"اليوم التالي": ترتيبات متدافعة لمستقبل قطاع غزة

تضاربت المقترحات لمستقبل قطاع غزة بعد وقف العمليات الحربية، بين إعادة احتلاله مباشرة، وتولي فصائل المقاومة شؤونه، ويتوسطهما، مقترح تسليم أمره لسلطة محلية مرتبطة بالسلطة الفلسطينية مدعومة عربيًّا، لكن العامل الحاسم في رجحان أحدها هو قدرة المقاومة على هزيمة الاحتلال.
أداء المقاومة يتحكم في اليوم التالي بغزة (الجزيرة)

خلال الأسابيع الأولى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أخذت إدارة بايدن في تسريب توقعات بأن الحرب لن تستمر إلى ما بعد نهاية العام أو عطلة بداية العام الجديد. كان هدف تلك التسريبات في الحقيقة الضغط على الحلفاء الإسرائيليين وحثهم على تجنب إطالة زمن الحرب. رأى الأميركيون أن الإسرائيليين لا يخوضون حربًا لتدمير حماس، كما يعلنون، بل حربًا انتقامية، وحشية، قد تصل عواقبها الولايات المتحدة نفسها بصفتها الداعم الرئيس والشريك غير المباشر في الحرب. كما حسبت واشنطن أن "لا عقلانية" القيادة السياسية الإسرائيلية وآلة حربها توشك أن توقع الحليف الإسرائيلي في مستنقع استنزاف لا مخرج منه، وأن توقع إدارة بايدن في مأزق انتخابي يصعب التخلص منه.

قال الأميركيون للقادة الإسرائيليين أن ليس ثمة حرب إلا وتنتهي بتصور سياسي، باتفاق تفاوضي ما، أو بمشروع سياسي، وأن عليهم أن يقدموا تصورهم لما سيكون عليه الأمر في غزة في اليوم التالي لوقف إطلاق النار. ولكن، وبالرغم من أن عددًا من أعضاء حكومة الحرب الإسرائيلية، أعربوا عن قبولهم للنصيحة الأميركية، إلا أن رئيس الحكومة، نتنياهو، رفض البحث في نهاية للحرب، ورفض مناقشة اليوم التالي. كلما تطلب الأمر، أعاد نتنياهو تكرار دعوته إلى استمرار الحرب حتى اقتلاع حماس من غزة، واستعادة المحتجزين، وما يصفه بتحقيق النصر المطلق. وهكذا استمرت الحرب، استمرت لما بعد عطلة رأس السنة، وما بعد عطلة عيد الفصح، استمرت إلى ما بعد شهرها السابع، ولم تزل.

ولكن الواضح أن الجيش الإسرائيلي، وعلى الرغم من حجم الدمار الهائل الذي أوقعه بمدن قطاع غزة وقراه ومخيمات لاجئيه، ومن المجزرة التي أوقعها بسكانه، لم يستطع اقتلاع حماس، ولا استعادة المحتجزين الإسرائيليين، ولا تحقيق "النصر المطلق". في عدد من المناطق التي اجتاحها الجيش الإسرائيلي، وذكر أنه نجح في تدمير بنية حماس التحتية وكتائبها المقاتلة فيها، عادت غرف عمليات المقاومة إلى عملها بمجرد خفض وتيرة القتال في المنطقة. كما عادت البلديات وأجهزة وزارة الداخلية إلى العمل بما توافر لها من أدوات وإمكانيات، وبدأ أهالي المنطقة الذين غادروها خلال اشتداد المعارك والقصف العودة إلى أحيائهم المدمرة. ولم تلبث القوات الإسرائيلية أن أُجبرت على العودة إلى بيت حانون، في جباليا ومعسكر جباليا، وفي الزيتون، التي كانت أعلنت مسبقًا عن إنجاز المهمة فيها.

