تنشغل مراكز الدراسات والأبحاث الأمنية هذه الأيام في تناول ما حدث مؤخرًا في خط الصراع بين إيران وإسرائيل، وتداعيات إخراج شق حيوي من معارك المناطق الرمادية إلى ساحة المعلن الرسمي، والانتقال خطوة واحدة حذرة من الضرب أمنيًّا في الظل إلى الاستهداف عسكريًّا في العلن.
في خط الصراع بين إيران وإسرائيل صعودًا وهبوطًا، يمكننا حصر 5 مستويات يبدو أنها هي من تحكم وتتحكم في ديناميكية المواجهة في ساحاتها الأهم. أحيانًا تكون هناك حالة واضحة وعلنية من الترابط بين هذه المستويات يسهُل معها التحليل والاستقراء، لكنه وفي أحيان كثيرة يكون ترابطًا غامضًا وغير معلن. أما المستويات فهي:
- الأمن القومي الإيراني كحالة شبه نادرة في طريقة بنائه بشكل مربعات أفقية وخطوط دفاع متتابعة، أكثر منه كحالة مكتملة ومتكاملة بشكل مركزي.
- النفوذ الإيراني الإقليمي متعدد الجبهات باعتباره الغطاء الأهم والسميك الذي يحصِّن مفهوم الأمن القومي لإيران كدولة إقليمية.
- التناقض البنيوي والمباشر بين أمن إيران القومي والأمن القومي الإسرائيلي، بحيث إن العلاقة هنا عكسية، نجاح أحدهما وقوته يعني تراجع الآخر وضعفه.
- البرنامج النووي الإيراني الذي يستمر في النضوج في حضن الأمن القومي بشكله الراهن، باعتباره البديل الوحيد لإيران حين نتحدث عن أمن قومي بديل حال رأت طهران أن قواعد أمنها القومي الراهن لم تعد فعالة وأن خيارها النووي نضج كليًّا.
- المحدد الأميركي في سياق هذه المستويات من جهة أنه ملتزم بأمن إسرائيل وبمنسوب معين من مواجهة إيران في مساحات نفوذها، لكن دون الذهاب إلى حرق جنوني لنفوذ إيران الإقليمي كونه الغطاء السميك لأمنها القومي لأن ذلك إن حدث ربما يدفع طهران لتفعيل البديل، أي الاتجاه نحو تحقيق ردع نووي، وهذا بحد ذاته سيعيد بناء نفوذ إيراني جديد يُعتقد أنه سيكون أكثر قوة واتساعًا.
قصف القنصلية والاختبار الصعب
لم تقرأ إيران قصف قنصليتها في دمشق من قبل إسرائيل على أنه يمثل فقط ضربًا مباشرًا للسيادة الوطنية وهيبة البلاد، واستمرارًا لمفاعيل حروب المناطق الرمادية وسلسلة الاغتيالات المتتابعة، بل تجاوزت هذه القراءة حين وضعت ما جرى في صيغة أنه اختبار إسرائيلي حقيقي لإيران في المستويات الخمسة التي ذكرناها أعلاه، أي إنه تحرك عسكري في المساحة الإستراتيجية لتحقيق هدف أكبر وأعمق. يمكن تشريح قراءة طهران لما جرى في 3 اتجاهات أساسية:
- "بروفة" مميتة تختبر الحدود النهائية لصبر طهران، وتؤشر إلى أن إسرائيل تختبر أيضًا نضوج إستراتيجيتها التي اعتمدتها لسنوات والقائمة على مبدأ المعركة بين الحروب، أو القتل بألف طعنة. التقدير في طهران يشير إلى أن إسرائيل كانت تراقب هذا النضوج واقعيًّا، وفي حال ابتلعت طهران الضربة واستمرت في معارك الظل سيكون ذلك مؤشرًا على أن ما تبقى هو فقط الطعنة الأخيرة، أي الهجوم المفاجىء الذي سيستهدف الشق الحيوي من البرنامج النووي الإيراني بعد تهشيم نفوذ إيران الإقليمي.
- فعل إسرائيلي علني ومباشر يريد تثبيت فكرة فقدان طهران لآليات الردع في ظل انكشاف نفوذها وتموضعها إقليميًّا، وأن تفكير طهران بالحاجة الملحَّة لإعادة التموضع مجددًا داخل سوريا أمنيًّا وعسكريًّا غير مجد. هذا المنطق فُهم في طهران بأنه تمهيد الأرضية لتحرك أكبر وأكثر إستراتيجية.
- إصرار إسرائيل على إخراج شق حيوي ومهم من حربها مع إيران من مساحات الظل إلى ساحة العلن وتوجيه الضربات عسكريًّا، قرأت طهران ذلك بأنه مفهوم جديد في سياقات الردع بين الطرفين هدفه ترجيح كفة إسرائيل ومشروعها في الإقليم.
