الكوارث الطبيعية والنزاعات المسلحة: جدلية إفريقية مزمنة ومتجددة

تحاول هذه الورقة الوقوف على العلاقة المترابطة ما بين اتساع دوائر النزاع المسلح إفريقيا وتفاقم معضلة إدارة الأزمات الناجمة عن الكوارث الطبيعية في مناطق النزاع مجيبة على عدة تساؤلات تتعلق بطبيعة الوضع الأمني الذي تفرضه الخصوصية المناخية والجغرافية الإفريقية وتنامي النزاعات المسلحة.
مليون كيني مهددون بالموت جوعا بسبب الجفاف والجراد (الجزيرة)

في ضوء اتساع دوائر النزاع المسلح إفريقيا ومع تفاقم معضلة إدارة الأزمات الناجمة عن الكوارث الطبيعية في مناطق النزاع تطرح هذه عدة تساؤلات رئيسية من بينها: ما طبيعة الوضع الأمني الذي تفرضه الخصوصية المناخية والجغرافية الإفريقية في ظل تنامي وانتشار النزاعات المسلحة؟ وما الإستراتيجيات الإقليمية والقارية في سبيل مجابهة هذه التحديات متعددة الأبعاد؟

الكوارث الطبيعية ضمن سياق إفريقي متأزم

تشير الدراسات إلى أن الكوارث الطبيعية في مجملها عبارة عن حدث طبيعي مفاجئ يطرأ على رقعة جغرافية بعينها، نتيجة لعدة عوامل وأسباب مختلفة ومتنوعة، ومع التطور التقني التكنولوجي الهائل الذي شهدته التجربة البشرية، أضحى من الممكن التنبؤ بوقوع بعض من الكوارث الطبيعية، بالإضافة لتحديد قوتها وحجمِها ورقعة انتشارها جغرافيًّا، ناهيك عن التداعيات التي قد تخلِّفُها على كافة الأصعدة.

يرى جيرار مارش، من جامعة ويسترن أونتاريو بكندا، أن الكوارث الطبيعية من شأنها أن تؤثر بشكل بالغ على المقدرات والموارد المحلية للدول، وتعد اختبارًا فعليًّا وواقعيًّا لقدراتها المادية، وكذا على فاعلية مستويات الاستجابة وبرامج الطوارئ الحكومية المُعدة مسبقًا لمجابهة مثل هذه الأزمات التي قد تتعرض لها، ذلك أن لكل كارثة طبيعية سيناريو خاصًّا بها؛ الأمر الذي قد يُلقي أعباء معقدة ومتباينة من حيث خطط وإستراتيجيات الإدارة واحتواء الانعكاسات الممكنة(1).

كما أن تنوع التضاريس والتعقيد والتباين في التصنيفات الفلكية من حيث المناطق المناخية السائدة، كلها عوامل جعلت القارة الإفريقية تتميز بأنماط مختلفة من الكوارث والظواهر الطبيعية المتكررة طيلة مواسم وفصول السنة. وقد مثَّلت سنة 2023 ذروة التقلبات الطبيعية بإفريقيا؛ إذ تم تسجيل أكثر من ستين كارثة طبيعية متباينة، تضررت من خلالها جمهورية الكونغو الديمقراطية بسبع كوارث في ظرف أشهر معدودة، لتصبح بذلك من بين أكثر عشر دول بالعالم تأثرًا بانعكاسات الكوارث الطبيعية(2).

ووفق دراسة مسحية أعدتها المجموعة الإفريقية لاستيعاب المخاطر التابعة للاتحاد الإفريقي تناولت تسعًا وعشرين دولة إفريقية، رصدت ما يقرب من 1436 كارثة طبيعية في الفترة الزمنية الممتدة ما بين 2000 إلى 2023، فقد مثَّلت الفيضانات والسيول نسبة %60 من هذه الكوارث، فيما اشتملت العواصف وموجات الجفاف على %15.4 و%11.7 على التوالي، وقد أكدت الدراسة على أنه بالرغم من النسبة المتدنية المسجلة لحالات الجفاف، إلا أنها تبقى الأكثر تأثيرًا، ففي سنة 2014 تم تسجيل حوالي خمس موجات جفاف بالقارة الإفريقية أثَّرت على ما يقرُب من 25 مليون نسمة، مقارنةً بتأثر مليون نسمة بـ20 حالة فيضان بذات السنة(3).

