اختلاق الساحل.. تفكيكا لعملية برخان الفكرية

يؤكد الكتاب هجانة وتنوع ما يعرف بالساحل، ويشدد على عرقانية الجغرافيا التي أقامها الاستعمار واستصحابها تراتبية غامضة بين شعوب المنطقة، تنظر بعين الريبة إلى الفلان "الحمر" وإن وسمتهم والطوارق والبيضان بصفة "التحضر"، مقابل "القرويين السود" الذين اعتبرتهم "ضامرين ثقافيا".
(الجزيرة)

يناقش كتاب "اختلاق الساحل" لمؤلفه جان-لو أمسيل، التقاليد والتصورات الفرنسية ما بعد الكولونيالية عن المنطقة الواقعة بين الصحراء الكبرى والسافانا الإفريقية، وما علق بها من تحيزات وتنميطات للأعراق والقوميات التي تقطن هذه المنطقة. كما يستعرض الكتاب الوشائج والعلاقات المتشابكة بين المثقفين المنحدرين من هذه المنطقة وبين النخب الثقافية الفرنسية، وتأثير هذا الترابط على ضبط إيقاع الإنتاج الروائي والسينمائي لهؤلاء المثقفين ضمن قوالب مسبقة التوطئة والإعداد من قبل فرنسا.

في سياق الكتاب.. فرنسا المهمومة بالساحل

لم تعد فرنسا إلى الساحل مطلع عام 2013 بمقاتلات "رافال" ومصفحات "بانهارد" التي مكنتها من إنهاء سيطرة الجماعات المسلحة على كبريات مدن أزواد وحسب، بل اصطحبت أيضا، كما فعلت إبان تشييد إمبراطوريتها الاستعمارية قبل قرون، عدتها النظرية وعتادها الفكري الكولونيالي. وقد أفرزت بدايات هذا التدخل العسكري خطابا إعلاميا انتشى بما اعتُـبر حينها إنقاذاً لعقد دولة مالي من الانفراط، لا سيما عبر قنوات -مثل "فرنسا 24"- كانت باريس قد أنشأتها للتو تمكيناً لتوجهاتها وسياساتها في مجال نفوذها الناطق بالفرنسية الموروث من الاستعمار، ومن خلال صحف وإذاعات لها اليد الطولى في تناول الشأن الإفريقي وسبر أغواره وتفاصيله(2). ولم تتخلف رفقة من الأكاديميا الفرنسية عن هذا الركب المشِـيد بما تضطلع به باريس من أدوار في توطيد الاستقرار في مالي، بوصفه مندرجا ضمن مسار طويل دأبت عليه فرنسا في إنقاذ إفريقيا المستقلة من سفك الدماء، عبر عمليات عسكرية مثل "أرتميس" شرقي الكونغو الديمقراطية، و"ليكورن" في ساحل العاج. كما لم تكن المؤسسة العسكرية الرسمية في فرنسا وحلف الناتو بمنأى عن تخلق هذه الأعمال الأكاديمية.

وإذا أخذنا نموذجا أو نموذجين من الأعمال الأولى التي تناولت عملية "سرفال"، فإننا نجد أكاديمية "سان سير" (Saint-Cyr)، إحدى أعرق مؤسسات التكوين العسكري في فرنسا، وأكاديمية "علوم ما وراء البحار" (أكاديمية العلوم الاستعمارية سابقا)، في قلب هذه الجهود البحثية والتأملات بشأن منطقة الساحل والمتصارعين داخلها على السلطة والأرض والنفوذ. وقد طفح أول مصنف عالج مأزق الساحل، وصدر بعد نحو شهرين من تدخل فرنسا تحت عنوان "عملية سرفال في مالي: تحليل للتدخل الفرنسي" (Operation Serval au Mali: l'intervention française decryptée)، بالتفاؤل إزاء التدخل الفرنسي والدور الريادي لباريس في توطيد الاستقرار في المنطقة، وقد رفدته خبرة تمتد لنحو قرن ونصف قرن، مقابل تردد أميركي في التدخل المباشر. وقد شارك في هذا العمل الذي رأى في عملية "سرفال" تعبيرا عن استعادة القوة العسكرية الفرنسية حيويتَها ونشاطها، مؤرخون وعسكريون أساتذة بأكاديمية "سان سير"(3).

وجاء عمل آخر صدر نهاية العام 2014، وحمل عنوان "مالي: سلام لا مناص من انتزاعه.. تحليلات وشهادات عن عملية سرفال" (Mali, un paix à gagner: Analyses et témoignages sur l'opération serval) على هذه الشاكلة، مستعرضا مهارات الحربية الفرنسية في الإبحار عبر منطقة الساحل والصحراء، إذ تتسلح -وفق رؤية الكتاب- بوعي وبمقاربة جيو-ثقافية للصراع والمشاكل في المنطقة، ومقدما شهادات 8 ضباط عن المعارك والكفاح من أجل هزيمة "الجهاديين".

وسيواكب طيف واسع من الصحفيين والباحثين خلال السنوات المقبلة، توجهات باريس وحلفائها في المنطقة (موريتانيا وتشاد خاصة)، مسلطين الضوء على أهمية التعاون الإقليمي المعضد غربيا بالدعم المالي والدبلوماسي عبر "مجموعة دول الساحل الخمس" التي أطلقت عام 2014 من نواكشوط، وشكلت رهانا قويا لدى بعض قادة المنطقة، مثل الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز. وفي هذا الإطار توالت مقاربات لم تخلُ من إشادة بما اعتُبر حينها دمجا للمقاربة الاجتماعية التنموية في جهود مكافحة الإرهاب.

