الخطة الأممية الأخيرة في ليبيا و"الخمسة الكبار"

اجترحت البعثة الأممية بليبيا مصطلحًا جديدًا هو "الكبار الخمسة"، وهي سابقة تحصر الأزمة وحلولها في أشخاص بعينهم وخلق واقع لا يتعدى هؤلاء الخمسة في كل الأحوال. وتحاول هذه الورقة الوقوف على هذا التطور وتأثيره على مختلف الديناميات المؤثرة في مسار الأزمة الليبية المزمنة.
24 يناير 2024
يرى الكثير من الليبيين أن مبادرة المبعوث الأممي بليبيا عبد الله باتيلي محاولة لعرقلة الانتخابات وليس إنجازها (الفرنسية)

في واقعة لم تكن من قبل في العملية السياسية الليبية وعلى مرِّ السنوات الماضية، لم يستطع أحد من المبعوثين الأمميين الثمانية، بل وحتى الدول المتداخلة في الشأن السياسي الليبي حصر الأزمة بأطراف بعينهم؛ بل دائمًا ما يكون التوجه عامًّا، إشارةً وجمعًا لجميع الأطراف السياسية والأمنية في البلاد. بيد أن ما كان في خطة المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبد الله باتيلي(1)، الأخيرة شيء من الاستغراب، بل وحتى الاستهجان من قبل الكثير من الأطراف الداخلية الليبية، سواء من ناحية الحصر والاقتصار، أو من ناحية الواقعية والتنفيذ والالتزام والإلزام فيما بعد، ناهيك عن الجدوى الحقيقة لهذا الحوار السياسي للوصول إلى توافق يحل العقبات والخلافات التي تواجهها العملية الانتخابية، والتي من أجلها كانت هذه الخطة.

تحديد المصطلح "الخمسة الكبار"

تعددت المصطلحات في الأزمة الليبية منذ أول حوار سياسي نشأ فيها، ابتداء من مصطلح "حوار الصخيرات" ومن ثمَّ "اتفاق الصخيرات"، في 2015، وصولًا إلى "ملتقى الحوار السياسي الليبي" في تونس وجنيف، 2020(2)، وأخيرًا مصطلح "الخمسة الكبار" في نهاية العام الماضي 2023، والعام الحالي 2024.

كل مصطلح له دلالته ومن ثم نتائجه، غير أن المصطلحات الأولى دائمًا ما تدور في دائرة الشمولية وإن كانت في نطاق ضيق، بعكس المصطلح الأخير الذي يحدِّد ولا يعدِّد، أسماء بعينها ولا يتعداها(3)، وليتم تحديد الحوار فيما اصطلحت عليه البعثة الأممية في ليبيا "الخمسة الكبار"، بكل من: رئيس المجلس الرئاسي، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، ورئيس مجلس النواب، وما يعرف بـ"القيادة العامة" في شرق البلاد.

ويعني هذا اعتبار هذه الأطراف بمجملها أطراف الأزمة الرئيسة الفاعلة في البلاد، وبها يمكن معالجة الخلافات التي حالت دون إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة منذ نحو عامين، ناهيك عن تمرير قانون توافقي يمكن من خلاله إجراء استحقاق انتخابي شامل يكسر الجمود السياسي، وينهي الانقسام والصراع.

وبالمقابل، لم تتحدث البعثة عن المكون العسكري والأمني في غرب البلاد(4)، وكونه جزءًا في معادلة القوة على الأرض، والتأثير السياسي المصاحب لذلك، ناهيك عن كونه جزءًا من معادلة سياسية أمنية لا يمكن القفز عليها في أي استحقاق حقيقي وواقعي، سواء أكان انتخابيًّا أم اتفاقًا سياسيًّا يراد له أن يكون واقعًا على الأرض بطريقة أو أخرى.