بالإضافة إلى الأبعاد والتأثيرات السكانية والاجتماعية التي قد تحدثها الكوارث الطبيعية بأي منطقة، فإن بقية الأبعاد لا تقل أهمية وتأثيرًا، فبالنسبة للقارة الإفريقية التي غالبًا ما تعاني مشاكل معقدة في تحصيل وإدارة إيراداتها وعائداتها الاقتصادية، تصبح الكوارث الطبيعية عبئًا إضافيًّا يثقل كاهل الموازنات العامة لمختلف الحكومات بالقارة (انظر: الشكل رقم 1).

وحسب بعض التقارير، فإن الوضعية المالية الإفريقية أظهرت حالةً من العجز ومن الخسائر الاقتصادية جرَّاء التداعيات السلبية للكوارث الطبيعية على مستوى بلدان القارة. وفي النصف الأول من سنة 2024 قُدِّرت الخسائر بما يقارب نصف مليار دولار أميركي، وهي نسبة كبيرة ومبررة قياسًا على معدلات التقلبات المناخية التي شهدتها إفريقيا منذ نهاية سنة 2023، ولا يمكن تحليل هذه الأرقام بمعزل عن مستويات التأمين على الممتلكات التي لم تتعد نسبة %1 معدلًا عامًّا للبلدان الإفريقية؛ الأمر الذي يعكس فجوة كبيرة للغاية قد تؤثر على سيرورة وديناميكية الاقتصادات الوطنية الإفريقية(4).

الشكل رقم 1: حجم الخسائر الاقتصادية بسبب الكوارث الطبيعية بالقارة الإفريقية ما بين 2019-2023 (الوحدة مليون دولار أميركي)

1
المصدر: الشكل من إعداد الباحث(5)

من جانب آخر، تشير الدراسات إلى شبكةٍ واسعة ومعقدة من التأثيرات التي قد تتسبب فيها سلسلة الكوارث الطبيعية على بلدان القارة الإفريقية، فبالنظر إلى الطبيعة الزراعية  بأغلب البُنى والأنشطة الاقتصادية للشعوب والحكومات الإفريقية بمختلف مناطقها، والاعتماد شبه الكُلي على إيرادات القطاع الزراعي في رسم وبناء خططها التنموية لبقية القطاعات(6)، يشير تقرير أعده برنامج تسريع تنفيذ التكيف في إفريقيا (Africa Adaptation Acceleration Program Delivery) في هذا الصدد إلى وجود علاقة جدلية وحتمية تربط ما بين ثلاثة معطيات أساسية هي: استفحال ظاهرة التغيرات المناخية، وازدياد الكوارث الطبيعية، والحاجة لاستقطاب استثمارات من القطاع الخاص(7). ووفق الدراسة، فإن بلدان إفريقيا جنوب الصحراء بحاجة إلى إنفاق ما يزيد عن ثلاثين مليار دولار أميركي سنويًّا لغاية 2030 في مشاريع تهدف للتأقلم مع ما تشهده القارة من تغيرات مناخية، وذلك للتقليل من آثار الكوارث الطبيعية المحتملة، وإنفاق حوالي خمسين مليار دولار أميركي بحلول سنة 2050 إذا ما استمر تفاقم تأثيرات التغيرات المناخية لمستوى الدرجة الثانية.

الدوافع المناخية للاقتتال المسلح بإفريقيا

غالبًا ما تقف الكتابات والقراءات المستفيضة حول الأوضاع الأمنية وأحداث الاقتتال المسلح شبه الدائم ببلدان القارة الإفريقية أمام مقاربات وقراءات متباينة، من بينها على سبيل المثال العلاقة الجدلية المركبة ما بين العوامل الطبيعية من جهة، وازدياد مستويات العنف والنزاعات المسلحة سواء تلك الداخلية البينية في الدولة الواحدة، أو تلك التي بين الوحدات السياسية المشكِّلة للبيت الإفريقي من جهة أخرى، وتتمحور هذه الجدلية في تحديد حدود المعادلة على النحو التالي:

