عرب "ياد فاشيم" "الأنصار الأشراف"

كرمت مؤسسة "ياد فاشيم" الإسرائيلية منذ تأسيسها قبل عقود الآلاف من "أنصار الشعب اليهودي الأشراف" من دون أن ينال عربي واحد هذا الشرف. لكن بعد هرولة دول عربية للتطبيع مع إسرائيل في إطار ما يسمى "اتفاقيات إبراهيم"، برعاية أميركية، والحبل على الجرار، وما قدمته هذه الأنظمة المطبعة من خدمات جليلة للاحتلال منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من حرب إبادة للشعب الفلسطيني، أصبح هؤلاء مرشحين بقوة، فهل سيقبلهم المجرمون؟
21 أغسطس 2024
حفل افتتاح اليوم الوطني الإسرائيلي لإحياء ذكرى الهولوكوست في ياد فاشيم بمدينة القدس/ يوم 05 مايو/أيار 2024 - رويترز

يبدو أن "اتفاقيات إبراهيم" والهرولة نحو التطبيع، و"عملية طوفان الأقصى" ستدفع إسرائيل إلى تعديل قانون مؤسسة "ياد فاشيم"، لـ"أنصار" اليهود "الأشراف"، من غير اليهود ليصبح أكثر تشددًا؛ لأن المرشحين العرب أصبحوا كثرًا بعد طول غياب عن "قائمة الشرف" التي تضم أناسا من أمم شتى ومن أديان وأعراق من مشارق الأرض ومغاربها؛ ولأن الخدمات والتضحيات التي قدموها لـ"الشعب اليهودي" تفوق المتطلبات، وهذا بيان لذلك.

بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 خرج روبرت ساتلوف  (Robert Satloff)، بعد أن انتقل مع عائلته من الولايات المتحدة الأميركية إلى العاصمة المغربية الرباط، في رحلة للبحث عن "شندلر عربي" أو "والنبرغ عربي".

ولمن لا يعرف ساتلوف، فهو مؤرخ أميركي متخصص في السياسة العربية والإسلامية والعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل والشرق الأوسط. يتولى منذ يناير/كانون الثاني 1993 منصب المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى لكشف القصص والأخبار عن "الأبطال" و"الأشرار" العرب خلال المحرقة اليهودية (الهولوكوست) وذلك بمراجعة المحفوظات وإجراء المقابلات والزيارات الميدانية لإحدى عشرة دولة موزّعة على أربع قارات.

كان هدف ساتلوف هو العثور على منقذين عرب لليهود الذين لجؤوا إلى دول شمال إفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية هربًا من النازية. وشكلت اكتشافاته، التي ساعدت في إقناع الحكومة الألمانية بدفع التعويضات لليهود الناجين من معسكرات العمل القسري في شمال إفريقيا، موضوع كتابه Among the Righteous: Lost Stories of the Holocaust's Long Reach into Arab Lands. وفي عام 2010، عرضت قناة "پي بي أس" (PBS) فيلمًا وثائقيًّا مقتبسًا من الكتاب.

من هم "أنصار" اليهود "الأشراف" وفقًا لقانون مؤسسة "ياد فاشيم" (المركز العالمي التوثيقي والبحثي والتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست)؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، ماذا يعني اسم المؤسسة؟ "إِنِّي أُعْطِيهِمْ فِي بَيْتِي وَفِي أَسْوَارِي نُصُبًا (ياد) وَاسْمًا (فاشيم) أَفْضَلَ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. أُعْطِيهِمِ اسْمًا أَبَدِيًّا لاَ يَنْقَطِعُ" (إشعياء 56/5)". إن الصهاينة مولعون بالمسميات ذات الحمولة الدينية التاريخية، فحتى الأندية الرياضية يتخذون لها أسماء من هذا النوع "أبطالهم"، "بار كوخبا"، "مكابي"... وكل الأساطير التي بنيت عليها الحركة الصهيونية وظفت التاريخ والدين، رغم أن معظم الزعماء الصهاينة كانوا ملاحدة.

