علاقات جنوب إفريقيا مع الغرب بعد حكم محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل

هناك مؤشرات على أن إسرائيل وحلفاءها الغربيين يتحركون ضد جنوب إفريقيا بعد رفع القضية ضد إسرائيل بمحكمة العدل الدولية. وهذا التطور يستدعي قراءة موقف جنوب إفريقيا المناصر للفلسطينيين وعلاقاتها مع الغرب في ظل أزمتها الدبلوماسية مع واشنطن بسبب أوكرانيا وفي سياق احتياجاتها الاقتصادية والتنموية.

قدمت جنوب إفريقيا دعوى لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، في ديسمبر/كانون الأول 2023 الماضي، متهمة فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة. وبعد النظر في الدعوى في يناير/كانون الثاني (عام 2024)، أمرت المحكمة في حكمها بستة تدابير مؤقتة، تشمل الطلب من إسرائيل بالامتناع عن ارتكاب أعمال تدخل في اتفاقية الإبادة الجماعية، ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، واتخاذ خطوات فورية فاعلة لضمان توفير المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة.

على أن هناك مؤشرات على أن إسرائيل وحلفاءها وخاصة في الغرب يتحركون ضد جنوب إفريقيا في الساحة الدولية بعد رفع القضية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. وهذا التطور يستدعي قراءة موقف جنوب إفريقيا المناصر للفلسطينيين عبر نظرتها للنظام العالمي وعلاقاتها مع الغرب في ظل أزمتها الدبلوماسية مع واشنطن بسبب أوكرانيا وفي سياق احتياجاتها الاقتصادية والتنموية.

جنوب إفريقيا والنظام العالمي الجديد

تقع دولة جنوب إفريقيا في أقصى جنوب قارة إفريقيا، وهي من الدول الرائدة والمهمة إستراتيجيًّا باعتبار اقتصادها أكثر صناعية في القارة ولامتلاك البلاد ثروات طبيعية هائلة واستثمارات في بلدان إفريقية أخرى، إضافة لدورها القيادي في الاتحاد الإفريقي ومكانتها كنقطة انطلاق لتطوير فرص السوق بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ويرجع بعض ما يسهم في وضع البلاد الحالي إلى فترة بناء الدولة الجديدة التي أعقبت حقبة الفصل العنصري والتحول الديمقراطي في عام 1994 والذي أنهى استخدام البلاد كمركز غربي على حافة إفريقيا؛ حيث تحملت البلاد بعد ذلك وضعها كدولة إفريقية واعترفت بارتباطها بالجنوب العالمي، وعززت انضمامها إلى المنظمات متعددة الأطراف والاعتماد على الوساطة كأداة لحل الصراعات. وهذه النقطة واضحة في موقف حكومة البلاد بأنها غير مُلزَمة قانونيًّا بفرض أي عقوبات غربية تفتقر إلى دعم الأمم المتحدة.

وإذا كانت جنوب إفريقيا تتمتع بقوة قطاع دفاع محلي؛ حيث صدَّرت في النصف الأول من عام 2022 أسلحة نارية وذخائرة ومعدات عسكرية إلى أكثر من 70 دولة(1)؛ فإن ما يجذب الأطراف المتنازعة إليها عند اختيار وسيط للسلام والاستقرار الإقليميين والقاريين ما يُعرَف عنها كدولة محايدة في معظم الأحيان، ولتجربتها مع نظام الفصل العنصري وانتصارها عليه. وتعكس حكومة جنوب إفريقيا في موقفها من النظام العالمي شكاوى الدول الإفريقية والبلدان "النامية" الأخرى والانتقادات المناهضة للهمينة الغربية والتي تعزز مساعي انضمام هذه الدول إلى مجموعة البريكس وغيرها كبدائل محتملة للهيمنة الغربية وكفرصة لإنشاء نظام مالي أكثر عدلًا وشمولًا مما يخفف الضغوط المفروضة على العقوبات الغربية ويوفر "ترتيبات مالية بديلة" لهذه الدول التي تعرقلت تنميتها واقتصاداتها بسبب الدولار وسياسات المنظمات المالية التي تهيمن عليها الدول الغربية(2).