هذا الإخفاق، وليس الضغط الأميركي، ما فجر الجدل من جديد حول "اليوم التالي". ولم يقتصر الجدل على وزراء ونواب كنيست، وحسب، بل واتسع نطاقًا إلى قادة عسكريين وإلى أهالي الجنود. وصف بيان لمئات من أهالي الجنود الحرب بالعبثية، وأشار إلى أن الجنود يواجهون الموت من جديد في مناطق قاتلوا فيها من قبل وحسبوا أنهم حققوا فيها الأهداف التي وضعت لهم، وطالب بوضع حد للحرب. ولم يكن غريبًا أن يشهد يوم النكبة (أو عيد الاستقلال لدى الإسرائيليين)، الرابع عشر من مايو/أيار، الذي تحدث فيه وزراء ورئيس الحكومة، نتنياهو، إلى الشعب في كلمات مباشرة أو مؤتمرات صحفية، معركة محتدمة بين تصورات الأطراف المختلفة لليوم التالي. لهؤلاء الذين يقولون بضرورة وجود خطة إسرائيلية لإدارة غزة في اليوم التالي، تعتبر هذه الخطة الضمانة الوحيدة لحماية المكاسب العسكرية على الأرض، وتبلور أفق واضح لنهاية للحرب الأطول في تاريخ دولة إسرائيل. أما بالنسبة لإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي تحدث هو الآخر في يوم النكبة وقدم تصور الحركة لليوم التالي، فقد كان مهمًّا التوكيد على فشل الحرب الإسرائيلية، وعلى رفض التصورات التي يتداولها القادة الإسرائيليون لمستقبل قطاع غزة.

فما أبرز تصورات "اليوم التالي" المطروحة بعد مرور أكثر من سبعة شهور على الحرب؟ وما الذي يكشفه كل من هذه التصورات عن رؤية الأطراف المختلفة لمستقبل الصراع في فلسطين وفي الشرق الأوسط؟

عودة السلطة الفلسطينية

يعود التصور الذي يقول بضرورة عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة إلى إدارة بايدن، وربما بتشجيع من دول عربية قريبة من واشنطن وبالغة الاهتمام بالمسألة الفلسطينية. ولكن الأميركيين يقرون بأن الفساد ينخر مفاصل سلطة رام الله، وأن السلطة فقدت منذ زمن قدرتها على الفعل والإنجاز ولم تعد تتمتع بأي دعم شعبي فلسطيني ملموس، لا في الضفة ولا في القطاع. وهذا ما أفضى إلى توكيد واشنطن على ضرورة إصلاح السلطة وإعادة بنائها من جديد؛ الأمر الذي حرص وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على تكراره خلال لقاءاته مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. استجاب الرئيس، محمود عباس، للضغوط الأميركية وأقال حكومة السلطة الثامنة عشرة في فبراير/شباط الماضي، التي كان يرأسها الفتحاوي، محمد شتيه، وعمل على تشكيل حكومة تكنوقراط، غير فصائلية، في أول أبريل/نيسان 2024، برئاسة الاقتصادي المستقل، محمد مصطفى. ولكن، وعلى الرغم من أن تشكيل حكومة تكنوقراط يعتبر خطوة مهمة، من وجهة النظر الأميركية، فإنها لا تعد كافية لإعادة تأهيل السلطة.

لم تُظهر إدارة بايدن في سنواتها الأولى اكتراثًا خاصًّا بالصراع على فلسطين، ولكن الحرب على غزة أعادت المسألة الفلسطينية إلى جدول الأعمال الأميركي، بعد أن أصبح واضحًا أن استقرار الشرق الأوسط والحفاظ على وجود إسرائيل وأمنها غير ممكنين بدون إيجاد تسوية للصراع. وهذا ما دفع واشنطن إلى إعادة طرح حل الدولتين طريقًا لنهاية الصراع واستئنافًا لمسيرة التطبيع بين دولة إسرائيل ومحيطها العربي والإسلامي. ولابد أن ينظر إلى الخطة الأميركية لليوم التالي في غزة باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الطرح الأميركي لمسيرة تفاوضية تنتهي بحل الدولتين. ولكن السلطة الفلسطينية، وليس حماس، من وجهة النظر الأميركية، هي المعنية بتمثيل الفلسطينيين وتعهد الدور التفاوضي نحو حل الدولتين. ولذا، فمن الضروري استعادة وحدة الضفة والقطاع تحت حكم السلطة، ومنح السلطة، من ثَمَّ، المقدرات التي تؤهلها لتمثيل الفلسطينيين والتحدث باسمهم.

