انتخاب جوزاف عون رئيسا للبنان: السياق والدلالات

يبدو انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزاف عون رئيسا، كأنه جزء من اتفاق وقف إطلاق النار بعد حرب "الإسناد لغزة"، أكثر مما هو توافق لبناني داخلي وحسب. وقد جاء خطابه الرئاسي شاملا شمول الأزمة اللبنانية، وبدا كأنه استدراك على عهد الرئيس السابق ميشال عون، ومحاولة للخروج من تداعيات الحرب الأخيرة.
12 يناير 2025
الرئيس جوزاف عون يفتتح مرحلة جديدة في تاريخ لبنان بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل وتغير النظام في سوريا

مقدمة

انتخب مجلس النواب اللبناني قائد الجيش العماد جوزاف عون في 9 يناير/كانون الثاني 2025 رئيسا للبلاد، إثر شغور المنصب لأكثر من عامين. انتخب عون بعد حصوله على 99 صوتا من أصل 128 في الدورة الثانية للتصويت خلال جلسة البرلمان التي حضرها جميع النواب. ويأتي هذا التصويت في سياق اقتصادي سياسي وأمني صعب في لبنان.

يركز هذا التعليق على السياق الذي جاء وفقه انتخاب الرئيس اللبناني الجديد، ويقف على أهم الدلالات والتحديات التي تنتظره.

السياق

انتهت ولاية الرئيس السابق ميشال عون عام 2022، وفشلت القوى اللبنانية في انتخاب خلفٍ له وفق المُهل الدستورية. وقد اعتبرت قوى محلية ودول عربية وأخرى دولية؛ الدولة اللبنانية في عهد الرئيس ميشال عون، خاضعة لحزب الله وسلاحه ولإرادة إيران السياسية بعدما وصل نفوذها ونفوذ المليشيات المؤيدة لها، ومنها حزب الله، إلى العاصمة دمشق. وقد تراجعت نتيجة لذلك علاقات لبنان مع محيطه العربي والدولي.

شهد عهد الرئيس السابق أيضا نزاعا مستحكما بين القوى اللبنانية المؤيدة لحزب الله وللنظام السوري السابق والأخرى المعارضة لها. وفي عهده، وتحديدا في عام 2019، شهد لبنان انتفاضة شعبية ضد الطبقة الحاكمة، (انتفاضة 17 تشرين)، كما شهد أكبر أزمة مالية واقتصادية منذ تأسيس الدولة، ووقع انفجار ضخم عام 2020 في مرفأ بيروت بسبب نترات أمونيوم كانت مخزنة في ظروف غامضة، هذا فضلا عن وباء كورونا العالمي.

ومع اقتراب نهاية ولاية الرئيس عون، أخذت مؤسسات الدولة اللبنانية ودواليبها الإدارية تتحلل نسبيا، وبدأت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتفاقم. ولم تمنع هذه الظروف حزب الله من الانخراط في حرب ضد إسرائيل "لإسناد غزة"، انتهت باتفاق لوقف إطلاق النار على أن تنسحب إسرائيل من الأراضي اللبنانية التي دخلتها خلال 60 يوما. وقد خسر الحزب في تلك المواجهة الصف الأول من قيادته العسكرية وجزءا من قيادته السياسية، على رأسها أمينه العام حسن نصر الله. كما تكبد خسائر كبيرة في أرواح المنتسبين من مقاتلين ومدنيين، فضلا عن الدمار الذي شهده جنوب لبنان والضاحية والبقاع.

جاء خطاب الرئيس الجديد شاملا شمول الأزمة اللبنانية، وما انتهت إليه من تردٍّ في العقدين الأخيرين، وكأنه استدراك بشكل خاص على عهد الرئيس السابق ميشال عون. كما حمل وعودا من شأنها أن تخرج لبنان من تداعيات الحرب الأخيرة، فقد وعد الرئيس الجديد أن يكون عهده عهد الإصلاح الاقتصادي، وإعادة هيكلة الإدارة العامة، وإعادة الإعمار، ومناقشة الإستراتيجية الدفاعية، وعودة القوة للدولة وأجهزتها.

ورغم هذا الخطاب المتفائل والطموح، فإن تحقيق الوعود ليس مناطا برئيس الجمهورية وحسب، بل بالحكومة اللبنانية بشكل أكبر، لأنها السلطة التنفيذية الأساسية في النظام اللبناني، وسيجري تكليف رئيسها من قبل رئيس الجمهورية المنتخب بعد استشارات نيابية ملزمة، بمعنى أن اختيار رئيس الحكومة، في نهاية المطاف، هو اختيار النواب.

دلالات انتخاب جوزاف عون

جاء انتخاب جوزاف عون بأغلبية أصوات النواب، بمن فيهم نواب الثنائي: حركة أمل وحزب الله، الذين منحوه أصواتهم في الجولة الثانية ليؤكدوا أنهم جزء من الأغلبية التي جاءت به رئيسا. وانعكس تأثير ذلك في خطاب عون، إذ أكد على فتح النقاش حول الإستراتيجية الدفاعية، أي حول سلاح حزب الله، وعدم اللجوء إلى القوة لنزعه، أو التفرد بأي قرار بخصوصه.