  • كثيرًا ما تذهب بعض الدراسات إلى أن العوامل الطبيعية تمثل أحد أبرز وأكثر دوافع وأسباب النزاعات الداخلية ببلدان القارة، هذا إذا ما قورنت ببقية المسببات الأخرى على غرار التعدد الإثني وتباين الولاءات السياسية(8). وفي هذا الإطار، يرى الباحثان، فاتوما دودي وواريو روبا آدانو، أن منطقة إفريقيا جنوب الصحراء ستعرف بعد عقدين من الزمن تصاعدًا في نسبة الحروب الأهلية الناجمة عن التغيرات المناخية من حيث عدد الأحداث، وذلك بزيادة قدرها %49، وذلك في حالة ما إذا استمرت زيادة درجات الحرارة الكلية بـ1° فقط(9).
  • ومن جهة أخرى، يحاج آخرون بكون النزاعات المسلحة بالقارة الإفريقية أضحت حالة شبه نمطية تطبع إدارة التوازنات الداخلية (السياسية والعسكرية)، إلى جانب أنها قد تفاقم من الأوضاع الإنسانية نتيجة حدوث الكوارث الطبيعية والعوامل الطبيعية، وعلى هذا الأساس يبقى من الضروري على الدول والحكومات الإفريقية وضع آليات قُطرية وإقليمية قارية في سبيل مواجهة التحولات الهائلة في التغيرات المناخية السائدة عالميًّا.

واستطرادًا للقسم الأول، يعتقد عديد الباحثين على غرار الأستاذ مارشال بي. بيرك، من قسم الاقتصاد الزراعي وموارد البيئة ببرنامج الأمن الغذائي والبيئة في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، وآخرين(10)، بأن هناك خلفية تاريخية قوية رسخت لعلاقة ترابطية وثيقة ما بين العوامل الطبيعية خاصة تلك المتعلقة بتغيرات المناخ من جهة، وما شهدته عدة دول وأقاليم بالقارة الإفريقية من صراعات ونزاعات أهلية، من جهة أخرى.

ذلك أنه "باستخدام نموذج للتقديرات المناخية المستقبلية توصل الباحثون إلى أنه، وبحلول سنة 2030، ستشهد القارة الإفريقية صراعات أهلية تودي بحياة حوالي 393 ألف قتيل، سببها الرئيسي التغيرات المناخية الطارئة والمؤثرة على حياة ومعيشة الأفراد. ويأتي هذا العدد من الضحايا بعد افتراض الدراسة لتقارب نسب ضحايا هذه الحروب مع ما شهدته القارة في الفترة من 1981 إلى 2002 من صراعات داخلية"(11).

وفي نفس السياق، وبهدف التحديد الدقيق لتفاصيل وجزئيات التهديدات الأمنية الناجمة عن تسارع حدة ظاهرة التغير المناخي في العقود الأخيرة على مستوى كل المناطق المناخية السبعة للقارة، يبقى الأمر جد صعب ومعقدًا. إلا أن الأبحاث البيئية حاولت بشكل متكامل تحديد معالم هذه التهديدات، على غرار "تزايد أخطار محدودية مصادر المياه في مناطق الوسط الإفريقي، مع انخفاض حاد في المحاصيل والمنتوجات الزراعية بمنطقة القرن الإفريقي، وكذلك اتساع دائرة تهديد ظاهرة التصحر لكل من مالي وتشاد والجزائر، فضلًا عن تراجع مستويات الثروات المائية البحرية الساحلية بمعظم المنافذ المائية للقارة، كل هذا أدى إلى تدهور حاد في بنى الدول التحتية ومردوديتها الاقتصادية"(12).

ويلاحظ أن إفريقيا تعُج بالنزاعات المسلحة على طول أقاليمها ومناطقها الجغرافية الرئيسية خاصةً (غرب وشرق القارة، وبلدان جنوب الصحراء الكبرى عمومًا)، وقد أضحت حالة الفوضى الأمنية وعدم الاستقرار السياسي السمة الأبرز، بل والصورة النمطية السائدة على ذهنية الآخر حول توصيف الأوضاع بالقارة. وتؤكد التقارير والأبحاث ذات الصلة على تصاعد وتيرة الصراعات المسلحة الداخلية وتدني مستويات انعدام الأمن خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، ذلك أنه قد اختلطت فيها المُسببات والدوافع وكذا طبيعة الفاعلين واللاعبين (قوى وطنية وإقليمية ودولية)، فوفق البيانات الصادرة عن بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة(13)، مثَّل الفصل الأخير من سنة 2023 وصولًا لمطلع 2024 المستوى الأكثر دموية كمعدل عام على القارة، فقد تباينت الأطراف المتنازعة ما بين نزاعات حكومية مع قوى متمردة (بوركينافاسو، ومالي، وبورندي)، وكذا أعمال العنف السياسي التي أعقبت فوز فيليكس تشيسيكيدي بولاية رئاسية ثانية بجمهورية الكونغو الديمقراطية وأدت لزياد العنف ضد المدنيين بنسبة %54 مقارنة بسنة 2022.