تستهل مؤسسة "ياد فاشيم" تعريفها لـ"الأنصار الأشراف" بالشكوى من السكان المحليين الذين تراوحت مواقفهم من اليهود خلال فترة "المحرقة" بين اللامبالاة والعداء عندما جرى اعتقالهم ثم قتلهم، وقد تعاون بعضهم مع مرتكبي الجرائم، واستفاد كثير منهم من مصادرة ممتلكات اليهود. وتتحدث المؤسسة عن "واقع من الانهيار الأخلاقي" الذي ساد تلك الفترة، أما هبّة معظم العالم للاحتجاج على الإبادة في غزة فهي "معاداة للسامية". لقد تحلت قلة قليلة في تلك الفترة، كما تقول المؤسسة، بالشجاعة الخارقة لصون القيم الإنسانية؛ وذلك بالمخاطرة بحياتها من أجل إنقاذ حياة اليهود. وعُرف هؤلاء الأفراد باسم "أنصار الشعب اليهودي".

ومن أهم المهام الملقاة على عاتق مؤسسة "ياد فاشيم" التعبير عن شكر وامتنان الشعب اليهودي لـ"أنصاره الأشراف". لقد تم تحديد هذه المهمة أول مرة في القانون الذي تمخضت عنه مؤسسة "ياد فاشيم" التي أطلقت في 1963 مشروعًا لمنح وسام "أنصار الشعب اليهودي" للأفراد القلائل الذين وفروا الحماية لليهود من القتلة. وتم لهذه الغاية تشكيل لجنة عامة ترأسها قاضٍ في المحكمة العليا للنظر في أي حالة تعرض عليها ولتتولَّى مسؤولية إجازة "الأنصار الأشراف"؛ فتمنحهم ميدالية وشهادة تقدير فضلًا عن تخليد أسمائهم في "جبل الذكرى" المقام داخل مقر مؤسسة "ياد فاشيم" في أورشليم/ القدس.

لقد جاء أنصار الشعب اليهودي من شعوب كثيرة، إذ كرمت مؤسسة ياد فاشيم حتى الآن أفرادًا من مواطني 42 دولة، بينهم مسيحيون من جميع الطوائف ومسلمون، بعضهم متدينون وبعضهم من أتباع مذهب اللاأدرية، وهم من الرجال والنساء، وينتمون إلى مختلف فئات المجتمع والأعمار، ومنهم مَن كان من المهنيين المثقفين ومَن كان من الفلاحين الأميين. أما القاسم المشترك الذي يجمعهم فهو روح الإنسانية والشجاعة التي أظهروها من خلال الالتزام بمبادئهم الأخلاقية. وقد كرمت مؤسسة "ياد فاشيم" بحلول عام 2007 ما لا يقل عن 22 ألفًا من "أنصار الشعب اليهودي الأشراف". وأصدرت مؤسسة "النصب والاسم" موسوعات تعرف بهؤلاء.

1
مصدر الصورة: الموقع الإلكتروني لمؤسسة "ياد فاشيم".

إن غياب العرب عن هذه اللائحة جعل ساتلوف، الصهيوني الهوى، ينطلق في مهمة للعثور على بطل عربي على غرار " شندلر" أو "والنبرغ " لـ"تغير قصته الطريقة التي ينظر بها العرب إلى اليهود، وأنفسهم، وتاريخهم". إنها "المهمة الحضارية" التي انطلقت مع الحركة الإمبريالية وما زالت مستمرة وإن تغيَّر لبوسها. فساتلوف، الخبير في السياسة العربية والإسلامية وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وصاحب المؤلفات والمحاضرات الكثيرة عن عملية السلام العربية الإسرائيلية والتحدي الذي يشكله الإسلام السياسي، أمضى أكثر من عامين يسافر في مختلف أرجاء الشرق الأوسط وأوروبا ويكتب بشكل مكثف عن سُبُل إضفاء الحزم والأفكار على الحملة الأيديولوجية ضد "الإسلام المتطرف". وهذا هو الموضوع الذي تتناوله مجموعة مقالاته باللغة الإنجليزية التي جمعها تحت عنوان "معركة الأفكار في الحرب على الإرهاب: مقالات عن الدبلوماسية الأميركية العامة في الشرق الأوسط"

 (The Battle of Ideas in the War on Terror: Essays on U.S. Public Diplomacy in the ME).