دعم أممي واشتراطات ورفض داخلي

سارعت البعثات الدبلوماسية في ليبيا، ومن بينها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، بإعلان "ترحيبها بحرارة"(5) بخطة البعثة الأخيرة في ليبيا، ولتترجم ذلك في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن المنعقدة في18  ديسمبر/كانون الأول 2023، حيث لاقت هذه المبادرة ترحيبًا واسعًا داخل مجلس الأمن، عبَّرت عنه الدول الخمس الكبرى بمجلس الأمن على لسان مندوبيها(6)، بل توسع نشاط الدبلوماسية الأميركية والبريطانية في دعم هذه المبادرة، أو على الأقل تقريب وجهات النظر بين أطرافها، كما هو ظاهر من نشاطاتهما وحواراتهما المنصبَّة في هذا الاتجاه.

غير أنه وإزاء هذا الدعم الأممي للمبادرة الأممية إلا أنها لم تخطُ خطوة واحدة إلى الإمام، وإن مضى على إعلانها ما يقارب الشهرين(7)، بل إنها أعلنت عن تعثرها بطريقة غير مباشرة؛ إذ أوضح المبعوث الأممي إلى ليبيا عند إحاطته لمجلس الأمن حولها بأن من القادة من وضع شروطًا للمشاركة، فقد اشترط مجلس النواب في طبرق أن يرتكز الحوار على تشكيل حكومة جديدة، ورفض مشاركة حكومة الوحدة الوطنية، وبالمقابل كان الرفض من الأخيرة، وليقف أمام هذه الشروط بالحث على "تقاسم مقترحاتهم بشأن سبل تسويتها في عملية سياسية جامعة"(8) فحسب، ومن دون تقديم أية مقترحات عملية وآنية تدعم هذه الخطة والتوجه.

وبالمقابل -أيضًا- أكد مجلس النواب في الشرق الليبي رفضه المشاركة في أي حوار أو اتفاق سياسي ما أسماه ووصفه بأنه: "لا يحترم الإرادة الليبية والمؤسسات الشرعية المنتخبة من الشعب الليبي، وما انبثق عنها من مؤسسات تنفيذية". وقال المجلس في بيان: إنه يرفض أيضًا "تكرار التجارب السابقة، التي لم تثبت نجاعتها في حل الأزمة الليبية"(9).

وفي نفس السياق، أثار حصر حل الانسداد في خمسة أطراف حفيظة أعضاء مجلسي الدولة والنواب عن المنطقة الجنوبية، وأعربوا عن رفضهم لهذه المبادرة، وأفاد بيان للمكتب الإعلامي لمجلس الدولة بأن أعضاء المجلسين عن المنطقة الجنوبية اتفقوا على "رفض مبادرة باتيلي المعنية بمباحثات الطاولة الخماسية وذلك لعدم وجود أي تمثيل لفزان في مبادرته المقترحة"(10).

هل تتوجه المبادرة الجديدة نحو تنظيم انتخابات؟

وبمقابل هذا الأخذ والرد، والقبول المطلق وكذلك المشروط، توقع كثير من المتابعين أن خطة "الخمسة الكبار" ستنصب حول القوانين الانتخابية بالدرجة الأولى، ومحاولة إحداث التوافق بين الأطراف المذكورة على تشكيل حكومة جديدة تنهي حالة الانقسام والجمود السياسي الحاصل في البلد على أن تمهد الطريق نحو الاستحقاق الانتخابي، ومعالجة القوانين الصادرة عن لجنة "6+6" المشتركة من مجلسي النواب والدولة بالقدر المطلوب من التفاهم اللازم حول المسائل العالقة التي يتوجب حلها لتمكين المفوضية الوطنية العليا للانتخابات من الشروع في تنفيذ قانوني الانتخابات الصادرين عن مجلس النواب في طبرق. وسيكون ذلك باعتبار أن القوانين الانتخابية الحالية غير قادرة على الوصول إلى انتخابات رئاسية وتشريعية(11)، بل يتحقق ذلك بالتوصل إلى "اتفاق سياسي بين الأطراف الليبية" بحسب الخطة الأممية(12).

وسيدفع هذا الأمر البعثة إلى ضرورة تغيير مسارها في هذه الخطة، أو على الأقل تعديل اقتصارها على أطراف محددة فقط، لتتوسع وتشمل كيانات سياسية أخرى لها تأثير في المشهد السياسي الليبي.