بيد أن هناك سببًا آخر خلف تبني إدارة بايدن عودة السلطة إلى غزة. فإن كان من الضروري أن تنتهي الحرب بتقويض حكم حماس ونفوذها في غزة، يرى الأميركيون أن ليس ثمة طرف يمكنه أن يقوم بمواجهة ما تبقَّى من حماس بعد وقف إطلاق النار في غزة سوى السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية. أما استمرار الاحتلال العسكري الإسرائيلي لغزة فلن ينجم عنه سوى استمرار المقاومة وتعزيز شرعية المقاومين، كما أن أهالي غزة قد ينظرون إلى أية قوة عربية أو دولية عسكرية باعتبارها احتلالًا بلون جديد. وحدها السلطة التي يصعب أن توصف بالاحتلال، ووحدها القادرة، سواء بتقسيم صفوف الفلسطينيين أو بوسائل أخرى، على تجنيد أعداد كافية من أبناء غزة وأهلها لحفظ الأمن والتخلص ممن تبقى من سلاح حماس.

وربما يمكن الافتراض أن واشنطن ليس لديها مانع من أن تشمل خطة ما بعد الحرب مصالحة فلسطينية وطنية تشمل تخلي حماس، وجماعات المقاومة الفلسطينية الأخرى، كلية عن السلاح والالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية، والتحول، من ثم، إلى أحزاب تشارك في الحياة السياسية، سواء قبل أو بعد التوصل إلى تسوية نهائية للصراع وحصول الفلسطينيين على دولتهم.

وقد بدا لوزراء اليمين الديني في الحكومة أن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالنت، الليكودي هو الآخر، يوم 15 مايو/أيار، التي قال فيها إنه طالَبَ داخل الحكومة منذ شهور الحرب الأولى بإعداد تصور ممكن التحقق لما بعد وقف النار في غزة، قصد بها عودة كلية (أي إدارة حكومية)، أو جزئية (أمنية على الأقل)، للسلطة الفلسطينية إلى غزة. كان غالنت قد زار الولايات المتحدة أثناء الحرب، وعقد مباحثات مكثفة مع كبار مسؤولي إدارة بايدن، وقدَّر وزراء متطرفون، مثل بن غفير وسموتريتش، أن تبنيه لمشروع عودة السلطة يمثل انحيازًا لوجهة النظر الأميركية، وطالبوا نتنياهو بإقالته.

الحقيقة، أن غالنت يرفض عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ويرفض كذلك الطرح الأميركي الذي يقول بتسوية الصراع على أساس من حل الدولتين، ويرى أن توحيد القطاع والضفة تحت سلطة واحدة قد يدفع بالفعل نحو إقامة دولة فلسطينية. ولكن غالنت يرفض أيضًا عودة الاحتلال الإسرائيلي المباشر للقطاع وما يتبعه من إقامة إدارة عسكرية إسرائيلية، أولًا، لأن مثل هذا الطريق يعني عبئًا كبيرًا على الجيش الإسرائيلي، وعبئًا اقتصاديًّا هائلًا على ميزانية الدولة، ولن يجد دعمًا وتأييدًا من الحلفاء الغربيين، سيما الولايات المتحدة. ولكن غالنت لا يمانع في الاستعانة بأجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وجهاز مخابرات السلطة على وجه الخصوص، للمساعدة في ضبط الأمن في القطاع والمساعدة على اجتثاث حماس وذراعها العسكرية، وحماية إدارة محلية متعاونة مع إسرائيل.

وقد كان ملاحظًا بعد الضجة التي أثارتها تصريحات غالنت، أن دوائر إعلامية إسرائيلية نقلت عن مصادر في قيادة الجيش الإسرائيلي قولها: إن تكلفة العودة إلى احتلال قطاع غزة، وتعهد الجيش الإسرائيلي بإقامة إدارة عسكرية للقطاع، لن تقل عن 20 مليارًا من الدولارات سنويًّا، وأن دولة إسرائيل لن تجد من حلفائها الغربيين أي استعداد لمد يد العون لها في نظام احتلال ترفض كافة الدول الغربية والولايات المتحدة استمراره في القطاع من حيث المبدأ. وليس ثمة شك في أن مثل هذه التسريبات قصد بها الإيحاء بمعارضة الجيش لفكرة عودة الاحتلال إلى غزة، التي ينادي بها حلفاء نتنياهو في الحكومة من اليمين الديني، ودعم دعوة وزير الدفاع، غالنت، إلى أن يُترك الفلسطينيون لإدارة شؤونهم بأنفسهم، في ظل السقف الذي ستضعه دولة إسرائيل لهم.