ومما يلاحظ في تصريحات المسؤولين والمؤسسات الحكومية بجنوب إفريقيا أنهم يرون أن النظام العالمي المثالي لن يكون بمنزلة العودة إلى القطبية الثنائية التي كانت سائدة في الحرب الباردة، أو الأحادية القطبية في فترة ما بعد الحرب الباردة. كما تنظر جنوب إفريقيا إلى القوى الجديدة والمتصاعدة مثل الصين وروسيا كحلفاء، وهو ما جعل واشنطن تعتبر بريتوريا منحازة لهذه القوى الموازية، وخاصة أن جنوب إفريقيا انضمت إلى مجموعة البريكس في عام 2010 بناء على دعوة من الصين، وتؤثر عضويتها فيها في سياستها الخارجية. بل ورغم كون البلاد أصغر عضو في البريكس من حيث الحجم الاقتصادي وعدد السكان، إلا أن وجودها مع الدول الأكبر يسمح لها بتمثيل المصالح الإفريقية وتعزيز وجودها في الساحة العالمية. وهذه النقطة الأخيرة واضحة في استضافة بريتوريا الناجحة لقمة مجموعة البريكس في عام 2023 ودعوات المجموعة لانضمام دول جديدة إليها شملت مصر وإثيوبيا(3).

علاقات جنوب إفريقيا مع الغرب والاحتياجات الاقتصادية

إن مكانة جنوب إفريقيا الإستراتيجية في إفريقيا ودورها اليوم كلاعب عالمي يوفران لها فرص تأمين مصالحها واستقلالها في اتخاذ مواقف تجاه قضايا دولية حسب سياساتها الخارجية، كما يجعلانها عرضة للتأثر بتداعيات المنافسة الجيوسياسية بين الغرب وروسيا والصين، مع الإشارة إلى أن جل علاقات البلاد مع الدول الغربية ذات طبيعة اقتصادية، بينما علاقاتها مع دول في الجنوب العالمي أكثر عمقًا، أو حتى شراكاتها مع أعضاء مجموعة البريكس مثل روسيا التي تعود علاقاتها مع حكومة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا إلى فترة الحرب الباردة عندما دعم الاتحاد السوفيتي جهود الحزب في مكافحة الفصل العنصري، بينما صنَّفت واشنطن الحزب في تلك الفترة جماعة إرهابية وترددت في تطبيق العقوبات على نظام الفصل العنصري حتى عام 1986.

وقد جاءت جهود جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بعد توتر العلاقات الدبلوماسية بين بريتوريا والولايات المتحدة حول الأزمة الأوكرانية-الروسية بين عامي 2022 و2023 عندما رفضت جنوب إفريقيا إدانة الغزو الروسي، وادَّعى روبن بريجيتي، السفير الأميركي، أن جنوب إفريقيا نقلت أسلحة إلى روسيا، وهناك تصريحات مناهضة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من قبل بعض كبار مسؤولي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم الذين رأوا أن توسع الناتو شرقًا يفاقم من عدم الاستقرار الإقليمي. بل وانتقدت واشنطن بريتوريا على التدريب البحري المشترك مع الصين وروسيا في الذكرى السنوية الأولى للأزمة الأوكرانية-الروسية، وأبدت مخاوفها من هبوط طائرة شحن روسية مملوكة لشركة خاضعة للعقوبات في قاعدة جوية بجنوب إفريقيا ورسو يخت روسي كبير خاضع للعقوبات الغربية(4).

