أسفرت الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، المنظمة في 30 يونيو/حزيران 2024، عن مشهدين متعارضين، فلقد شهدت مشاركة قياسية بلغت نحو 60 بالمئة من الكتلة الناخبة، وفي نفس الوقت تكشفت عن مشهد سياسي متشظٍّ ومستقطب يكاد يزول وسطه، فلقد جاء التجمع الوطني اليميني المتحالف مع جزء من الجمهوريين في المقدمة بنسبة 33%، فائزًا بـ38 مقاطعة انتخابية منذ الدور الأول، ومتأهلًا للتنافس على 451 أخرى في الدور الثاني الذي سيعقد في 7 يوليو/تموز.
تقع في المرتبة الثانية الجبهة الشعبية الجديدة، وهي تحالف يساري واسع يضم فرنسا الأبية، والحزب الاشتراكي وبعض الأحزاب البيئية والشيوعية، بحصولها على 28% من الأصوات، وتتأهل للتنافس على 400 مقاطعة في الدور الثاني.
حل ثالثًا معًا من أجل الجمهورية، التنظيم السياسي للرئيس ماكرون، بنحو 26.9% من الأصوات، ويتهيأ للتنافس على عدة مقاطعات في الدور الثاني.
يأتي رابعًا، الجمهوريون، بنسبة 6.57 على المستوى الوطني، بتراجع معتبر عن الانتخابات السابقة.
يشير العدد الكبير للمقاطعات التي ستكون محل تنافس في الدور الثاني عن تشتت الأصوات الناخبة بين المترشحين، لأنهم لم يتمكنوا من حسم المنافسة في الدور الأول بالحصول على 50% من الأصوات المدلى بها و25% من الأصوات المسجلة، وهما الشرطان القانونيان في فرنسا للفوز بمقعد تشريعي.
رهان خطير
تداخلت عدة اعتبارات في عقد السلطات الفرنسية هذه الانتخابات التشريعية المسبقة، لكن الاعتبار الرئيسي هو تقديرات الرئيس الفرنسي، ماكرون، التي جعلته يتخذ قرار حل البرلمان والدعوة للانتخابات المبكرة. تضاربت التحليلات للدواعي التي جعلت ماكرون يخاطر بخوض انتخابات لم يكن مضطرًّا إليها دستوريًّا مع المخاطر الهائلة التي قد تترتب عليها، مثل فوز اليمين المتطرف وتوليه رئاسة الوزراء وإفقاد ماكرون جزءًا مهمًّا من السلطة التنفيذية، واحتمال هيمنة اليمين على البرلمان أيضًا، وحرمان ماكرون من أغلبيته التي كان يمرر بها التشريعات القانونية، وسيؤدي فقدانه لهاتين الركيزتين إلى تقييده في أهم ملفين خارجيين، وهما التمسك بالاتحاد الأوروبي ومساندة أوكرانيا في الحرب مع روسيا.
قد يساعدنا على فهم قراره وضعه في سياق أوسع، فلقد جاء عقب حصول قائمته على 13 مقعدًا في الانتخابات البرلمانية الأوروبية بينما حصلت قائمة مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني، على 30 مقعدًا، وهي نتائج دالَّة على شعبية اليمين المتطرف الكاسحة، وتراجع شعبية المشروع السياسي للرئيس ماكرون، وتهز بالتالي مشروعية الرئيس السياسية، وإذا ظلت هذه الحال، فالمرجح أن تتزايد شعبية قوى اليمين المتطرف مستقبلًا، وتنهار شعبية الرئيس ماكرون أكثر، إلى أن تحين الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2027، فتكون حظوظ مارين لوبان بالفوز بها أكبر من أي وقت مضى.
قد تكون حسابات الرئيس ماكرون التحرك لمنع هذه الديناميات المحتملة، فقرر دفع الوضع إلى الحافة ليكون أمام الفرنسيين خياران: إما القبول بتولي اليمين السلطة، مع المخاطر الكبيرة التي قد تحيق بهم وبدولتهم، أو الاحتماء بالرئيس ماكرون ومشروعه السياسي لأنه أفضل بديل سياسي متاح رغم نواقصه. وقد يكون استند في رهانه على حالات سابقة، ففي 2002، فاجأ جون ماري لوبان، مرشح الجبهة الوطنية اليمينية، عددًا غفيرًا من الفرنسيين بتأهله للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية في مواجهة جاك شيراك، فهبَّت أعداد هائلة من الفرنسيين للتصويت المضاد للوبان، وتظاهر الملايين في نواحي البلاد، ففاز شيراك بالانتخابات بنسبة 82%، مستفيدًا من دعم واسع من مختلف الطيف السياسي الجمهوري.