احتلال غانتس المقنَّع ومماطلة نتنياهو

عقد بني غانتس، رئيس الأركان الأسبق وزعيم حزب الصمود الإسرائيلي، الذي انضم إلى مجلس الحرب بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مؤتمرًا صحفيًّا، مساء 18 مايو/أيار، أنذر فيه رئيس الحكومة، نتنياهو، بضرورة تبلور إستراتيجية عمل للحكومة قبل يوم 8 يونيو/حزيران المقبل وإلا فإنه سيستقيل من منصبه ويعمل على تشكيل حكومة ائتلاف وطني بديلة. إلى جانب عدة مطالب تتعلق بالعمل على اتفاق للإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة، وإقرار قانون تجنيد وطني غير تمييزي، واستمرار عملية اجتياح رفح، طرح غانتس تصورًا معقدًا وليس واضحًا بما يكفي لكيفية إدارة قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار.

يتمحور تصور غانتس حول إقامة إدارة دولية-عربية-فلسطينية، مع احتفاظ إسرائيل بسيطرة أمنية على القطاع. قال غانتس إنه لا يقصد بالفلسطينيين عباسًا ولا السنوار، بمعنى أنه يستبعد كلًّا من حماس والسلطة الفلسطينية من الإدارة المنشودة؛ وبينما أشار إلى الأميركيين والأوروبيين ودول عربية، لم يقل ما هو الدور الذي يود منحه لكل من هذه الأطراف. هل يعني، مثلًا، تشكيل إدارة فلسطينية من أهالي قطاع غزة الراغبين في التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، توفر لها قوة دولية، أوروبية-أميركية، وعربية الحماية وتعمل على حفظ الأمن في القطاع لفترة انتقالية؟ أو أن الأوروبيين والأميركيين والعرب سيشاركون فعلًا في حكم وإدارة القطاع؟ ولكنه كان واضحًا بما يكفي عندما قال: إن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية على القطاع، بمعنى أن الجيش الإسرائيلي سيحتفظ بوجود عسكري ما داخل حدود القطاع، وأن الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية ستتعامل مع القطاع في المستقبل كما تتعامل مع الضفة الغربية، بحيث تقوم بعمليات أمنية محدودة لتحقيق أهداف معينة كلما أرادت ذلك. تصور غانتس لليوم التالي، باختصار، ليس سوى احتلال مقنع، ولكنه ليس احتلالًا إسرائيليًّا وحسب، بل احتلالًا دوليًّا وعربيًّا كذلك.

رفض بيان صدر عن مكتب رئيس الحكومة، نتنياهو، إنذار غانتس؛ ولكن البيان لم يتطرق إلى تفاصيل الطرح الذي قدمه غانتس لإستراتيجية عمل الحكومة في الشهور المقبلة. وربما يمكن الافتراض أن نتنياهو لا يرفض كافة عناصر التصور الذي يقول به غانتس لليوم التالي. نتنياهو، مثلًا، أعلن مرارًا وتكرارًا أنه لن يقبل بأن تحل إدارة من سلطة عباس محل سلطة حماس في غزة، وقال: إن السلطة في الضفة الغربية لم تعمل كما يجب على تجفيف ينابيع الإرهاب. كما تحدث نتنياهو من قبل عن رغبته في إيجاد عناصر محلية متعاونة مع الاحتلال للقيام بإدارة شؤون القطاع؛ وعن سعيه إلى التوصل إلى تفاهمات تفضي إلى مشاركة قوات من دول عربية معينة (عُرفت بمكافحتها للإرهاب، كما قال) في حفظ الأمن في القطاع والعمل على "تصفية بؤر وثقافة الإرهاب" طوال فترة انتقالية تستمر لعدة سنوات. نتنياهو، إلى جانب ذلك كله، يخضع لضغوط متواصلة من شركائه من اليمين الديني في الحكومة، الذين يطالبون بعودة الاحتلال إلى قطاع غزة، والسماح بالاستيطان اليهودي فيه.

بيد أن من الصعب تبين ما يريده نتنياهو من القطاع في اليوم التالي لنهاية الحرب، إن كان لديه فعلًا نية محددة لوضع نهاية قريبة للحرب. ثمة اتفاق واسع في الدوائر الإسرائيلية السياسية والإعلامية على أن نتنياهو هو من يعطل العمل داخل الحكومة ومجلس الحرب على إيجاد تصور واضح لليوم التالي. وهذا ما تؤكده إدارة بايدن، كذلك. وربما من الضروري لفهم موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية من مستقبل وضع قطاع غزة وإدارته، التعرف على مقاربة نتنياهو للحرب على القطاع. أحد أهداف نتنياهو من الحرب، بالتأكيد، هو الانتقام لما أوقعته المقاومة في الجيش الإسرائيلي، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتلقينها درسًا بالغًا يكفل ردعها عن تكرار ما قامت به في ذلك اليوم.