ومع تآكل نفوذ باريس وبدء القوات الفرنسية الانسحاب من بلدان الساحل واحدا تلو الآخر، سيعج المشهد الإعلامي والأكاديمي في فرنسا بقراءات رامت فهم هذه اللحظة الفارقة في علاقة باريس ببلدان الساحل، لا سيما على ضوء ارتفاع الأعلام الروسية في المظاهرات المناهضة للأنظمة الحاكمة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتطور العلاقة لاحقا بين موسكو وعواصم هذه البلدان. وقد ألقت هذه الأعمال باللائمة على السياسة الفرنسية، لا سيما مقاربة إيمانويل ماكرون للأزمة في الساحل وعجزه عن التعامل بحرفية مع نظرائه الأفارقة.

ولكن، ماذا لو كانت المقاربة الفرنسية للساحل وما يطفح به من أزمات قد بنيت منذ البداية على تصورات مغلوطة وتصنيفات متحيزة؟ وماذا لو كانت حملت معها بذور الفشل والخيبة؟ وماذا لو كان الساحل في حد ذاته انقلابا على الجغرافيا وشبكة العلاقات التي نسجتها أعراق المنطقة وقبائلها عبر التاريخ؟

على هذا المنوال، وبطرح هذه الأسئلة وما يحف بها من إشكاليات تتعلق بأنماط حياة أعراق الساحل وسبل عيشها، وبمساءلة ما درج واكتسب صفة البداهة من مقولات وتصنيفات، يأخذ أستاذ الأنثروبولوجيا بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بالعاصمة الفرنسية باريس، جان-لو أمسيل، القارئ في كتابه "اختلاق الساحل" عبر رحلة في جينيالوجيا تشكل مفهوم الساحل، فاحصًا البنى الثقافية والروابط الفكرية بين باريس وإفريقيا الناطقة بالفرنسية، ودور هذه الأطر في توطيد وتكريس المتصوَّر والمرغوب فرنسياً عن الساحل. كما يعرج على المخيال الفرنسي وهيكلته لأعراق الساحل مثل الطوارق والبيضان والفلان والماندينغ، وعرقنة رؤى باريس ومقارباتها لما ينشب من صراعات في هذه المنطقة.

الساحل.. المقولة الاستعمارية الفرنسية بحثا عن الجذور والتجليات

بعد مقدمة خاطفة يمهد فيها مؤلف الكتاب أمسيل لما سيفكك من تصورات وأطروحات، يبدأ في الفصل الأول بالقول إن مصطلح الساحل دارج الاستخدام في التقاليد الفرنسية؛ ذو أصل عربي يطلق على نطاق التقاء اليابسة بالماء، مرادفاً لألفاظ العدوة والشاطئ والضفة. ويعضد هذا الرأي بإيراد كلمة أخرى من نفس الجذر هي السواحلية، تلك اللغة واسعة الانتشار في شواطئ شرق إفريقيا. ولا يشفع أمسيل طرحه هذا بأي مصدر من المصادر العربية الوسيطة، بل -على العكس من ذلك- يستطرد في الكلام عن اعتماد الإخباريين والرحالة العرب لمصطلح بلاد السودان الذي يرد في كتابات ابن فضل الله العُـمري وابن بطوطة. كما يبرئ ذمة اللغات والتصنيفات المحلية في مالي من وصف المنطقة بما يطابق هذا اللفظ أو يشاكله.

ومدققا بين ثنايا كتابات الاستعماريين الفرنسيين الأوائل، يذهب أمسيل إلى أن أول ظهور لهذا المصطلح في السياق الاستعماري الفرنسي، كان على يد عالم النباتات أوغست شوفالييه (Auguste Chevalier)، نهاية القرن 19 وبدايات القرن 20، ضمن وصفه النطاقات المناخية البيئية، محدداً إياه بغطاء نباتي خاص يضبطه نمط هطل أمطار محدد. ويطلق شوفالييه المناخ الساحلي على المناخ السائد في أحواز مدينة تنبكتو، مقابلا إياه بالمناخين السوداني والغيني الواقعين على التوالي إلى الجنوب منه.

كما يعرج الكاتب على تناول أهم الباحثين الفرنسيين، رايمون موني، (Raymond Mauny)، وتيودور مونو (Théodore Monod)، وجان غاييه (Jean Gallais) لهذا الفضاء، ومحاولات تحديده مناخيا وبيئيا وعرقيا وبما يتضمن من أنماط حياة. وإذا كان مؤرخ إفريقيا البارز، موني، يرسم ساحلين متاخمين للصحراء الكبرى شمالا وجنوبا، فإن عالم الطبيعيات الخبير بالصحراء، مونو، يقدم الساحل بوصفه نطاقا يحاذي الصحراء جنوبا ويمتد من شواطئ الأطلسي حتى ضفاف البحر الأحمر. ويصف مونو هذا الفضاء بالقاحل نسبيا والشبيه بالجاف، حيث يبدأ معدل هطل الأمطار سنويا في حده الشمالي بما بين 100 إلى 250 ملم، ليصل في طرفه الجنوبي ما بين 400 إلى 500 ملم. 