وفي انتخابات 2015 الجهوية، حققت الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان، ابنة جون ماري لوبان وخليفته في قيادة الحزب، نتائج مرتفعة، وتعزز احتمال فوز حزبها بمقاطعات عديدة، فاستشعر الحزب الاشتراكي الخطر، وقرر سحب مرشحيه في عدة نواحي، ودعا ناخبيه لإعطاء أصواتهم لمرشحي اليمين الجمهوري حتى يتغلبوا على مرشحي الجبهة الوطنية.
وفي الانتخابات الرئاسية المنعقدة في 2017، تأهلت مارين لوبان للدور الثاني في مواجهة ماكرون، فهبَّ عدد غفير من الفرنسيين لانتخاب ماكرون، وإن لم يكونوا بالضرورة متفقين مع سياساته ولكنه أقل سوءًا في نظرهم من مارين لوبان، ففاز بنسبة 66%.
تكرر نفس السيناريو في الانتخابات الرئاسية 2022، تواجه ماكرون ومارين لوبان في الدور الثاني، فهب عدد غفير من الفرنسيين للتصويت لماكرون، لقطع طريق الرئاسة أمام مارين لوبان، ففاز ماكرون بنسبة 58.5%.
قد يستخلص ماكرون من هذه الحالات السابقة نمطًا سيتكرر هذه المرة أيضًا، وهو رعب أعدد كبيرة من الفرنسيين من تولي اليمين المتطرف السلطة، واحتماؤهم باليمين الجمهوري منه، وإن كان قطاع واسع منهم لا يشاركه أفكاره ولكنه يراه أهون الشرين.
صفارات الإنذار
أحدث قرار حل البرلمان وعقد انتخابات تشريعية في وقت وجيز صدمة في قوتين سياسيتين، هما حزب النهضة التابع للرئيس ماكرون، وإن لم تظهر الخلافات صراحة للعلن، بل صدرت مؤشرات مثل تفادي الحزب وضع صور الرئيس ماكرون في لافتاته الانتخابية، والقوة الثانية هي اليسار والخضر. فالنهضة لم يستوعب المخاطرة بأغلبيته بالبرلمان، أما اليسار والخضر فلم يستوعبا دواعي الدعوة إلى خوض منافسة انتخابية في مواجهة اليمين المتطرف الذي يحظى في هذه اللحظة بزخم شعبي برز في الانتخابات البرلمانية، ثم إن فترة الاستعداد للانتخابات، التالية على حل البرلمان، وجيزة، من 9 إلى 30 يونيو/حزيران 2024، قد لا تسعفهم في حشد قواهم وإنهاض قواعدهم.
كان تنادي قوى اليسار والخضر إلى التحالف سريعًا، فتجاوزوا خلافاتهم الهامشية، والتقوا على التصدي لليمين المتطرف فشكَّلوا قوائم مشتركة حصلت على المكانة الثانية في الدور الأول، وتستعد لخوض الدور الثاني مجتمعة. كما أن هناك تعاونًا فعليًّا وإن لم يكن معلنًا بين اليسار والقوى السياسية الملتفة حول حزب الرئيس ماكرون، وهي اتفاقهم على أن ينسحب مرشحهم إذا كانت فرصه ضئيلة لتذهب أصواته للمرشح المنافس لمرشح اليمين المتطرف، وقد يكون هذا المرشح مواليًا لائتلاف الرئيس ماكرون أو لتحالف اليسار والخضر. لم يدع أي منهما إلى الانسحاب في الدوائر التي تتضاءل حظوظ مرشح اليمين المتطرف في كسبها حتى لا يستفيد من أصوات المرشح المنسحب.
أصيب النشاط الاقتصادي كذلك بصدمة بعد حل البرلمان، فلقد انخفض مؤشر الكاك 40، وهو سوق تداول أسهم 40 شركة فرنسية كبيرة، بنحو 6.5%، دلالةً على أن المستثمرين شرعوا في بيع أنصبتهم في هذه الشركات لأنهم لم يعودوا مطمئنين على مستقبل استثماراتهم فيها.