ولكن الواضح أيضًا أن نتنياهو أراد، ولم يزل، أن تؤدي الحرب إلى تهجير أكبر عدد ممكن من سكان القطاع، الذي طالما نظر إليه الإسرائيليون باعتباره أحد التحديات الإستراتيجية لدولة إسرائيل. يرى الإسرائيليون أن قطاع غزة، ولأسباب تتعلق ببنيته السكانية والنمط الذي تشكلت فيه هويته ومناخه السياسي بعد 1948، كان دائمًا قلعة الوطنية الفلسطينية ورحم قواها السياسية والمقاومة المختلفة. حاول الإسرائيليون في الخمسينات، بمساعدة أميركية ومن الأمم المتحدة، إيجاد وسيلة لتوطين اللاجئين الذين استقروا في قطاع غزة (ويمثلون أغلبية سكان القطاع) في شمال سيناء؛ ولكن المحاولة فشلت. في الشهور الأولى من الأزمة الحالية، حسب نتنياهو أن الحرب توفر فرصة لحل مشكلة القطاع بتهجير أكبر عدد ممكن من الأهالي إلى الجانب المصري من الحدود بذريعة الحفاظ على أمنهم. ولكن خطة التهجير، وعلى الرغم من قسوة الحرب ووحشيتها، واجهت تمسكًا من أغلبية الأهالي الساحقة بالبقاء في القطاع؛ كما أن المصريين رفضوا مقترح نتنياهو. وسرعان ما وجد المصريون دعمًا لموقفهم من الأميركيين. والمؤكد أن الرفض المصري لم يدفع نتنياهو إلى التخلي عن مشروع التهجير، بل إلى تغيير النهج والوسيلة لتحقيق الهدف نفسه.

ما يعمل عليه نتنياهو منذ تأكد من صعوبة إقناع المصريين باستقبال المهجرين من أهالي القطاع هو خلق البيئة الكفيلة في قطاع غزة لدفع السكان إلى الهجرة الطوعية، إن لم يكن والحرب لم تزل دائرة، فمباشرة بعد نهاية الحرب. بدعم من الحكومة ومجلس الحرب، عمل الجيش الإسرائيلي بلا هوادة، ولم يزل، بحجة إيقاع الهزيمة بحماس، ومن الأيام الأولى للحرب، عمل على تدمير المعامل والمصانع والمزارع، والجامعات والمعاهد العليا والمدارس، والمؤسسات الحكومية والبلدية، والمساجد والكنائس، والبيوت والعمارات السكنية والأسواق. ما يسعى إليه الإسرائيليون، ورئيس حكومتهم، هو تحويل القطاع إلى مكان غير قابل للعيش، إلى بيئة طاردة للحياة. وكلما طالت الحرب، اقترب نتنياهو من تحقيق هدفه بتدمير سبل المعاش والحياة في القطاع، وجعل خيار الهجرة الطوعية أكثر احتمالًا.

بيد أن نتنياهو قد يرى في الحرب المديدة، أيضًا، نهجًا لمواجهة تحديات إسرائيل الكبرى الأخرى، ويؤمِّن لنفسه موقعًا في التاريخ باعتباره المؤسس الثاني لدولة إسرائيل بعد بن غوريون. حرب مستمرة في غزة، بوتيرة مرتفعة أو منخفضة، وحرب ثانية في الجبهة اللبنانية، وتصعيد أوسع نطاقًا وأشد حدة في الضفة، ربما يفكر نتنياهو، أنها قد تتيح له ليس تهجير عدد ملموس من أهالي القطاع وحسب، بل ومن سكان الضفة الغربية؛ كما قد تحسم نهائيًّا التهديد الأمني من الجوار اللبناني وتدفع لبنان، إضافة إلى معظم الدول العربية، بما في ذلك السعودية، إلى توقيع معاهدات سلام، والتطبيع مع دولة إسرائيل. بذلك، يمكن لإسرائيل أن تعزز فرص وجودها وازدهارها لمئة عام أخرى.

