رئاسيات الجزائر المعجَّلة.. برامج وتحديات حملات المرشحين لسباق قصر المرادية

تحظى الانتخابات الجزائرية الحالية بميزة خاصة لعدّة أسباب: فهي الانتخابات المعجَّلة الثانية في تاريخ الجزائر المستقلة، وتشارك فيها قوى سياسية ذات أهمية، سواء تعلّق الأمر بالمترشح الحرّ عبد المجيد تبّون، أو ما تحظى به جبهة القوى الاشتراكية وحركة مجتمع السّلم من تاريخ نضالي.
الحكومة الجزائرية أمام رهان مشاركة انتخابية رئاسية لا تقل عن 60% (الجزيرة)

مقدمة:

مع بلوغ شهر أغسطس/آب 2024 المنتصف انطلقت فعاليات الحملة الانتخابية للرئاسيات الجزائرية المعجَّلة، المُزمع إجراؤها بتاريخ 07 سبتمبر/أيلول 2024، وإذ تمثّل هذه المناسبة الانتخابية أهمية بالغة بالنسبة للنظام السياسي الجزائري وواقع ديناميكية العملية السياسية الوطنية كلها، فإنها في المقابل تواجه عدّة تحدّيات ورهانات ستكشف عنها مخرجات يوم الاقتراع بتاريخه المحدّد سلفًا، ومن هذا المنطلق يطرح الباحثون والمهتمون بالشأن السياسي الجزائري عدّة تساؤلات، سواء تلك المتعلقة بالسياق السياسي العام وأسباب تعجيل موعد الرئاسيات الحالية وتداعياته، أو حول توصيف خريطة المرشحين المتنافسين على كرسي قصر المرادية، أو مضامين البرامج الانتخابية المطروحة التي يسعى من خلالها كل مترشح لكسب أصوات الناخبين عبر ولايات الوطن.

أوّلًا: رئاسيات معجَّلة.. أيُّ سياقٍ سياسي؟

منذ انطلاق أولى شرارات الحراك الشعبي بالجزائر بتاريخ 22 فبراير/شباط 2019، والسّاحة السياسية الوطنية تشهد حركية وتجاذبات واسعة النطاق، تمحورت في مجملها حول إعادة ترتيب البِناء المؤسساتي والدستوري الناظم لهيئات الحكم بالبلاد، وقد مثّلت الانتخابات الرّئاسية الأخيرة بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، أولى اللبنات والركائز الأساسية لبعث النظام السياسي الجزائري بديناميكيته الجديدة تحت قيادة الرّئيس عبد المجيد تبّون(1)؛ إذ شهدت عهدته الرئاسية العديد من التحدّيات، والرهانات والتحوّلات بشتى الأصعدة والمجالات، وهو السيناريو المُتوقع على الأقل من قِبل الجهات والنُّخب المؤيدة لتصورات السلطة السياسية الحاكمة بالجزائر، باعتبار أن الدولة ركّزت خلال هذه العهدة على السياسات التي من شأنها التغيير والقضاء على السلوكيات التي طبعت فترة الحكم السابقة لمرحلة ما بعد الحراك الشعبي، مع تأكيدهم على الصعاب والتحديات الهامة التي واكبت عهدة الرّئيس تبّون، على غرار تداعيات أزمة جائحة كورونا، والتذبذبات في أسعار النفط جرّاء عدّة عوامل ومسببات دولية، على اعتبار أنّ الاقتصاد الجزائري يعتمد بشكلٍ كبير على المداخيل النفطية.

وما فتئت الأحداث والمستجدات السياسية الجزائرية تتسارع إلى أن جاء الإعلان الرّسمي المفاجئ عن إجراء انتخابات رئاسية معجَّلة بتاريخ 07 سبتمبر/أيلول 2024، أي قبل حوالي ثلاثة أشهر من موعدها الأصلي الذي كان مقررًا منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول من ذات السنة، مع تحديد تاريخ الثامن من يونيو/حزيران موعدًا لاستدعاء الهيئة الناخبة(2)، وقد توالت القراءات بخصوص خلفيات القرار ودوافعه. إلا أنّ السلطات الرّسمية لم تترك المجال مفتوحًا للتأويلات فبادرت بالتوضيح قائلة إنّ القرار جاء من صميم حرص الرئيس عبد المجيد تبّون على ترسيخ وضع "الاستقرار" الذي سعى جاهدًا لتثبيته منذ انتخابه رئيسًا سنة 2019، وعليه كان لا بد أن يُعاد النظر في الترتيبات والمواعيد الانتخابية الهامّة، وتأسيسها بمواعيدها الاعتيادية الطبيعية التي كانت عليها قبل فترة الحراك الشعبي، وما شهدته من إجراءات استثنائية "انتقالية"، ومن جهةٍ أخرى أكّد الرئيس خلال لقائه الإعلامي، أنّ الدولة تسعى للحرص على إعادة البناء السلطوي وفق التقاليد المعمول بها في تجارب النظام الجزائري.

