يواجه الجسم الصحفي الفلسطيني، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، عملية تدمير ممنهج لكيانه المهني والاجتماعي لا تبدو معزولة عن إستراتيجية التدمير التي تستهدف البناء الاجتماعي الفلسطيني بأنساقه المختلفة (السياسية والاقتصادية والبيئية...) خلال الحرب غير المسبوقة التي تشنها إسرائيل على غزة. لذلك لم يكن التدمير عملًا عشوائيًّا بل متعمدًا ومنظمًا؛ إذ امتد لكل الفئات الاجتماعية (الأطفال، النساء، الطواقم الطبية، الأطر الأكاديمية، الكتَّاب والشعراء...)، وشمل جميع مقومات الحياة الأساسية والبنية التحتية للقطاع (المستشفيات، شبكات المياه والكهرباء، شبكات الطرق، شبكة الهاتف والإنترنت، الميناء، المطاحن والمخابز...)، والبنية المعرفية والثقافية/الرمزية والدينية (الجامعات، المدارس، المكتبات، المواقع الأثرية، المساجد، الكنائس، المقابر...).
تدمير الوجود الفلسطيني
تراهن إستراتيجية التدمير لمصادر الحياة على اجتثاث الوجود الفلسطيني واقتلاعه من جذوره، وهو ما يفسر ارتفاع عدد الشهداء الذي تجاوز 25 ألف شهيدًا، معظمهم من الأطفال (11 ألفًا) والنساء (7 آلاف)؛ إذ يتسبب القصف الإسرائيلي في مجازر يومية تودي بحياة 300 شخص يوميًّا في المتوسط؛ حيث تُهدَم المساكن فوق رؤوس المواطنين، فضلًا عن الاعتقال التعسفي والتعذيب والتهجير القسري. وقد دفع هذا الوضع بعض الهيئات الدولية والمؤسسات الحقوقية، والرموز السياسية والفكرية والأكاديمية، إلى وصف ما يجري في غزة بـ"جرائم الحرب" التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني. وترى جهات وأطراف كثيرة أن تلك الجرائم تمثِّل "إبادة جماعية" تُرتكب بالقصد المحدد المطلوب لتدمير الوجود الفلسطيني في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية، كما ورد في الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، في التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2023.
ووقَّع أكثر من مئتي إسرائيلي، بمن فيهم عضو الكنيست، عوفر كاسيف، عريضة لدعم دعوى جنوب إفريقيا، وجاء فيها أن "إسرائيل تتخذ بالفعل إجراءات منهجية ودقيقة للقضاء على سكان غزة وتجويعهم والتنكيل بهم وتهجيرهم. وتُنفِّذ سياسة محو خيارات العيش، مما يؤدي إلى قتل ممنهج لقطاعات كبيرة من السكان، وكبار الأكاديميين والكتَّاب والأطباء، والطاقم الطبي والصحفيين والمواطنين العاديين".
وظهرت أيضًا مواقف متعددة لمؤرخين وأكاديميين وكتَّاب إسرائيليين يرون أن الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة تُعد "إبادة جماعية" للفلسطينيين، كما ورد في مقال للمؤرخ والأكاديمي، إيلان بابيه، بعنوان "لهذا السبب أؤيد الفلسطينيين"؛ إذ يرى أن العنف الذي يتعرض له سكان قطاع غزة ليس ظاهرة جديدة، وإنما كان الوجه الدائم للصهيونية منذ قيام إسرائيل عام 1948. وهو ذات الموقف الذي تبنَّاه المؤرخ آفي شلايم؛ إذ يرى أن القوى الغربية أعطت إسرائيل أمرًا بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة. أما المؤرخ الإسرائيلي وأستاذ دراسات المحرقة والإبادة الجماعية في جامعة براون بالولايات المتحدة الأميركية، عمر بارتوف، فيصف سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين بـ"التطهير العرقي"، ويعتبر الهجوم على غزة "شكلًا من أشكال الإبادة الجماعية".