يتتبع أمسيل مسار الهشاشة التي مر بها الساحل وأفضت إلى موجات تمرد الطوارق، ثم سيطرة الجماعات الجهادية على أزواد، فالتدخل الفرنسي وصعود قضية الفلان، مستطردا في الكلام عن جفاف السبعينيات الذي أفرز أوائل لاجئي المناخ، والعجز المعيشي الناجم عن توسع الزراعات التجارية، وخطط الإصلاح الهيكلي في الثمانينيات، وخصخصة الشركات العمومية، ويؤكد على ما كان لإهمال الوصل بين الشمال والجنوب وتفكك الشبكات الجنوبية-الشمالية التي تعبر غرب إفريقيا؛ من تبعات على منطقة الساحل.

لم تأخذ فرنسا، وهي تصارع لإطفاء اللهيب المندلع في الساحل، هذه الحقائق بعين الاعتبار، ولم تزد على أن أعادت استخدام جهازها الفكري الاستعماري القديم، بما يضج به من عرقنة تبسيطية لشعوب المنطقة. 

توطين المثقف الناطق بالفرنسية في الساحل

وبعد أن صال وجال طولا وعرضا في الساحل خلال الفصل الأول من الكتاب، يشد أمسيل الرحال في الفصل الثاني صوب فرنسا، ليرقب من دور النشر وصالات السينما في باريس كيف تتشكل تصورات المثقفين الساحليين أنفسِهم عن منطقتهم وألوانهم التراثية وأنماط تدينهم، وكيف يوطنون القيم الغربية بمختلف أوجهها، ويدافعون عنها ضد ما تتعرض له من رفض محلي، وكيف يزدرون مقاربات العلوم الاجتماعية النقدية الهادفة إلى فهم وتحليل ظاهرة الجماعات المسلحة التي تنشط في الساحل عبر "شيطنتها وجعلها تجسيدا لشر مطلق".

وينظر الكاتب في هذا الإنتاج بوصفه استجابةً لشروط وهياكل مسبقة التوطئة، شيدتها فرنسا عبر شبكات تعاونها المتمثلة في المراكز الثقافية ووسائل الإعلام والجوائز الأدبية ودور النشر التي تخصص حيزا كبيرا من جهودها لما "يبدعه" كتاب ومثقفون ومفكرون أفارقة ذوو علاقات وطيدة مع النخب الثقافية والعلمية في باريس. ويلفت النظر إلى هذا التخادم الثقافي بين فرنسا وبعض المثقفين المنحدرين من مستعمراتها الإفريقية السابقة، أو ما يسميه "الاقتيات" الفرنسي ثقافياً على إفريقيا (Françafriche)(4)، حيث تمثل إبداعات وطاقات أبناء القارة السمراء الطافحة بالوعد والحياة، وفق مفهوم المستقبلية الإفريقية (l'Afrofuturisme)، منبعا لا يغيض بالنسبة للقارة العجوز، تجدد به سبل تفكيرها وأنماط إبداعاتها.

وعبر 5 أسماء روائية لمعت في سماء الأدب الإفريقي الناطق بالفرنسية، يسعى الكاتب إلى لملمة شتات الخيوط الناظمة للروايات الفائزة بالجوائز الأدبية، وما تستبطن من مناهضة "للإسلاموية" أو رُهاب من الإسلام، وما تخلفه هذه الأعمال من صدى، وما يُـذرف من دموع في أرجاء فرنسا حسرة وأسى على مصائر شخوصها من ضحايا الأبوية و"الإسلاموية" والتطرف المناقض للقيم الإفريقية "الأصيلة السمحاء".

ويبدأ الكاتب من آخر الجوائز التي فاز بها كتاب أفارقة وبأهمها، ألا وهي جائزة "غونكور" التي كانت من نصيب السنغالي "محمد مبوغار صار" عام 2021. ولا يغمط أمسيل هذا الكاتب "غير النمطي" حقه، إذ يشيد برواية "الذاكرة الأكثر سرية للبشر" (La Plus secrète mémoire des hommes)، واصفا إياها "بالعمل المحكم متعدد الجراب ذي الألف ليلة وليلة، سريع الانزياح من مشهد إلى آخر، العصيِّ على الفهم، آسرِ الألباب، الثري بالإحالات الأدبية"، والمُعرب عن المهارات اللغوية العالية لصاحبه. غير أن هذه الرواية تحاول إعادة تأهيل كاتب إفريقي غابر، هو "يامبو وولوغوم"، اتهم في حياته بالسرقة الأدبية، وتنافح عن الأدب بوصفه "وقع حافر على حافر" أو "مجرد انتحال في انتحال"، وتأخذ القارئ في مسارات شتى، وتطوف به أرجاء العالم وآدابه، و"تتضوع شذا إفريقيا تقليديا من ثقافة قومية السيرير". ولا يخلو ما بين سطورها، وفق نظر أمسيل، من سعي لإضفاء المصداقية أو تبنٍّ لما قال به يامبو وولوغوم من تبرئة لذمة الاستعمار مما تنوء به القارة الإفريقية من حروب وفساد وضياع، وإرجاع جذورها، بدلا من ذلك، إلى ما كان سائدا قبل الاستعمار من ظروف.

ولعل ما نال إعجاب مُحكمي جائزة "غونكور" في رواية "الذاكرة الأكثر سرية للبشر"، هو ما توارى بين دفتيها من مناهضة "للإسلاموية"، بل رُهابٍ من الإسلام، وطفحت به روايتان سابقتان لمحمد مبوغار صار، إحداهما هي "الأرض المحاصرة" (2014)، كما يوحي لنا بذلك أمسيل. فلم تخلُ هذه الرواية التي جاءت في خضم استيلاء الجماعات المسلحة على شمال مالي، ورصدت هذا الصراع الدائر بين "إسلام راديكالي" وآخر "معتدل، صوفي، بل إسلام على الطريقة الإحيائية"؛ من "جملةٍ من التنميطات المناهضة للإسلاموية" وحديثٍ عن "تدخل أجنبي يسعى إلى المساعدة في وضع حدٍّ لسيطرة الجهاديين على شمال البلاد"، في إشارة إلى عملية برخان الفرنسية. 