تاريخيًّا شهد النظام السياسي الجزائري تجربةً لانتخابات رئاسية معجَّلة، وذلك قبيل نهاية عهدة الرئيس الأسبق اليمين زروال سنة 1999، التي وصل على إثرها الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة إلى سُدّة الحكم بقصر المرادية وحكم البلاد عقدين من الزمن(3). إلا أنّ السياق الذي حكم تلك المناسبة يختلف تمامًا عن السياق الحالي، سواء من حيث توازنات القوة السياسية والمعطيات الاقتصادية المحلية، أو على مستوى الأوضاع الأمنية السّائدة وطنيًّا وإقليميًّا، وعليه يمكن في هذا الصّدد أن نرصد مجموعة من الإشارات الهامة التي تطبع السياق العام المصاحب لقرار إجراء انتخابات رئاسية معجَّلة بتاريخ 07 سبتمبر/أيلول 2024 في التالي:

  • من وجهة نظر السلطة السياسية القائمة، فإن الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها قبل أوانها، تأتي في ظل رهانات وتحديات جيوسياسية إقليمية ماثلة المعالم، وقد أوضح بيان الإذاعة الوطنية الجزائرية هذا التوجه في تحليله لقرار رئيس الجمهورية عبر الإشارة إلى ترؤُّس الجزائر لقمة الدول المصدّرة للغاز بالعالم، إلى جانب حالة عدم الاستقرار التي اجتاحت دول المحيط الجزائري؛ خاصة نطاق الساحل الإفريقي المتاخم للحدود الجنوبية للبلاد. وهي كلها قضايا صاحبت وعجّلت اتخاذ صانع القرار بقصر المرادية هذه الخطوة الضرورية، فضلًا عن كونها تعبّر عن استجابةٍ تقنية مُلِحّة لإعادة ضبط عقارب ساعة المواعيد الانتخابية على سابق عهدها الزمني.
  • تصاعد التصريحات والتحليلات الصحفية خاصّةً الخارجية منها عن وجود تصورات وطنية باحتمال تأجيل الموعد الانتخابي الأهم بالجزائر. وقد تمّ التنويه لهذه الجزئية ببيان وكالة الأنباء الجزائرية عند نشرها لقرار الرئيس بتقديم الانتخابات لثلاثة أشهر قبل موعدها الأصلي. وجدير بالذكر في هذا الشأن أن القرار سبقته تقارير صحفية أجنبية "فرنسية ومغربية"، أشارت إلى إمكانية تأجيل الموعد الرئاسي الجزائري لعدّة أسباب: أهمها وجود صراع بهرم السلطة الجزائرية حول طبيعة المرشحين المتوقعين للسباق الرئاسي من جهة، وعدم التوافق على "مرشح السلطة" من جهةٍ أخرى. وقد حرص الرئيس عبد المجيد تبون في قراره بتقديم الانتخابات الرئاسية على نفي ودحض كل هذه القراءات الزاعمة لوجود صراع على السلطة، بل بالعكس فإن الانتخابات -بحسبه- ستكون مناسبة لترسيخ اللحمة والوحدة الوطنية في مواجهة هذه السلوكيات والمخططات الخارجية(4).

