مفهوم جديد لـ"البطولة" في معسكر "سديه تيمان"

إن الإجرام الفريد في نوعه الذي يمارسه من وصفهم إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، بـ"أفضل الأبطال" ضد محتجزي قطاع غزة في معسكر "سديه تيمان"، هو نتيجة "ثقافة الإجرام" التي يتشربها الفرد في إسرائيل؛ فمنذ لحظات الحياة الأولى يتشرب هذا النموذج عبر نسق كامل من المحفزات والنواهي، صريحة وغير صريحة، تدفع به إلى امتثال لا واع للمبادئ الأساسية لثقافة الإجرام. تلك هي الصيرورة التي أسماها الأنثروبولوجيون "الترسيخ الثقافي". إن بنية الشخصية الإسرائيلية الناتجة من نقل الثقافة عن طريق التربية تتأقلم، مبدئيًّا، مع نموذج هذه الثقافة الإجرامية. إن العنوان الذي اختارته منظمة "بتسيلم" لتقريرها عن معسكرات التعذيب في إسرائيل "أهلًا بكم في جهنم"، خير معبِّر عن هذه الثقافة.
6 أغسطس 2024
شاحنة محملة بمعتقلين فلسطينيين عراة في قطاع غزة، 8 ديسمبر 2023 (رويترز)

إن ما يعانيه الفلسطينيون المحتجزون في معسكر "سديه تيمان" منذ عشرة أشهر من فظائع على مسمع ومرأى من العالم المتحضر هو عودة "المزيج الفريد من العوامل التي أطلقت العنان لرعب النازية" الذي رجَّح بريمو ليفي(Primo Levi) ، أحد الناجين من "الهولوكست"، في كتابه "الغرقى والمنقَذون" ((The Drowned and the Saved أنه لن يعود. لقد عاد بعد أن وجد نتنياهو ومن معه، تنظيمه وإضفاء الشرعية عليه وإعلانه ضروريًّا وإلزاميًّا، وأكثر من هذا تمجيده وإعلان مقترفيه "أبطالًا"، بل "أفضل الأبطال" كما وصفهم بن غفير. هكذا أصبح لـ"للبطولة" مفهوم جديد. فـ"البطل" هو من يوغل في الإجرام فيغتصب المحتجزين في أصفادهم وعيونهم معصوبة ويصعقهم بالكهرباء، ويسومهم ألوان العذاب.

تفيد الكاتبة الأميركية، أندريا بيتزر (Andrea Pitzer)، في كتابها "ليلة طويلة: تاريخ عالمي لمعسكرات الاعتقال" (One Long Night: A Global History of Concentration Camps)، أن تاريخ معسكرات الاعتقال يطوف من كوبا حول العالم ذهابًا وإيابًا، ويزور ست قارات وكل بلد تقريبًا على طول الطريق.

وقد ظلت المعسكرات قائمة بشكل مستمر في مكان ما من العالم أكثر من مئة عام، وتظل الثكنات والأسلاك الشائكة من أكثر رموزها شيوعًا. ولكن المعسكرات تُعرَّف أكثر بالمعتقلين فيها وليس بأي سمة مادية؛ فمعسكرات الاعتقال توجد في أي مكان تحتجز فيه الحكومة مجموعات من المدنيين خارج الإجراءات القانونية المرعية أحيانًا لعزل الأشخاص الذين يعدون أجانب أو غرباء، وأحيانًا لمعاقبتهم.

إذا كانت السجون مخصصة للمشتبه بهم المدانين بارتكاب جرائم بعد محاكمتهم، فإن معسكر الاعتقال يحتجز فيه أولئك الذين لم يحاكموا في أغلب الأحيان محاكمة حقيقية على الإطلاق. والمعتقل هو المصطلح الأكثر تحديدًا لأولئك المحتجزين بهذه الطريقة، ويمكن عدهم كذلك سجناء أو أسرى. في بعض الأحيان، كما هي الحال في غوانتانامو، ترتبط تسمية فئات المعتقلين بحماية قانونية محددة. وقد تنطوي كلمة "سجين" على منح الحقوق الواجبة لأسرى الحرب بموجب اتفاقيات جنيف، لذلك يميل العاملون في المعسكر إلى الإشارة إليهم أنهم محتجزون فحسب.

