المقاومة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل: صراع الإستراتيجيات في حرب غزة

تناقش الورقة الإستراتيجيات التي اعتمدت من قبل كل من حماس والجيش الإسرائيلي وصولًا إلى المستوى التكتيكي كما تشرح العقيدة العسكرية لكل من الطرفين. وتؤكد الورقة أن نتنياهو لم يحقق الأهداف الكبرى للحرب.
التدمير في غزة يندرج ضمن الثقافة العسكرية الإسرائيلية، وضمن إعادة هندسة المساحة لأماكن وجود الفلسطينيين (الفرنسية).

تقول الأسطورة الإغريقية: إن آلهة الإغريق حكمت على سيزيف أن يدحرج حجرًا من سفح الجبل وحتى قمته، وكلما وصل الرجل إلى القمة، سقط منه الحجر متدحرجًا إلى السفح مجددًا، ليُعاود مرة أخرى الفعل نفسه دونما نهاية.

هكذا هي حال الصراع العربي-الإسرائيلي منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي في العام 1948 وحتى الآن. خيضت حروب كثيرة بعد النكبة (1948) بين العرب وإسرائيل، أهمها خمس حروب: العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحرب الأيام الستة عام 1967، وحرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، واجتياح لبنان عام 1982، وحرب يوليو/تموز مع لبنان عام 2006. بعد حرب الأيام الستة، اجتمع العرب في قمة الخرطوم وأصدروا اللاءات الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع "العدو الصهيوني" قبل عودة الحق لأصحابه. بعد هذه القمة انتقل الصراع بين العرب وإسرائيل من صراع الدولة ضد الدولة، إلى صراع الدولة (إسرائيل) مع لاعب من خارج إطار الدولة، أي فاعلًا غير رسمي (Non State Actor)، والمقصود تحديدًا منظمة التحرير الفلسطينية. شكَّل لبنان المسرح الأساسي لهذا الصراع الجديد حتى العام 1982، عام اجتياح إسرائيل لبنان وخروج منظمة التحرير منه.

شكلت حركة حماس وغيرها من المنظمات الفلسطينية والتي عارضت اتفاق أوسلو (عام 1993)، رأس السهم في استمرارية الصراع مع "إسرائيل". وهكذا استمر الصراع بين دولة من جهة، ولاعب من خارج إطار الدولة من جهة أخرى، ووصل ذروته في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس داخل "إسرائيل". لترد إسرائيل بعملية برية شاملة وواسعة على قطاع غزة تحت اسم "عملية السيوف الحديدية".

هذه الورقة تتناول الإستراتيجيات والتكتيك العسكري المتبع من الفريقين في غزة فقط: كيف استعدت حماس؟ وكيف رد الجيش الإسرائيلي؟ وما دروس هذه الحرب على الحروب المستقبلية في الداخل الإسرائيلي وبشكل عام؟، وتتناول أيضًا السيناريوهات المحتملة لمرحلة ما بعد الحرب على غزة.

في الإستراتيجيات

لابد لمن يخوض الحرب من رسم إستراتيجياته، فهي تربط الأهداف بالوسائل المتوافرة. هي فعل (Course of Action) يوازن بين الأهداف والوسائل، وهي كائن حي يتبدل بتبدل الواقع الميداني حيث التنفيذ، ومن لا يتأقلم مع الواقع الميداني، يواجه الفشل حتمًا. تحتل الإستراتيجية في معادلة الصراعات والحروب المركز الثاني بعد الجيوسياسة. لكنها في المركز الأول قبل البُعدين: العملاني والتكتيكي.

بعد رسم الإستراتيجية، يعمد العسكر إلى ترجمتها إلى المستويين: العملاني والتكتيكي، لكن المسار مزدوج الأبعاد، بعلاقة جدلية في الاتجاهين من فوق إلى تحت والعكس صحيح. عند التطبيق على المستوى التكتيكي، تتبين النواقص في الإستراتيجية؛ الأمر الذي يُلزم راسم الإستراتيجية بالعمل على التعديل والتأقلم. لهذا يرى القائد العسكري الألماني، هلموت فون مولتكيه، أن أفضل خطط الحرب على الإطلاق، لا تصمد الدقائق الأولى بعد أول طلقة؟(1). إذا كانت الإستراتيجية خاطئة، لا يمكن للنجاحات التكتيكية حتى ولو تراكمت أن تعوض الأخطاء. في المقابل، إذا كانت الإستراتيجية صحيحة، فنهايتها النصر حتى ولو كان هناك الكثير من الفشل على المستويين: العملاني والتكتيكي.

