الخليج: أزمة غير مسبوقة وتداعيات كبيرة

قطعت ثلاث دول خليجية علاقاتها مع قطر؛ لأنها تريد أن تفرض عليها أجنداتها، وتلزمها بقيود لا تلتزم تلك الدول بها.
e6803783030443399cd828c94d75f3ec_18.jpg
زيارة ترامب أججت الخلافات الخليجية (رويترز)

أعلنت كل من البحرين والسعودية والإمارات ومصر، في تتابع ملحوظ، فجر يوم 5 يونيو/حزيران 2017، قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر. خلال ساعات قليلة، اتضح أن الأمر لا يتعلق بمجرد قطع العلاقات، بل بمخطط حصار كامل (غير مسبوق في العلاقات بين الدول في زمن السلم). فرضت السعودية والإمارات والبحرين حظرًا على حركة الطيران مع قطر، أغلقت الحدود البرية والبحرية، وطالبت المواطنين القطريين بمغادرة البلاد ومواطني الدول الخليجية الثلاث بمغادرة قطر. خلال نهار اليوم، أعلنت المالديف وموريشيوس (التي نَفَتْ بعد ذلك صحة الخبر) وحكومة طبرق الليبية (غير المعترف بها دوليًّا)، كما الحكومة اليمنية المقيمة في الرياض، هي الأخرى قطع علاقاتها مع قطر؛ لأنها لا تستطيع مقاومة الضغوط السعودية. 

في اليوم التالي، أعلن الأردن عن خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع قطر، وإلغاء ترخيص مكتب الجزيرة في عَمَّان، كما أعلنت موريتانيا عن قطع علاقاتها الدبلوماسية بقطر. ولكن موريشيوس، نفت، في بيان رسمي، أن تكون اتخذت قرارًا بقطع العلاقات مع قطر، مما طرح تساؤلات حول ما إن كان هناك من تصرف بحرِّية، نيابة عن حكومة موريشيوس. 

كانت إجراءات فجر 5 يونيو/حزيران ذروة حملة إعلامية غير مسبوقة ضد قطر، بدأتها وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية والبحرينية (إضافة للمصرية) مساء يوم 23 مايو/أيار. وقد استمر التصعيد في الحملة إلى أن اتخذت طابعًا رسميًّا بقرارات الحصار وقطع العلاقات. 

فما الذي تشهده العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي؟ اجتمع قادة دول الخليج في مشهد صداقة وتعاون وتضامن أثناء زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للسعودية، فلماذا تنفجر العلاقات بين ثلاث من دول المجلس وقطر بهذه السرعة وهذه الصورة غير المسبوقة؟ هل كان ثمة سبب مباشر اضطَرَّ السعودية وشركاءها لاتخاذ هذا الموقف من قطر، أم أن الأمر خُطِّط له بصورة مسبقة؟ وهل هذه مجرد أزمة عابرة في العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي، أم مؤشرات على قطيعة قد تطول؟ 

من حملة إعلامية إلى قطع العلاقات 

فوجئ العرب والخليجيون، في المساء المتأخر ليوم 23 مايو/أيار، بسلسلة أخبار عاجلة بثَّها موقعا قناة العربية وسكاي نيوز عربية على الإنترنت حول تصريحات لأمير قطر، تشيد بإيران وحزب الله وحماس، وتتحدث عن توتر في العلاقات القطرية مع إدارة ترامب. كان أمير قطر قد عقد لقاء ثنائيًّا وديًّا مع الرئيس الأميركي قبل يومين فقط في الرياض، وتتبنى قطر منذ سنوات سياسة مناهضة لإيران في اليمن وسوريا. خلال ساعات قليلة، اتضح أن موقع وكالة الأنباء القطرية تعرض لعملية قرصنة، وأن ما نُسِب للشيخ تميم بن حمد لا أصل له مطلقًا. أعلنت قطر عدم صحة التصريحات المنسوبة للأمير، وأشارت صراحة إلى أن المسؤولين في وكالة الأنباء فقدوا السيطرة على موقع الوكالة بعد تعرضه لعملية اختراق، لكن قناتي العربية وسكاي نيوز عربية ظلتا تصران على صحة الخبر ولا تذكران نفي السلطات القطرية له. 

