انتخابات برلمانية ورئاسية مزدوجة تنقل تركيا إلى عهد جديد

كشفت نتائج الانتخابات التركية عن قدرة أردوغان على البقاء والاستمرار، وعن رغبة الأغلبية التركية في الحفاظ على الاستقرار. لكن الثقة التي أولتها الأغلبية التركية لأردوغان كانت مشروطة؛ وانعكس هذا في التراجع الملموس لحزب العدالة والتنمية وفقدانه الأغلبية البرلمانية.
a654674a15f041feb138b389d146d5e0_18.jpg
مناصرون لحزب العدالة والتنمية يحتفلون بفوز رجب طيب أردوغان في أنقرة (رويترز)

لم يكن ثمة شك في أهمية انتخابات 24 يونيو/حزيران 2018 البرلمانية والرئاسية التركية. كل انتخابات عامة تتعلق بمستقبل الحكم في البلاد هي مهمة بالطبع. ولكن أهمية هذه الجولة من الانتخابات التركية تفوق سابقاتها، ربما منذ وُلدت الديمقراطية التعددية في 1950. والأسباب خلف ذلك عديدة، أحدها: أن هذه أول انتخابات برلمانية ورئاسية مزدوجة تشهدها البلاد. وثانيها: أنها تؤشر إلى اكتمال عملية الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي، بعد أن صوَّت الأتراك لصالح تعديلات دستورية جذرية في ربيع 2017. أما ثالث هذه الأسباب، فيتعلق بما إن كان رجب طيب أردوغان، الذي يقود البلاد على رأس حزبه، حزب العدالة والتنمية، رئيسًا للحكومة، ومن ثم رئيسًا للجمهورية، سيحتفظ بمنصبه، ويحكم البلاد هذه المرة رئيسًا كامل الصلاحيات لخمس سنوات مقبلة.

كان المفترض أن تُعقد الانتخابات في خريف العام القادم، 2019. ولكن أردوغان، وحزبه، الذي كان يتمتع بأغلبية برلمانية مريحة، وافقا في 18 أبريل/نيسان 2018، على اقتراح من حليفهما، دولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية، بتقديم الانتخابات. ما دفع بهتشلي لتقديم اقتراحه كانت رغبته في عقد الانتخابات قبل أن يستطيع الحزب المنشق عن الحركة القومية، الحزب الجيد، بقيادة ميرال أكشنر، زرع جذور له في أوساط الناخبين ذوي التوجه القومي. أما أردوغان، فكانت دوافعه لعقد انتخابات مبكرة أكثر تعقيدًا، بما في ذلك وضع نهاية لمناخ عدم اليقين في البلاد بفعل طول زمن الفترة الانتقالية من النظام البرلماني إلى الرئاسي، والمخاوف من مواجهة مناخ اقتصادي غير موات خلال 2018، يتطلب عددًا من الإجراءات القاسية.

ويمكن القول: إن نتائج الانتخابات جاءت خليطًا من المتوقع وغير المتوقع، والمدعاة لاطمئنان الحزب الحاكم ورئيسه وغير الباعثة على الاطمئنان. ولكنها في مجملها كشفت عن قدرة أردوغان المدهشة على البقاء والاستمرار، وعن رغبة الأغلبية التركية في الحفاظ على الاستقرار وعدم المغامرة.

أطراف المعركة الانتخابية ومحدداتها
على مستوى الانتخابات الرئاسية، خاض الانتخابات عدد غير مسبوق من المرشحين، مثَّلوا في مجموعهم كافة التوجهات السياسية، بما في ذلك الرئيس أردوغان، مرشحًا عن حزب العدالة والتنمية؛ ومحرم إنجي، مرشحًا عن حزب المعارضة الرئيس، حزب الشعب الجمهوري؛ وميرال إكشنر، مرشحة عن الحزب الجيد، الذي وُلد في نهاية 2017 إثر انشقاق عن حزب الحركة القومية؛ وصلاح الدين دمرتاش، مرشح حزب الشعوب الديمقراطية، ذي التوجه القومي الكردي، الذي خاض الانتخابات من السجن، حيث ينتظر محاكمته على اتهامات بدعم تنظيم إرهابي؛ وتميل قرة ملا أوغلو، مرشحًا عن حزب السعادة ذي التوجه الإسلامي؛ ودوغو برنشك، مرشحًا عن حزب الوطن الصغير، ذي التوجه الكمالي اليساري.