لهذا كله لابد أن يُنظر إلى الحرب المديدة باعتبارها أحد السيناريوهات الممكنة لليوم التالي. أما إن استطاع الأميركيون، والحلفاء الغربيون الآخرون، والمعارضون الإسرائيليون، دفع نتنياهو إلى القبول باتفاق تبادل يتضمن وقفًا لإطلاق النار خلال الأسابيع أو الأشهر القليلة التالية، فإن خيار رئيس الحكومة الإسرائيلي الأكثر احتمالًا لليوم التالي سيتضمن عودة الاحتلال الإسرائيلي الجزئي إلى القطاع، تمامًا كما يتصور الوزير غانتس.

تصور حماس

مساء يوم 15 مايو/أيار، ألقى إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، كلمة في ذكرى النكبة الفلسطينية. ولأن الأيام والساعات السابقة على كلمته شهدت احتدامًا للجدل حول "اليوم التالي"، وجد هنية من الضروري تقديم رؤية حماس لمستقبل إدارة القطاع وحكمه. تحدث هنية في كلمته بلغة من يدرك حقيقة أعباء الحرب وآلامها على الشعب الفلسطيني، وحجم الخسائر والتضحيات التي فرضتها على أهالي القطاع. ولكنه تحدث، أيضًا، بثقة من يرى أن الإسرائيليين أخفقوا في تحقيق أهداف الحرب، وقال: إن الحرب الإسرائيلية لن تستطيع تدمير حماس، وإن "حماس وُجدت لتبقى". رفض هنية في كلمته كل أشكال الاحتلال الأجنبي للقطاع، وقال: إن مستقبل الإدارة والحكم في القطاع سيُقرَّر من خلال التوافق بين حماس وقوى المقاومة الفلسطينية الأخرى في القطاع.

في هذا التصريح الموجز حول "اليوم التالي"، أراد هنية القول بأن حماس تبقى قوة فاعلة في قطاع غزة، وأن الحرب الإسرائيلية أخفقت في تقويض وجود الحركة ونفوذها، وأنها، بالشراكة مع قوى المقاومة الأخرى، من سيقرر طبيعة الحكم وكيفية إدارة شؤون غزة في المرحلة ما بعد الحرب. والمهم، أن رفض هنية لكافة أشكال الاحتلال، لم تشمل رفض عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، أو على الأقل عودة صورة من صور الارتباط بين إدارة غزة المقبلة والسلطة الفلسطينية. في المقابل، تجنب هنية كلية القول بأن حماس ستكون الجهة التي تشكل الحكومة. ما يعني أن قيادة حماس تدرك أنها إن أصرت على العودة إلى حكم القطاع، فلن يكون هناك إعادة بناء، ولن تبادر أغلب الدول العربية والغربية بالمساهمة في تكاليف إعادة البناء الباهظة. كما يستبعد في حال عودة حماس للحكم أن تبدأ عملية مصالحة فلسطينية وطنية، بوجود عباس أو بغير وجوده.

الأرجح، إذن، أن تستمر حماس في المقاومة إن لم يتم التوصل إلى اتفاق تبادل يكفل وقفًا نهائيًّا لإطلاق النار وانسحابًا إسرائيليًّا ناجزًا من قطاع غزة. أما إن تم التوصل لمثل هذا الاتفاق، فستذهب حماس وقوى المقاومة الأخرى في قطاع غزة إلى خيار إدارة حكومية من التكنوقراط الغزيين، الذين لن يقبلوا التعاون مع الاحتلال، ولن يقبلوا تنفيذ الأجندة الإسرائيلية لما بعد الحرب، على أن ترتبط هذه الإدارة الحكومية على نحو ما مع حكومة التكنوقراط الجديدة في رام الله، تمهيدًا للمصالحة الوطنية. تعمل هذه الإدارة على إعادة تفعيل بيروقراطية القطاع، المعروفة بالكفاءة والنزاهة، وتتعهد بحفظ الأمن، وتقوم بمهمات إعانة أهل القطاع وإعادة البناء، طوال مرحلة انتقالية قد تستمر لعدة سنوات.

هذا لا يعني بالضرورة أن حماس سترفض إقامة إدارة من الوجهاء والشخصيات العامة من أهالي القطاع. ولكنها لن تقبل بالتأكيد أن تكون مثل هذه الإدارة من المتعاونين مع الاحتلال، أو من الساعين لمواجهة قوى المقاومة.