ورغم أن جنوب إفريقيا تصف موقفها بشأن أزمة أوكرانيا بـ"الحيادية" و"عدم الانحياز" وامتنعت عن التصويت على كل قرار يتعلق بأوكرانيا تتبناه الجمعية العامة للأمم المتحدة مما يجعل بعض الدبلوماسيين الغربيين يزعمون أن جنوب إفريقيا أكثر ودية لروسيا من معظم القوى الناشئة الأخرى؛ فإن لعامل التنمية والاقتصاد أكبر الأثر في حيادية موقف حكومة جنوب إفريقيا؛ إذ تواجه البلاد عقبات أمام خطة التطور الوطنية وتباطؤ التنمية الاقتصادية، والتي تشمل انخفاض قيمة العملة وضعف الإدارة في قطاع الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر بسبب انهيار محطات الفحم القديمة وعوامل داخلية أخرى على مدى السنوات الخمس الماضية في شركة إسكوم مزود الكهرباء المملوك للدولة؛ الأمر الذي أجبر جنوب إفريقيا على البحث عن استثمارات في قطاع الطاقة وحصلت شركة إسكوم (هيئة إمدادات الكهرباء Eskom) على قروض كبيرة من بنك التنمية الصيني(5) وبنك التنمية الجديد لدول البريكس(6)، إضافة إلى التزام من الولايات المتحدة بالتعاون مع فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لحشد المنح والقروض والاستثمارات لتحويل الطاقة في البلاد(7).

ويستفيد اقتصاد جنوب إفريقيا من علاقات البلاد مع الغرب؛ إذ يمثل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ما يزيد على 77 في المئة من الاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد؛ كما يذهب حوالي 11 في المئة من صادرات جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة، ويمنح قانون النمو والفرص في إفريقيا (African Growth and Opportunity Act = AGOA) حرية الوصول إلى مجموعة متنوعة من الصناعات معفاة من الرسوم الجمركية(8). وقد انهارت بشكل مفاجئ عائدات سندات البلاد وانخفضت بشكل قياسي عملة البلاد (راند) في وجه الدولار بسبب مخاوف المستثمرين من أن الخلاف الدبلوماسي بين البلاد وواشنطن بشأن أوكرانيا سيعرض للخطر الامتيازات التفضيلية للوصول التجاري بقيمة مليارات الدولارات إلى جنوب إفريقيا.

وفي حين أن العامل الاقتصادي جعل جنوب إفريقيا تقود، في يونيو/حزيران 2023، وفد سلام إفريقيًّا مكونًا من سبع دول إلى أوكرانيا وروسيا لاقتراح اتفاق سلام، وذلك في محاولة لتقليل الاحتكاك مع الغرب؛ فإن حكومة البلاد تدرك أيضًا أن الحفاظ على تطورها التنموي والتكنولوجي مرتبط بعلاقاتها مع قوى دولية أخرى؛ حيث مثلت تجارة البلاد في عام 2021 مع جميع دول البريكس 17 في المئة من صادرات جنوب إفريقيا و29 في المئة من وارداتها(9)، وتشكل الصين والهند 73 في المئة و21 في المئة من هذه التجارة على التوالي، كما يبلغ معدل النمو السنوي للتجارة مع روسيا 9.2 في المئة(10).

جنوب إفريقيا والحرب على غزة

من خلال ما سبق يمكن القول: إن أحد التفسيرات حول اهتمام جنوب إفريقيا بما يحدث في غزة نابع من العديد من التجاوزات وعدم التوازن في السياسة الدولية ومبادئها، ومرتبط بموقف صنَّاع السياسات في البلاد من ضرورة رؤية نظام عالمي أكثر تعددية تحصل فيه دول الجنوب العالمي على مكانة تنفيذية وتحظى حقوقها وقضاياها المهمشة باهتمام وفرص عادلة. هذا بالإضافة إلى المشاعر القوية الداعمة للقضية الفلسطينية داخل جنوب إفريقيا نتيجة العلاقة الطويلة بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في البلاد ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي علاقة تعود إلى حقبة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حيث دعمت إسرائيل نظام الفصل العنصري وتاجرت معه بالأسلحة، بينما دعمت منظمة التحرير الفلسطينية المقاومين في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي.