ومن مجتمعيْ الوولوف والسيرير في السنغال الحاضريْن في كتابات محمد مبوغار صار، يأخذ أمسيل القارئَ بين دروب ومسارات فتياتٍ ونساء "حكمت عليهن تقاليد الفلان شمالي الكاميرون بالصبر والطاعة الزوجية"، كما تروي قصصهن ويومياتهن الكاتبة ديلا آمادو آمال في روايتها "الضائقات ذرعا"، (Les Impatientes)، الحائزة على جائزة "غونكور" الخاصة بطلبة الثانويات عام 2020. وهنا يبحث أمسيل أيضا في الأدوات والخطابات التي توسلت بها الكاتبة الكاميرونية ما حققته روايتها من صدى وفوز بهذه الجائزة، عبر "تضخيم القمع الأبوي الذي ترزح تحت وطأته الكائنات المسكينة الأنثوية الإفريقية التي غدت محجبة أكثر فأكثر، وملفوفة بأقمشة ذات ألوان داكنة". كما يشير إلى استخدامها بعض الصور النمطية بعزو هذا الاستبداد الذكوري إلى "رجال يحملون لقب الحاج، وتجار أثرياء ذوي ثقافة عربية إسلامية ذات صبغة وهابية".

وإلى جانب الأفارقة، أو ذوي الأصول الإفريقية، المتوجين بالجوائز الأدبية، يتحدث الكاتب عمن يصفهم "بالمبرزين والواقفين بباب التبريز". وإلى الفئة الأولى ينتمي أستاذ الفلسفة بجامعة كولومبيا الأميركية صاحب الحضور الواسع في وسائل الإعلام الفرنسية، السنغالي سليمان بشير دياني، "المنافح عن إسلام صوفي معتدل، ورسول الإنسانوية الإفريقية" التي يجسدها ميثاق الماندي في مملكة مالي، ومفهوم الأوبونتو (الإنسانية) لدى الشعوب الناطقة بلغات البانتو في جنوب القارة. ويصف أمسيل هذا المفكر السنغالي الذي اشتبك معه كثيرا بالقلم والمايكروفون، وعارض طرحه ما بعد الكولونيالي ونظرته التعميمية عن إفريقيا؛ "بالمثقف الانتقائي البعيد عن إثارة الجدل، المُراعي للمُمسكين بالسلطة، الحريص على البقاء بمنأى عن أي موقف سياسي حاد".

وعلى غرار بشير دياني، يقدم الكتاب نموذجا آخر مما يسميه "نخبة الساحل المعولمة التي تجوب العالم وتبحر جيئة وذهابا بين ضفتي الأطلسي"، هو الروائي والاقتصادي السنغالي فلوين صار، صاحب رواية "حيث تقبع الأحلام"، (Les Lieux ou les rêves habitent )، التي تضم بين دفتيها "كل ما يود القارئ معرفته عن الطقوس والسحر والشعوذة لدى مجتمع قومية "السيرير"، فضلا عن كتابيه عن الاقتصاد اللذين يضمنهما طرحا مناهضا لليبرالية الغربية، مقدمًا "مفاهيم إفريقية" كبدائل عنها وكسبل لتمكين "الجماعة" من استعادة سلطانها على الاقتصاد، مثل الأوبونتو (الإنسانية في لغات البانتو) والتيرانغا (الضيافة في لغة الوولوف) وسنانكويا (القرابة باللمز)، وهي طقوس للمزاح بين الأعراق والقبائل توطد علاقاتها بعضها ببعض وتعمق الروابط والألفة بينها، وتحدّ من خطر الاقتتال بينها، أو هكذا يقدمها بعض دارسي التراث الإفريقي.

ويسائل الكاتب مصنفا آخر أكسب صاحبَه شهرة واسعة هو "الإبادة الجماعية من وراء حجاب"، (Le génocide voilé). في هذه الدراسة التاريخية، يذهب السنغالي تيديان نجاي، كما يشي بذلك عنوان كتابه، إلى أن تجارة الرقيق عبر الصحراء ونحو المشرق الإسلامي، وما رافقها من ممارسات، كانت أكثر ضراوة وأشد وطأة من تجارة الرقيق عبر الأطلسي. ويرى أمسيل أن نجاي يتبنى في هذا الكتاب موقفا مناهضا للإسلام، مهملاً تجذر الاسترقاق داخل الشعوب الإفريقية نفسها، وغاضاً الطرف عن ممارسة زعماء مناهضين للاستعمار لهذه الظاهرة ، مثل ساموري توري في مالي، وساعيا إلى إثبات تناقض و"شرخ عرقي وديني بين العرب المسلمين "البيض" والأفارقة "السود".

أما في المجال السينمائي، فيستعرض أمسيل فيلم "تنبكتو" لعبد الرحمن سيساغو، مقارنا إياه بفيلم سابق لهذا الموريتاني الفرنسي هو "باماكو". فإذا كان فيلم "باماكو" يحمِّـل مسؤولية ما تعيشه القارة من مآسٍ للقوى الغربية ومؤسسات بريتون وودز، فإن "تنبكتو" يقابل بين إفريقيا محلية طوارقية أو سوداء، وأخرى أجنبية عربية "إسلاموية" يمثلها "الجهاديون" الذين أطبقوا سيطرتهم على هذه المنطقة وساموا أهلها سوء العذاب، وفق سردية الفيلم.