يعزز هذا الخوف، أن احتمال فوز اليمين المتطرف بأغلبية البرلمان، وتوليه الرئاسة، قد يجعله يشرع في تطبيقه برنامجه الاقتصادي المرتكز إلى إقامة حواجز حمائية برفع الرسوم الجمركية؛ حتى لا تكون البضائع القادمة من الخارج تهديدًا للمنتجين الفرنسيين، ويعتزم اليمين المتطرف أيضًا زيادة مخصصات الدعم بنحو 24 مليار يورو، تُصرَف على المحروقات والكهرباء والطيبات الغذائية. والإجراءان يخيفان المستثمرين الأجانب؛ لأن زيادة مصروفات الدعم تثقل كاهل الدولة بديون إضافية إلى الديون السابقة الهائلة، وقد يشعر المستثمرون أن هذه الإجراءات قد تجعل فرنسا عاجزة مستقبلًا عن سداد ديونها، فيحذرون من التعامل معها، أو قد يطلبون فوائد أعلى لإقراضها. قد تؤدي السياسات الحمائية أيضًا إلى فقدان فرنسا لقدرتها التنافسية، فيختل ميزانها التجاري، فتتراجع عوائدها المالية، فتتناقص مشترياتها من الخارج، فترتفع أسعار عدد واسع من البضائع، فيرتفع التضخم، فيضطر البنك الأوروبي لرفع سعر الفائدة لخفض التضخم، فيتباطأ النمو الاقتصادي في منطقة اليورو جميعًا.
يقع المسلمون الفرنسيون والمهاجرون في قلب هذه الانتخابات التشريعية؛ فاليمين المتطرف يعتبر هؤلاء عبئًا على خزينة الدولة لأنهم يستفيدون من رعايتها الاجتماعية، ومهددًا للأمن الداخلي لأنهم يسكنون في الضواحي التي تشهد تزايدًا في معدل الجرائم، وعاملًا يمزق هوية فرنسا لأنهم يتمسكون بممارسات منافية للعادات الفرنسية المتوارثة، مثل ارتداء الحجاب أو الأكل الحلال وغيرها من التقاليد. ولقد غذَّى اليمين المتطرف شعبيته السياسية ببث الفزع في قلوب بقية الفرنسيين من الفئات المسلمة، ورشح نفسه لحمايتهم منهم. وتستند سياسته إلى الحد من الهجرة وإعادة قطاعات واسعة منهم، بمبررات مختلفة، إلى بلدانهم الأصلية.
هذا الخطاب زاد من الأعمال المناهضة للمسلمين بنسبة 32% في 2021، ودفعت أعدادًا من المسلمين الفرنسيين إلى مغادرة فرنسا نحو بلدان أكثر قبولًا لتقاليدهم مثل بريطانيا وكندا وتركيا ومنطقة الخليج. ومن المرجح، أن نسبة المغادرين سترتفع مع تزايد شعبية اليمين المتطرف، وتوليه مواقع مهمة في الحكم. لكن المشكلة شائكة ولن تُحل بمغادرة بعض المسلمين الفرنسيين فرنسا؛ لأن عدد المتبقين الذين من المرجح أن يصروا على البقاء ملايين؛ فلقد قدَّر مركز بيو أن عدد المسلمين بفرنسا في 2017، يبلغ 5.7 ملايين، بنسبة 8.8% من سكان فرنسا، ومن المحتمل أن عدد المسلمين سيصل 13.2 مليونا في 2050. ولما يصر هؤلاء على البقاء فإن مساعي اليمين لإبعاد أكبر عدد منهم ستُواجه بمقاومة مستميتة، وقد يؤدي هذا التدافع إلى إحداث اضطرابات في فرنسا قد تفلت من السيطرة.
من جانب آخر، فإن اليمين المتطرف إذا تولى الحكم وقرر إبعاد قطاعات من السكان المسلمين إلى بلدانهم الأصلية، قد يدخل في صدام مع هذه البلدان لأنها ليست ملزمة بالتعاون في تنفيذ سياسات قد تراها عنصرية، وقد تضع على عاتقها أعباء جديدة قد تُفقدها السيطرة على التوازنات المالية الهشة.