كل فريق يرسم لعدوه إستراتيجيته، وذلك بناء على التجارب السابقة بين الفريقين إن كان في السلم أو الحرب. وإذا تكررت الصدامات الدموية بين الفريقين، يصبح الآخر أكثر شفافية (عسكريًّا) أمام عدوه، خاصة إن كل فريق يستعمل أفضل ما لديه في الحرب؛ الأمر الذي يفضح الكثير من الأسرار الحربية خاصة في العتاد. من هنا تأتي أهمية عامل المفاجأة المؤقت لتحقيق أفضلية ميدانية على الآخر. هكذا حصل في عملية طوفان الأقصى. فالتجارب بين المقاومة وإسرائيل متعددة ومتكررة وخلال فترات ليست بعيدة عن بعضها البعض زمنيًّا.

في الخيارات الإستراتيجية الكبرى

تعتمد إسرائيل الهجوم خيارًا إستراتيجيًّا، وتعتمد الدفاع خيارًا تكتيكيًّا. بكلام آخر، تعتبر إسرائيل أن الدفاع هو فقط خيار تكتيكي، تحضيرًا واستعدادًا لبدء الهجوم. لكن هذا الخيار لا يمنع أبدًا من اعتماد الهجوم الاستباقي كما حصل في حرب الأيام الستة، كما لا يمنع من اعتماد مفاهيم وسلوكيات هجومية محدودة، لمنع وقوع الحرب الكبرى، مثل الحرب بين الحروب، أو الحملة العسكرية بين الحروب. والهدف دائما هو استنزاف العدو قبل وصوله إلى جهوزية عسكرية تمكِّنه من خوض حرب كبيرة.

لكن وفي الصورة الكبرى، تقوم إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي على مثلث ذهبي يرتكز على: الردع، والإنذار المُبكر ومن ثم الحسم السريع(2).

تعتمد في المقابل حركة حماس، الدفاع خيارًا إستراتيجيًّا، أما الهجوم فخيار تكتيكي. ويعود سبب هذا الخيار إلى التفاوت الكبير في موازين القوى مع الجيش الإسرائيلي، والذي يُصنَّف في المرتبة الثامنة عشرة، حسب مجلة بيزنس إنسايدر(3).

فاجأت المقاومة الفلسطينية في عملية "طوفان الأقصى" إسرائيل معتمدة إستراتيجية الهجوم والدفع (Push)، أي الدخول إلى غلاف غزة وخوض عمليات عسكرية على مساحة تجاوزت الـ600 كلم2، الأمر الذي جعل جيش الاحتلال في موقع المُدافع. بعد نجاح العملية ووصولها إلى نقطة الذروة (Culmination) اعتمدت المقاومة إستراتيجية الجذب (Pull) للعدو، أي العودة إلى مكانها المفضل، إلى قطاع غزة وانتظار سلوك وردِّ العدو على العملية، خاصة أن خيارها الإستراتيجي هو الدفاع.

في هذا الهجوم، ضربت حركة حماس المبدأ الثاني لإستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، وهو الإنذار المبكر، لأن عملية "طوفان الأقصى" شكلت مفاجأة إستراتيجية من العيار الثقيل لتعود بعدها إلى ضرب البُعد الثالث والمُتمثل بالحسم السريع. لكن جرأة حماس في بدء الهجوم، تُسقط حتمًا المبدأ الأول لإستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، وهو الردع.

عقيدة إسرائيل العسكرية

بعد كل تجربة حرب للجيش الإسرائيلي، تُجرى دائمًا إعادة تقييم للإستراتيجيات العسكرية، وضمنًا عقيدة القتال (Military Doctrine). تُعرَّف العقيدة العسكرية على أنها أفضل طريقة لقتال العدو والانتصار عليه، وهي تقوم على ثلاثة أبعاد مهمة: كيفية تنظيم العسكر، ونوعية التسليح، وأخيرًا نوعية التدريب. لكن التعديل في العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي، يبقى دائمًا ضمن المثلث: الردع، والإنذار المبكر، والحسم السريع.