واجه أردوغان في انتخابات 2014 الرئاسية مرشحين اثنين فقط: كمال الدين إحسان أوغلو، الذي خاض الانتخابات بدعم من حزبي الحركة القومية والشعب الجمهوري، وصلاح الدين دمرتاش، الذي خاضها مرشحًا عن حزب الشعوب الديمقراطية. بمعنى أن أصوات المحافظين والإسلاميين في كافة أنحاء البلاد، سواء في مناطق الأغلبية الكردية أو التركية، ذهبت في أغلبيتها الساحقة لأردوغان. وهذا ما ساعده على الفوز من الجولة الأولى للانتخابات.

هذه المرة، بدت ساحة المواجهة مختلفة إلى حد كبير. لا يُعتبر قرة ملا أوغلو وبرنشك مرشحين جادين، لأن أحدًا منهما لم يكن يتوقع له الفوز بأكثر من اثنين بالمئة من الأصوات. أهمية ترشح قرة ملا أغلو على وجه الخصوص تنبع من أن الأصوات التي تذهب له، مهما كانت صغيرة، تخصم من حصة الأصوات التي يفترض أن يحققها أردوغان. من جهة أخرى، وبالرغم من أن أردوغان تلقى دعمًا صريحًا من حزب الحركة القومية، الذي يخوض الانتخابات في تحالف مع العدالة والتنمية، فإن ترشح ميرال إكشنر للرئاسيات يعني أن أغلب الأصوات التي ستصب لصالحها هي في الحقيقة أصوات قومية محافظة. ولذا، فقد كان ثمة شك كبير من البداية في إمكانية فوز أردوغان في جولة الرئاسيات الأولى.

على مستوى الانتخابات البرلمانية، كانت الصورة أكثر تعقيدًا. زادت التعديلات الدستورية عضوية البرلمان من 550 إلى 600 نائب، وأعاد قانون الانتخابات تقسيم الدوائر الانتخابية وكيفية حساب الأصوات؛ ولكن عتبة العشرة بالمئة من مجموع الأصوات التي لابد لحزب ما من تحقيقها قبل دخوله البرلمان، بقيت على حالها.

لمكافأة حزب الحركة القومية على دعمه حكومة العدالة والتنمية منذ محاولة يوليو/تموز 2016 الانقلابية، سيما تأييده للتعديلات الدستورية المتعلقة بالتحول للنظام الرئاسي، أقر البرلمان المنتهي ولايته حق تشكيل التحالفات الانتخابية بين الأحزاب. وأُعلن بالتالي عن تحالف انتخابي بين حزبي العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، باسم تحالف الشعب؛ وهو ما يعني أن حزب الحركة القومية أصبح بإمكانه دخول البرلمان حتى إن لم يحصل على عشرة بالمئة من مجموع أصوات الناخبين؛ الأمر الذي توقعه كثيرون منذ انشقاق إكشنر وتأسيس الحزب الجيد.

في المقابل، سارعت أحزب المعارضة، من حزب السعادة الإسلامي، والشعب الجمهوري من يسار الوسط، والحزب الجيد من الخلفية القومية المحافظة، والحزب الديمقراطي، المحافظ، إلى تشكيل تحالف انتخابي منافس باسم تحالف الأمة. ما يعنيه هذا التحالف، الذي لم يضعه العدالة والتنمية في حساباته، أن أحزاب الجيد والسعادة والديمقراطي، غير الممثلة في البرلمان السابق، والتي كان يصعب على كل منها تجاوز عتبة العشرة بالمئة من الأصوات، ستمثل في البرلمان إن حصلت على أصوات كافية.