بيد أن الحملة الإعلامية ضد قطر وأميرها لم تتوقف؛ وما بدأته قناتا العربية وسكاي نيوز العربية سرعان ما تم تبنِّيه من كافة وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية، بما في ذلك صحف ومحطات تلفزة حكومية وشبه حكومية. في الليلة نفسها، تعرض حساب وزير الخارجية القطري على التويتر للقرصنة، ونشر القراصنة عليه أنباء حول قرارات قَطَرية بقطع العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر. المهم، أن ليس ثمة وسيلة إعلام واحدة بين تلك التي شاركت في الحملة ضد قطر نشرت البيان الرسمي القطري، الذي نفى نسبة التصريحات لأمير البلاد أو التصريحات المدَّعاة اللاحقة لوزير خارجيته. باستمرار الهجوم على قطر، بدا أن الحملة الإعلامية كانت مخططة مسبقًا وأن القائمين عليها كانوا ينتظرون وقوع عملية القرصنة لوكالة الأنباء القطرية لإطلاقها. 

لم تتراجع الحملة الإعلامية طوال الأيام العشرة التالية، بل وانحدرت إلى مستويات غير معروفة في علاقات دول الخليج وتقاليد شعوب المنطقة؛ وأوحت مشاركة وسائل إعلام سعودية وإماراتية رسمية بأن الحملة انطلقت بالفعل بقرار من أعلى مستويات الحكم في السعودية والإمارات. 

في 3 يونيو/حزيران، أعلنت مجموعة قراصنة إلكترونية اختراقها البريد الإلكتروني لسفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، المعروف بقربه من ولي عهد (أبو ظبي)، رجل الإمارات القوي، محمد بن زايد. خلال ساعات، بدأت مجموعة القراصنة تسريب عدد محدود من رسائل السفير، أو رسائل أُرسلت له من مسؤولين أميركيين سابقين، باحثين بارزين في مراكز أبحاث، بل ومسؤولين في إدراة أوباما. وقد كشفت الرسائل التي تم نشرها عن الجهد الكبير الذي يبذله السفير في واشنطن لربط قطر بالإرهاب، بل وحتى تركيا والكويت والسعودية، كذلك، ومحاولة تقديم الإمارات باعتبارها الدولة المعتدلة الأكثر مدعاة للثقة في الخليج والشرق الأوسط، بالتعاون، أساسًا، مع مسؤولين وباحثين معروفين بعلاقاتهم الإسرائيلية الوثيقة. كما كشفت الرسائل عن جهد إماراتي لدعم ولي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وترويجه في الأوساط الأميركية كحليف موثوق فيه. 

المؤكد، وبالرغم من كثافة الحملة الإعلامية ضد قطر واستمرارها بلا هوادة، أنها لم تكن مقنعة لأغلب الرأي العام الخليجي والعربي. أظهرت ردود الفعل الشعبية في وسائل الاتصال الاجتماعي (الوسيلة الوحيدة للتعرف على الرأي العام في هذه الدول)، سيما في السعودية والكويت والبحرين وعُمَان، استنكار أغلبية الخليجيين لادعاءات وسائل الإعلام المشاركة في الحملة، وتعاطفًا واسعًا مع قطر؛ مما جعل دولة الإمارات تفرض عقوبات بالسجن تترواح بين 3 و15 عامًا وغرامات مالية تقدر بـ500 ألف درهم على الذين يبدون تعاطفهم مع قطر. 

في 5 يونيو/حزيران، تحولت الحملة الإعلامية إلى قرارات سياسية رسمية، عندما أعلنت الدول الخليجية وشركاؤها فرض الحصار على قطر وقطع العلاقات معها. 

هذه، بالطبع، ليست الأزمة الأولى في علاقات قطر مع دول الخليج الثلاث؛ ففي مارس/آذار 2014، سحبت الدول الثلاث سفراءها من قطر، بعد أن تصاعد الخلاف مع قطر بسبب موقفها المؤيد للثورات العربية الديمقراطية ومعارضتها للانقلاب العسكري في مصر. استمرت الأزمة آنذاك حتى نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، عندما نجحت وساطة كويتية في تطبيع العلاقات بين قطر والسعودية، في الأيام الأخيرة لحكم الملك عبد الله، لتتبعها بعد ذلك الإمارات والبحرين، وعودة سفراء الدول الثلاث إلى العاصمة القطرية، الدوحة. ولكن الواضح أن الأزمة الحالية تختلف نوعًا وهدفًا عن أزمة 2014. 