بناء على هذه المعطيات جاء التقدير الإيراني بأن استهداف القنصلية هو الخطوة الأولى في إطلاق سلسلة هذا التفاعل، وأن إيران بحاجة سريعة لبلورة فعل مضاد غير تقليدي، ولتحقيق ذلك بنت طهران رؤية تقوم على مبدأين:
- لابد من نزول معلن ورسمي وواضح إلى حلبة الملاكمة مع إسرائيل وتسديد ضربة رادعة في العلن وأمام الجمهور وتبني ذلك رسميًّا، والهدف هنا هو صك مفهوم ردع جديد في سياقات ما يجري وليس بناء معادلة ردع جديدة كليًّا.
- لابد من تحصين وازن لأي تحرك إيراني معلن، ولهذا تُبع الرد الإيراني برفع غير مسبوق لسقف التهديد، تزامنًا مع تلميح إيراني علني ورسمي بإمكانية مراجعة العقيدة النووية للبلاد وذلك بهدف تحصين مفهوم الردع الجديد.
الرد الإيراني ومركزية الهدف
صُمِّم الرد الإيراني وفق 5 اعتبارات أساسية، وهي أن يكون:
- ضخمًا من حيث الشكل.
- مدروسًا ومحدودًا في النتائج المباشرة.
- ملغمًا برسالة قوية في المضمون.
- رادعًا إستراتيجيًّا في هدفه المركزي.
- دون دماء.
يبدو الاعتبار رقم 4 أي الردع الاستراتيجي كهدف مركزي الأكثر أهمية في كل ما جرى، والذي تمثل عمليًّا في معطيين اثنين:
- وصول عدد من الصواريخ الإيرانية إلى مطار رامون العسكري وقاعدة نفاتيم الجوية في النقب جنوبًا كرسالة غير دموية مفادها أن طهران قادرة على الوصول إلى منشأة ديمونا النووية في حال قررت استخدام أنواع أخرى من الصواريخ والمسيرات أكثر تطورًا.
- إسقاط الخط الأحمر الأخير القائم على حرمة استهداف إسرائيل انطلاقًا من الأراضي الإيرانية، وتثبيت مفهوم جديد أن ضرب إسرائيل باليد العسكرية الإيرانية وفي ساحات العلن لم يعد محرمًا.
وفي الإجابة على سؤال: ما الهدف من ذلك؟ يبرز التقدير الإيراني بأن إسقاط الخط الأحمر الأخير الذي تحدثنا عنه أعلاه في معادلة الصراع مع إسرائيل دون تحقيق ردع حقيقي في مساحة البرنامج النووي كان سيُبقي الاحتمال قائمًا بأن تقوم إسرائيل بالرد على الرد الإيراني عبر ضرب منشأة نووية إيرانية، وذلك بهدف استعادة الردع الإستراتيجي بعد استهداف العمق الإسرائيلي إيرانيًّا بشكل رسمي. وهذا ربما يُفسر أن جزءًا من الرد الإيراني صُمِّم لصناعة مفهوم ردع خاص بالبرنامج النووي.
الرد الإسرائيلي المضاد
جاء الرد الإسرائيلي المضاد على الرد الإيراني مؤطَّرًا بنفس المعطيات تقريبًا، لكن بفارق مهم يتعلق بعدم وجود تبنٍّ رسمي إسرائيلي، أما أهدف هذا الرد فيمكن حصرها بالتالي:
- رادعًا للرد الإيراني من بوابة النووي.
- ملغمًا برسالة ضمنية مهمة.
- نظيفًا دون دماء.
- دون استعرض في الشكل.
- دون تبنٍّ علني ورسمي.
ما جرى في أصفهان، وإن لم تتبنَّه إسرائيل رسميًّا ولم تتعاط معه طهران باعتباره ردًّا إسرائيليًّا يستحق الاهتمام، لكن الجميع وضعه في قالب أنه رد استهدف قاعدة جوية تضم منظومة صواريخ دفاع جوي تلعب دورًا مهمًّا في حفظ وحماية منشأة نطنز النووية. والرسالة الضمنية هنا -دون تبنٍّ رسمي معلن- هي أن اليد الإسرائيلية قادرة على الوصول إلى شق مهم من المنشآت النووية الإيرانية إذا ما أرادت ذلك.