وينطلق أستاذ دراسات الهولوكوست وعمليات الإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون بكاليفورنيا، راز سيغال، في تحديد معالم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني من شواهد التاريخ المعاصر، ويرى أن "طابع الإبادة الجماعية في الهجوم الذي تشنه إسرائيل على غزة صريح وشفاف ووقح للغاية. وبصفة عامة، لا يُفصِح مرتكبو الإبادة الجماعية عن نواياهم بمثل هذا الوضوح، حتى وإن كانت هناك استثناءات".
ويشير سيغال إلى أن المستعمرين الألمان ارتكبوا إبادة جماعية في مطلع القرن العشرين ردًّا على انتفاضة السكان الأصليين من شعوب "الهيريرو" و"الناما" في "جنوب غرب إفريقيا". وفي سنة 1904، أصدر قائد الجيش الألماني، لوثر فون تروثا، "أمر إبادة" مسوغًا ذلك بـ"حرب الأعراق". وفي سنة 1908، قتلت السلطات الألمانية 10000 فرد من شعب "الناما"، وحققت مبتغاها في "تحطيم الهيريرو" بعد أن قتلت 65000 فرد منهم، أي 80% من تلك الجماعة. ويبيِّن سيغال أن الأوامر التي أصدرها وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تكن أقل وضوحًا: "تحطيم فلسطينيي غزة هو هدف إسرائيل".
في هذا السياق العام لتحطيم الشعب الفلسطيني عبر التطهير العرقي والتهجير القسري، وعملية التدمير الممنهج للوجود الفلسطيني وفئاته الاجتماعية المختلفة من خلال الإبادة الجماعية، يبرز السؤال المحوري لهذا التعليق: ما الذي يمثِّله التدمير الممنهج للجسم الصحفي الفلسطيني في غزة؟ وهل هناك علاقة لتدمير الكيان المهني/الاجتماعي للجسم الصحفي وقوته الرمزية بالإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة؟ وإذا كانت عمليات القتل الممنهج التي يتعرض لها الجسم الصحفي الفلسطيني تمثِّل "جريمة حرب" في منظور عدد من المنظمات الحقوقية الدولية، فهل تكفي هذه الصفة لتشخيص إستراتيجية التدمير لاجتثاث الكيان المهني/الاجتماعي للجماعة الصحافية في غزة أم أن منهجية اجتثاث الجسم الصحفي الفلسطيني تعكس نمط "الإبادة الإعلامية"؟
اجتثاث الجسم الصحفي الفلسطيني
وثَّقت المنظمات الحقوقية الدولية، التي تُعنى بأوضاع الصحفيين في العالم، الانتهاكات الجسيمة والجرائم التي يتعرض له الجسم الصحفي الفلسطيني، وتحديدًا في قطاع غزة. واهتمت بسياق عمليات القتل التي تستهدف العاملين في المجال الإعلامي، ومحاولة تأطير السلوك الإسرائيلي الممنهج تجاه أفراد هذه الفئة الاجتماعية. ولئن كان هناك اختلاف واضح في تسمية عملية تدمير الجسم الصحفي الفلسطيني، والمصطلح المناسب لوصف أوضاع وظروف الصحفيين التي قد تتشابه في بعض وجوهها مع ما يتعرض له المواطنون عمومًا، فإن مفهوم أو محمول هذه المصطلحات يكاد يكون متقاربًا في الدلالة، بل تستخدم مصطلحات متشاكلة بالمعنى السيميائي، أي متماثلة ومتشابهة.