ما المطلوب من قطر؟ 

عبَّرت مواقف الدول الثلاث من قطر عن تناقضات لا تخفى، ليس فقط في مادة الحملة الإعلامية، ولكن أيضًا في مضمون البيانات الرسمية التي برَّرت الحصار وقطع العلاقات. اتُّهمت قطر، مثلًا، بدعم الحوثيين وحزب الإصلاح في اليمن، بالرغم من أن الإصلاح في طليعة القوى التي تخوض الحرب ضد الحوثيين، وأن الجنود القطريين يقفون إلى جانب نظرائهم السعوديين للدفاع عن حدود السعودية الجنوبية مع اليمن. ولا يبدو أن اتهام قطر باتصالات مع إيران، تصب في غير مصلحة دول مجلس التعاون، يستند إلى أدلة صلبة. اللغة التي تستخدمها قطر لوصف العلاقة مع إيران، والتي تستهدف عدم رفع مستوى التوتر، هي اللغة ذاتها التي تستخدمها السعودية والإمارات. علاوة على أن الإمارات هي الشريك التجاري الأول لإيران مقارنة ببقية دول الخليج، وترتبط كل دول الخليج ما عدا السعودية بعلاقات دبلوماسية مع إيران. والحقيقة أن قطر تقف في الجانب المناهض لإيران في سوريا واليمن والعراق. كما أن الاتهامات الأخرى لقطر بدعم تنظيمات إرهابية وجماعات معارضة للسعودية ذُكِرت في البيانات السعودية بصورة عامة وبدون تقديم أدلة ما على مصداقيتها. 

ما يصعب فهمه بالتأكيد: كيف باتت العلاقات السعودية-القَطَرية، بالغة الدفء والانسجام منذ تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، بهذا السوء إذا كانت الاتهامات السعودية مؤسَّسة على حقائق؟ لم تكن العلاقات القطرية-الإماراتية على ما يرام منذ زمن طويل، ولكن العلاقات السعودية-القطرية مسألة مختلفة. وإن كانت علاقات الرياض بالدوحة راوحت خلال ربع القرن الماضي بين التأزم والتقارب، ولكن لم يكن هناك مؤشر على تأزم وشيك خلال الشهور القليلة الماضية.  

فكيف إذن يمكن فهم الدوافع خلف هذه الأزمة الخليجية؟ 

تصطدم السياسة القَطَرية مع السياسة الإماراتية منذ اندلاع الثورات العربية في 2011، سواء لتباين موقف الدولتين من الاتجاه الإسلامي في المنطقة العربية، أو لوقوف كل منهما في معسكر مقابل فيما يتعلق بقضايا محددة. ويمكن القول: إن الخلافات القَطَرية-الإماراتية تجلَّت في أكثر حالاتها حدَّة في الموقف من الانقلاب العسكري في مصر على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، والموقف من محاولة خليفة حفتر، الذي يرفض الاعتراف بحكومة التوافق المعترف بها دوليًّا ويسعى للسيطرة العسكرية على ليبيا، والموقف من التحركات التي تستهدف تقسيم اليمن من جديد. 

الخلافات القَطَرية-السعودية هي شأن آخر. اختلفت السعودية وقطر في الموقف من الثورات العربية عمومًا، ولكن هذا الخلاف لم يكتسب طابعًا حادًّا؛ لأن السعودية لم تتبنَّ أصلًا سياسة مناهضة، بصورة مباشرة، للحراك الشعبي العربي في 2011. في سوريا، على وجه الخصوص، نشأ توافق سعودي-قطري على دعم الثورة السورية ومواجهة النفوذ الإيراني. ولكن العلاقات السعودية-القطرية تعرضت لأزمة حادة في 2014 بفعل الاختلاف في الموقف من انقلاب صيف 2013 العسكري في مصر. وبينما لا تُبدي السعودية اهتمامًا يُذكر بالوضع الليبي، بدا منذ اندلاع الحرب ضد الحوثيين، قبل ما يزيد على عامين، أن التوافق بين الدوحة والرياض من الوضع اليمني، أكبر من التوافق بين الرياض و(أبو ظبي)، على الأقل ظاهرًا. 

