها؟ تختلفت الأجوبة حول هذا السؤال فهناك من يرى أن المشهد السياسي السنغالي رمم نفسه بنفسه، وأن الشارع عرف هدوءًا، وأن المظاهرات الشبابية التي تلت توجيه الاتهام إلى المعارض، عثمان سونكو، لم تتجدد بعد الحكم عليه وسجنه. وأكثر من ذلك فإن السنغال سجل في عهد الرئيس صال معدل نمو بلغ حوالي 6%، كما تم تشييد بنية تحتية قوية مثل مطار بليز دياني الدولي، وتعبيد الطرق السريعة مدفوعة الأجر، وبناء ملاعب رياضية عصرية.
وفي المقابل، هناك من يرى أن أسباب التأزيم قائمة، وأن أسوأ السيناريوهات ممكن الحدوث، خصوصًا أن رموز المعارضة السنغالية يتم تهميشهم وتغييبهم، وأننا -وهذا لا ينبغي إغفاله- في عصر شبكات التواصل الاجتماعي التي يتفاعل معها وبها شباب سنغالي متحمس، يشكلون أكثر من 70% من السكان، وأعمارهم أقل من 35 عامًا.
وفي الختام، ومع أنه لا أحد يعرف اسم الرئيس المقبل لجمهورية السنغال، فهل سيصل رئيس الوزراء الحالي، أمادو با، وهو وريث ماكي صال ومرشح الأغلبية الحاكمة، إلى سدة الحكم بعد استبعاد المعارض الشرس عثمان سونكو واستبعاد كريم واد؟
كل ما يمكن الجزم به أن المعارضة السنغالية نشطة جدًّا في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وأنه ستكون هناك حملة انتخابية "إلكترونية" موازية للحملات التقليدية المعهودة، وسيكون لهذه الحملة التي تتخذ من الشبكة مجالها دور أساسي في هذا الاستحقاق الرئاسي.
ومما يمكن الجزم به أيضًا أن الرئيس السنغالي القادم سيجد أمامه أزمات مفتوحة وسيكون أمام تحديات من أبرزها إعادة نسج أواصر الانسجام بين المواطنين السنغاليين.