ثانيًا: خريطة المرشحين للسباق الرّئاسي

مع فتح باب الترشّح لانتخابات الرئاسة الجزائرية المعجَّلة، تسارعت الأحداث المتحكمة في تفاعلات السّاحة السياسية الجزائرية، وقد أثرت في المشهد الحزبي، باعتبار الأمر متعلقًا بالاستحقاق الانتخابي الأهم على مستوى العملية السياسية بالنظام السياسي الجزائري، الذي لطالما مثّل منصب الرئيس فيه العمود الفقري والدعامة الأساسية لمنظومة الحكم بالبلاد منذ نيل الاستقلال الوطني عن المستعمر الفرنسي سنة 1962. وقبل التفصيل في تحليل خريطة المرشحين الحالية بالنسبة للمتابعين والمهتمين بالشأن الجزائري، فإننا، ومن الوهلة الأولى عند النظر إلى طبيعة وتركيبة هذه الخريطة، سواء من حيث الأشخاص أو الأطر والتكتّلات الحزبية، نجد بعض الملاحظات التي تكاد تكون متكرّرة في معظم المناسبات الانتخابية الرئاسية السّابقة، ومن بينها ما يلي:

  1. التنوع في مشارب وخلفيات المرشحين من حيث الأيديولوجيا والطرح الفكري العقدي الذي ينتمون إليه، وفي هذا الصّدد فمن المعلوم أنّ الساحة السياسية الجزائرية تتضمن قوى متمازجة ومتباينة الحساسيات (وطنية، ديمقراطية، لائكية علمانية، إسلامية)(5).
  2. بروز التكتّلات والتحالفات الحزبية المدنية والمجتمعية المساندة والمؤيدة لمرشحٍ رئاسي بعينه غالبًا ما يكون الرئيس المنتهية عهدته، وقد أضحى هذا الوضع بمثابة تقليد ترسّخ بالمناسبات الانتخابية الرئاسية خاصّةً منذ تولي الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة الحكم سنة 1999 وطوال فترة حكمه التي امتدت إلى سنة 2019.

يتصدّر قائمة المرّشحين الرئيس المنتهية ولايته السيد عبد المجيد تبون، وقد درج المختصون بالملف الجزائري على تسمية الرئيس المرشّح "مرشح النظام"، في إشارةٍ إلى وجود توافق عام لمؤسسات وفواعل منظومة الحكم بالجزائر على مرشح بعينه. وفي التجارب السياسية التاريخية لم يسبق لأي رئيس جزائري أن فشل في الظفر بعهدة إضافية في أي سباقٍ رئاسي، وتبدو الحالة كذلك بالنسبة للانتخابات الجارية؛ إذ إنه منذ إعلان السيد تبّون نيته الترشح للاستمرار في قيادة البلاد بتاريخ 11 يوليو/تموز 2024، والمهتمون يحللون المشهد السياسي باعتباره الرقم الصعب في العملية الانتخابية، والمرشح الأقرب لنيل كرسي قصر المرادية. وقد سبق إعلانَ عبد المجيد تبّون ترشحه عقدُ تفاهمات وتكتّلات حزبية ومجتمعية داعية ومؤيدة لاستمرار ترؤُّسه سدّة الحكم عبر الترشح من جديد(6)، وهو ما يجعل الصورة أقرب إلى وجود جبهة سياسية عريضة ومتكاملة، تدخل ضمن وعاء المرشح تبون الانتخابي ورصيده الشعبي.

ومن جانبٍ آخر تتميز الانتخابات الحالية بوجود مرشحين عن أحزاب سياسية تصنّف في خانة المعارضة، وفي هذا الصّدد يعتبر المرشح عن حزب جبهة القوى الاشتراكية (FFS) السيّد أوشيش أبرزهم على الإطلاق، بالنظر للتاريخ السياسي والنضالي للحزب. وتكتسي مشاركة الحزب أهمية بالغة بالنظر إلى المدة الطويلة التي بقي فيها مقاطعًا لأغلب الرئاسيات الماضية منذ سنة 1999، وهي الانتخابات التي انسحب منها مرشح الحزب وزعيمه التاريخي الراحل حسين آيت أحمد قبل يوم الاقتراع إلى جانب بقية المرشحين(7)، ليكتفي الحزب بعد ذلك بالمشاركة في الانتخابات التشريعية على المستويين الوطني والمحلي الولائي.

وفي الوقت الذي ترى فيه جبهة القوى الاشتراكية خطوة المشاركة الإيجابية ضرورة سياسية ملحّة تعكس نيتها لولوج المعترك السياسي بالتنافس على النصيب الأهم في منظومة الحكم بالجزائر(8)، ترى فيه قوى "معارضة" أخرى تلك المشاركة تزكيةً للنظام الحالي وللعملية السياسية كلها، وهو الأمر الذي ترفضه قطاعات معتبرة من الساحة السياسية الجزائرية، خاصة تلك الرافضة للمسار السياسي المؤسساتي المنبثق عن حراك 2019. ومن جهةٍ أخرى ترى فيه السلطة تعبيرًا عن انفتاحية صحّية من شأنها أن تُنجح الاستحقاق الانتخابي في سبتمبر/أيلول المقبل.