يصعب، إذن، تعيين سبب طارئ، أو تطور مستجد، يمكن أن تُعزَى إليه الشرارة التي أدت إلى اندلاع التحول السعودي المفاجئ، بالغ العداء والحدة، ضد قطر. التفسير المنطقي الوحيد لهذا الموقف أن السعودية، بتشجيع ملموس من الإمارات، تسعى إلى السيطرة الكاملة على القرار القَطَري، وإخضاع قطر كُليَّة، وتقديم قطر كإنذار لدول الخليج الأخرى، التي تحتفظ بسياسة مستقلة عن السعودية، مثل الكويت وعُمان. 

يبدو أن من اتخذ قرار التصعيد مع قطر في السعودية والإمارات، رأى أن التسوية لأزمة العلاقات مع قطر في 2014 لم تكن مقنعة ولا كافية، نظرًا لأن الملك عبد الله اكتفى حينها من قطر بتنازلات محدودة في مستوى التغطية الإعلامية القطرية للمسألة المصرية وإبعاد القيادات الإخوانية المصرية التي اتخذت من قطر ملجأ بعد انقلاب 2013. ما هو مطلوب الآن هو استسلام قطر، انصياعها الكامل للإرداة السعودية. وهذا ما قاله بيان الخارجية القطرية في 5 يونيو/حزيران، الذي أشار بوضوح إلى أن قرار قطر الوطني بات على المحك، وأن استقلال القرار القطري يقع في مركز الخلاف مع الدول التي اتخذت قرار الحصار وقطع العلاقات. كل ما يرشح من المطالب التي تقدمها السعودية والإمارات لقطر، بغضِّ النظر عن التفاصيل، يصب بهذا الاتجاه. 

ما قد يعنيه استسلام قطر لا يتعلق بملف مُلِحٍّ واحد في الوقت الراهن، بل بمجمل التصور الذي يبدو أن الرياض و(أبوظبي) بدأت في تشكيله لمنطقة الخليج، خاصة، وللشرق الأوسط على وجه العموم، بما ذلك العلاقة مع إيران وتركيا، والموقف من قوى الإسلام السياسي ومسألة التحول الديمقراطي، ومستقبل المسألة الفلسطينية والعلاقة مع دولة إسرائيل. وليس العلاقات الخارجية وحسب، بل وأيضًا الشأن القَطَري الداخلي، ومن يتولى مسؤولية المؤسسات الوطنية الرئيسة. 

بيد أن التصعيد بهدف إخضاع قطر لم يكن ممكنًا في التوقيت الحالي بدون تطورين مهمين: الأول: التقارب الوثيق بين ولي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وولي عهد (أبو ظبي)، محمد بن زايد، وشعور الأول بأن الثاني يمتلك شبكة نفوذ في أميركا نجحت في تحسين صورة السعودية في مدركات ترامب، وأن ذلك يعزِّز مكانته في المملكة باعتباره حقَّق نجاحًا في إبعاد مخاطر قانون (جاستا) ونجح في إقناع واشنطن بتبني الأجندة السعودية. أما التطور الثاني فيتعلق بالدعم المعنوي الذي تلقَّاه معسكر ابن سلمان وابن زايد من زيارة الرئيس ترامب للسعودية، التي يعتقد الاثنان أنها –أي الزيارة- مثَّلت انتصارًا لسياستهما والعودة إلى سياسة التحالف التقليدية مع الولايات المتحدة، وتخلي واشنطن عن أوهام التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط. 

التفاعلات الدولية 

فُهمت الحملة على قطر من البداية، وحتى بعد تطورها إلى الحصار وقطع العلاقات، بأنها سعودية-إماراتية، وأن دور من التحق بها بعد ذلك كان هامشيًّا. وعمل هذا التصور، إضافة إلى القلق الإقليمي والدولي من تأثير الأزمة على استقرار منطقة الخليج، على تحديد طبيعة ردود الفعل، سواء في الجوار العربي والإقليمي، أو على المستوى الدولي. 