هذا بالإضافة إلى المأساة الإنسانية الكبرى الناجمة عن الاقتتال المُسلح الداخلي بدولة السودان؛ إذ حسب ما أورده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية(14) فإنه إلى جانب الأعداد المهولة من القتلى جرَّاء الصراع ما بين الجيش الوطني السوداني وقوات الدعم السريع، فقد تم رصد أزيد من 8.6 ملايين نازح خارج البلاد؛ أي ما نسبته %16 من التعداد السكاني للسودان، وكذا معاناة قُرابة 17.7 مليون مواطن سوداني من حالات سوء التغذية، وحوالي 4.9 ملايين نسمة يواجهون خطر المجاعة الحتمية القاتلة.

إلى جانب أمثلة عديدة متشابهة، وفي خِضم حالة الفوضى وعدم الاستقرار، تقف الحالة السودانية متصدرة المشهد المأساوي الإفريقي، سواء من حيث المعاناة الأهلية جرَّاء استمرار الاقتتال الداخلي ما بين القوى المتصارعة على السلطة، أو من حيث التدهور الإنساني الذي ألَمَّ بالمجتمع السوداني عقب ما شهدته التقلبات المناخية بالبلاد من كوارث طبيعية متنوعة خلال السنة الجارية (سيول وفيضانات، وجفاف، وارتفاع لمعدلات الحرارة..). وبالنظر إلى الوضعية بالغة التعقيد والتشابك، فقد أضحت الحالة السودانية واحدة من أكثر القضايا الشائكة بالقارة الإفريقية، فتداعيات النزاع المسلح الدائر منذ أبريل/نيسان 2023 أثَّر على ما يقارب 25.6 مليون مواطن سوداني بحاجة إلى مساعدة إنسانية، وأكثر من 11 مليون شخص نازح من بينهم ما يزيد على ثلاثة ملايين منتشرين بمخيمات اللجوء بدول الجوار(15)، وهي حالة تفوق طاقة الطاقم الحكومي شبه المعطل والعاجز عن تلبية أبسط حاجيات المواطنين اليومية نتيجة لمجريات المعارك المنتشرة بربوع وأقاليم البلاد.

وفي ذات السياق السوداني، ومع مطلع شهر يونيو/حزيران 2024، شهدت البلاد مستويات عالية من هطول الأمطار الموسمية، تسببت في سيول وفيضانات هائلة ضربت عدة أقاليم جغرافية، فاقمت بذلك من المعاناة الإنسانية التي يواجهها المواطن السوداني المُثقل أساسًا بتركة النزاع المسلح منذ ما يزيد عن سنة. وقد أظهرت موجة سيول الصائفة المنقضية العجز الرسمي الحكومي عن إدارة الأزمات والكوارث الطبيعية غير المتوقعة. فمن أصل ما يزيد على 180 ألف نازح جرَّاء السيول من الولايات الشمالية، وشمال دارفور، والبحر الأحمر، وولاية غرب دارفور، فإن %44 منهم هم بالأساس نازحون من مناطق أخرى بسبب النزاع المسلح. وهذا الأمر قد أحدث حالة من عدم التوازن في مناطق تواجد النازحين بالداخل السوداني، وهو ما يمكن تسجيله في ولاية النيل التي تؤوي ما يزيد عن ثلاثة أرباع المليون نازح بسبب الاقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع. ولقد تضاعفت هذه الأعداد مع ما أحدثته الفيضانات بالفترة ما بين يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول 2024(16).