وهنا، تتحدث منظمة مراسلون بلا حدود عن "اجتثاث الصحافة في غزة"، وهو ما يمهد الطريق لانقراض الصحافة في القطاع. وتصف أعمال القتل التي يتعرض لها الصحفيون الفلسطينيون بـ"آلة القمع الدموية التي تأتي على الأخضر واليابس في غزة"؛ حيث قُتِل ما لا يقل عن 16 صحفيًّا أثناء ممارسة نشاطهم الإعلامي. وترى لجنة حماية الصحفيين أن "حالات الصحفيين القتلى"، خلال الحرب على غزة، أدت إلى ما تُسمِّيه نمط استهداف الصحفيين وعائلاتهم من قبل الجيش الإسرائيلي. وهو الوصف الذي أطلقته أيضًا رئيسة الاتحاد الدولي للصحفيين، دومينيك برادالي، "الاستهداف المتعمد" إثر اغتيال الصحفييْن، حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا. واعتبر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان القتل الذي يستهدف بعض فئات المجتمع، مثل أساتذة الجامعات الفلسطينية والمعلمين والطلبة، "جريمة إبادة جماعية يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول". وتصف منظمة هيومن رايتس ووتش عملية الجيش الإسرائيلي التي استهدفت الصحفيين في جنوب لبنان بـ"هجوم متعمد مفترض ضد مدنيين، أي جريمة حرب". أما شبكة "آيفكس"، فترى أن الصحفيين الفلسطينيين وعائلاتهم يواجهون ما تُسمِّيه "عملية قتل" تستهدف وجودهم، كما ورد في تقرير لا يخلو عنوانه من دلالة: "إفناء الصحافة في فلسطين".
وتستخدم بعض الصحف ووكالات الإعلام مصطلحات وعبارات لا تختلف كثيرًا عن الحقل المعجمي للمنظمات الحقوقية، مثل: "القتل الممنهج"، أو "القتل غير المسبوق"، أو "استئصال الصحفيين"، أو "استهداف الإعلام" و"تدمير البنية الرقمية في غزة"، وذلك لوصف عمليات الجيش الإسرائيلي التي تستهدف الجسم الصحفي الفلسطيني. ونلاحظ، هنا، التدرج في الاستعمالات اللغوية بحسب سياقات ومسارات الحرب على غزة؛ إذ انطلقت من "القتل"، ثم "الاستهداف"، و"آلة القتل" التي تستهدف الصحفيين، ثم "القتل غير المسبوق"، ثم "القتل المتعمد"، إلى ما نراه اليوم من عملية التدمير الممنهج الجسم الصحفي الفلسطيني واجتثاث كيانه المهني/الاجتماعي.
وعلى الرغم من اختلاف الدلالة القانونية والسياسية لهذه المصطلحات والصفات، فإنها لا يمكن أن تحجب بأي حال عملية القتل المتعمد مع سبق الإصرار والترصد للجسم الصحفي الفلسطيني، أي التخطيط والتصميم والتنسيق لارتكاب جرائم القتل (جرائم الحرب). كما أن تعدد هذه المصطلحات لا يمكن أن يصرف الانتباه عن إستراتيجية التدمير الممنهج للكيان المهني والاجتماعي للجسم الصحفي. ولذلك فإن ما تواجهه هذه الفئة الاجتماعية ليس معزولًا أو منفصلًا عما تعيشه بقية الفئات الأخرى في سياق الإبادة الجماعية التي تستهدف الوجود الفلسطيني.
وتشير مسارات الحرب على غزة إلى خصوصية "البنية الإبادية" أو نسق الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني؛ إذ تشتمل على مظاهر مختلفة، منها إبادة الجنس التي تستهدف الإنسان الفلسطيني وتدمير مقومات الحياة الأساسية لوجوده، ثم الإبادة المكانية أو "إبادة المكان" التي تتعرض فيها المدن وجميع المؤسسات والمرافق إلى التدمير الممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ثم "قتل الذاكرة" أو "إبادة الذاكرة" الجمعية التي تستهدف المخزون الثقافي الذي يستند إليه الشعب الفلسطيني، مثل تدمير وإتلاف الوثائق التاريخية في مبنى الأرشيف المركزي بالقطاع، والتي توثق الحياة بمدينة غزة لما يزيد عن خمسين عامًا. ويُسمِّي الأكاديمي، لورنس دافيدسون، هذا النوع من التدمير الممنهج للحياة الثقافية بـ"الإبادة الثقافية" كما ورد في كتابه الذي يحمل نفس العنوان "الإبادة الثقافية"، وقد بحث فيه أساليب طمس ثقافة السكان الأصليين بأميركا، وأيضًا تدمير وعَبْرَنَة الثقافة الفلسطينية. ومن الاشتقاقات التي تبرز في نسق الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني، ثمة "الإبادة السياسية" التي تهدف إلى إفناء الحياة السياسية، ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على أي جهود يمكن أن تقود لإقامة الدولة الفلسطينية. وهنا، يمكن الرجوع إلى الدراسة القيمة التي أعدها الدكتور عصام سخنيني "الجريمة المقدسة: الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني" للوقوف على اشتقاقات نسق الإبادة الجماعية في المشروع الإسرائيلي-الصهيوني.