لم تُخْفِ إيران محاولتها استغلال الانقسام الخليجي، وإظهار التعاطف مع قطر، مبدية الاستعداد لتوفير حاجات السوق القَطَرية من السلع الغذائية التي يمكن أن تكون تأثَّرت بإغلاق المنافذ الحدودية مع السعودية. وفي صورة مشابهة، قال مسؤولون إسرائيليون: إن الأزمة الخليجية تفتح نافذة لتعزيز العلاقات الإسرائيلية مع السعودية والإمارات ضد قطر، التي تقدِّم الدعم لحكومة حماس في غزة. أما تركيا، التي ترتبط بعلاقات وثيقة واستراتيجية مع قطر، والتي بدأت بالفعل إقامة قاعدة عسكرية فيها، لم تُخفِ تعاطفها مع وجهة النظر القَطَرية؛ ولكنها عملت في الآن نفسه على التوسط ومحاولة احتواء الأزمة. وقد توجه مبعوثان للرئيس أردوغان بالفعل إلى الدوحة والرياض في 3 يونيو/حزيران. ولكن أنقرة فوجئت، بعد عودة المبعوثين لتقديم تقريرهما للرئيس التركي، بالتصعيد الكبير في الموقف واتخاذ قرارات قطع العلاقات مع قطر وحصارها؛ مما دفع الرئيس التركي إلى إدانة إجراءات الحصار التي اتُّخذت ضد قطر. 

أغلب الدول العربية، حتى تلك المشاركة في التحالف ضد الحوثيين، مثل السودان، دعا إلى التهدئة، ووجد من الصعوبة اتخاذ موقف مؤيد لأحد الطرفين، سيما أن قطر تحتفظ بعلاقات وثيقة مع معظم الدول العربية. وليس ثمة شك في أن كلًّا من الكويت وعُمان يخشيان من أن تكون الحملة على قطر سابقة تهدد استقلالهما السياسي. ولكن، وعلى عادة دول الخليج، تحركت الدولتان للتوسط ومنع التصعيد. وتتمتع الكويت بوضع وخبرة أكثر تميزًا، نظرًا لما تحتفظ به من علاقات جيدة مع كل من الرياض والدوحة، ولمعرفة القيادة الكويتية بملف الخلافات الخليجية، بعد الدور الذي قامت به في حل أزمة 2014. 

على المستوى الدولي، اتخذت روسيا والصين موقفًا محايدًا، داعية إلى حل الخلافات الخليجية بالتفاوض. وكان ملاحَظًا أن بوتين أكد على ابتعاد روسيا عن معسكر السعودية وشركائها عندما قال: إن مسألة قطع العلاقات لم تُبحَث أثناء زيارة ابن سلمان لموسكو. الأوروبيون، سيما ألمانيا، كانو أقرب للموقف القطري، وأعربوا عن قلقهم من أن تؤدي الأزمة إلى صناعة بؤرة عدم استقرار جديدة في الخليج. 

ولكن الموقف الأميركي، كما هي صورة واشنطن منذ تولى ترامب مقاليد البيت الأبيض، بدا أقرب للتناقض والاضطراب: لم يُخْفِ مسؤولو وزارة الخارجية والدفاع مفاجأتهم بالتفاقم السريع في الأزمة الخليحية وقرار قطع العلاقات مع قطر، وأكدت بيانات رسمية للخارجية والبنتاغون الحرص على العلاقات الأميركية مع قطر، وعدم وجود أية مخططات أميركية لإجراء تغيير في العلاقات العسكرية بين الدولتين. ولكن، وفي اليوم التالي لقرار قطع العلاقات، نشر الرئيس ترامب تغريدة على صفحته بتويتر، قال فيها ما معناه: إن قادة أشاروا إلى قطر عندما تحدث في زيارته للسعودية عن ضرورة توقف أي دعم للجماعات الإرهابية، وإن حملة مقاطعة قطر ثمرة من ثمار زيارته للمنطقة. 