من جهة ثالثة، خاض حزب الشعوب الديمقراطية، كردي التوجه، الانتخابات منفردًا.

حصل حزب العدالة والتنمية في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على ما يزيد عن 49 بالمئة من الأصوات بقليل، وحزب الشعب الجمهوري 25 بالمئة، وحزب الحركة القومية ما يقارب 12 بالمئة، وحزب الشعوب الديمقراطية ما يقارب 11 بالمئة من مجموع الأصوات. وقد مُثِّلت هذه الأحزاب بالتالي في البرلمان، الذي تمتع فيه العدالة والتنمية بأغلبية مريحة.

انشقاق الحزب الجيد عن الحركة القومية، وتشريع نظام التحالفات، فتح باب هذه الجولة الانتخابية على الاحتمالات. وجود الحزب الجيد واحتمال تمثيل كل من حزب السعادة والحزب الديمقراطي، وكلها تحسب على المعسكر المحافظ من الخارطة السياسية، كان سيحرم العدالة والتنمية من نسبة ملموسة من الأصوات. وهكذا، فإن نجاح العدالة والتنمية في تحقيق أغلبية برلمانية منفردًا، أصبح رهينة بما إن كان حزب الشعوب الديمقراطية سيستطيع تجاوز عتبة العشرة بالمئة أو لا. إن لم يستطع، فالمستفيد الأكبر سيكون العدالة والتنمية، المنافس الأبرز في محافظات الأغلبية الكردية؛ الذي سيمكنه على الأرجح عندها منفردًا المحافظة على أغلبيته البرلمانية. ولكن، إن تجاوز حزب الشعوب الديمقراطية عتبة العشرة بالمئة من الأصوات، فإن نجاح تحالف الشعب في ضمان الأغلبية سيعتمد بصورة كبيرة على أداء حزب الحركة القومية.

هذه كانت خطوط اصطفاف القوى في ساحة المعركة الانتخابية. فما الذي أسفرت عنه المواجهة؟

نتائج الانتخابات
بلغ عدد من يحق لهم التصويت هذه المرة، داخل البلاد وخارجها، ما يقارب الستين مليونًا من المواطنين؛ أدلى ما يزيد عن 87 بالمئة منهم بأصواتهم. وهي نسبة تصويت عالية مقارنة بأي نظام تعددي آخر في العالم. وقد شهدت النتائج تباينًا ملموسًا، وإن ليس كبيرًا، بين توزيع الأصوات في الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية.

طبقًا للنتائج الأولية، حصل أردوغان على اثنين وخمسين ونصف بالمئة من الأصوات، وهو ما يزيد قليلًا عن النتائج التي حققها في انتخابات 2014 الرئاسية، بالرغم من أن رئاسيات 2014 لم تكن محل الجدل الذي شهدته تركيا مؤخرًا حول الانتقال إلى النظام الرئاسي. تجاوزت حصة مرشح حزب الشعب الجمهوري، الذي بالغت التقديرات في حظوظه أثناء الحملة الانتخابية، الثلاثين بالمئة بقليل؛ بينما حصل مرشح حزب الشعوب الديمقراطية، كردي التوجه، ديمرتاش، على ثمانية ونصف بالمئة، وحصلت ميرال إكشنر، مرشحة الحزب الجيد على سبعة بالمئة من الأصوات. ولم يستطع مرشحا حزب السعادة وحزب الوطن تجاوز واحد بالمئة لكل منهما.