وفي سياقٍ متّصل، أفردت تقارير إعلامية مساحات تحليلية واسعة النطاق لإعطاء مشاركة جبهة القوى الاشتراكية عن طريق المرشّح يوسف أوشيش بعدًا آخر؛ إذ إن القاعدة والتمثيل الشعبيين الكبيرين للجبهة بمنطقة القبائل الجزائرية، قد يدفعان بنسب المشاركة في التصويت خلال الموعد الانتخابي في سبتمبر/أيلول المقبل قدمًا في اتجاهات متصاعدة، خاصة إذا ما قُورن مع آخر رئاسيات في 2019، حين لم تتعدّ نسبة المشاركة بولاية تيزو وزو على سبيل المثال حاجز %01(9). ومن جانب آخر فقد سبق انطلاقَ الحملة الانتخابية زيارةُ الرئيس عبد المجيد تبّون الميدانية لذات الولاية بتاريخ 10 يوليو/تموز 2024(10)، وقد وصفت الزيارة بأنها ناجحة من حيث المشاريع التنموية التي تمّ إطلاقها، وكذا بالنظر إلى حجم الاستقبال الشعبي الذي حظي به الرئيس حينها.

وفي أحد أقوى التنظيمات الحزبية حضورًا وتأثيرًا، أعلنت حركة مجتمع السلم المعروفة اختصارًا بـ"حمس"، تزكيتها لرئيسها عبد العالي حساني الشريف بعد مشاورات معمّقة لمجلس الشورى الخاص بالحركة يوم 25 مايو/أيار 2024، وتعتبر الحركة أبرز أقطاب التيار الإسلامي بالجزائر(11). ولطالما نشطت في مختلف المناسبات الانتخابية خاصة في التشريعيات والمحليات، وكشبيهتها جبهة القوى الاشتراكية فإن الرئاسيات الحالية تعتبر محطّة عودة للحركة بعد غيابٍ امتدّ منذ الفترة السابقة لعهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. وتجدر الإشارة إلى أنّ آخر انتخابات رئاسية شاركت فيها الحركة كانت سنة 1999 عن طريق مرشحها وزعيمها الراحل الشيخ محفوظ نحناح الذي حصل على نسبة %26.06 من إجمالي المصوتين، وهي الانتخابات التي فاز فيها الرئيس الأسبق اليمين زروال بنسبة %61.29(12). وكثيرًا ما يحظى مرشحو الحركة في استحقاقات كهذه باهتمام بالغ من قبل المتابعين؛ بالنظر إلى حجم القاعدة الشعبية التي تتمتع بها؛ مما يمكّنها من إضفاء نوع من التنافسية مع "مرشحي النظام" على الانتخابات.

وفي الوجه الآخر لمشهد وخريطة المرشحين لسباق الرئاسة بالجزائر، وبعد إعلان السلطة المستقلة للانتخابات عن القائمة النهائية لأصحاب الملفات المقبولة من المرشحين، فقد تميّزت هذه المناسبة بغياب تام للوجوه النسوية، والحديث هنا ينصب على الراغبة في الترشح عن حزب العمال لويزة حنون(13)، التي غالبًا ما جمعت في ترشحها بين تمثيل العنصر النسوي في شبكة الراغبين في الوصول إلى كرسي الرئاسة من جهة، وتمثيل القوى العلمانية اليسارية الأبرز من جهةٍ أخرى.

وقد تراجعت حنّون عن الترشح لأسبابٍ متعددة تنظيمية وسياسية، بعد أن أعلنت سابقًا رغبتها في المشاركة في الانتخابات بناء على اقتناعات حزبية راسخة بضرورة التغيير وطرح البديل السياسي والاقتصادي لإدارة الشأن العام. وفي سياقٍ متّصل شمل رفض السلطة المستقلة المرشحة عن حزب الاتحاد من أجل التغيير والرُّقي المعارض المحامية زبيدة عسّول، التي كانت أوّل من أبدى الرغبة في الترّشح، وعلّلت ذلك بداعي أنّ فترة ما بعد انتخاب الرئيس عبد المجيد تبّون لم تأت بأي جديد أو تحسّن في الأوضاع الاقتصادية والسياسية للبلاد(14)، واعتبرت الانتخابات الحالية فرصةً للتغيير وتحسين الأداء الحكومي للعهدة الرئاسية المُقبلة.