الشرق والغرب وحالة الاستغراب والانزعاج

سادت حالة من الغضب والانزعاج لدى كثير من السياسيين في شرق البلاد وغربها وجنوبها، من هذه الخطة، وخاصة من ناحية الحصر والتحديد في أعضاء محددين، معتبرين أن حالة الانقسام والانسداد لا يمكن أن تُحل بمن كان جزءًا من المشكلة، ناهيك عن اقتصارها عليهم فقط.

ومن المؤكد أن ذلك قد يؤسس لحالة مضمونها تشكيل طبقة سياسية دائمة في البلاد، تتحكم في المشهد الداخلي وتتفاعل معه إقليميًّا ودوليًّا؛ الأمر الذي سيعود بالسلب على المشهد السياسي الليبي على الأمدين، القريب والبعيد. هذا مع التأكيد على أن هذه الطبقة هي السبب الأبرز في الانسداد السياسي الذي تعانيه البلاد، بسبب تمسك كل طرف بما يراه مناسبًا لبقائه في السلطة.

وعلى النقيض من هذا الحصر والتحديد -أيضًا- نرى أن المبعوث الأممي سبق له أن وجَّه انتقادات عدة لأطراف مختلفة في ليبيا، بسبب عدم توافقها بشأن قوانين الانتخابات، ولم يحصرها في الخمسة فقط؛ الأمر الذي يناقض هذه المبادرة.

مقترحات

وتماشيًا مع الرفض الحاصل في حصر الأزمة بين أطراف محددة بعينهم، دعت المفوضية الوطنية للانتخابات إلى عدم حصر ملف الانتخابات بين الساسة فقط(13)، بل يجب أن يكون في يد القاعدة الشعبية، لكي يجرى تداوله بشكل واضح وصريح. وقد أيد هذا الرأي الكثير من السياسيين والفاعلين، ناهيك عن التوجه العام الذي يرى أن أزمة الانتخابات والعرقلة فيها كانت، ولا تزال، ممن أسمتهم البعثة "بالخمسة الكبار"، وبالتالي لا يمكن أن يكون معهم وبهم الحل أو الاتفاق.

كما أن الكثير رأى في هذا التوجه محاولة لعرقلة الانتخابات وليس إنجازها، إذ إنها تحتاج إلى اتفاق موسع وشامل يمكن البناء عليه، وليس الحصر والتحديد في أشخاص وفاعلين دون غيرهم، وأن القوانين الانتخابية التي فشلت هذه الأطراف في أن تجعلها واقعًا لا يمكن التعويل عليها في أي تقدم سياسي، وبالتالي فإن الحل السياسي الذي يقود إلى انتخابات حقيقية لابد أن يكون موصوفًا بالشمولية والتعددية لا الحصر والتحديد.

خاتمة

يعتبر ما طرحته البعثة الأممية في ليبيا في مبادرتها الجديدة بابتداع مصطلح جديد "الكبار الخمسة" سابقة لها دلالاتها في محاولة حصر الأزمة في أشخاص بعينهم، ومحاولة كذلك لخلق واقع سياسي محدد لا يتعداه الخمسة في كل الأحوال إن رأى النور.

وهذا الأمر رآه كثيرون أن الفشل سيكون معه وبه، ولا يمكن أن يتقدم خطوة واحدة، ولا يمكن كذلك أن يؤسس لأي اتفاق سياسي حقيقي، خاصة أن هذه الأطراف كانت جزءًا أساسيًّا في عرقلة انتخابات 24 ديسمبر/كانون الأول 2021م، بل ولم تقدم أي فعل يُذكر لكسر الجمود السياسي والتوجه نحو تجديد السلطة التشريعية في البلاد من ذلك الوقت.