ما يمكن قراءته في الموقف الأميركي أن قادة خليجيين، ربما ابن زايد وابن سلمان، عملوا بالفعل على التحريض ضد قطر أثناء زيارة ترامب للسعودية، ولكن بحثًا تفصيليًّا لم يَجْرِ بين الطرفين؛ وهذا ما جعل مؤسسات الإدارة الأميركية تتفاجأ بتفاقم الأزمة. يتمتع معسكر ابن سلمان وابن زايد، كما نقلت تقارير إعلامية، بصلات وثيقة مع شخصيات مقربة من الرئيس ترامب، أبرزها العلاقة الوثيقة بين سفير الإمارت في واشنطن، العتيبة، وصهر الرئيس ترامب ومستشاره، جاريد كوشنر. ولكن إطالة أمد الأزمة في الخليج لا تصب بالتأكيد في مصلحة السياسة الأميركية؛ وهذا ما يظهر واضحًا في تصريحات وبيانات المسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين. وكان واضحًا أن مؤسسات الدولة الأميركية سارعت خلال ساعات من نشر تغريدات الرئيس إلى احتواء ما قد يكون فُهم منها من انحياز للسعودية وشركائها. 

تحدث الناطقون باسم الخارجية الأميركية والبيت الأبيض من جديد حول علاقات الصداقة بين الولايات المتحدة وقطر، وأجرى وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، مكالمة مع نظيره القطري، خالد العطية، لإعادة التوكيد على الموقف التقليدي لواشنطن من العلاقات مع قطر. وفي مساء اليوم نفسه، هاتف الرئيس ترامب الملك سلمان، حاثًّا إياه على الحفاظ على وحدة دول الخليج واستقرارها. 

تداعيات كبيرة 

الواضح، كما قال وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في مؤتمر صحفي بباريس يوم 6 يونيو/حزيران 2017، أن السعودية وشركاءها يراهنون على أن تنجح إجراءات الحصار في دفع قطر إلى الخضوع والاستجابة لمطالب السعودية والإمارات. ولكن المؤكد أن قطر تستطيع الصمود أمام هذه الإجراءات؛ لأنها تمتلك احتياطيات كبيرة، وخيارات واسعة للاستيراد، ومنافذ بحرية وجوية عديدة، وشركاء اقتصاديين كبارًا يرتبطون معها باستثمارات كبيرة وبعقود حيوية مثل استيراد الغاز. كما أن الحكومة القطرية اتخذت إجراءات لمواجهة وضع حصار شبيه بالوضع الحالي منذ أزمة 2014.  

من جهة أخرى، وبالرغم من التفاوت الكبير بين أزمة سحب السفراء في 2014 وأزمة العلاقات الخليجية الراهنة، فليس من المستبعد أن تنجح الوساطة الكويتية، بدعم من عُمان وتركيا، في احتواء الموقف، ومنع التصعيد، ومن ثم إيجاد مخرج ما، خلال أسابيع أو شهور. ولكن المتيقن أن انكسارًا حقيقيًّا وقع في العلاقات القطرية-السعودية، ربما يفوق حتى الانكسار في العلاقات القطرية-الإماراتية، وأنَّ قدْرًا ملموسًا من فقدان الثقة ترسَّب في رؤية كل من الرياض والدوحة للأخرى. قطر، على وجه الخصوص، لن تنسى اللغة التي استُخدمت في الحملة الإعلامية ضدها، ولا أن السعودية فرضت عليها حصارًا قُصد به تجويع سكانها، وقطع صلات الرحم الوثيقة بين شعبي البلدين. وسيصعب عودة العلاقات القطرية-السعودية إلى طبيعتها، خاصة أنها ضربت كل الإنجازات التي حققها مجلس التعاون الخليجي منذ نشوئه، مثل حرية تنقل الأفراد، والعلاقات البنكية، وغيرها من الإنجازات على قِلَّتها. 