اقترح روبرت ساتلوف تسمية التونسي خالد عبد الوهاب من الصالحين بين الأمم في ياد فاشيم. وقد تم حتى الآن تكريم حوالي 50 مسلمًا، معظمهم من تركيا والبلقان، باعتبارهم من "الصالحين". ما الذي جعل ساتلوف يقترح هذا الاسم؟ آوى خالد، وهو من ملاك الأراضي توفي عام 1997، عائلة يهودية تونسية طُردت من منزلها. وأكدت آن بوخريص، ابنة العائلة التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 11 عامًا، أن عبد الوهاب لم يقدم لهم مكانًا للاختباء فحسب، بل منع كذلك ضابطًا ألمانيًّا من اغتصاب والدتها. كان ذلك في الفترة الذي دخل فيها النازيون إلى تونس بعد احتلال فرنسا في شهر يوليو/تموز 1940، إذ دخل الألمان إلى فرنسا وسيطروا على معظم أراضيها، وتركوا الجزء "غير المحتل" للمارشال فيليب بيتان ( (Ph. Pétain لإدارته في فيشي. تبنى هذا النظام الموالي للنازية موقفًا معاديًا لليهود، فسنّ جملة من القوانين العنصرية ضدهم كان أولها في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1940، وعممها في مستعمرات فرنسا ومحمياتها وراء البحار، ومن بينها المغرب، والجزائر، وتونس. (للاستزادة، راجع الصفحات من 122 إلى 127 من كتاب ساتلوف).

إن ما قام به التونسي خالد عبد الوهاب، من إخفاء عائلة يهودية تونسية من بطش النظام النازي وحماية امرأة من الاغتصاب، ليس استثناء؛ فأشكال الحماية التي حظي بها اليهود في بلدان المغرب العربي خلال فترة فيشي متنوعة. ومن الأمثلة الطريفة إخفاء مطرب يهودي شعبي، كان يغني في الحانات، في مسجد. لكن كل هذا كان في سياق مختلف وبدوافع إنسانية. فأولئك الذين عانوا القتل والتشريد على يد النظام النازي خلف من بعدهم خلف يستغلون مأساتهم ويتاجرون بها، وتحولوا إلى مجرمين بزّوا بجرائهم النظام النازي. فوجدوا من العرب من يهرول للتطبيع معهم وبعد عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من حرب إبادة للشعب الفلسطيني، أصبحت بعض الأنظمة العربية يدًا واحدة مع الاحتلال ضد المقاومة، تطالبه بالإجهاز عليها وتمده بكل أنواع المساعدة، وفوق هذا تروج بحماس منقطع النظير لسرديته التي بارت باعترافه هو. فها هو أحدهم يقول للأميركان إنه يعرض حياته للخطر من خلال السعي إلى صفقة كبرى مع الولايات المتحدة وإسرائيل تتضمن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإنه قد يجري له ما جرى للرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، وتساءل عما فعلته الولايات المتحدة لحمايته. وسواء أكان ما قاله صحيحًا أم لحاجة في نفسه، فإن التطبيع مع القتلة والمجرمين والارتماء في أحضانهم يعد مقامرة.

بعد "اتفاقيات إبراهيم" والإبادة الجارية في غزة التي يباركها "العالم المتحضر"، لم تعد مؤسسة "النصب والاسم" تعدم "الأنصار الأشراف" من العرب الذين غابوا عن قائمتها عقودًا، بعد أن استجابوا وزيادة لمتطلبات المؤسسة. فهل ستقبل أن "يلوث" هؤلاء شرفها؟

نبذة عن الكاتب