وفي الوقت الذي تعطل فيه حوالي %70 من المؤسسات والهيئات الصحية والمستشفيات بالسودان بسبب الحرب(17)، أصبح من الصعب بمكان مجابهة الأوبئة الناجمة عن موجات السيول والفيضانات الأخيرة، خاصة مع انتشار وباء الكوليرا الذي خلَّف حوالي 305 قتلى وأكثر من أحد عشر ألف مصاب بإحدى عشرة ولاية سودانية(18)؛ الأمر الذي ضاعف من قتامة المشهد الإنساني الميداني المعقد بالأساس.

المساعي والمقاربات القارية والإقليمية لإدارة الكوارث الطبيعية

تشير أغلب الدراسات الإفريقية إلى الأوضاع الهشة التي تعيشها القارة، ويمكن ملاحظة هذه الحالة في شتى قطاعات وفي تفاصيل الحياة المجتمعية اليومية للشعوب الإفريقية، وقد انعكس هذا الوضع على آليات وسُبل إدارة مواجهة التداعيات المحتملة التي تفرضها التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية عبر دول وأقاليم القارة. وفي هذا الصدد كثيرًا ما يُحاج الباحثون بضعف أو غياب المتطلبات والميكانيزمات العملية التي من شأنها أن تحد من الآثار السلبية المُنجرة عن وقوع الكوارث الطبيعية، ذلك أنه وحسب المجموعة الإفريقية لاستيعاب المخاطر التابعة للاتحاد الإفريقي فإن ما نسبته %40 فقط من إجمالي دول القارة يندرجون تحت غطاء الأنظمة العالمية للإنذار المُبكر. بالإضافة إلى هذا، فإن هذه الدول تعاني مشاكل وصعوبات تقنية تؤثر سلبيًّا على مستويات جودة عمل أنظمة الإنذار بشكل عام. وبالرغم من أن معدلات الوفيات بالدول الإفريقية المنضوية تحت هذه الأنظمة حوالي ثُمن مجموع وفيات بقية الوحدات السياسية بالقارة، إلا أن احتمالية تحسن هذه النسبة تبقى ممكنة في حالة التعديلات الإيجابية على معايير الجودة بذات الدول(19).

بالنسبة للأدوار الإقليمية القارية الهادفة إلى تكثيف الجهود الإفريقية لمجابهة آثار الكوارث الطبيعية، فالمنظومة الإفريقية سطرت جملة من المساعي تشكلت في شبكة متداخلة وشبه متكاملة مؤسساتيًّا لهذا الغرض. وعليه، فقد جعلت مفوضية الاتحاد الإفريقي مسألة المناخ من أبرز أولوياتها بأجندتها القارية. ذلك أنه سُجِّلت خسائر اقتصادية بلغت 38.5 مليار دولار أميركي بسبب تفاقم تداعيات التغيرات المناخية سنة 2022، وتضاعفت هذه الخسائر لتفوق الناتج المحلي الإجمالي لحوالي خمس عشرة دولة إفريقية مجتمعة. وعلى هذا أقرت المفوضية إنشاء "نظام رصد ومكافحة الصحة والهجرة في إفريقيا"، بالإضافة إلى "برنامج المرونة الحضرية في إفريقيا"، ومشروع "القدرة على الصمود في منطقة الساحل"، إلى جانب المبادرات الأخرى قيد التنفيذ مثل "البرنامج الإقليمي المشترك للمرونة الحضرية الذكية في إفريقيا"(20)، مع الحرص على أن تشمل الدعوة تعزيز برامج بناء القدرات التعاونية بين الدول الأعضاء بالمجموعات الاقتصادية الإقليمية الإفريقية.

وفي سياقٍ متصل، تعد المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس" أحد أبرز التكتلات والفاعلين الإقليميين بالقارة الإفريقية، المعنية بقضايا إدارة الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية، وكذا حل النزاعات المسلحة الناشبة على مستوى دول الإقليم، إلى جانب الدور الأساسي المتمثل في إرساء ركائز التكامل الاقتصادي بين وحدات المنطقة. وتغطي المجموعة رقعة جغرافية تتطابق مع أربع مناطق مناخية من أصل المناطق الست المعروفة قاريًّا، وهي من بين أكثر المناطق المناخية، من حيث تزايد مستويات تساقط الأمطار، التي تصل السيول فيها إلى 1200 ملم سنويًّا(21).