في الانتخابات البرلمانية، تراجع الدعم لحزب العدالة والتنمية إلى أكثر من 42 بالمئة بقليل، وهو تراجع ملموس عن نتائجه في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015. أما شريكه في تحالف الشعب، حزب الحركة القومية فحقق ما يزيد عن 11 بالمئة بقليل، محافظًا على حصته في آخر انتخابات برلمانية، وفي مفاجأة كبيرة لاستطلاعات الرأي وحسابات العديد من الخبراء، التي توقعت ألا يحصل على أكثر من 7 بالمئة من الأصوات، بعد انشقاق الحزب الجيد في نهاية 2017.

أما حزب الشعوب الديمقراطية، فحقق 11 ونصف بالمئة من مجموع الأصوات، محافظًا على نتائجه في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2014؛ بينما حصل الحزب الجيد، المشكَّل حديثًا من الانشقاق في حزب الحركة القومية، على 10 بالمئة من الأصوات. وقد تراجعت أصوات حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيس، بصورة ملحوظة من 25 بالمئة في انتخابات 2014 إلى ما يقارب 23 بالمئة هذه المرة. حزب السعادة الإسلامي، الشريك في تحالف الأمة الرباعي، حصل على ما يزيد عن 1 بالمئة بقليل، بدون أن ينجح في تأمين ولو مقعد واحد في البرلمان، نظرًا لانتشار أصواته عبر البلاد. أما الشريك الرابع في تحالف الأمة، الحزب الديمقراطي، وحزب الوطن اليساري، فلم يستطع أي منهما تحقيق واحد بالمئة من الأصوات.

بذلك، خسر العدالة والتنمية الحاكم أغلبيته المنفردة في البرلمان السابق، وإن كان نجح في تأمين أغلبية مريحة (ما يقارب 340 من المقاعد) بالشراكة مع حليفه حزب الحركة القومية؛ بينما لم تستطع أحزاب تحالف الأمة الأربعة تحقيق ما يزيد عن 192 من المقاعد. أما حزب الشعوب الديمقراطية، القومي الكردي، فسيحتل 67 مقعدًا في البرلمان الجديد، وهو عدد كاف لتمثيل التوجه الكردي القومي في البلاد.

فكيف يمكن تفسير هذه النتائج؟

استعاد أردوغان الفوز في مدينتي إسطنبول وأنقرة، أكبر مدينتين تركيتين، اللتين كان قد خسرهما في الاستفتاء على النظام الرئاسي. وتمثل الأصوات التي حققها أردوغان مجموع أصوات شريكي تحالف الشعب: العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية. ما يقارب واحد بالمئة فقط من أصوات حزب الحركة القومية ذهبت لمرشحين رئاسيين آخرين. وبالنظر إلى أن أصوات حزب الحركة القومية ذهبت لأكمل الدين إحسان أوغلو، المرشح المنافس لأردوغان في انتخابات 2014 الرئاسية، فذلك يعني أن نصيب أردوغان من الأصوات في هذه الجولة، بمعزل عن الأصوات التي جاءت من حليفه القومي، تراجع بما يقارب التسع نقاط.

ويمكن تفسير الفارق بين نسبة الأصوات التي حققها صلاح الدين ديمرتاش وتلك التي حققها حزبه، وبين ما حققته ميرال إكشنر وأصوات حزبها، بأن نسبة من الصوت الكردي القومي وأنصار الحزب الجيد قررت دعم محرم إنجي في الرئاسيات، الذي بدا لخصوم أردوغان أنه المرشح صاحب الحظ الأوفر في إيقاع الهزيمة بالأخير.

من جهة أخرى، تعتبر حصة الأصوات التي حققها محرم إنجي نجاحًا نسبيًّا للمرشح الذي تبنى خطابًا شعبويًّا وتصالحيًّا مع المعسكر المحافظ في البلاد. ولكن نجاح إنجي في تحقيق نسبة من الأصوات أعلى بكثير من تلك التي حققها حزبه، الذي يرأسه كمال كاليشدار أوغلو، لابد أن يثير جدلًا جديدًا داخل حزب الشعب حول شرعية قيادته الحالية، وما إن كان من المقبول تهميش دور إنجي بعد اليوم، سيما بعد أن خسر مقعده البرلماني بفعل ترشحه للانتخابات الرئاسية. ولن يكون مستغربًا أن يعقد الشعب الجمهوري مؤتمرًا عامًّا طارئًا، بهدف انتخاب زعيم جديد للحزب.