وقد كان موقف زعماء جنوب إفريقيا ثابتًا تجاه القضية الفلسطينية، بدءًا من الزعيم نيلسون مانديلا، أول رئيس منتخب ديمقراطيًّا في جنوب إفريقيا، الذي صرَّح بعد شهور من إطلاق سراحه من سجن الفصل العنصري في عام 1990، بأن زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، "رفيق السلاح"، وشبَّه منظمة التحرير الفلسطينية بـ "السُّود" في جنوب إفريقيا وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذين كانوا يقاتلون من أجل حق تقرير المصير(11). وهو الموقف نفسه الذي أكده المناضل السابق والرئيس الحالي، سيريل رامافوزا، في 14 يناير/كانون الثاني الماضي (2024)، أثناء احتفال حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بالذكرى الـ112 لتأسيسه كحركة تحرير(12). بل وكرر قادة الحزب الآخرون تصريحًا مماثلًا قائلين: إن هجوم حماس، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان نتيجة لاستفزازات الحكومة الإسرائيلية وسياسييها وإنه من المنطقي أن ترد المنظمات الفلسطينية على تلك التجاوزات والاستفزازات التي تتجاهلها المنظمات الدولية وحلفاء إسرائيل.

وباعتبار تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي جعلت الحياة لا تطاق في ظل الحصار الإسرائيلي؛ ترى حكومة جنوب إفريقيا أن الوضع في فلسطين يعكس ما مرَّ به "السود" سابقًا تحت الفصل العنصري الذي أُنْشِئ في عام 1948 (أي في الفترة نفسها التي ظهرت فيها دولة إسرائيل). وهذا يعني أن النسبة الكبرى من سكان جنوب إفريقيا المؤيدين للقضية الفلسطينية ينظرون للموضوع نظرة أخلاقية ويرون أنه يصب في مبادئ بلادهم والتزاماتها الإنسانية، ولذلك نظموا، منذ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023، احتجاجات ومسيرات رفضًا للهجمات الإسرائيلية والاستهداف المتواصل للمستشفيات، وأبدت عدة منظمات غير ربحية في البلاد استعدادها لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة، كما كثفت الضغط على إدارة رئيسهم رامافوزا للتحرك نحو الانتصار للفلسطينيين في المنتديات الدولية.

وعلى ما سبق، كان توجه جنوب إفريقيا نحو محكمة العدل الدولية مطلبًا شعبيًّا أكدته التصريحات والتحركات من عدة شخصيات مؤثرة في البلاد، إلى جانب الضغوطات من الأحزاب السياسية المختلفة، واعتماد البرلمان، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اقتراح حزب "المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية" المعارض بإغلاق السفارة الإسرائيلية في جنوب إفريقيا، وطلب نواب من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم من البرلمان تعليق علاقات البلاد الدبلوماسية مع إسرائيل إلى حين وقف إطلاق النار وحتى التزام إسرائيل بمفاوضات ملزمة من الأمم المتحدة.

وعلى مستوى قارة إفريقيا، كانت جنوب إفريقيا والجزائر في طليعة الدول الإفريقية التي تقود حملات إفشال مساعي إسرائيل للانضمام إلى الاتحاد الإفريقي والحصول على صفة مراقب؛ حيث اتخذ موسى فكي محمد، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، في عام 2021، قرار منح إسرائيل صفة مراقب دون استشارة أعضاء الكتلة القارية، فاحتج الأعضاء المعارضون للقرار بقيادة جنوب إفريقيا والجزائر ودول أخرى، وهو ما أدى إلى تعليقها وتشكيل لجنة لمراجعتها. ورغم أن إسرائيل وجهت عددًا من الاتهامات لجنوب إفريقيا، بما في ذلك الادعاء بأن بريتوريا تعمل على تعزيز الأجندة الإيرانية، فإن موسى فكي الذي منح إسرائيل صفة مراقب، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبح يدعم جهود دعم القضية الفلسطينية كأنه أعاد النظر في خططه لتعزيز الوجود الإسرائيلي في الاتحاد الإفريقي، وبالتالي الانضمام إلى المشاعر العامة المؤيدة لفلسطين في القارة(13).