ولا شك أن هذا الأمر سيجعل من هذه الطبقة مجموعة لا ترغب في مغادرة المشهد السياسي، وكل ما تقوم به هو المناورة من أجل البقاء، وبالتالي لا يستساغ عقلًا أن تُنْجِح مبادرة تقصيها من المشهد السياسي نهائيًّا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد تكرس هذه المبادرة نفوذ "الخمسة الكبار" وتقصي المكونات الأخرى للمجتمع المدنية منها والسياسية، ولتكون المحصلة الدوران في دائرة مغلقة لا أكثر، ورجحان سقوط المبادرة وصعوبة التئام أطرافها الخمسة بالآلية والكيفية المعلنة عنها.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1) عبد الله باتيلي المبعوث الأممي الثامن إلى ليبيا، حيث خلف السلوفاكي يان كوبيش في المنصب الذي تنحى عنه أواخر 2021، عندما تعثر إجراء الانتخابات العامة التي كانت مقررة في 24 ديسمبرل 2021، قبل أن تؤجل لأجل غير مسمى.

2) ينظر: "وثيقة البرنامج السياسي الوطني للمرحلة التمهيدية للحل الشامل"، موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3m4JMGv

3) ينظر: "الممثل الخاص للأمين العام عبد الله باتيلي يدعو الفاعلين المؤسسيين إلى اجتماع لمناقشة الخطوات المقبلة للعملية الانتخابية"، موقع: بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bitly.ws/393Kp

4) سواء الجيش النظامي أو المكونات العسكرية شبه النظامية التابعة له.

5) ينظر: "بيان أميركي أوروبي يدعم دعوة لـ (باتيلي) للأطراف المؤسسية الرئيسة في ليبيا للاجتماع"، وكالة الأنباء الليبية، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)،  https://bitly.ws/393Qr

6) ينظر: إحاطة الممثل الخاص للأمين العام السيد عبد الله باتيلي أمام مجلس الأمن، 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، 18 ديسمبر/ كانون الأول 2023 (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3vnkuel

7) حيث أعلنت البعثة عن مبادرة "الخمسة الكبار" في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

8) ينظر: إحاطة الممثل الخاص للأمين العام السيد عبد الله باتيلي أمام مجلس الأمن، 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/3vnkuel. وينظر: "باتيلي أمام مجلس الأمن: قادة ليبيا لم يُبدوا التزامًا قاطعًا بإنهاء حالة الجمود السياسي"، العربي الجديد، 19 ديسمبر/كانون الأول 2023 (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bitly.ws/393Sv

9) بيان مجلس النواب رقم (11) لسنة 2023.م بشأن الدعوة للحوار من قبل البعثة الأممية للدعم في ليبيا، موقع مجلس النواب، 24 نوفمبر /تشرين الثاني 2023 (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bitly.ws/393Uj

10) أعضاء مجلسي النواب والدولة عن المنطقة الجنوبية يتفقون على رفض مبادرة باتيلي، وكالة الأنباء الليبية، 23 نوفمبر /تشرين الثاني 2023 (تاريخ الدخول: 9 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bitly.ws/393UY

11) ففي 4 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أصدر مجلس النواب قوانين الانتخابات التي أقرتها لجنة "6+6" المشكَّلة مناصفة بينه وبين الأعلى للدولة، في 6 يونيو/حزيران الماضي، ليجري بموجبها انتخاب رئيس البلاد، ومجلس الأمة، غير أن المجلس الأعلى للدولة اعتبر أن التشريعات الانتخابية الصادرة عن مجلس النواب "مخالفة للتعديل الدستوري وباطلة". ينظر: "باتيلي يدعو الفرقاء الليبيين إلى اجتماع لتسوية الخلافات الانتخابية"، وكالة الأناضول، 23 نوفمبر /تشرين الثاني 2023 (تاريخ الدخول: 9 يناير/ كانون الثاني 2024)، https://bitly.ws/38ZZg

12) ينظر: باتيلي يقدم إحاطته بمجلس الأمن: إعلان فشل مبادرة الطاولة الخماسية حول ليبيا أم استدعاء دعم دولي؟، صحيفة العربي الجديد، 19 ديسمبر/كانون الأول 2023  (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bit.ly/4aJeyMZ

13) رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عماد السائح: لا يمكن الفصل بين السياسة والعملية الانتخابية، قناة فبراير، 20 نوفمبر /تشرين الثاني 2023 (تاريخ الدخول: 9 يناير/كانون الثاني 2024)، https://bitly.ws/395ne