ويظهر أيضًا اشتقاق آخر، في إطار البنية الإبادية الإسرائيلية التي تجري اليوم في قطاع غزة، يمكن تسميته بـ"الإبادة الإعلامية" التي تستهدف الكيان المهني والاجتماعي للجسم الصحفي الفلسطيني. وهي وجه من وجوه "إبادة الجنس" أو "الإبادة الجماعية" التي يتوافر فيها قصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة اجتماعية كما تشير اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، وهي أول معاهدة لحقوق الإنسان اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة.
انطلاقًا من بنود المادة الثانية لهذه الاتفاقية، نستوحي تعريفًا أوليًّا للإبادة الإعلامية التي نعني بها "التدمير المقصود والممنهج للجسم الصحفي وكيانه المهني والاجتماعي كليًّا أو جزئيًّا عبر قتل أعضائه، وإلحاق الأذى الجسدي أو الروحي بأعضاء من الجماعة الصحافية، وفرض تدابير وإجراءات تستهدف الحؤول دون قيام الجماعة الصحافية بنشاطها المهني الإعلامي، واستهداف أفراد أسرة الجماعة الصحافية وأقربائهم، وإخضاع أفراد هذه الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا، ومنعهم من التواصل المباشر مع الجماعات الصحافية الأجنبية".
وتبدو الصفة أو الطابع الاجتماعي للإبادة الإعلامية مهمًّا في سياق التعريف بالمصطلح؛ لأن مرتكب هذا النوع من الإبادة لا يركز على القتل لغاية القتل، ولا يستهدف الصحفيين كأفراد فقط، وإنما يرى الإبادة الإعلامية صنفًا من "العمل الاجتماعي" تتجاوز إلحاق الأذى الجسدي والنفسي والروحي بالصحفي إلى تدمير الشبكة الاجتماعية للجسم الصحفي بكامله، وتدمير قوتها الرمزية والثقافية، وأساليب حياتها الاعتيادية ومؤسساتها. وقد لا يتمكن مرتكب الإبادة الإعلامية من القضاء أو اجتثاث جميع أعضاء الجسم الصحفي أو الجماعة الصحافية؛ لأن الصحفيين أيضًا لهم القدرة على الصمود ومواجهة سياسات وإجراءات مرتكب الإبادة الإعلامية كما يجري حاليًّا في غزة، وهناك نماذج كثيرة تحوَّلت إلى أيقونات صحفية (وائل الدحدوح نموذجًا)؛ إذ "يحمل الصحفي روحه على كفه" من أجل نقل المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي إلى العالم الخارجي.