هناك من القوى اللبنانية المناهضة لحزب الله من اعتبر أن انتخاب قائد الجيش من تداعيات "هزيمة" الحزب في حربه الأخيرة، مع العلم أن حزب الله ينفي أنه "هزم"، ويؤكد أن انتخابه للرئيس هو تفضيله للتوافق اللبناني الداخلي، وليس من قبيل التنازل.

غير أن انتخاب عون يبدو كأنه جزء من اتفاق وقف إطلاق النار بعد حرب "إسناد غزة" أكثر مما هو توافق لبناني داخلي، فقد كان قائد الجيش مطروحا منذ نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال عون وتعذر الاتفاق عليه، إلى أن جاءت المواجهات الأخيرة لترجح حظوظه. وثمة ما يشبه الإجماع العربي والدولي على تفضيله، وهو كذلك الخيار المفضل للجنة الخماسية التي شُكلت لمساعدة لبنان على انتخاب رئيس جديد، وتضم سفراء قطر والسعودية ومصر والولايات المتحدة وفرنسا.

مقابل هذه التوافقات الداخلية والخارجية، يجد الرئيس الجديد نفسه أمام مجموعة من التحديات، أبرزها تحقيق شروط وقف إطلاق النار على الجانب اللبناني، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من ترتيبات في المستقبل، مثل استكمال ترسيم الحدود. وكذلك ضبط حدود لبنان ومنافذه، وفصل لبنان عن أزمات الإقليم، وألا يكون منطلقا لأي أعمال عدوانية ضد جيرانه، خاصة بعد تدخل حزب الله في المرحلة السابقة في سوريا واتهامه من دول عربية بلعب دور إلى جانب أنصار الله الحوثيين في اليمن.

ولا يمكن تجاهل التغيير الذي حصل في لبنان، دون الأخذ بعين الاعتبار التغيير الجذري الذي حصل في سوريا، بوصول المعارضة المسلحة بقيادة أحمد الشرع، إلى الحكم بدعم من تركيا، وهو تغيير لا ينفصل عن تحول إقليمي لم يبلغ منتهاه بعد. بهذا الاعتبار، لا يُستبعد أن يكون الحرص الدولي على انتخاب رئيس في لبنان، وعلى وصول قائد الجيش تحديدا إلى هذا الموقع؛ جزءا من ترتيبات إقليمية أوسع وأشمل.

على صعيد الداخل اللبناني، حمل خطاب الرئيس الجديد بصمات مطالب "انتفاضة 17 تشرين" التي أجهضت، فقد كان عنوانها الأساسي تغيير طبقة الأحزاب الحاكمة في لبنان، وإعادة بناء الدولة وفق معايير جديدة بعيدا عن الفساد والمحسوبية، وتفعيل إدارات الدولة وتحريرها من هيمنة الأحزاب وتقاسمها. وقد أكد الرئيس جوزاف عون تبنيه للكثير من تلك المطالب، خاصة المتعلقة منها بالدولة وليس بالطبقة السياسية. من ناحية أخرى، أكد الخطاب الرئاسي على استمرار اتفاق الطائف ولم يطرح فكرة الخروج عليه أو الذهاب إلى "مؤتمر تأسيس جديد"، وهو ما كان يدعو إليه حزب الله، بوصفه أحد الخيارات للخروج من أزمة الحكم. ويعني ذلك أن اتفاق الطائف لا يزال أحد الثوابت المحلية، وسيكون أحد أركان أي نظام إقليمي مستقبلي في المنطقة.

خاتمة

لا شك أن الضغوط العربية والدولية أسهمت في تسريع انتخاب الرئيس، وأنها صبت جميعها لمصلحة قائد الجيش جوزاف عون. ولو استمر التأخير في سد هذا الشغور، أو جرى انتخاب مَن لا ترضى عنه الأطراف العربية والغربية المعنية بالشأن اللبناني، لكانت احتمالات اندلاع الحرب من جديد أو تناسل الأزمات الاقتصادية والسياسية؛ عالية جدا.

وبالنظر إلى السياق الذي جاء فيه الرئيس جوزاف عون، فمن الواضح أن انتخابه يفتتح مرحلة جديدة في تاريخ لبنان، بعد وصول الأزمة السياسية اللبنانية إلى ذروتها، بالتوازي مع تفاقم الأزمة المالية إلى مستويات غير مسبوقة. وبعد التغييرات التي طرأت على بنية حزب الله القيادية، بفقد أمينه العام الاستثنائي حسن نصر الله، وموافقته على وقف إطلاق النار مع إسرائيل، ينفصل الحزب عمليا عن عمقه الإقليمي. وستساعد هذه التطورات على فتح الباب أمام فصل لبنان عن باقي الأزمات الإقليمية، وهو ما كانت تشترطه دول عربية وغربية لمساعدته على النهوض الاقتصادي.

لا شك أن انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية يعد خطوة أولى وكبيرة لإنهاء الفراغ في المؤسسات الدستورية، وفتح حوار لبناني داخلي لمعالجة الأزمات المتفاقمة، وإعادة رسم علاقة لبنان الإقليمية وتطوير صلته بمحيطه العربي والإقليمي، لكنها تظل خطوة وحسب.

نبذة عن الكاتب