انطلقت مجموعة الإيكواس في رسم معالم خطة مناخية محكمة بناء على تقديرات أولية مهمة؛ إذ تشير الدراسات والتقارير إلى أن التأثيرات المحتملة للتغيرات المناخية وانعكاسات الكوارث الطبيعية على دول المنطقة ستقلِّل من نسب معدلات الناتج المحلي الإجمالي لها ما بين %3.7 إلى %11.7 كأقصى تقدير بحلول سنة 2050(22). وفي إطار إرساء دعائم عمل المؤسسات الهادف لإدارة الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية بالمنطقة، فإن تسلسل الأحداث يوضح أن الإيكواس قد أسست لحوالي خمس هيئات ومبادرات إقليمية متخصصة في الفترة ما بين 2008-2020(23)، مسَّت في مجملها مجابهة الانعكاسات السلبية للتغيرات المناخية وآثار الكوارث الطبيعية على مناح اقتصادية واجتماعية عدة مثل الزراعة والتجارة والتنمية المحلية والبشرية.

وفي الناحية الشرقية من القارة الإفريقية، نجد الهيئة الحكومية للتنمية "الإيغاد"، التي تأسست من أجل مكافحة التصحر وتدعيم التنمية بمناطق ودول شرق إفريقيا بشكل عام، بالإضافة إلى الانخراط الواسع في حل النزاعات المسلحة وحفظ السلام بربوع القارة. وكثيرًا ما يشير الباحثون إلى النشاط والدور البارز الذي تضطلع به الهيئة في قضايا إدارة الكوارث الطبيعية والحد من انعكاسات التغيرات المناخية، وذلك عبر اعتمادها على إستراتيجية متكاملة تنبثق من عدة أُطر ومحددات، أهمها الأجندة القارية للاتحاد الإفريقي 2063 للمناخ وكذلك اتفاقية باريس للمناخ(24)، ناهيك عن الخبرات الإقليمية المكتسبة جرَّاء العمل الميداني إبان ما تشهده المنطقة من كوارث طبيعية حادة وبالأخص التصحر والتناقص المطرد في المساحات الغابية الخضراء، بالإضافة إلى موجات الجفاف المتكررة التي تكتسح منطقة شرق إفريقيا في العقود الأخيرة. وقد انطلقت إستراتيجية الهيئة من أُسس رئيسية تم تلخيصها في (العقلانية، الرؤية، أهداف عامة، مبادئ توجيهية، وتخطيط إستراتيجي)، وحددت لكل منها محاور إجرائية عملية تهدف بالأساس إلى نمذجة تصورٍ بيئي إقليمي بإحدى عشرة منطقة جغرافية متفرقة بالدول الثماني الأعضاء بالهيئة(25).

خاتمة

بالنظر إلى الأضرار والانعكاسات المتضاعفة لتداعيات الكوارث الطبيعية بالقارة الإفريقية، فإنها أنتجت واقعًا إفريقيًّا مركبًا ومتناميَ التعقيد، فبالرغم من المساعي القُطرية والإقليمية والقارية الحثيثة لتحييد مهددات التغيرات المناخية على شعوب وأقاليم بلدان القارة الإفريقية باختلاف مناطقها الجغرافية الأساسية، إلا أن استمرار حالات الفوضى وعدم الأمن طرح تحديين رئيسيين، أولها ما ارتبط بحالة "التخلي" الرسمي عن تحمل المسؤوليات السياسية لمجابهة وإدارة ما قد تفرزه الكوارث الطبيعية، وقد نلمس هذا المشهد في الدول التي تعاني من نزاعات داخلية شبه مزمنة على غرار السودان والنيجر ومالي. أما ثانيًا فهو التفاقم الأكثر في حلقة دوران غير متناهية ما بين متغيرات العوامل الطبيعية من جهة واتساع محيط العنف المسلح خاصة الداخلي القبلي منه، وذلك بسبب الطبيعة الزراعية الرعوية لمعظم شعوب وساكنة القارة من جهة أخرى، وهي كلها محددات توجب على القائمين على إدارة الشأن العام الأفارقة النظر بأكثر عمق ومسؤولية لإيجاد صيغ ومبادرات حل فاعلة.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1)- March, G. (2002) Natural Disasters and the Impacts on Health. Faculty of Medicine and Dentistry Summer Student with ICLR-2002, the University of Western Ontario. P 1.