عرقنة الصراع في الساحل.. كيف رأت عين فرنسا أقوام وأعراق مالي والمنطقة

في الفصل الثالث المعنون "عرقنة الصراع في الساحل"، يحلل أمسيل التصورات الكولونيالية التي جوهرت الشعوب والأعراق والأقوام التي تقطن إفريقيا والساحل، ليحصر مجال بحثه بعد ذلك في مالي. ويتناول في هذا الفصل ما يسميه "متوهَّـمات" عرقية لا تفارق أخيلة الفاعلين في المشهد السياسي والعسكري في دولة مالي، من جيوش غربية ومنظمات دولية. ويبدأ "بالمتوهَّـم الطوارقي" الذي يرى أنه نشأ أول ما نشأ لدى السلطات الفرنسية الاستعمارية في الجزائر "لتميز به الخبيث من الطيب"، أي لتتخذ منه سورا تضرب به بين "العرب الأشرار الظلمة المسلمين المتعصبين"، وبين "البربر الطيبين الديمقراطيين الذين أسلموا ولم يؤمنوا"، وفق تقديرها للأمور. وتبعا لهذه النظرة التي نقلها الحاكم الفرنسي لمستعمرة السنغال، لويس فيديرب، إلى غرب إفريقيا، ظلت للطوارق، ولبيدائهم الشاسعة التي افتتن بها المنصّر شارل دو فوكو، وعالم الطبيعيات تيودور مونو، مكانةٌ خاصة في المخيال الفرنسي، وقد أورثتهم دعم فرنسا، أو أضفت بعض اللبس على مواقفها ومواقف غيرها، إزاءهم، وإزاء ثوراتهم وموجات تمردهم وانتمائهم للجماعات الجهادية. وينتقد أمسيل هذه النظرة المجوهرة للطوارق بتجاوزها لتنوعهم، ولما اندمج فيهم من أغيار، ولحقيقة الفئات المهمشة التابعة السائرة في ركبهم. 

وفي مالي، وخارج مالي، وغير بعيد من الطوارق على الضفة الجنوبية لصحرائهم، أي فيما يعرف بالساحل، يتناول أمسيل "المتوهَّـم الفلاني" الذي ما فتئ يذكي المخيال الغربي، لا سيما طائفة "وودابي" ذات التقاليد الفولكلورية التي ترى نفسها التعبير الأمثل للعض بالنواجذ على عادات وتقاليد الفلان، وتفاخر وتزهو في احتفالات خاصة بوسامة رجالها بدلا من جمال نسائها. ويشير الكاتب إلى الاهتمام الواسع الذي أولاه بعض الدارسين للمدونة الأخلاقية للفلان "بولاكو"، أي الحرية، وما ارتبط بهذا الاهتمام من تنميط يتجاهل هجانة الفلان وتمازجهم مع أعراق مختلفة، وينسُـب لأطياف شتى من الفلان -بعضها لا يتحدث اللغة الفلانية (فولفولده)- شيَماً لا شأن بها إلا للفئة التي تتربع على رأس الهرم الاجتماعي، مثل حفدة شيخو أمادو، مؤسس إمبراطورية ماسينا في القرن 18. ويحذّر من أن تعميم هذه القيم الثقافية وافتراض انغراسها لدى الجميع يسهمان في حجب أوجه الهيمنة التي ترزح تحت وطأتها الفئات الدنيا الخاضعة لسلطان أرستقراطية الفلان.

هذه النظرة العرقية التنميطية، تقصر -وفق تحليل أمسيل- عن سبر غور الصراع الذي يعصف بوسط مالي. وقد كانت حكومة مالي والمتدخلون من الخارج يرون فيه "موجة ثالثة من الجهاد الفلاني"، بعد حملات الشيخ عمر الفوتي وشيخو أحمدو، مقابل نخب فلانية في باماكو وفي الشتات ومتعاطفين معها يعتبرون الصراع إبادة جماعية ضد الفلان. أما قائد كتيبة ماسينا، أمادو كوفا، المنتمي إلى عائلة ذات منزلة اجتماعية متواضعة، لا يعدم صدى في صفوف المنحدرين من الأرقاء السابقين وبين الرعاة المعدمين من الفلان، ويوجه أحيانا "جهاده" ضد المزارات الخاصة بمؤسس إمبراطورية ماسينا الفلانية الإسلامية في مدينة حمد الله.

وبالحديث عن الإبادة الجماعية ضد الفلان، يشير الكاتب إلى الاستدعاء الضمني لمأساة التوتسي في رواندا عبر التطابق في السمات التي عرقن بها المخيال البلجيكي الاستعماري هذا الشعب بالمقارنة مع الهوتو، وتلك التي تضفي على الفلان (الأصل الحامي والسمات الجسمانية)، وبالاعتماد على التصورات المحلية للصراع على السلطة بين "غزاة يمسكون بزمام الأمور" وسكان محليين كانوا "سادة الأرض والشعائر".