تؤوي معسكرات الاعتقال مدنيين وليس مقاتلين -على الرغم من أنه في كثير من الأوقات، من الحرب العالمية الأولى إلى غوانتانامو، لم يبذل مديرو المعسكرات دائمًا جهدًا للتمييز بين الاثنين. يُحتجز المعتقلون عادة بسبب هويتهم العرقية أو الثقافية أو الدينية أو السياسية، وليس بسبب أي جريمة تستوجب الملاحقة القضائية- رغم أن بعض الدول عالجت هذا الخلل من خلال جعل وجودهم القانوني شبه مستحيل. وهذا لا يعني أن جميع المعتقلين أبرياء من الأعمال الإجرامية ضد الحكومة في أي نظام معين، بل يمكن أخذ الأبرياء بجريرة المذنبين على حدٍّ سواء دون تمييز أو انتصاف.

وعلى عكس السجون، غالبًا ما تحتجز المعسكرات السجناء دون موعد محدد للإفراج عنهم. وفي حال وجود موعد محدد، فإنه عادة ما يتم تحديده بشكل تعسفي ويتم تغييره دون سابق إنذار.

لقد اعتقد البعض أن "قرن المعسكرات" قد ولَّى إلى غير رجعة لكن عالم الاجتماع زيجموت باومان (Zygmunt Bauman)   حذَّر من أن إغراء الحكومات لاستخدام المعسكرات سيكون قويًّا دائمًا "عندما يُعلن بشر معينون أنهم فائضون عن الحاجة، أو يُرغَمون على أن يكونوا كذلك". ونزيد على ذلك عندما يوصفون بـ"حيوانات أو أدنى من ذلك" وهذا ما يفسر ما يجري في معسكر "سديه تيمان". وبما أن إسرائيل جزء من الظاهرة الاستعمارية الإمبريالية، فلا يمكن فهمه، وفهم ممارساته إلا في إطارها.

إن معسكرات الاعتقال كانت في الأصل استعمارية؛ فقد استخدمها الإسبان بادئ الأمر، في 1896، لقمع تمرد في كوبا، والولايات المتحدة، في عام 1899، للغرض نفسه في الفلبين، والإمبراطورية البريطانية في جنوب إفريقيا أثناء حرب البوير، في الفترة من 1899 إلى 1902. ولم يكن أول استخدام لمعسكرات الاعتقال لتنفيذ سياسة إبادة متعمدة في أوروبا، بل في جنوب غرب إفريقيا الألمانية -ناميبيا اليوم- بين عامي 1904 و1907. (ولم تعترف ألمانيا رسميًّا إلا مؤخرًا بمعاملتها لقبيلتي هيريرو وناما باعتبارها إبادة جماعية).

ذهب المفكر المارتينيكي، إيمي سيزير (Aimé Césaire)، إلى أن ظهور المعسكرات في أوروبا هو نتيجة مباشرة للطريقة التي حاول بها الأوروبيون نزع الصفة الإنسانية عن رعاياهم المستعمَرين من أجل استغلالهم، لكن انتهى بهم الأمر إلى نزع الصفة الإنسانية عن أنفسهم، وهذا ما يسري على الإسرائيليين.

إن الاستعمار، وفقًا لسيزير، يعمل على نزع الصفة الإنسانية عن المُسْتَعْمَر، ومعاملته بوحشية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإذلاله. وعلى غرار سيزير، ربطت الفيلسوفة الألمانية اليهودية، حنة آرندت (Hannah Arendt) ، التي خبرت معسكرات الاعتقال النازي، بين سلوك القوى الأوروبية في مستعمراتها وسلوكها في أوروبا نفسها. فما الرابط بين ما تعرض له اليهود في معسكرات الاعتقال النازية وما اقترفوه في حق الفلسطينيين وما يقترفونه في معسكر "سديه تيمان"، وسجون الاحتلال؟

لقد دفع توظيف الإمبريالية (بريطانيا، أميركا، فرنسا، إسبانيا، ألمانيا...وغيرها) معسكرات الاعتقال بعض المفكرين إلى التساؤل إن كان المعسكر من سمات الدولة الحديثة.