ثالثًا: البرامج الانتخابية ومساعي كسب أصوات الناخبين

بحلول يوم الخامس عشر من أغسطس/آب 2024 انطلق أول أيام الحملة الانتخابية وفق رزنامة الرئاسيات الجزائرية المرتقبة، وقد سبق هذا الموعدَ مسارٌ تنظيميٌّ حثيثٌ من قبل معسكرات المرشحين الثلاثة لكرسي قصر المرادية بالجزائر العاصمة، وذلك عبر تجنيد مختلف الكوادر والفعاليات الميدانية المسطّرة لإقناع الناخبين بالرؤى والتوجهات العريضة للمترشحين. وقد اختار كل مترشح برنامجًا انتخابيًّا متكامل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بغية التغطية الشاملة لمعظم الجوانب الضرورية لحياة المواطنين، على المستويين الوطني القومي والولائي المحلي.

واللافت في هذه الانتخابات المعجَّلة التركيز المتنامي على الملف الاقتصادي في تصميم وصياغة البرامج الانتخابية المتنافسة، ولَئِن كان هذا هو الطابع العام الذي نجده في أي مناسبة انتخابية، فإن الانتخابات الحالية تكتسي ميزةً خاصة وسياقا سياسيا فريدا مقارنة بباقي الرئاسيات، فموعد السابع من سبتمبر/أيلول 2024 يأتي بعد انتهاء أوّل عهدة رئاسية أعقبت أحداث الحراك الشعبي بالجزائر، الذي تركّز النقاش السياسي فيه حول المضمون السياسي، الحقوق والحريات ومكافحة الفساد، وكذا القضاء على مختلف ممارسات ورموز النظام السابق(15)، الأمر الذي جعله ينعكس في مضامين الحملات الانتخابية لرئاسيات سنة 2019، وهو ما جعل المراقبين حينها يصفون تلك الانتخابات بأنها سياسية بامتياز.

غير أنّ الواقع الآن قد أضفى بعدًا آخر غلب عليه الطرح الاقتصادي، خاصةً أنّ فترة حكم الرئيس تبّون قد شهدت تحدّيات اقتصادية جمّة بدايةً من تداعيات جائحة كورونا سنة 2020، ووصولًا إلى التقلبات الداخلية في مستويات القدرة الشرائية للمواطن الجزائري نتيجةً لعدّة اعتبارات وطنية ودولية؛ مما جعل الملف الاقتصادي يأخذ نصيب الأسد في غِمار المنافسة بين مرشحي انتخابات الرئاسة الراهنة.

بالنسبة للمرشح عبد المجيد تبّون فقد أسّس برنامجه الانتخابي بناءً على منجزات تعهداته الـ54 التي حدّدها في حملته الانتخابية لرئاسيات 2019، وجعل من رئاسيات سبتمبر/أيلول مرحلةً مكمّلة لمسار عمله المنتظم والساعي لتحقيق جملة من الاستحقاقات والالتزامات التي تمّ تسطيرها منذ خمس سنوات. فبعد تبني سياسة إعادة بناء مؤسسات الدولة وترسيخ الاستقرار السياسي للبلاد في السنوات الأولى لحكمه، ركّز على البعد الاقتصادي في السنتين الأخيرتين ليجعل من سنة 2024 سنةً "للإقلاع الاقتصادي"(16)، معلنًا بذلك نهاية مرحلة وضع حجر الأساس للبُنى السياسية المؤسسية لما بعد الحراك الشعبي.

ومن الوهلة الأولى يظهر المرشح تبون بأفضلية من حيث توصيف الواقع الاقتصادي للبلاد مقارنةً ببقية المرشحين، وذلك لعدة أسباب أهمها: امتلاك البيانات والأرقام الدقيقة لمختلف مؤشرات الاقتصاد الوطني الجزائري؛ لأنه كان على رأس الدولة الجزائرية طوال السنوات الخمس الماضية، الأمر الذي يعطيه أسبقية تقنية على منافسيه في عرض المتطلبات التي تفرضها بيئة النظام الداخلية.