بعد حرب يوليو/تموز 2006، عدَّلت إسرائيل عقيدتها العسكرية تحت اسم جديد، "الاندفاعة" (Momentum). ترأَّس هذا التعديل رئيس الأركان آنذاك، الجنرال أفيف كوخافي (2019-2023). ترتكز هذه العقيدة على ما يلي: تشكيل قوة عسكرية مترابطة مع بعضها البعض من ضمن شبكة عنكبوتية (Networked)، تكون قادرة على ضرب قدرات العدو خلال وقت قصير جدًّا، وبأقل كلفة ممكنة. في هذه العقيدة الجديدة، أُدخل مبدأ الدفاع عن الداخل الإسرائيلي بسبب عدد الصواريخ التي أطلقها حزب الله آنذاك على "إسرائيل"(4).

رسم رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي، هرتسي هاليفي، في العام 2023، عقيدة جديدة تُكمل العقيدة السابقة تحت اسم "الصعود" (Ascent)، وهي كانت قبل عملية طوفان الأقصى. ترتكز هذه العقيدة في جوهرها على القتال الهجين (Hybrid Warfare)، أي القتال التقليدي، إلى جانب القتال غير المتماثل (Asymmetric Warfare). ركز هاليفي في هذه العقيدة على الرأسمال البشري، ومواجهة "التهديدات" الإيرانية، وتشجيع ودعم المناورة البرية أثناء القتال. كما ركز على القتال المشترك بين الأسلحة (Combined)، من مشاة، ومدرعات، وقوات خاصة، وسلاح الهندسة، كما الدعم الجوي والمدفعي. وهذه العقيدة تختبر فعليًّا في عملية "السيوف الحديدية" على غزة.

إستراتيجية إسرائيل

في البُعد السياسي، حدد رئيس الوزراء الإسرائيلي إستراتيجية الحد الأقصى للحرب (Maximalist). فهو يريد تدمير حماس وبناها التحتية، كما قَتْل القيادات وخلق واقعٍ في غزة لمرحلة ما بعد حماس؛ حيث لا دور للحركة أبدًا. في هذه المقاربة، يكون نتنياهو قد دمج البعدين، السياسي والعسكري، ببعضهما بعضًا، ويكون قد خرق مبدأ المفكر البروسي، كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831)، والذي يقول: إن "الحرب هي السياسة بوسائل أخرى". ويكون أيضًا قد خرق مبدأ المفكر الصيني، صان تزو، حول "الجسر الذهبي"، أي ضرورة فتح جسر ذهبي لعدوك كي يتراجع، أو يأتي إلى طاولة التفاوض. والعكس قد يعني القتال حتى الرمق الأخير؛ الأمر الذي يُكلف المهاجم كثيرًا. هذا في السياسة، أما في البُعد العسكري فقد أتت إستراتيجية الجيش الإسرائيلي على ثلاث مراحل، هي:

  • الأولى: بدأ الجيش الإسرائيلي التقدم بحذر في الأماكن الزراعية والخالية من السكان، خاصة من شمال شرق القطاع (بيت حانون)، كما من الشمال الغربي (بيت لاهيا). والهدف هو اختبار جهوزية المقاومة العسكرية. وعندما كان يواجه مقاومة، لم يكن يشتبك. لا بل كان يتراجع ويطلب الدعم الناري خاصة من سلاح الطيران أو من المسيرات.
  • الثانية: هي مرحلة الدخول إلى المدن وفي طليعتها مدينة غزة، ومن بعدها إلى مدينة خان يونس، كما إلى وسط القطاع حيث منطقة المخيمات الكبيرة. هدف جيش الاحتلال، في وقت واحد، إلى تقطيع القطاع قدر الإمكان، ومنع المقاومة من حرية التنقل والدعم المُتبادل بين وحداتها. وفي هذه المرحلة، أراد جيش الاحتلال الاشتباك مع كتائب القسام، وعددها 24 كتيبة، بهدف خفض قدراتها العسكرية كي لا تستطيع القتال كوحدة عسكرية متكاملة.
  • الثالثة: السعي إلى إدامة القتال، بحيث ينتقل جيش الاحتلال من المعارك ذات الحدة العالية، إلى المعركة أو الاشتباك ذي الحدة المنخفضة. لذلك خلق منطقة عازلة على طول حدود القطاع مع إسرائيل بعمق كيلومتر واحد داخل القطاع، وذلك بعد أن دمر كل الأبنية في هذا الحيز. كما شق الطريق السريع شرق-غرب، في جنوب مدينة غزة، بطول 6 كلم، وعرض يصل إلى 320 مترًا. والهدف هو تأمين حرية المناورة لقواه العسكرية التي تفضل دائمًا عنصر الحركية والمناورة بدل القتال الثابت. وتجدر الإشارة إلى أن التدمير الإسرائيلي في القطاع ليس بسبب عملية طوفان الأقصى، بل يندرج ضمن الثقافة العسكرية الإسرائيلية، وهو من ضمن إعادة هندسة المساحة لأماكن وجود الفلسطينيين، بهدف كسب الوقت خلال التحركات العسكرية في حال حصول السيناريو السيء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، دخل آرييل شارون، في العام 1971، إلى قطاع غزة بهدف إعادة هندسة القطاع أمنيًّا، فاختار ثلاثة مخيمات اعتبرها خطرة على الأمن القومي الإسرائيلي، وهي مخيم الشاطئ، ومخيم جباليا، كما مخيم رفح. فعمد إلى تدمير المنازل المحيطة بها، وشق الطرقات في داخلها (عرضًا وطولًا) كي تصبح عملية الدخول إليها، والخروج منها عسكريًّا، أمرًا سهلًا لا يُشكِّل خطرًا على الوحدات العسكرية. وخلال تنفيذ مشروعه، دمر شارون ما يُقارب الـ6000 منزل في مدة لا تتجاوز الـ7 أشهر(5).