ويضاف إلى ما سبق أن توجه جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية كان لتحقيق هدفين رئيسين(14): الهدف الأول قصير المدى وتمثل في وقف التدمير المنهجي للمنازل والمدارس والمستشفيات والحياة البشرية في غزة مع زيادة المساعدات الإنسانية إلى القطاع والحفاظ على الأدلة على احتمال وقوع الإبادة الجماعية. والهدف الثاني طويل المدى ويشمل استخدام جنوب إفريقيا والدول المؤيدة لها نتائج محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة لكبح استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والتوصل إلى عمليات للتحقيق في الجريمة ومحاسبة مرتكبي الإبادة الجماعية بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1948، إضافة إلى تحقيق حل الدولتين مع احترام حدود عام 1967.

وبالرغم من أن حكم محكمة العدل الدولية تحاشى اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الدولية في غزة، وأن القاضية الأوغندية، جوليا سيبوتيندي، اعترضت على جميع الإجراءات المؤقتة الستة التي وافقت عليها محكمة العدل الدولية وصوَّتت برفض عدد من التدابير أكثر من القاضي الذي عيَّنته إسرائيل للقضية؛ إلا أن قرار المحكمة جعل العديد من دول الجنوب العالمي تشعر بأنها قادرة على توصيل أصواتها وقضاياها للمرة الأولى في المنتديات الدولية وضد الغرب أو القوى التي يدعمها. ولذلك فاز تحرك جنوب إفريقيا نحو المحكمة بثناءات الحكومات المتعددة في جميع أنحاء الجنوب العالمي (أو الدول النامية)، بما في ذلك بنغلاديش وناميبيا وغيرهما من الدول التي انتقدت ازدواجية المعايير الغربية.

ما بعد حكم محكمة العدل الدولية: تداعيات وتوقعات

يرتبط أول تداعيات حكم محكمة العدل الدولية بشأن الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل بالعلاقات الثنائية بين الجانبين (أي جنوب إفريقيا وإسرائيل)؛ حيث تعد بريتوريا أكبر شريك تجاري لإسرائيل في إفريقيا وبلغت قيمة التجارة بينهما في عام 2021 حوالي 285 مليون دولار، أي ثلث إجمالي تجارة إسرائيل مع إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وهذا يعني أن التجارة بينهما لن تكون كما كانت عليه قبل توجه جنوب إفريقيا إلى لاهاي، وخاصة أن التطورات جعلت بريتوريا أيضًا في مواجهة الدول الغربية التي تدعم الحرب الإسرائيلية على غزة، كما جعلتها في عداء مبطن مع بعض الدول العربية التي تدعي "الحيادية" أو تحمِّل حركة حماس مسؤولية الخسائر في قطاع غزة؛ إذ جاءت تحركات بريتوريا عندما كان بعض دول الخليج تحاول التفاوض على اتفاقيات مع إسرائيل دون اعتبار موقف الفلسطينيين، وفي ظل تراخي الدول القوية الداعمة للقضية الفلسطينية -مثل باكستان وإندونيسيا-.

ومن تداعيات التوجه نحو لاهاي أن حكومة جنوب إفريقيا وجدت نفسها الآن أمام المنظار أو الميزان الدوليين، وفي وجه الشكوك في نواياها أو "نفاقها" لإبقاء علاقاتها مع إسرائيل وتعزيزها في السنوات الأخيرة رغم دعمها للقضية الفلسطينية، ووصف جهودها في أعلى المحاكم الدولية بالبحث عن النفوذ الدولي واستغلال الفلسطينيين لتحقيق أجندات خاصة بين المجتمع الدولي بل في حين وصف وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل أمام المحكمة بأنها "تشتت انتباه العالم" و"لا قيمة لها" وتؤدي إلى نتائج عكسية ولا أساس لها(15)، فقد اعتبرتها إسرائيل كالذراع القانونية من جنوب إفريقيا لحركة حماس.