ومن ناحيةٍ أخرى يُنافس المترشح عن حزب جبهة القوى الاشتراكية (FFS) السيّد يوسف أوشيش ببرنامج انتخابي تحت شعار "رؤية"(17)، ومن المعروف التوجه العام للحزب العتيد الذي ينضوي تحت سقف التيارات اليسارية التقدمية، وهو من أبرز الأحزاب السياسية المعارضة بالجزائر. وقد حاول من خلال برنامجه المحافظة على الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية وفق ما يمليه بيان الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، ورفع القدرة الشرائية للمواطن الجزائري. وهو توجه تشترك فيه كل القوى المتنافسة بهذه الرئاسيات، بل إنه أضحى كقاعدة توافقية بين مختلف الحساسيات السياسية بالجزائر باختلاف مشاربهم (وطنيين، إسلاميين، لائيكيين، ديمقراطيين). وقد خصص عدّة ميكانيزمات وآليات لبلوغ هذا الهدف من خلال ترشيد النفقات العمومية وفتح المجال بشكل أوسع للشباب للاستثمار وإيجاد الثروة بعيدًا عن قطاع المحروقات. وفي المقابل انفرد برنامج يوسف أوشيش باقتراح تعديلات على طبيعة نظام الحكم، وذلك عبر تبني نظام شبه رئاسي ذي صلاحيات أوسع للبرلمان، أي التركيز على الدور البرلماني باعتباره المؤسسة التمثيلية والتشريعية الأهم بالبلاد. وكذا بالنظر إلى حالة الضعف المستمرة التي يشهدها الأداء العام للهيئة النيابية منذ مدة ليست بقصيرة، مع التأكيد على ضرورة تعزيز وتقوية مبدأ اللامركزية في إدارة البلاد وتقليص القيود والوصاية المركزية على هيئات الحكم والإدارة المحليين.

وبالانتقال إلى المرشح الثالث وهو مرشح حركة مجتمع السلم (حمس)، نجد أن إدارة حملة السيد حساني الشريف قد اختارت شعار "فرصة" لبرنامجها الانتخابي(18)، باعتبار ما جاء فيه يمثّل فرصة للتغيير إلى الأحسن على عدّة مستويات. وإضافة إلى النقاط والمحاور شبه المشتركة بين المتنافسين الثلاثة كمرجعية بيان الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، والطابع الاجتماعي للدولة، والرفع من القدرة الشرائية للمواطن، واعتبار الشباب محور الاهتمام الأكبر لسياسات الدولة؛ فقد أبرز برنامج مرشح حمس أهمية إجراء إصلاحات عديدة مؤسساتية ودستورية وتشريعية، والاعتماد على نهج الإدارة الإلكترونية للبلاد، وقد وضعت الحركة تصورًا عامًّا لحالة الاقتصاد ينطلق من ضرورة السعي بشكل مركّز لتقليص الاعتماد الكلي على النفط والغاز عبر وضع سياسات حكومية تدعم استثمار القطاع الخاص في مجالات الزراعة والتصنيع، وكذا أوضح البرنامج أهم خطوات الانتقال والتحرير البنكي المصرفي وترسيخ مبادئ الصيرفة الإسلامية بما يتماشى مع نمط الثقافة والتوجه المجتمعي العام بالجزائر.

خاتمة:

لطالما مثّلت رئاسيات الجزائر محطّ أنظار المتابعين، وذلك بسبب الموقع المهم الذي يحتله الرئيس في بُنية نظام الحكم الجزائري الراسخ منذ نيل الاستقلال الوطني سنة 1962، إلا أنّ الانتخابات الحالية تحظى بميزة خاصة لعدّة أسباب: من بينها كونها الانتخابات المعجَّلة الثانية في تاريخ الجزائر المستقلة، وكذا لمشاركة قوى سياسية ذات أهمية ووزن معتبر بالنظر إلى القاعدة الشعبية التي تمثلها، سواء تعلّق الأمر بالمترشح الحرّ عبد المجيد تبّون، أو ما تحظى به جبهة القوى الاشتراكية وحركة مجتمع السّلم من تاريخ نضالي في المعترك السياسي الوطني منذ إطلاق التعددية السياسية سنة 1989، إلا أنّ هذا لا ينفي التداعيات والتحدّيات التي يمكن أن تواجهها هذه الرئاسيات، خاصة إذا ما تحدثنا عن هاجس نسبة المشاركة السياسية الذي يؤرق كلًّا من السلطة والأحزاب المتنافسة في الانتخابات، وهو الأمر الذي سيظهر عقب إغلاق صناديق الاقتراع يوم 07 سبتمبر/أيلول 2024.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 - محمد الأمين بن عودة، "مقاربة الانتخابات الرئاسية". سلسلة رؤى مصرية، مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية، القاهرة، العدد 63، إبريل 2020. ص 17.