وإلى الجنوب من الفلان، يفحص أمسيل التصورات الكولونيالية عن "كتلة الماندينغ" الجنوبية التي ألحقت بها الدوغون من وسط مالي. وهي كتلة نظر لها أوائل الاستعماريين الفرنسيين بعين الرضا و"توهموا" إسلامها "إسلاما أسود" يحتفظ ببقية من إحيائية، وتلك رؤية ما تزال تتبناها بعض نخب هذه القومية التي ينتمي إليها جميع رؤساء مالي، باستثناء ألفا عمر كوناري ذي الأصول الفلانية، ويجند الجيش من بين صفوفها أغلب الجنود.

يعزو الكاتب إلى الرئيس ألفا عمر كوناري إطلاق العنان للجمعيات العرقية والجهوية والاحتفاء بالقيم التقليدية لشعب الماندينغ، مثل الإنسانية (مايا) والضيافة (دياتيجييا) والقرابة باللمز (سنانكويا). ويلاحظ أمسيل أن هذه القيم والمواثيق العرفية المؤسسة للعلاقات بين العشائر ضمن إمبراطورية مالي، لا شأن بها إلا للأعراق التي تقطن جنوب البلاد (الدوغون، البمبارا) وبعض تلك التي تعيش وسطها (الدوغون، البوزو). أما الأعراق التي تخوض صراعات ضد بعضها الآخر (الفلان والطوارق ضد البمبارا والدوغون) فلم ترتبط عبر تاريخها بمثل هذه الأعراف والتقاليد التي يقدمها البعض كأدوات ووسائل لإطفاء لهيب التوترات بين الأعراق والشعوب الإفريقية. 

ويستعرض أمسيل القراءات التي رامت فهم الصراع في وسط مالي، مؤكدا أيضا قصور النظرة العرقية التي تحصره في حرب بين الرعاة (الفلان) والصيادين (الدوغون)، إذ إن بعض الصيادين في المنطقة ذوو أصول فلانية، ومشيرا إلى تبعات انسحاب الجماعات المسلحة (أنصار الدين، القاعدة، حركة التوحيد) نحو الوسط بعد التدخل الفرنسي في الشمال، وإلى تجنيد الجيش المالي للدوغون (الصيادين الدونزو) قواتٍ رديفة، ما جعل قراهم عرضة لهجمات الفلان وغير الفلان.

ويشدد الكاتب أيضا على حضور العامل الديني والدوافع الاقتصادية لهذا الصراع بين الفلان ذوي التقاليد الجهادية وبين الشعوب الواقعة إلى الجنوب منهم، وإلى الانخراط الواسع والتجنيد العابر للحدود لكلا الطرفين، حيث يجد فلان وسطِ مالي المدد العرقي من دول كالنيجر وغينيا كوناكري ونيجيريا، مقابل استقطاب الصيادين لأنظارهم في بوركينا فاسو وساحل العاج. غير أن كل هذا لا ينبغي أن يقودنا إلى اعتبار هذا الصراع دينيا بحتا، فليس كل الفلان "جهاديين"، وليس جميع الدوغون وثنيين، كما يؤكد أمسيل.

وبشأن الرؤى والتصورات التي لا تنفك تشدد على ما عرفته المنطقة من تعايش بين الصيادين والمزارعين ومربي المواشي، يؤكد الكاتب على طابعها الرغائبي وتجاهلها للتحولات التي رافقت إنشاء دولتي الفلان الإسلاميتين بقيادة شيخو أحمدو والحاج عمر. ويعزو إلى الصعود المتنامي لهوية الماندينغ ومماهاتها مع السردية الوطنية المالية خلال السنوات الأخيرة، دورا رئيسيا في إذكاء هذا التعارض بين جنوب البلاد الماندينغي ووسطها الفلاني، وهو صعود تغذيه عودة جارفة وتبنٍّ إفريقاني للتقاليد والأعراف التي أسستها إمبراطورية مالي في القرن 13، لا سيما إعلان كوروكان فوغا الذي يحتفي به المثقفون من ذوي النظرة المركزية الإفريقية باعتباره مضاهيا للماغنا كارتا البريطانية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في فرنسا وسابقا عليهما.

ولا يختم أمسيل فصله الثالث قبل أن يحيل إلى ما كان للاستعمار وآليات الدولة الوطنية (الإحصاء على أساس عرقي، حالة مدنية) من دور في تحجير هويات وانتماءات ظلت عرضة للتغير والعبور وإعادة التشكل على الدوام.

وجها بلاغة السلطة في مالي.. تفسير حاضر الساحل بماضيه

لمالي، أو قل لشعب الماندينغ في جنوب مالي، كما للشعوب العربية والإسلامية، أندلسها الضائعة، أي فردوسها المفقود الذي يستبد به الحنين إليها كلما نالت منها سهام الضياع والتشرذم. وإذ تثخن الأيام هذا البلد حروبا وصراعات دموية، يستدعي الماليون ما تضفيه ذاكرتهم الجمعية من ازدهار اقتصادي وإشعاع ثقافي وعلمي على إمبراطوريات السودان الوسيطة (غانا، مالي، الصونغاي).

وبحثا عن الفلسفة التي تؤسس للتصورات المعاصرة للحكم في سياق صعود الهوية المانديغية مماهياً بينها وبين القومية-الوطنية المالية، يغوص أمسيل في تجليات السلطة داخل هذه الإمبراطوريات السودانية الكبرى وغيرها من الدول التي نشأت على أراضي مالي (إمبراطوريات ماسينا والحاج عمر والساموري، ومملكة سيغو)، مستنطقا ما سكن، أو نشأ على ضفاف ممارساتها للسلطة من كلمات ومعانٍ تؤسس للتراتبية وتكرسها، أو تنزع عكس ذلك إلى القول بسواسية البشر.