اضطراب كبير في الأفق
تشير نتائج الدور الأول إلى فوز اليمين المتطرف بالمكانة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية ويأتي وراءه ائتلاف اليساريين والخضر ثم يقع حزب ماكرون في المرتبة الثالثة. وترجِّح استطلاعات الرأي أن يظل هذا الترتيب على حاله بعد الدور الثاني، لكن الاختلاف يتعلق بحجم فوز اليمين المتطرف، فإذا فاز بالأغلبية يستطيع تشكيل الحكومة وتولي رئاسة الوزراء، وأما إذا لم يفز بالأغلبية، سيحتاج إلى عقد تحالفات، تجعل الحكومة هشة وغير مستقرة، وعاجزة عن تنفيذ سياسات كبرى، وقد تكتفي باتخاذ إجراءات سطحية، حتى لا تحدث شقاقات بين مكوناتها المتباينة، قد تطيح بها.
تميل التقديرات، حسب استطلاعات الرأي، إلى أن السيناريو الراجح هو إخفاق جميع القوى السياسية في الفوز بأغلبية المقاعد البرلمانية الضرورية لتشكيل الحكومة دون حاجة لعقد تحالفات، وتبلغ هذه الأغلبية في القانون الفرنسي 289 نائبًا من مجموع نواب البرلمان البالغ 577 نائبًا. فلقد ذكرت بوليتيكو أن الاستطلاعات تشير إلى أن حصة التجمع الوطني اليميني المتطرف في الدور الثاني ستكون 36% من أصوات الناخبين، فيحصد التجمع مع حلفائه ما بين 202 إلى 260 مقعدًا، وهي قفزة هائلة مقارنة بعدد مقاعدهم الحالي المقدر بـ88 نائبًا لكنها بعيدة عن الأغلبية الضرورية. وستحصل فرنسا الأبية اليسارية وبقية حلفائها على 29% من الأصوات، فتكسب بذلك ما بين 150 إلى 210 مقاعد. وسيحصل ائتلاف ماكرون على 21% من الأصوات، فيتهاوى من 250 نائبًا في البرلمان السابق إلى 110 نواب في البرلمان الجديد.
إذا تحقق هذا السيناريو بشكله العام، سيكون أمام اليمين المتطرف خياران، إما أن يقرر تولي الحكم أو البقاء في المعارضة، فإذا قرر تولي الحكم سيضطر إلى عقد تحالفات إما مع حزب الرئيس ماكرون، وهذا احتمال ضعيف لأنهما كانا متضادين في الانتخابات أو مع قوى يمينية مثل حزب إيريك زيمور، أو عقد توافق مع القوى اليمينية على حكومة توافقية لا يقودها التجمع الوطني، وهذه الصيغ هي الاحتمال الراجح، لكن الحكومة المنبثقة ستكون هشة، وقد تأتي بنتائج عكسية على اليمين المتطرف؛ لأن إخفاقاتها، ستستغلها المعارضة للطعن في كفاءة اليمين المتطرف وسياسته، وقدرته على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وقد تتراجع شعبيته، فيتضرر في الانتخابات الرئاسية في 2027.
وإذا قرر التجمع الوطني التخلي عن تشكيل حكومة، فإن بقية القوى لن تستطيع تشكيل حكومة قوية، وقد يستغل اليمين المتطرف الوضع لمواصلة الطعن في خصومه، للرفع من شعبيته، والاستفادة منها في الانتخابات الرئاسية القامة.
في المنظور العام، ستدخل فرنسا مرحلة تشظٍّ سياسي، تعيق تشكيل برلمان قادر على تشريع قوانين مهمة أو اختيار حكومة قوية قادرة على تنفيذ سياسات كبرى، وقد تتسم المرحلة القادمة بتشكيل حكومات قصيرة الأجل، قد تعيد فترة سابقة في تاريخ فرنسا أثناء الجمهورية الرابعة بين 1946 و1958، التي تولت الحكم خلالها 24 حكومة بمعدل حكومة كل ستة أشهر، وقد كان هذا الاضطراب من أسباب إقامة الجمهورية الخامسة التي جعلت الحكم أكثر مركزية في يد رئيس الجمهورية، لكن يبدو أن هذه الصيغة ليست كافية لمنع الاضطرابات من التسلسل مجددًا إلى مؤسسات الحكم الفرنسية. ومن المقدر أنه خلال مرحلة الاضطرابات التي تقدم عليها فرنسا حاليًّا، فإن تكلفة عدم الاستقرار ستكون كبيرة في مختلف النواحي.