أخيرًا، كان من الواضح أن تراجع الدعم لحزب العدالة والتنمية أكبر بكثير مما توقعه استراتيجيو الحزب. ويعود هذا التراجع بالتأكيد إلى تصاعد مستوى عدم الرضى الشعبي عن أداء حكومة الحزب في العامين الأخيرين، وخروج عدد من كبار قادته من صفوفه الأولى، وبوادر التأزم الاقتصادي في البلاد، والشائعات التي تطول سلوك بعض شخصيات الحزب أو أقارب لهم. ولأن سن الترشح والتصويت أصبح 18 سنة من العمر، فقد دخل إلى الكتلة الانتخابية قطاع من الشبان الذين لم يعيشوا سنوات فقدان الاستقرار والانهيار الاقتصادي في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ولا يشعرون بالتالي بأنهم مدينون للعدالة والتنمية وإنجازاته. كما أن هناك قطاعًا من الصوت الكردي التقليدي، امتنع عن التصويت للعدالة والتنمية وعن التصويت لأردوغان، إما رغبة في عقاب العدالة والتنمية على تحالفه مع حزب الحركة القومية، أو لتأمين تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي عتبة العشرة بالمئة، الضرورية للتمثيل البرلماني.

ذهبت الأصوات التي خسرها العدالة والتنمية، على الأرجح، في جزء منها لصالح حزب الحركة القومية، الذي يشترك مع العدالة والتنمية في بعض الشرائح الانتخابية، وفي جزء آخر، وإن أقل، لصالح الحزب الجيد. أما ما تبقى من حصة الحزب الجيد فجاء بالتأكيد من قاعدة حزب الشعب الجمهوري التقليدية، والقليل منها فقط من حزب الحركة القومية.

تركيا الجديدة
بهذه النتائج، يمكن القول: إن انتقال تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي سيُنجز بسلاسة أكبر، بعد أن كان هذا التحول قد أُقِرَّ بفارق قليل من الأصوات في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في ربيع 2017، وظل مصدر جدل منذ ذلك الوقت. كما يمكن استنتاج أن الأغلبية التركية لم تصوِّت للاستقرار وحسب، بل وقامت بتجديد الثقة في رئيسها وحمَّلته مسؤولية مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجهها البلاد في الداخل وفي الجوار الإقليمي.

ولكن الثقة التي أولتها الأغلبية التركية لأردوغان كانت مشروطة؛ وقد انعكس هذا التحفظ في التراجع الملموس في حصة حزب العدالة والتنمية من الأصوات وفقدانه الأغلبية البرلمانية منفردًا. بدا الحزب خلال العام أو العامين الأخيرين منهكًا، وبدا مشروعه النهضوي، الذي أسهم في تغيير تركيا خلال السنوات 2002–2015، متعثر الخطى وغير واضح الأهداف والرؤية المستقبلية. بصورة ما، أرسل الشعب التركي عبر نتائج الانتخابات البرلمانية رسالة تحذير وفرصة أخيرة للعدالة والتنمية، مفادها أن على الحزب تعهد حركة إصلاح داخلي ملحَّة ومفكَّر فيها، تستجيب لظروف ومتطلبات تركيا الموضوعية في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

سياسيًّا، يعني فقدان العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية أن الحزب سيكون رهينة التوافق مع شريكه القومي في تحالف الشعب، سواء لدعم حكومة الرئيس أردوغان المقبلة أو لضمان فعالية البرلمان الجديد التشريعية. وإن كان ثمة درس لتاريخ الأحزاب التركية منذ الستينات، فإن حزب الحركة القومية ليس حليفًا يمكن الاطمئنان إليه دائمًا. وهذا ما قد يدفع العدالة والتنمية لمحاولة جذب دعم عشرة نواب برلمانيين من أحزاب أخرى، سيما الحزب الجيد، الذي بات مرشحًا للانقسام، لضمان أغلبية مستقلة عن الحليف القومي.  