تصورات متدافعة

مثل كافة جوانب هذه الحرب الأخرى، يصعب التيقن من اتجاه الأمور نحو أي من التصورات المختلفة لوضع قطاع غزة وإدارته المستقبلية. المؤكد أن الولايات المتحدة، والولايات المتحدة فقط، من تستطيع الضغط على الإسرائيليين ودفعهم إلى هذا الاتجاه أو ذاك. وما بات واضحًا في الشهور القليلة الماضية أن الولايات المتحدة تريد فعلًا إيقاف الحرب، والذهاب نحو تصور عملي وقابل للتطبيق لإدارة قطاع غزة، يساعد على حل الدولتين، ويعزز التقدم إليه. وتبذل إدارة بايدن جهودًا مكثفة لإظهار خلافاتها مع نتنياهو وحكومته، بهدف المحافظة على أصوات اليسار الديمقراطي، وأصوات المسلمين الأميركيين. ولكن الواضح أيضًا أن واشنطن لا ترغب في تصعيد الضغط على حكومة نتنياهو، أولًا، لأن بايدن في حاجة للصوت والدعم المالي اليهودي في الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ وثانيًا، لأن أغلبيةً في مجلسي الشيوخ والنواب لم تزل تقف إلى جانب نتنياهو وترفض أي توجه من إدارة بايدن لفك ارتباط السياسة الأميركية بالسياسة الإسرائيلية.

في مثل هذا الوضع، يمكن أن ينجح نتنياهو، إن استطاع احتواء المعارضة الإسرائيلية واحتجاج أهالي المحتجزين والجنود، في مد أمد الحرب، بل وفي توسيع نطاقها، فلسطينيًّا وإقليميًّا، وفي دحرجة الموقف الأميركي، شيئًا فشيئًا، ومِيلًا وراء الآخر، في طريق الحرب. إن ذهب نتنياهو نحو هذا الخيار، سيكون مستقبل قطاع غزة، كما كافة محاور الصراع على فلسطين، مفتوحًا على احتمالات القتال المستمر. أما إن وصل نتنياهو إلى قناعة بأن ليس ثمة جدوى من استمرار الحرب، لا فيما يتعلق بمستقبل الصراع ككل، ولا ما يتعلق بمستقبله السياسي، وأن مكاسب الذهاب لاتفاق تبادل ووقف لإطلاق النار أكبر من مكاسب المزيد من الحرب، فالأرجح أن الولايات المتحدة قد تقبل بصيغة توافقية مع الإسرائيليين حول اليوم التالي وكيفية حكم القطاع وإدارة شؤونه.

قد لا تعترض الولايات المتحدة، مثلًا، على إدارة من وجهاء القطاع وشخصياته العامة، مع مجرد صيغة اسمية للعلاقة مع السلطة الفلسطينية، سيما إن وجد هذا التصور تأييدًا من الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، مثل السعودية والإمارات ومصر. طرح واشنطن لفكرة عودة السلطة إلى غزة بديلًا عن حكم حماس ينبع أساسًا من اعتقاد إدارة بايدن بأن هذه الخطوة ستمهد لمسار تفاوضي حول حل الدولتين. ولكن، وفي ظل وجود ما يشبه الإجماع داخل الحكومة الإسرائيلية على رفض حل الدولتين، والتصاعد في قوة ونفوذ المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، يبدو أن مسؤولي إدارة بايدن باتوا يدركون، ما كان يعرفه العالم بأسره، من أن حل الدولتين لم يعد بالضرورة الخيار الأكثر واقعية لإحلال السلام.

عمومًا، ومهما كانت طبيعة التوافق الأميركي-الإسرائيلي على تصور "اليوم التالي" فالمؤكد أن إدارةً ما لقطاع غزة لن تكون ممكنة، وإن أمكن تشكيلها فعلًا فلن تستطيع مزاولة عملها، بدون قبول من حماس وتنظيمات المقاومة الأخرى، بغض النظر عن مدى نجاح الحرب الإسرائيلية في إضعاف مقدرات حماس العسكرية. وفي ظل تزايد شعبية حماس في الضفة والقطاع، ربما بات من الصعب استعادة وحدة الفلسطينيين الوطنية، واستقرار منظومة للحكم في الضفة والقطاع على السواء بدون حماس.