تبقى محافظة رفح العقدة الكبرى أمام نتنياهو. فهي تتطلب ضمانة سياسية خاصة من الولايات المتحدة الأميركية. كما تتطلب تحضيرات عسكرية جديدة؛ الأمر الذي قد يستوجب استدعاءات جديدة لقوى الاحتياط؛ الأمر الذي سيؤثر سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي، كونهم أي الاحتياط، يُشكلون العمود الفقري لهذا الاقتصاد. كل هذا في ظل سعي بعض الجهات الإسرائيلية السياسية لتجنيد المتزمتين اليهود من الحريديم، وهم المعفون من الخدمة.

افتراضات إسرائيلية خاطئة

  • يعتقد الجيش الإسرائيلي أن الاشتباك مع كتائب المقاومة سيؤدي إلى إخراجها من المعركة. وهذا افتراض يصح على الوحدات العسكرية في الجيوش التقليدية، وليس على حركات المقاومة. في الجيوش التقليدية، إذا وصلت وحدة عسكرية ما إلى جهوزية أدنى من 50%، تصبح خارج الخدمة. لكن مع حركات المقاومة، يكفي توافر 5% من عناصرها كي تكون مؤذية ضد الاحتلال. وهذا أمر ينطبق بالكامل على المقاومة في غزة، خاصة مع توافر القدرة على الحركة فوق الأرض وتحتها بواسطة شبكة الأنفاق، كما توافر اللوجستية العسكرية.
  • تُدرب الجيوش التقليدية على خوض المعارك الفاصلة والحاسمة، وعليه يمكن قياس النجاح وتقديمه للسلطة السياسية لإعادة تقييم الإستراتيجيات الكبرى. في الحرب على غزة لم يستطع جيش الاحتلال حتى الآن قياس نجاحه العسكري وتقديمه للسلطة السياسية. لا، بل هناك خلافات عميقة بين السلطة السياسية والعسكر بالمجمل.
  • لم يستطع الجيش الإسرائيلي تنفيذ مبدأ الحسم السريع. فتنظيف منطقة ما من عناصر المقاومة، لا يعني أبدًا السيطرة على هذه المنطقة؛ ذلك أن السيطرة تستلزم وجودًا دائمًا لقوات الاحتلال، ومثل هذا الوجود يوفر مزيدًا من الأهداف السهلة للمقاومة. كما أن الوجود الدائم يتطلب مزيدًا من العسكر، وهذا أمر غير متوافر، خاصة إذا سُرِّح جنود الاحتياط.
  • بعد تجربة الدفاع الخطي (Linear) مع خط بارليف (عام 1973) وخرقه من الجيش المصري، ومع فشل التجربة الخطية للسياج الذكي (الأذكى في العالم تكنولوجيًّا) حول قطاع غزة، يعتقد الجيش الإسرائيلي أن الدفاع في العمق هو الحل السحري، أي الدخول إلى عمق القطاع وتقطيعه إلى معازل صغيرة (Bantustan). لكن التجارب في الضفة وحتى في غزة لا تؤكد نجاح هذه المقاربة العسكرية.
  • يعتقد الجيش الإسرائيلي أنه تدرب على حرب المدن في غزة الصغيرة (مجسم في النقب يحاكي غزة)(6)، وهو قادر على خوضها فعلًا. لم يتمظهر هذه الأمر في قتاله في المدن إلا عبر تدمير البنى التحتية وعسكرة كل الأبعاد، من البُعد الإنساني إلى الطبي إلى الغذائي وغيره من الأبعاد، حتى إنه غير قادر على أخذ الدروس وتعميمها من مكان إلى آخر؛ فلكل متر يتقدمه هناك تعقيدات مختلفة ودروس متنوعة، بحيث لا يمكن تعميمها على بقية القوى؛ فالقتال في جباليا شيء والقتال في وسط القطاع شيء آخر مختلف.