2)- The Emergency Events Database , “2023 disasters in numbers”. available at:  https://files.emdat.be/reports/2023_EMDAT_report.pdf

3)- African Risk Capacity, “The state of natural disasters in Africa”. White paper, May 2024.p07

4)- Munich RE, “The price of natural catastrophes in Africa: Insights into the most recent losses” 14/10/2024. Available at: https://n9.cl/6jc34o , access: 25/10/2024, 23:52.

5) الشكل من إعداد الباحث بالاعتماد على البيانات الواردة في: Munich RE, “The price of natural catastrophes in Africa: Insights into the most recent losses” 14/10/2024. Available at: https://n9.cl/6jc34o , access: 25/10/2024, 23:52.

6)- Mounir Bari and Sébastien Dessus, “Adapting to Natural Disasters in Africa:  what’s in it for the private sector?”. international finance corporation, November 2022. P01

7)- Africa Adaptation Acceleration Program Delivery Through COP26, AfDB (2021). P14

8) محمد الأمين بن عودة، "دور العوامل الطبيعية في إثارة النزاعات الداخلية بدول منطقة القرن الإفريقي". ورقة بحثية مقدمة ضمن أشغال الملتقى الدولي الموسوم بـ: دور الدبلوماسية الجزائرية في الحد من توسع النزاعات في إفريقيا، جامعة غليزان- الجزائر، يوم 8 يونيو/حزيران 2022، ص 6.

9)- Wario Roba Adano, Fatuma Daudi, ”Links between climate change, conflict and governance in Africa”. Institute for Security Studies, N 234, 2012 p 04

10)- For more details look: Marshall B. Burke marshall.burke@berkeley.edu, Edward Miguel, Shanker Satyanath, +1, and David B. Warming increases the risk of civil war in Africa, Lobell Authors Info & Affiliations, Edited by Robert W. Kates, Independent Scholar, Trenton, ME, and approved October 14, 2009.

11)- Lobell et al, Prioritizing climate change adaptation needs for food security in 2030, p 16 607−610.

12)- Africa Partnership Forum, Climate change and Africa, Report of the 8th Meeting of the Africa Partnership Forum, Berlin, Germany, 22−23 May 2007. P 11

13)- ACLED, “Regional Overview Africa December 2023”. Available at: https://acleddata.com/2024/01/12/regional-overview-africa-december-2023/ , posted: 12/01/2024 , access: 29/10/2024, 22:15.

14)- OCHA, “Sudan: One Year of Conflict - Key Facts and Figures (15 April 2024)”. Available at: https://n9.cl/ytd727 , posted: April 2024, access: 29/10/2024, 22:41.

15)- International Rescue Committee (IRC), “Crisis in Sudan: What is happening and how to help”. Available at: https: //www.rescue.org/article/crisis-sudan-what-happening-and-how-help  , published: October 24, 2024 , access: 29/10/2024, 23:56.

16)- Displacement Tracking Matrix (DTM Sudan), “ FLOOD DISPLACEMENT SUMMARY”. Report n:006, 22/09/2024. P02.

17)- International Rescue Committee (IRC), “Crisis in Sudan: What is happening and how to help”. Available at: https: //www.rescue.org/article/crisis-sudan-what-happening-and-how-help  , published: October 24, 2024 , access: 29/10/2024, 23:56.

18)- International Medical Corps, “Sudan Conflict Situation Report” . report n: 17, 2024.p 1.

19)- African Risk Capacity, op. cit. P08

20)- African unio, “African Union Addresses Catastrophic 2023 Disasters, Calls for Comprehensive Resilience Building”. Available at: https://2u.pw/RirrFYDF , published: 10/11/2023 , access : 08/11/2024, 21:26.

21)- Demographic prospects of West African countries, UNO data, World Population Prospects 2019. P03

22)- WASCAL (2021). Impacts of Climate Change on Agriculture, Water Resources and Coastal Areas of West Africa, WASCAL. P14

23)- ECOWAS, “ECOWAS Regional Climate Strategy (RCS) And Action plan (2022-2030), April 2022, p25

24)- IGAD, “THE IGAD CLIMATE ADAPTATION STRATEGY (2023-2030)”. Mogadishu, Somalia, 2023. P07

25)- ibid.