ومن ميثاق كوروغان فوغا الذي صاغه سوندياتا كيتا، مؤسس إمبراطورية مالي في القرن 13، وما تضمن من تكريس لما يعرف بالعلاقات القائمة على القرابة باللمز (سنانكويا) بين مكونات هذا المجتمع، يبدأ الكاتب البحث عن مسار تشكل وانغراس النموذج التراتبي في مجتمع الماندينغ. ووفق ما يقدمه أمسيل، فإن هذا النموذج يقوم أساسا على التعارض داخل مجتمع الماندينغ، وفي مختلف التشكيلات السياسية آنفة الذكر، بين نبلاء (أحرار محاربين، أي تونتيجي هورون) وعبيد (أرقاء، أي جون)، إلى جانب حضور أقل أهمية لفئة رجال الدين (المرابطين) وللطبقات الحرفية المغلقة (les castes). ويمنح هذا النموذج التراتبي أهمية قصوى للمُلك العضود، أي فانغا التي تعني القهر، كما تجسده أسطورة الثعبان في ملاحم مختلفة لإمبراطوريات ودول نشأت في مالي. ولبطش السلطان وإخضاعه منافسيه واسترقاقهم مكانة مركزية في هذا النموذج.

أما نموذج المساواة، فيتجلى -وفق ما يسوق الكاتب- في استحضار مناهضة العبودية في تراث الماندينغ، وإن شاب ذلك بعض التضارب بين قائل بتبني سوندياتا كيتا لهذا النهج في حربه ضد سومانغارو كانتي إمبراطور صوصو السابقة على إمبراطورية مالي، وآخر قائل بتبني الأخير الكفاح ضد ممارسة سوندياتا كيتا لها.

ويبرز إلى الواجهة في القراءات الباحثة عن بذور المساواة في تراث الماندينغ ما يسمى "قسَـم الصيادين" المنضوين ضمن أخويات، وميثاق كوروغان فوغا، وهما اللذان يحاجج بهما بعض المفكرين الأفارقة، من أمثال السنغالي سليمان بشير دياني، لإثبات أسبقية ميلاد مفهوم الفرد لدى الثقافات الإفريقية.

غير أن هذا الإيغال في تصور أسس مساواتية أو ديمقراطية لأنماط الحكم يحمل معه -وفق ما يرى أمسيل- نزوعا نحو أصلانية محلية تجعل من الظلم والجور وممارستهما شأنا خاصا بالأجانب الغزاة، وهؤلاء وفق منظور الصراع الدائر حاليا، هم الفلان الذين تضطرم الحروب بينهم مع "المحليين" الدوغون.

علمانية الدولة.. أرضية النزال بين "التيارات الدينية" والنخبة الحاكمة

يتناول الباحث في الفصل الأخير من الكتاب، التدافع بين تيارات إسلامية وأخرى مدنية بشأن رهانات، من بينها علمانية الدولة وختان الإناث، مؤكدا تناوله هذه القضايا بروية علمية أنثروبولوجية بعيدا عن الالتزام السياسي، وما يستصحبه من شجب وإدانة لهذا السلوك أو ذاك. ويسائل الكاتب حقيقة علمانية الدولة الموروثة من المستعمر السابق، مشددا على الحضور الطاغي للإسلام في الحياة السياسية والاجتماعية. ويشير إلى أن الإسلام يحظى بمكانة الدين الرسمي للبلاد، رغم أن العلمانية لا تعدم بعض الحضور والتجذر في جهاز الدولة، وأصواتا تحاول أن تدافع عن ركائزها الأساسية استغلالاً للصراع السياسي. 

ويتتبع الكاتب مظاهر الصراع بين "التيارات الدينية" وهذه الأصوات المنافحة عن علمانية الدولة، مقتنصاً بعض اللحظات المفصلية من هذا الصراع والمواضيع الجدلية التي تبرز تباعد الشقة بين الطرفين، واستغلالهما لما تشكل من رهانات سياسية، واستغلالها كأرضية يخوض عليها الطرفان صراعاتهما من أجل السلطة. ومن هذه اللحظات التي يستعرضها أمسيل، تصريحات وزير العهد تحت حكم بوبكر كيتا بشأن تمرير قانون يجرم الختان عام 2017، وما تبع ذلك من مواقف لرئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية محمد ديكو، أثناء اجتماع بشأن التعايش السلمي، ألقى خلاله باللائمة على الدول الغربية في خلق هذه المواضيع الجدلية وزرع الفتنة بين مختلف أعراق مالي، وهدد بالحشد الشعبي في جميع أنحاء مالي ضد أي محاولات تقوم بها الحكومة في هذا الصدد. 

ويرى أمسيل أن الزعيم الديني محمد ديكو، صاحب الدور البارز في المظاهرات التي أفضت إلى الإطاحة بإبراهيم بوبكر كيتا، أقام موازين قوى من خلال إعادة رسم الحدود بين الفئة التي يرى نفسه ممثلا لها، وبين فئة أخرى علمانية يتهمها بأنها أداة بيد الغرب. غير أن التعارض بين هذا الزعيم والسلطات القائمة لا ينبغي النظر إليه -كما يرى الكاتب- باعتباره عقبة تعوق التعاون بين الطرفين في بعض المجالات. ولا يرى الكاتب فيما يصفه بالتأرجح بين إعلان علمانية الدولة وما يتمتع به العامل الديني من حضور في الآن ذاته، سوى حيلة من باماكو تضبط بها إيقاع علاقاتها مع الدول الغربية لاستدرار التمويلات والحفاظ على علاقات طيبة مع الدول الإسلامية، لا سيما دول الخليج، للغرض ذاته. ويشير أمسيل إلى ما تقوم به منظمات دولية وجمعيات حقوقية، إذ تمعن في رفع شعار مكافحة بعض الظواهر الاجتماعية، مثل الختان، من تهيئة الطريق وتعبيدها أمام الزعماء الدينيين لاستقطاب مزيد من الأتباع وتعبئتهم، باستحضار ما يمثله الغرب وقيمه من خطر على المجتمع المالي. 