وتلك الشكوك أدت أيضًا إلى انتقاد البعض ما أسموه مواقف متناقضة من جنوب إفريقيا حول قضايا حقوق الإنسان الدولية؛ قائلين: إن بريتوريا حَمَت واستضافت شخصيات ومسؤولي حكومات معروفين بانتهاكهم لحقوق الإنسان أو ارتكاب جرائم حرب، مثل امتناع جنوب إفريقيا عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول سوريا في عام 2011، ورفضها اعتقال الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، في عام 2015، على أراضيها عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه، وزيارة ناليدي باندور، وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى إيران ولقائها بمسؤولي النظام الإيراني، إضافة إلى استقبال الرئيس، سيريل رامافوزا، بمحمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يقود قوات الدعم السريع المنخرطة في القتال مع القوات المسلحة السودانية وهو أيضًا من قاد ميليشيات الجنجويد المتهمة بارتكاب إبادة جماعية في دارفور بين عامي 2003 و2005.

وباعتبار أن جهود جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية جاءت بعد الأزمة الدبلوماسية والخلاف بين واشنطن وبريتوريا بشأن أوكرانيا؛ يُتوقع أن تتراجع علاقات بريتوريا مع بعض الدول الغربية، وخاصة واشنطن التي تزعم لوبياتها الموالية لإسرائيل والصهيونية أن القضية بمنزلة ازدراء للغرب. وتدعم هذا تحركات بعض السياسيين الأميركيين(16) المطالبين بمراجعة العلاقات الثنائية مع بريتوريا عبر تقديم مشروع قانون إلى الكونغرس الأميركي في فبراير/شباط الماضي. وطلب الكونغرس من إدارة الرئيس بايدن تقديم إحاطات منتظمة وشاملة حول المواضيع المتعلقة بجنوب إفريقيا لمعرفة الطرق الإستراتيجية المناسبة للتعامل معها، وهناك من المشرعين الأميركيين من رأوا سعي جنوب إفريقيا لتحقيق العدالة للفلسطينيين يهدد أمنهم الوطني.

وقد أثارت القضية الفظائع التاريخية وجرائم الاستعمار الغربي في مختلف أنحاء العالم، كما أن هناك مؤشرات على أن قرار محكمة العدل الدولية رغم افتقاره إلى سلطة التنفيذ سيجبر واشنطن على الضغط على إسرائيل للامتثال لبعض التدابير المؤقتة للحكم أو التوقف عن بعض التجاوزات التي تدينها الدول الداعمة للقضية الفلسطينية. وهذا يعني أن تظاهر الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا بعدم جدوى قضية جنوب إفريقيا في لاهاي مجرد محاولة للتقليل من آثارها فقط؛ إذ تؤشر على خلاف ذلك تصريحات المشرعين والسياسيين الأميركيين، وتعليق عضوية أحد الساسة من حزب العمال البريطاني بسبب تلميحه إلى أن قصف غزة يرقى إلى مرتبة الإبادة الجماعية، بل وتكشف تلك المحاولة عن زاوية أخرى متثملة في أن دول الجنوب العالمي أصبحت على يقين بأن الغرب وإدارة بايدن يهتمان فقط بأجندة الديمقراطية وقدسية حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا أو يدعم الهيمنة الغربية.

هذا، وخفضت جهود جنوب إفريقيا من الهيبة الإسرائيلية المعتادة على المستوى الدولي وسهَّلت للآخرين اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم في إطار دولي رسمي حتى وإن كانت بريتوريا في المقابل تتحمل تبعات جرأتها اقتصاديًّا مما سيدفعها للميل أكثر نحو روسيا والصين لتحقيق أهدافها التنموية ومشاريع البنية التحتية الضخمة. ويؤكد على وقوع التبعات ما كشفته وزيرة خارجية جنوب إفريقيا من أن المخابرات الإسرائيلية تحاول "تخويف" بلادها اقتصاديًّا بعد قضيتها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، وأن بعض المشرعين الأميركيين اتخذوا موقفًا "سلبيًّا للغاية" ضد بريتوريا في أعقاب القضية ويستغلون مكانة واشنطن لشن حرب وتضييق آفاق الاستثمار والتوظيف في بلادها.