عمومًا، يمكن القول: إن حالة الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة هي على الشكل التالي: خسر الجيش الإسرائيلي الحرب الاعلامية، كما خسر حرب الرأي العام العالمي وحتى الآن لم يربح الحرب العسكرية، لا بل خسر صورة الجيش الذي لا يقهر، خاصة أن الوقت لا يعمل لصالحه.

إستراتيجية حماس

قبل الحديث عن إستراتيجية حماس في الحرب، لابد من طرح الأسئلة التالية: هل توقعت حركة حماس هذا النجاح الهائل لعملية طوفان الأقصى؟ فهي أصلًا حركة مقاومة صغيرة، معزولة جغرافيًّا، لا تملك الوسائل الكبيرة كما لا تملك التكنولوجيا المتقدمة. فكيف "أبدعت" في رسم إستراتيجية قتال مشترك للبحر والبر والجو وحتى السيبراني، ومفاجأة من يعتبر من أهم جيوش العالم؟ كيف استطاعت حماس تطبيق مبدأ المفكر الصيني والذي يقول: إن الحرب تقوم في جوهرها على الخداع؟ وكيف طبقت مبدأ نفس المفكر، صان تزو، والذي يقول: "يمكن تحقيق نتائج عظيمة بقوى صغيرة"؟

 وهل يمكن القول: إنها وبسبب هذا النجاح قد قضمت أكثر مما يمكن لها أن تبتلع؟ وبماذا تفاجأت حماس بعد نجاحها الكبير: هل تفاجأت برد فعل إسرائيل أم أنها تفاجأت برد فعل الإدارة الاميركية السريع في احتضان إسرائيل وتأمين الردع الإقليمي لها، كما الدعم العسكري المباشر؟

 على كل، لابد للمقاومة وقبل تنفيذ عملية طوفان الأقصى، من التحضير لكل الاحتمالات، خاصة السيناريو الأسوأ، وهو الذي يحصل حاليًّا. فماذا عن إستراتيجية حماس؟

من المنطقي والطبيعي أن تكون حركة حماس قد حضَّرت للسيناريو السيء لمرحلة ما بعد عملية طوفان الاقصى. ففي الحروب عادة، يتم التحضير للسيناريو السيء على أمل أن يحدث السيناريو الممتاز. وعليه، يمكن رصد بعض أسس الإستراتيجية العسكرية لحركة حماس:

  • قاتلت حماس في الأماكن المفتوحة باعتماد مبدأ الدفاع المرن أو التأخيري، خاصة في شمال القطاع. تعتمد هذه الإستراتيجية على عدم زج قوى عظيمة من قوى المقاومة في المعارك، مع العمل على تأخير تقدم العدو بهدف كسب الوقت، مقابل التخلي عن المساحة عند الضرورة، مع السعي المستمر لاستنزاف جيش الاحتلال إن كان في العدد أو العتاد. في هذه المرحلة حضَّرت حركة حماس الأماكن المفتوحة عبر نصب الكمائن، وزرع المتفجرات، واستعمال ما توافر من فتحات الأنفاق للخروج منها وضرب خلفية قوات العدو التي تتقدم نحو عمق القطاع.
  • اعتمدت حماس على إعادة هندسة جغرافية القطاع لتعقيد عمليات جيش الاحتلال قدر الإمكان. ولفهم عملية الهندسة الجغرافية لتعقيد عمليات جيش الاحتلال، يمكن تصور الآتي: قطاع غزة بمساحة 365 كلم مربعًا خال من أي شيء كأنه صحراء، تتخلله شبكة أنفاق تحت الأرض بطول 750 كلم حسب جريدة النيويورك تايمز، ومن ثم بعدها تأتي المدن والقرى في القطاع بكل تعقيداتها المدنية، وأضف إلى ذلك العامل الديمغرافي 2.2 مليون نسمة بكل تعقيداته، وأخيرًا أضف إلى ذلك قوة قوى المقاومة التي استعدت للسيناريو الأسوأ، مع كل ما تملك من خبرات عسكرية ميدانية تراكمت عبر الحروب المتكررة مع الجيش الإسرائيلي، ومع ترسانة عسكرية فيها الكثير من صنع محلي.