استشراف القادم
في التقييم الأولي لما جرى، وكنوع من الاستشراف، يمكننا إدراج المعطيات أدناه في محاولة لرسم ملامح المرحلة المقبلة والمحددات التي ستحكم المواجهة بين إيران وإسرائيل وكسر الخطوط الحمر الذي حصل مؤخرًا بين الطرفين:
- نتيجة مباشرة: لن ننتظر طويلًا لنرى عودة الطرفين إلى معارك الظل، والمساحات الرمادية، بيد أنها عودة ربما تكون مختلفة، فالترجيح أنها ستكون أكثر دموية في مضامينها، وأكثر ضراوة في أفعالها القائمة على الضرب بالعصا الأمنية والاغتيالات، فضلًا عن إدخال محدد جديد هو الضرب النظيف في المناطق المحرمة.
- إقليميًّا في مساحات النفوذ: ستبني إيران على نتائج ردها وضرب العمق الإسرائيلي انطلاقًا من أراضيها، وستستثمر في مفهوم الردع الإستراتيجي الجديد لتنتقل خطوة إلى الأمام. إسرائيل من جهتها ستواجه ذلك بشكل مباشر ودون تردد، بمعنى أننا سنرى معركة كسر عظم عنوانها: من خرج منتصرًا من المواجهة العلنية الأخيرة؟ وربما يكون أول مؤشرات هذا التوجه يتمثل بالنقاط التالية:
- انتقال حزب الله في معركته الراهنة مع إسرائيل إلى حالة معينة من الهجوم بسقف يكون مؤثرًا ومؤلمًا لإسرائيل عسكريًّا وبشريًّا وأمنيًّا، وذلك عبر استخدام الحزب لأسلحة وتكنولوجيا لم يتم استخدامها من قبل، خاصة فيما يتعلق بالقذائف الدقيقة، وتكنولوجيا الطائرات المسيرة، والصواريخ الدقيقة قصيرة المدى. المرجح أيضًا أن إسرائيل ستواجه ذلك بقدر كبير من القوة والضرب العنيف، لأن تثبيت هذا المعطى يعني خسارة بعيدة المدى لإسرائيل.
- ستتوجه إيران لإعادة تموضعها عسكريًّا وأمنيًّا في سوريا، وذلك بعد ضربات واغتيالات متتابعة قامت بها إسرائيل وسبَّبت خسائر بشرية كبيرة، ستفعل طهران ذلك لاعتبارات كثيرة من بينها اختبار وتثبيت نتيجة ردعها الأخير، وهذا يتطلب أيضًا شكلًا ما من ترتيب العلاقة مع النظام السوري والوجود الروسي هناك. مقابل ذلك ستجمع إسرائيل بين الضرب أمنيًّا وعسكريًّا والتفكير في مغازلة موسكو والتقرب منها، فضلًا عن إبقاء الشرخ قائمًا بين شق من النظام السوري وإيران وتعميق هذا الشرخ بالفعل الأمني والعسكري.
- من مصلحة إيران إعادة ضبط العلاقة بينها وبين بقية حركات وأقطاب محور المقاومة وجمهوره عند محدد أنها هي من ضربت العمق الإسرائيلي جهارًا وتبنَّت ذلك رسميًّا. هذا محدد مهم سواء لطهران أو لبقية أعضاء المحور بعد أن بات جزء من المحور ينظر إلى مبدأ "الصبر الإستراتيجي" الإيراني نظرة سلبية.
- من غير المرجح أن نرى تغييرات عميقة في إستراتيجية الحرس الثوري بالمعنى الإقليمي في خط المواجهة مع إسرائيل، حتى وإن كان الحرس يرى فيما جرى أنه يؤمِّن مظلة جديدة لعودة ضباط وقيادات فيلق القدس في الحرس الثوري للحركة في ساحات النفوذ وفق عملية رادعة مع إسرائيل بمعناها الإستراتيجي.
لا ننسى هنا أن نضيف أن المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل قدمت سببًا جديدًا لتثبيت الاعتقاد القائل بأن إسقاط الاتفاق النووي مع إيران كان خطأ إستراتيجيًّا، فالمواجهة الأخيرة دلَّلت مجددًا على أهمية وجود هذا الاتفاق ولو جزئيًّا كونه يلعب دورًا بارزًا كمحدد ضابط لسياقات المواجهات في الشرق الأوسط. وعليه، فمن المرجح أن نرى صيغة ما من جهود أميركية-إيرانية تتناول إمكانية إحياء جزء من الاتفاق السابق أو السعي لعقد صيغة جديدة ما في هذا الاتجاه. عمليًّا، سيكون ذلك صعبًا للغاية فالظروف الراهنة إقليميًّا ودوليًّا ومحليًّا في كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية غير مهيأة لإحياء الاتفاق القديم الذي مات حرفيًّا، أو لعقد اتفاق جديد، لكن مقابل ذلك ربما باستطاعة واشنطن وطهران ضبط عدادات الانفلات شرق أوسطيًّا عند مؤشر تحييد النووي الإيراني إلى حين، شرط عدم تقدمه أو تطويره خارج السياق المقبول.