يحظى هذا النوع من الإبادة (الإعلامية)، مثل سائر الوجوه الأخرى للإبادة الجماعية، بغطاء سياسي وحماية قانونية، بل وبمشاركة أطراف وقوى تدعم الاحتلال الإسرائيلي عسكريًّا وماليًّا وإعلاميًّا، وهو ما يُسمِّيه السوسيولوجي المؤرخ مارتن شو، في كتابه "الإبادة الجماعية: مفهومها وجذورها وتطورها وأين حدثت؟"، بـ"الطرف الثالث" الذي يُقدِّم دعمًا مصيريًّا لمرتكب الإبادة الإعلامية، سواء بإنكارها ونفي أي أساس لحدوثها، أو الإحجام عن القيام بأي خطوة سياسية أو قانونية لوقفها؛ إذ يرى في ذلك مصلحة لبقاء نظام مرتبط بالإبادة الإعلامية في موقع السلطة. ويُسهِم ذلك في تعميق مأساة الجسم الصحفي الفلسطيني ولا يُسمَح له بأداء عمله المهني في تغطية الحرب، ما يؤدي إلى تدمير الكيان المهني والاجتماعي للجسم الصحفي كليًّا أو جزئيًّا.
وسيعود الباحث لتفصيل بنية هذا التعريف وأسسه ومرتكزاته عبر تأصيل مصطلح الإبادة الإعلامية معرفيًّا ونظريًّا، في دراسة ستُنشر لاحقًا عن "الحرب الإسرائيلية على غزة والإبادة الإعلامية للجسم الصحفي الفلسطيني". وتتواتر الشواهد والأدلة -من خلال المقابلات التي أجراها الباحث مع عدد من الصحفيين المهنيين- على التدمير المقصود والممنهج للجسم الصحفي الفلسطيني، وهو ما تشير إليه أيضًا تقارير بعض الشبكات والمنظمات الدولية الحقوقية.
فقد رصد تقرير لشبكة "آيفكس" عددًا من مظاهر عمليات القتل التي تستهدف الصحفيين؛ إذ "قُتِل العديد من الصحفيين في منازلهم برفقة عائلاتهم، من ضمنهم دعاء شرف، وسلمى مخيمر، وسلام ميمة، ورشدي سراج. كما قُتِل مدير وكالة الأنباء الفلسطينية الإلكترونية، "قدس نيوز"، حسونة سليم، والمصور الصحفي، ساري منصور، بعد 24 ساعة من تلقيه تهديدًا بالقتل عبر الإنترنت متعلق بعمله". "وفَقَد وائل الدحدوح (مدير مكتب الجزيرة في قطاع غزة) زوجته وابنه البالغ من العمر 16 عامًا، وابنته ذات الأعوام الستة، وكذلك حفيده وهو رضيع قدم إلى الدنيا قبل 45 يومًا فقط". كما فَقَد مراسل قناة الجزيرة، مؤمن الشرافي، 22 من أفراد عائلته في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزلهم في مخيم جباليا للاجئين، أدت إلى استشهاد والديه وثلاثة من أشقائه وعدد من أطفالهم. وفي 11 ديسمبر/كانون الأول 2023، استهدفت غارة جوية إسرائيلية منزل الصحفي في قناة الجزيرة، أنس الشريف، في مخيم جباليا للاجئين، أدت إلى استشهاد والده. وأفاد الصحفي بتلقيه مكالمات هاتفية تهديدية من ضباط عسكريين إسرائيليين يطلبون منه التوقف عن التغطية ومغادرة شمال غزة. كما تلقى الشريف رسائل صوتية عبر تطبيق واتساب تكشف عن مكان وجوده. واستشهد 19 شخصًا من عائلة محمد أبو القمصان، مهندس البث بمكتب الجزيرة في غزة، بينهم والده واثنتان من أخواته في مخيم جباليا.
واغتالت قوات الاحتلال الإسرائيلي مصور قناة الجزيرة، سامر أبو دقة، وأصيب وائل الدحدوح خلال تغطيتهما القصف الإسرائيلي على مدرسة فرحانة في خان يونس جنوبي قطاع غزة. وظل سامر نحو 6 ساعات بعد إصابته ملقى على الأرض ينزف محاصرًا في محيط مدرسة فرحانة؛ حيث لم تتمكن سيارة الإسعاف من الوصول إليه إثر إصابته بجراح جراء شظايا صاروخ أطلقته طائرة استطلاع إسرائيلية. واعتقل الصحفي ضياء الكحلوت، مراسل صحيفة العربي الجديد، تحت تهديد السلاح من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، جنبًا إلى جنب أقاربه ومدنيين آخرين من بيت لاهيا في شمال قطاع غزة. وانتشرت صور للرجال المعتقلين على الإنترنت؛ حيث أجبرتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي على التعري، ولا يزال مكان وجود الصحفي غير معروف.