يُستنتج من هذا التحضير المُسبق للمقاومة لأرض الحرب، المبادئ التالية:

  • خططت حماس أرض المعركة بحيث تمنع العدو من استعمال كل ما يملك، مقابل أن تستعمل هي كل ما تملك ولو كانت وسائل متواضعة؛ فهي ابنة الأرض والأفضلية لها.
  • تجنب المعركة الفاصلة والتي تسعى إليها عادة الجيوش التقليدية، مع القدرة على اختيار زمان ومكان الاشتباك، خاصة أن عامل المفاجأة لصالح المقاومة.
  • أثناء القتال في الأماكن السكنية، العمل على تأمين الحركية لمقاتليها، مقابل بطء الحركة لجيش الاحتلال لأنه جيش ثقيل في العدة والعتاد. من هنا تأتي أهمية الأنفاق والتي أمَّنت الملاذ الآمن لعناصر المقاومة، كما أمَّنت الحركية.

 خاتمة

ناقشت الورقة الإستراتيجيات التي اعتمدت من قبل كل من حماس والجيش الإسرائيلي وصولًا إلى المستوى التكتيكي، كما شرحت العقيدة العسكرية لكلا الطرفين. ولا تزال الحرب مستمرة وبالتالي فإن كلًّا منهما يسعى لتطوير إستراتيجيته كما أداءه.

وعلى صعيد أهداف الحرب، لم يحقق نتنياهو الأهداف الكبرى التي وضعها في بداية الحرب وهناك شكوك حول قدرته على تحقيقها بالصورة التي يريد، لكن الأكيد أن غزة، كما إسرائيل والمنطقة، لم تعد كما كانت عليه في السابق.

وكذلك أصبح بعد عملية طوفان الأقصى، لزامًا على كل من يعنيه الأمر أخذ العبر والدروس من هذه الحرب حتى على صعيد استقراء العالم. فإذا ناقش بعض المفكرين الإستراتيجيين حال النظام العالمي: أهو متعدد الأقطاب أم ثنائي الأقطاب؟ أصبح من الضروري الأخذ بآراء من قالوا: إن عالم اليوم هو عالم "لا قطبي"، خاصة أن لاعبًا من خارج إطار الدولة، أي حماس، استطاع إحداث زلزال في العالم كما في المنطقة.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. Graf Helmuth Karl Bernhard von Moltke, AZ Quotes, (Accessed: 18 March 2024): https://www.azquotes.com/author/42993-Helmuth_von_Moltke_the_Elder
  2. Y Ben-Horin, Israel Strategic Doctrine, 1981, (Accessed: 20 March 2024): https://apps.dtic.mil/sti/tr/pdf/ADA115647.pdf
  3. The world's most powerful militaries in 2023, ranked, Sinéad Baker and Thibault Spirlet, Dec 18, 2023, (Accessed: 20 March 2024): https://www.businessinsider.com/ranked-world-most-powerful-militaries-2…
  4. Yaakov Lappin, The IDF’s Momentum Plan Aims to Create a New Type of War Machine, March 22 2020, (Accessed: 19 March 2024): https://besacenter.org/idf-momentum-plan/
  5.  Eyal Weizman, Hollow Land: Israel's Architecture of Occupation Hardcover, Verso; First Edition (June 17, 2007), pp-70-71
  6. هي مدينة مماثلة لمدن قطاع غزة، بُنيت في صحراء النقب، للتدريب على قتال المدن في صحراء النقب، بكلفة 45 مليون دولار أميركي، فيها ما يقارب الـ500 منزل، فيها الأنفاق وغيرها من البنى التحتية.