تكشف معسكرات الاعتقال عند الفيلسوف الإيطالي، جورجيو أغامبي (Giorgio Agamben) ، عن شيء أساسي حول السلطة ومن يتولاها، وما الذي يمنحهم صلاحية ممارستها. وفي حالة إسرائيل، نزيد على ما قاله أغامبين: "ومن يدعم إسرائيل ويتستر على جرائمها ويمنحها الشرعية". إن الاحتلال الإسرائيلي لا يملك السلطة المطلقة على حياة ما أسماه قادة إسرائيل بـ"الحيوانات" فحسب، إنما سلطة تجريدها من حقوقها بأشكال عقابية تحط بها إلى ما أسماه أغامبين "الإنسان العاري" أو "المستباح" (Homo Sacer).

إن ما تقترفه إسرائيل من جرائم في معسكر "سديه تيمان" يستدعي من المفكرين والباحثين إعادة النظر في العدة المنهجية المعتمدة في دراسة معسكرات الاعتقال وما توصلت إليه الأدبيات عنها. فإسرائيل نتاج أصيل للظاهرة الإمبريالية لا يمكن فهمها إلا في هذا الإطار، رغم كونها حالة فريدة.

لقد جادل باومان بأن ما يميز العنف في عصرنا هو المسافة، ليس المسافة المادية أو الجغرافية فحسب التي تسمح بها التكنولوجيا، بل المسافة الاجتماعية والنفسية التي تنتجها أنظمة معقدة يبدو أن الجميع فيها متواطئ ولا أحد.

ويرى باومان أن هذا الفعل ينفذ على ثلاثة مستويات، أولًا: تنفذ الأفعال "سلسلة طويلة من المنفذين"؛ حيث يكون الناس هم الذين يعطون الأوامر ويتلقونها في الوقت نفسه. وثانيًا: كل شخص مشارك لديه وظيفة محددة ومركزة ليؤديها. وثالثًا: نادرًا ما يبدو الأشخاص المتضررون بشرًا كاملين في نظر أولئك داخل النظام. وفي هذا السياق، كتب باومان: "لم تجعل الحداثة الناس أكثر قسوة، بل إنها اخترعت طريقة فحسب يمكن من خلالها أن يقوم أشخاص غير قساة بأعمال قاسية".

إن هذا الاختراع الحداثي الذي جعل أشخاصًا غير قساة يأتون أعمال قاسية لا يسري على حالة الاحتلال الإسرائيلي. فقد تحول ضحايا "الهولوكوست" ومن يتاجرون به إلى جناة؛ أقاموا للإنسان الفلسطيني، "الحيوان" عندهم، ما هو أسوأ من معسكرات "الهولوكوست"، يقتلونه من أجل التسلية وتزجية الوقت ودفع الملل، ويغتصبونه ويمارسون في حقه ما لا يخطر على بال من الفظاعات دون أن يرف للعالم المتحضر جفن. ويحاول قادة إسرائيل وإعلامها التنصل من هذه الجرائم بادعاء أنها أعمال فردية، ويقيمون محاكمات مسرحية لبعض الجنود، لكن الواقع أن الإجرام عندهم ثقافة؛ فمنذ لحظات الحياة الأولى يتشرب الفرد هذا النموذج عبر نسق كامل من المحفزات والنواهي، صريحة وغير صريحة، تدفع به إلى امتثالٍ لا واع للمبادئ الأساسية لثقافة الإجرام. تلك هي الصيرورة التي أسماها الأنثروبولوجيون "الترسيخ الثقافي". إن بنية الشخصية الإسرائيلية الناتجة من نقل الثقافة عن طريق التربية تتأقلم، مبدئيًّا، مع نموذج هذه الثقافة الإجرامية.

هل هذا الإجرام الفريد في نوعه الذي يقترفه "أفضل الأبطال" يندرج تحت عنوان "الخصوصية" التي تدعيها الصهيونية لـ"الشعب اليهودي"؟ "خصوصية الذكاء" و"خصوصية العرق" وحتى "خصوصية المرض" وغيرها من الأساطير التي جرفها "طوفان الأقصى".

إن هؤلاء "المجرمين الأبطال" هم من يخشى عليهم المؤرخ اليهودي المناهض للصهيونية، إيلان بابيه (Ilan Pappe) من الفوضى التي ستحدث في مرحلة انهيار المشروع الصهيوني، كما هو الشأن في نهاية كل المشاريع الاستعمارية، ويتساءل بابيه عن مستقبلهم وينتظر أن يسمع من الفلسطينيين القول الفصل في شأنهم.

نبذة عن الكاتب