ركزت عملية التدمير الممنهج للجسم الصحفي الفلسطيني على استهداف مقرات المؤسسات الصحفية والإعلامية؛ إذ دمَّر الاحتلال الإسرائيلي -بحسب تقرير نقابة الصحفيين الفلسطينيين- 73 مؤسسة صحفية وإعلامية، منها 21 إذاعة محلية، و3 أبراج، و15 وكالة أنباء محلية ودولية، و15 فضائية تليفزيونية، و6 صحف، و13 مؤسسة خدمات إعلامية وصحفية. وبلغ عدد الصحفيين الذين اغتالتهم إسرائيل خلال المئة اليوم من الحرب 112 صحفيًّا، منهم 14 من الصحفيات، ما يمثِّل نسبة 12.5%. ويشير تقرير مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا) إلى أن عدد الصحفيين الذين اغتالتهم إسرائيل حتى تاريخ 18 يناير/كانون الثاني 2024 بلغ 117 صحفيًّا. بينما اعتقلت 41 صحفيًّا فلسطينيًّا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وأفرجت لاحقًا عن 12 منهم بعد قضاء فترات زمنية مختلفة، ولا يزال رهن الاعتقال 29 صحفيًّا، إضافة إلى 15 صحفيًّا اعتقلوا قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول.
لقد تعرض الجسم الصحفي الفلسطيني إلى إجراءات مختلفة لتحطيم واجتثاث كيانه المهني والاجتماعي بدءًا بتدمير مقرات المؤسسات الصحفية والإعلامية التي يعمل فيها أفراد الجماعة الصحافية، وتجريدهم من إنسانيتهم التي تُحوِّلهم إلى تهديد أو أعداء للجيش الإسرائيلي بسبب فضحهم لجرائم الاحتلال الإسرائيلي ونقل مجازره على الهواء مباشرة إلى الرأي العام الدولي، ثم تهديدهم بالاغتيال والتصفية الجسدية إذا لم يتوقفوا عن تغطية الحرب (حالة أنس الشريف مراسل قناة الجزيرة، ويمنى السيد مراسلة الجزيرة الإنجليزية، وغيرهما من الصحفيين).
وفي مرحلة أخرى، بدأ الجيش الإسرائيلي بعمليات التهجير القسري للصحفيين الذين لجؤوا كغيرهم من المواطنين إلى أماكن النزوح ومراكز الإيواء حفاظًا على حياتهم، وهو ما اضطرهم إلى العمل في ظروف يصفها بعضهم بـ"البدائية" داخل الخيام وفي الشوارع والطرقات وبأدوات متهالكة. وانتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى القتل المتعمد والممنهج للصحفيين وأسرهم وكذلك أقربائهم من خلال تدمير المساكن والبيوت التي لجؤوا إليها، طلبًا للحماية، فوق رؤوسهم، وحرمانهم من العلاج والرعاية الصحية بعد استهدافهم وإصابتهم مثلما حدث لمصور الجزيرة، سامر أبو دقة، الذي توفي متأثرًا بجراحه -كما ذُكِر آنفًا- بعد أن منع الجيش الإسرائيلي طواقم الإسعاف من الوصول إليه. ويُحْرَم الجسم الصحفي أيضًا من جميع مصادر الحياة (الغذاء والمياه والدواء...) لإضعاف إرادته والعمل على إفناء وجوده المهني والاجتماعي. وهذا ما يجعلنا نعتقد بوجود "إبادة إعلامية" في حق الجسم الصحفي الفلسطيني لاجتثاث كيانه المهني/الاجتماعي، وليس فقط "جرائم حرب" تستهدف أفراد الجماعة الصحافية.