2 - الرئيس الجزائري يكشف أسباب تقديم موعد الانتخابات الرئاسية، على الرابط: https://www.alhurra.com/algeria/2024/03/31/، تاريخ النشر: 31/03/2024، تاريخ التصفح: 16/08/2024.

3 - الجزيرة نت، "تبون يبرر قرار تقديم انتخابات الرئاسة ويؤجل الحديث عن ولاية ثانية"، على الرابط: https://www.aljazeera.net/news/2024/3/31، تاريخ النشر: 31/03/2024، تاريخ التصفح: 16/08/2024.

4 - البلاد، "رئيس الجمهورية عبد المجيد تبّون يكشف عن السبب الحقيقي وراء الإعلان عن انتخابات رئاسية مسبقة". على الرابط: https://www.elbilad.net/derniere-info، تاريخ النشر: 31/03/2024، تاريخ التصفح: 02/08/2024.

5 - محمد الأمين بن عودة، "مقاربة الانتخابات الرئاسية". مرجع سابق، ص 14.

6 - الجزيرة نت، "الرئيس الجزائري يعلن ترشحه لولاية ثانية". على الرابط: https://www.aljazeera.net/news/2024/7/11/، تاريخ النشر: 11/07/2024، تاريخ التصفح: 18/08/2024.

7 - جريدة النصر، "بعد مقاطعة منذ 1999: الأفافاس يقرر المشاركة في الرئاسيات"، على الرابط: https://www.annasronline.com، تاريخ النشر: 25/05/2024، تاريخ التصفح: 23/08/2024.

8 - محمد الأمين بن عودة، "مقاربة الانتخابات الرئاسية". مرجع سابق، ص 14.

9 - سبق برس، "هذه هي نسبة المشاركة في الانتخابات في بجاية وتيزي وزو". على الرابط: https://www.sabqpress.dz/، تاريخ النشر: 12/12/2019، تاريخ التصفح: 23/08/2024.

10 - العرب، "زيارة تبون إلى تيزي وزو.. مساع لاستعادة القبائل من الانفصاليين". على الرابط: https://2u.pw/FmYmje2h، تاريخ النشر: 11/07/2024، تاريخ التصفح: 23/08/2024.

11 - الإذاعة الجزائرية، " الانتخابات الرئاسية: حركة مجتمع السلم ترشح رئيس الحزب حساني الشريف". على الرابط: https://news.radioalgerie.dz/ar/node/46125، تاريخ النشر: 25/05/2024، تاريخ التصفح: 02/08/2024.

12 - الجزيرة نت، "الرئاسة الجزائرية.. حقائق وأرقام". على الرابط: https://www.aljazeera.net/2004/10/03/، تاريخ النشر: 03/10/2004، تاريخ التصفح: 22/08/2024.

13- علي ياحي، "انسحاب حنون من سباق رئاسة الجزائر إقصاء أم تراجع؟". على الرابط: https://www.independentarabia.com/node/598576/، تاريخ النشر: 16/07/2024، تاريخ التصفح: 06/08/2024.

14 - خالد زوبيري، "بالأسماء.. هؤلاء رفضت ملفات ترشحهم للرئاسيات". على الرابط: https://www.ennaharonline.com/، تاريح النشر: 25/07/2024، تاريح التصفح: 05/08/2024.

15 - محمد الأمين بن عودة، "مقاربة الانتخابات الرئاسية". مرجع سابق، ص 18.

16 - العرب، "تبون يشحذ خطابه لتحريك عجلة اقتصاد يأبى "الإقلاع"". على الرابط: https://www.alarab.co.uk/%D8% B9 ، تاريخ النشر: 20/11/2023، تاريخ التصفح: 05/08/2024.

17 - نسيمة عجاج، " الرئاسيات الجزائرية.. أبرز محاور البرنامج الانتخابي للمترشح يوسف أوشيش". على الرابط: https://al24news.com/، تاريخ النشر: 03/07/2024، تاريخ التصفح: 07/08/2024

18 - نسيبة لعرابي، " حساني شريف: برنامجنا فرصة للجزائر والجزائريين". على الرابط: https://www.elbilad.net/national، تاريخ النشر: 16/08/2024، تاريخ التصفح: 17/08/2024.