ومن المتوقع أيضًا أن تعزز جهود جنوب إفريقيا موقفها كصانع السلام الجديد على الساحة العالمية، كما ستشجع الحكومات في الجنوب العالمي على معارضة واشنطن والدول الغربية الأخرى وتحديها علنًا في إطار قانوني دولي حول القضايا العالمية. وهناك بوادر ظهور تحالف جديد يمكن ملاحظته عبر ما حظي به قرار إحالة القضية الفلسطينية إلى المحكمة الدولية من دعم قوي من دول الجنوب العالمي، وما قدمته إندونيسيا من شكوى جديدة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية وخطط تشيلي والمكسيك لاتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب مشتبه بها، والموافقة على قرار يدعو إلى وقف سريع لإطلاق النار في مؤتمر حركة عدم الانحياز. كما يتوقع تزايد الضغط لإصلاح الأمم المتحدة لأن فشلها من العوامل الرئيسية الدافعة للجوء جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، ويزداد الشعور العام بأن تفاقم الأزمة الفلسطينية الجارية مرتبط بعدم فاعلية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بسبب الدول التي تستخدم حق النقض.

أما على المستوى المحلي والداخلي بجنوب إفريقيا، فإن تداعيات القضية ضئيلة نظرًا للدعم الساحق الذي تحظى به تحركات حكومة البلاد في لاهاي. ومع ذلك، خضعت إدارة الرئيس رامافوزا لانتقادات لاذعة من بعض مواطنيه الذين رأوا أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم يحاول كسب نقاط محلية بسبب الانتخابات القادمة في البلاد، وأنه يتقفى أثر مانديلا من حيث السياسة الخارجية لكي يحظى بإشادات مواطني البلاد كرجل دولة رغم ما اكتسح البلاد من الأداء الاقتصادي الضعيف وفضائح الفساد الحكومي وأزمة الطاقة وانهيار البنية التحتية وانخفاض جودة الخدمات رغم مرور قرابة 30 عامًا على الديمقراطية في البلاد. ومن بين المنتقدين لموقف حكومة رامافوزا من الحرب الإسرائيلية في غزة؛ حزب التحالف الديمقراطي ذو الأغلبية "البيضاء" وأكبر حزب معارض في جنوب إفريقيا والذي يتودد إلى الغرب وانتقد بريتوريا بشأن الصراع الأوكراني-الروسي. إضافة إلى بعض القطاعات المؤيدة للصهيونية من السكان والتي وصفت سعي البلاد نحو محكمة العدل الدولية بأنه "حيلة" لجذب انتباه وسائل الإعلام وأن الحكومة لم تفهم حقيقة الصراع الحالي أو القانون الدولي وأنها لم تدرك أن المصلحة في إيجاد حل سلمي له.

خاتمة

من خلال ما سبق يمكن القول: إن مواقف جنوب إفريقيا من القضية الفلسطينية لم تكن وليدة اليوم، وأن توجهها نحو محكمة العدل الدولية لاتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة ضد الفلسطينيين يدخل في إطار نهج بريتوريا لإيجاد نظام دولي جديد يكون لدول الجنوب العالمي نفوذ ومكانة فيه. وقد أشعرت خطوة بريتوريا العديد من مؤيدي القضية الفلسطينية بأن صوتهم مسموع في مؤسسة قانونية دولية، وكشفت المعايير الغربية المزدوجة في مزاعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ورغم أن تصريحات مسؤولي جنوب إفريقيا وتحركاتهم الدولية تفيد بأنهم غير مثقلين بمخاوف القوى الإقليمية والدولية الكبرى المتنافسة أو التي لها مصالح خاصة مع إسرائيل، فإن تطورات ما بعد رفع القضية إلى المحكمة تفيد بأن السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا وعلاقاتها مع الغرب وحلفاء إسرائيل ستتأثران نتيجة وقوع البلاد في الخطوط التي تجمع المصالح الجيوسياسية والأمنية بين الشرق والغرب. وهذا ما كشفته بالفعل الانتقادات الغربية لجنوب إفريقيا بسبب التدريبات البحرية المشتركة في 2023 مع الصين وروسيا في المحيط الهندي (رغم أن بريتوريا تجري تدريبات مشتركة منتظمة مع العديد من الدول، مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والبرازيل والهند وكوبا ودول إفريقية أخرى).