خلال الأسابيع، أو ربما حتى الأيام، القليلة التالية ليوم الانتخابات، سيبدأ الرئيس بالتأكيد في الكشف عن بنية حكومته، وأسماء نواب الرئيس، وبنية المجالس المتخصصة التي أعلن أردوغان أثناء الحملة الانتخابية عن عزمه تأسيسها لمساعدة الرئيس في القيام بمهماته. ما إن يكتمل الفريق التنفيذي ويُقر برلمانيًّا، ستبدأ عملية تنفيذ التعديلات التي أُقرت في التعديلات الدستورية في مؤسسات الدولة وعلاقتها ببعضها البعض وإكمال المواءمة التشريعية للقوانين، وتتضح طبيعة التوجهات السياسية والاقتصادية وعلى صعيد السياسة الخارجية.

ما بات مؤكدًا هو أن حالة الطوارئ ستنتهي ولن يجري التجديد لقانون الطوارىء. كما أن الرئيس وعد بالفعل أثناء الحملة الانتخابية بتبني مقاربة جديدة للعلاقة بين الدولة والأقلية العلوية، سيما على صعيد الاعتراف بأماكن عبادة العلويين. ولكن ليس من الواضح ما إن كان النظام الجديد سيطلق عملية سلام جديدة للمسألة الكردية ولا كيفية مقاربته لهذه المسألة في السنوات القليلة المقبلة. ما تشير إليه نتائج الانتخابات أن كلًّا من الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية خسرا المزيد من الصوت الكردي، وأن لا سبيل لاستعادة هذا الصوت بدون مقاربة إيجابية جديدة للمسألة الكردية

من جهة أخرى، وفي ضوء ارتفاع معدلات التضخم، والانخفاض المقلق لقيمة الليرة التركية التبادلية، فإن المنطقي أن تأخذ إدارة الرئيس أردوغان قرارات قاسية في المجال المالي/الاقتصادي، وأن تعمل على خفض مستوى الإنفاق بصورة ملموسة، وعلى كبح جماح التضخم وتسديد الدَّيْن العام. بدون مثل هذه الإجراءات والتضحية بنسب النمو العالية في العامين المقبلين، سيصعب احتواء بوادر الأزمة المالية/الاقتصادية.

على مستوى السياسة الخارجية، تبدأ إدارة أردوغان عملها وقد انخفض مستوى التوتر في العلاقات الأميركية-التركية، بفعل بدء تطبيق الاتفاق حول منبج وتسلُّم تركيا الطائرة الأولى من طائرات إف 35. ولكن ثمة قضايا لم تزل تتطلب حلًّا في علاقة حليفي الناتو في الساحة السورية. كما أن ثمة حاجة لا تقل أهمية لتبني مسار جديد في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. أما على صعيد العلاقة مع روسيا، ومع دول الجوار الإقليمي، فالأرجح أن أي تغيير في السياسة التركية تجاه إيران، وسوريا، والعراق، والسعودية، والإمارات، سيكون بطيئًا، ومشروطًا بكيفية استجابة هذه الدول لحاجات تركيا ونظام حكمها الجديد. من جهة أخرى، فلابد أن نجاح أردوغان الانتخابي واتضاح صورة تركيا السياسية للسنوات الخمس المقبلة، كان باعثًا على اطمئنان حلفاء حكومة العدالة والتنمية الإقليميين، دولًا وقوى سياسية