يريد ابن سلمان وابن زايد استسلامًا قطريًّا، وتحكمًا كاملًا في قرار الدوحة الخارجي والداخلي، على السواء. في المقابل، وحتى إن وافقت قطر على تقديم تنازلاتٍ ما لصالح إنجاح جهود المصالحة وخفض التوتر الخليجي، فلن تتخلى القيادة القطرية مطلقًا عن قرارها المستقل؛ لأنه يعرِّض أمن بلادها ورفاهية شعبها لخطر كبير. وسيجد معسكر الرياض و(أبو ظبي) صعوبة في إلزام قطر بشروط لا يلتزمون هم بها، مثل فرض الوصاية على علاقات قطر الخارجية بينما تتدخل أبو ظبي في الشأن الليبي والشأن اليمني، وتدعم محمد دحلان المناهض للسُّلطة الفلسطينية، وتعطي لنفسها حق مخالفة السعودية مثلًا في الملف اليمني. فلماذا تعطي الإمارات نفسَها هذه الامتيازات وترفضها لغيرها؟ 

في الإطار الأوسع، تطرح الأزمة الخليجية شكوكًا ثقيلة الظل على مستقبل مجلس التعاون الخليجي، في المديين القصير والمتوسط، على الأقل، وعلى فعالية المجلس وتعبيره عن إرادة خليجية موحدة. ليست حدَّة الأزمة وتطورها، ولا تنكرها لقيم المنطقة التقليدية واصطدامها مع الروابط الوثيقة بين الشعوب، وحسب، ولكن أيضًا تجاهل الرياض و(أبو ظبي) الفادح لمؤسسات مجلس التعاون، كشفت جميعًا عن أن المجلس لم يعد يعني الكثير لأكبر أعضائه وأثقلهم وزنًا. لم يُدعَ لقمة خليجية طارئة، ولا طُرحت اتهامات السعودية والإمارات لقطر على أيٍّ من مؤسسات مجلس التعاون لبحثها. والحقيقة، أن الأمانة العامة لمجلس التعاون سمعت بقرارات عدد من أعضاء المجلس قطع العلاقات مع دولة عضو أخرى، وحصارها، عبر وسائل الإعلام. 

وعندما تنقلب العلاقات بين دول المجلس بهذه الصورة المفاجئة، وتتحول من علاقات تعاون وتوافق وتحالف إلى ما يشبه الحرب غير المعلنة، لن يكون من المستبعد أن تبحث دول المجلس المختلفة عن ترتيبات خارج نطاق المجلس للحفاظ على أمنها واستقرارها. وحتى على المستوى الشعبي، رسَّبت الأزمة شكوكًا في أوساط الخليجيين من إمكانية عملهم واستثمارهم في دول خليجية أخرى، بل وحتى زواجهم من مواطنين أو مواطنات دول خليجية شقيقة. 

في النهاية، وضعت هذه الأزمة، ومهما كان مصيرها، نهاية لفكرة القيادة السعودية للمنظومة الخليجية والعربية، التي طُرحت بقوة بعد التراجع الهائل في وضع مصر وانهيار كل من العراق وسوريا. والمشكلة هنا لا تقتصر على خلافات السعودية مع دول خليحية أو عربية أخرى، ولكنها تتعلق أيضًا بردِّ الفعل الشعبي، الخليجي والعربي، على مستوى الحملة التي تعهدتها وسائل الإعلام السعودية وطبيعة القرارات التي اتخذتها السعودية وشركاؤها ضد دولة خليجية وعربية شقيقة أخرى. خلال هذه الأزمة، بدت السعودية، ليست كشقيقة كبرى تحرص على أخذ مشاغل إخوتها بعين الاعتبار واحترام استقلالهم كما يحترمون هم استقلالها، بل كدولة تسعى للهيمنة وفرض الوصاية، تبعث الخوف والخشية وليس الثقة والاطمئنان. 

تمتد تداعيات هذه الأزمة أيضًا إلى صورة الولايات المتحدة الأميركية في العالم؛ حيث ترتبط الولايات المتحدة مع قطر باتفاقيات استراتيجية سمحت الدوحة للولايات المتحدة بإقامة قاعدة العديد الجوية ثم القيادة المركزية، وظلت قطر ملتزمة بهذا الاتفاق منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، رغم المخاطر المحتملة التي كانت تحدق بها، مثل ردود الفعل الانتقامية من إيران أو الجماعات المسلحة الناقمة من الأعمال العسكرية الأميركية. وستتابع دول العالم حاليًّا باهتمام بالغ الموقف الأميركي من قطر لمعرفة ما هي القيمة الحقيقية للالتزام الأميركي نحو أمن الحلفاء.