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- “SA arms and ammunition worth R1.4 billion plus exported in first half of 2022”. DefenceWeb، 8th September 2022، https://shorturl.at/BLSU5 (visited on 10 March 2024)

2- حكيم ألادي نجم الدين، "أميركا وجنوب إفريقيا والحرب الروسية الأوكرانية"، مركز الجزيرة للدراسات، 10 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 10 مارس/آذار 2024)، https://shorturl.at/tGQV9

3- Global Memo. “The BRICS Summit 2023: Seeking an Alternate World Order?”. Council on Foreign Relations، https://shorturl.at/tAJOY (visited on 10 March 2024)

4- Christopher S. Chivvis،  Zainab Usman، and Beatrix Geaghan‑Breiner. “South Africa in the Emerging World Order”. Carnegie Endowment for International Peace، 21 December 2023، https://shorturl.at/iCMR6 (visited on 10 March 2024)

5- Sibongile Khumalo. “Eskom’s R33.4bn loan deal with China Development Bank”. Mail & Guardian، 24 July 2018، https://shorturl.at/jPXY3 (visited on 10 March 2024)

6- “Project Finance Facility for Eskom”، New Development Bank، https://shorturl.at/bnAOQ (visited on 10 March 2024)

7- Antony Sguazzin and Loni Prinsloo. “Billions in Climate Funds Face Uncertain Future in South Africa”. Bloomberg، 18 February 2022،  https://shorturl.at/gjnA9 (visited on 10 March 2024)

8- “No more AGOA – what does that mean?”. Access Bank South Africa، 6 June 2022، https://shorturl.at/bemxS (visited on 10 March 2024)

9- Cyril Ramaphosa. “BRICS partnership has great value for South Africa". News24، 20 Jun 2022، https://shorturl.at/mpuxz (visited on 10 March 2024)

10- Len Ishmael. “South Africa: Pursuing Multialignment and Striving for Multipolarity”. German Marshall Fund، 02 May 2023، https://shorturl.at/kqILN (visited on 10 March 2024)

11- Clifford J. Levy. “Mandela: Israel should exist، but Arafat a 'comrade in arms'”. United Press International، 12 June 1990، https://shorturl.at/aciO4 (visited on 10 March 2024)

12- “Address by ANC President Cyril Ramaphosa on the 112th Anniversary of the ANC”. African National Congress، 13 January 2024، https://shorturl.at/eqO05 (visited on 10 March 2024)

13- حكيم ألادي نجم الدين، "طوفان الأقصى وجديد مواقف إفريقيا جنوب الصحراء تجاه القضية الفلسطينية"، مركز الجزيرة للدراسات، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 12 مارس/آذار 2024)، https://shorturl.at/ejZ49

14- Niren Tolsi. “For South Africa، defending Palestine is personal”. openDemocracy، 24 January 2024، https://shorturl.at/gmnsC (visited on 12 March 2024)

15- Ellen Mitchell. “Blinken calls genocide case against Israel ‘meritless’”. The Hill، 9 January 2024، https://shorturl.at/eqwzI (visited on 12 March 2024)

16- Brooke Anderson. “Hundreds in US congress condemn South Africa's genocide case against Israel”. The New Arab، 25 January، 2024، https://shorturl.at/oDTX1 (visited on 12 March 2024)