ويختم أمسيل هذا الفصل بالحديث عن المأزق الذي يجد فيه كلا الطرفين نفسه، متعاوناً مع الطرف الآخر أو خافضاً الجناح وغاضًّا الطرف عن بعض التناقض في سلوكه. فالنخب العلمانية وإن انسجمت مع الطاغي والسائد من الأفكار الليبرالية الغربية بشأن الحريات العامة ومكافحة "البالي" من الممارسات والمواقف حفاظا على بقائها في السلطة، فإنها في الوقت ذاته لا تجد غضاضة في الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الزعماء الدينيين ذوي الشعبية العارمة. أما هؤلاء، وإن تبنوا مواقف وطنية مناهضة للغرب، فإنهم لا يعزفون أحيانا عن التعاون مع السلطات السياسية القائمة. ويقترح أمسيل لفك هذه المعضلة، تجاوز الخطاب السياسي للطرفين وما ينافحان عنه من مبادئ أخلاقية، والنظر إلى الأمر باعتباره تقاسما للسلطة ووسائل الشعبية وأدوات التأثير.

في خاتمة الكتاب الموجزة، يؤكد أمسيل هجانة وتنوع ما يعرف بالساحل، ويشدد على عرقانية الجغرافيا التي أقامها الاستعمار، واستصحابها تراتبية غامضة بين شعوب المنطقة تنظر بعين الريبة إلى الفلان "الحمر" وإن وسمتهم والطوارق والبيضان بصفة "التحضر"، مقابل "القرويين السود" الذين اعتبرتهم "ضامرين ثقافيا" وإن رأتهم أكثر مسالمة. كما يحيل إلى الحذر الذي ظلت مالي تستصحبه إزاء سلوك فرنسا، لا سيما حين يتعلق الأمر بموقفها من المطالب بانفصال أزواد، وإلى رمزية ما أطلقت من أسماء على عملياتها العسكرية في الساحل، مثل "تاكوبا"، أي السيف، في لغة الطوارق.

 

معلومات عن الكتاب

العنوان: اختلاق الساحل L’invention du Sahel 

تأليف: جان-لو أمسيل Jean-Loup Amselle 

مراجعة: بابا ولد حرمة

دار النشر: كروكان Éditions du croquant

تاريخ النشر: 2022

اللغة: الفرنسية

الطبعة: الأولى

عدد الصفحات: 174

نبذة عن الكاتب

مراجع

1-    انظر تعليق مراسل قناة "فرنسا 24" على ما يصفه بجهود الجيش الفرنسي في افتكاك مدينة كوني وسط مالي التي أذهلت العالم. مقابلة مع مراسل "فرنسا 24" بمناسبة مرور 6 أشهر على إطلاق عملية "سرفال". في مالي، الأشهر الستة لعملية سرفال، فرنسا 24، 11 يوليو/تموز 2013، (20 أكتوبر/تشرين الأول 2024): https://www.france24.com/fr/20130711-le-journal-lafrique-Bamako-vote-do…
2-    يمكن ملاحظة لهجة التفاؤل في نهاية خبر إذاعة فرنسا عن الإنزال الذي قام به الجيش الفرنسي في مدينة كيدال بشأن مواصلة باريس استعادة السيطرة على كامل تراب دولة مالي بعد نحو أسبوعين من بدء عملية سرفال بدايات العام 2013. خبر إذاعة فرنسا الدولية (RFI) عن الإنزال الفرنسي في مطار كيدال بعد نحو شهر من إطلاق عملية سرفال. مالي: جنود فرنسيون في كيدال، راديو فرنسا الدولي، 30 يناير/كانون الثاني 2013، (20 أكتوبر/تشرين الأول 2024): https://www.rfi.fr/fr/afrique/20130130-mali-soldats-francais-sont-kidal
3-    انظر تقريرا لحلف الناتو عن ندوة له حول هذا الكتاب. توماس فليشي وآخرون، كتاب عملية سرفال في مالي: فك رموز التدخل الفرنسي، موقع الناتو، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، (20 أكتوبر/تشرين الأول 2024): https://www.nato.int/cps/fr/natohq/news_104974.htm?selectedLocale=fr
4-    فرانس-آفريش (Françafriche) هو مصطلح سكه أمسيل، محاذيا مصطلح "فرنسا-إفريقيا" (France-Afrique)، مازجا بين اسم "France" وكلمة "friche" التي تعني الأرض الجرداء والمعامل التي أقفرت ليتخذها الفنانون والحرفيون فضاءات للرسم والإبداع، تعبيرا عن حالة الإقفار أو الشيخوخة الفنية لفرنسا واعتماد الأوساط الفنية في باريس على المبدعين الأفارقة، لمكافحة هذه الشيخوخة الأدبية والفنية، ورفد فرنسا بطاقات الفنانين الأفارقة عبر المعارض التي تحتفي بإبداعاتهم.