إفريقيا ونتائج انتخابات غير متوقعة: حقبة جديدة من التغيير السياسي

لا تزال الحقبة الجديدة من التحولات السياسية بإفريقيا مستمرة وستكون لها آثار متتالية على الدول الإفريقية المختلفة، وستعيد نتائج الانتخابات غير المتوقعة تشكيل التحالفات الإقليمية والسياسات الاقتصادية. كما أن التطورات الأخيرة في القارة تؤكد أن شباب إفريقيا لم يعد راضيًا عن الجلوس بالهامش.
ناخبون يدلون بأصواتهم في انتخابات جرت بجنوب أفريقيا في 29 مايو 2024 [أسوشيتد برس]

أجرت أكثر من 20 دولة إفريقية مختلف أنواع الانتخابات في عام 2024، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية والتشريعية الوطنية والإقليمية أو المحلية(1). وكانت النتائج الرسمية والمعلنة لبعض هذه الانتخابات متوقعة، مثل تلك التي أُجريت في جزر القمر وتشاد ورواندا وتونس والجزائر، وذلك بسبب طبيعة العمليات السياسية في هذه الدول وهيمنة رؤسائها أو الأحزاب الحاكمة. في حين أن نتائج بعضها الآخر مفاجئة، مثل تلك التي أجريت في السنغال وجنوب إفريقيا وموريشيوس وبوتسوانا وغانا، وذلك بسبب ما لهذه النتائج من إمكانات إحداث التغيير في المشهد السياسي بهذه الدول.

وقد دفعت النتائج غير المتوقعة إلى ظهور آراء متعددة، أكثرها يذهب إلى أن إفريقيا، وخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تشهد عصرًا جديدًا من التغيير السياسي؛ إذ إن هذه النتائج الانتخابية جاءت في الفترة التي تشهد فيها العديد من الدول الإفريقية احتجاجات عارمة ومظاهرات واسعة تطالب الحكومات بالحكم الرشيد أو استقالة المسؤولين الحكوميين أو إلغاء سياسات اقتصادية معينة.

أولًا: الاتجاهات الرئيسية للأنظمة السياسية والممارسات الانتخابية في إفريقيا

تلعب الانتخابات دورًا بالغ الأهمية في تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد. وفي إفريقيا تُظهر جميع المؤشرات أن المؤسسات السياسية والعمليات الانتخابية تمر بتغييرات ملحوظة بسبب الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة وتحديات الأمن الإقليمي. ويمكن ملاحظة الاتجاهات الرئيسية للممارسات الانتخابية والديمقراطية في القارة على هيمنة أحزاب سياسية محددة على السياسة الوطنية، وجهود بعض الدول الإفريقية لتعزيز المؤسسات الديمقراطية، ومساعي عدم المركزية في الحكم، وزيادة المشاركة السياسية للشباب والنساء، والاستخدام المتزايد للتكنولوجيا في العمليات الانتخابية، واستمرارية العنف الانتخابي، وصعود الحركات والأحزاب السياسية المعارضة.

ويمكن إيجاز بعض تلك الاتجاهات في سياق الانتخابات الأخيرة التي أجريت في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في النقاط التالية:

أ- تأثير الأحزاب الحاكمة واستمرار نماذج "الرئاسة المهيمنة": من الاتجاهات السائدة في الأنظمة السياسية والممارسات الانتخابية بإفريقيا ما تواجهه بعض الحكومات الإفريقية من تُهَم انتهاك المبادئ الديمقراطية الأساسية واستمرار الرئاسة المهيمنة والتأثير القوي للأحزاب الحاكمة في العمليات الانتخابية لصالح مرشحيها. ويمكن ملاحظة بعض هذه الاتجاهات في كل من دولة تشاد (التي أجرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في مايو/أيار 2024، وفاز فيها محمد إدريس ديبي من "الحركة الوطنية للإنقاذ")(2)، ودولة رواندا (التي أجرت الانتخابات، في يوليو/تموز 2024، والتي فاز فيها حزب "الجبهة الوطنية الرواندية" الحاكم بقيادة الرئيس "بول كاغامي")(3)؛ إذ سبق أن شهدت الدولتان تغييرات دستورية (تشاد في عام 2004 ورواندا في عام 2015) سمحت لرئيسي الدولتين بتمديد ولايتهما الرئاسية(4)، وظهرت أثناء الانتخابات الأخيرة مزاعم استخدام الحزب الحاكم في الدولتين سلطتهما ونفوذ الحكومة للتأثير على العملية الانتخابية، بالإضافة إلى تقارير تقييد حكومتيهما لحرية أحزاب المعارضة، وهو ما أثَّر سلبيًّا في حملات المعارضة الانتخابية وفرص فوزها.

وقد لعبت النجاحات النسبية والمصالح المتصورة لصالح بعض الرؤساء والأحزاب الحاكمة والإدارات القائمة في الانتخابات الأخيرة بإفريقيا. وفي حالتي تشاد ورواندا يُلاحَظ أن تفضيل البعض بقاء النظام الحاكم مرتبط بملفات الأمن والاستقرار. وهذا قد يفسر أيضًا سبب تركيز السلطة في الدولتين حملاتهما الانتخابية في الموضوعات المرتبطة بهذه الملفات؛ إذ في تشاد كانت الأولوية لحل الصراعات الإقليمية القائمة والاضطرابات الداخلية، بينما في رواندا أكد الحزب الحاكم على مواصلة جهود التنمية وتكملة المشاريع الاقتصادية واستمرارية الحفاظ على السلام المحرز منذ الإبادة الجماعية. وهذه الإستراتيجية الانتخابية من الحزبين الحاكمين في الدولتين لها أبعادها الإقليمية والتنافسية الجيوسياسية نظرًا لمكانة تشاد في الساحل ودور رواندا في استقرار جمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق.

وكشفت انتخابات جزر القمر الرئاسية، والتي أجريت في يناير/كانون الثاني 2024، أن إجراء الانتخابات لا تحمي من نزعة "الرجل القوي"، وهي الظاهرة نفسها التي تشهدها دول مثل الكاميرون وغينيا الاستوائية وجمهورية الكونغو (برازفيل) ورواندا وإريتريا؛ إذ تعرضت إدارة الرئيس القُمري "غزالي عثماني" لانتقادات(5) بسبب مزاعم سعيها نحو تعزيز سلطتها عبر إستراتيجيات مختلفة تشمل المراجعات الدستورية والإجراءات التي تؤدي إلى تآكل التعددية السياسية وتقارير عن جهود رئيس البلاد لتوريث السلطة لنجله.

وعليه، تؤكد الانتخابات الأخيرة التي جرت في جزر القمر وتشاد ورواندا على واقع الديمقراطية بإفريقيا، والذي مفاده أن إجراء الانتخابات لا يضمن الحكم الرشيد، وأن التقدم الانتخابي يعاني في كثير من الأحيان من عوائق بنيوية ونظامية. وكثيرًا ما يصبح إجراء الانتخابات غطاء يستغله بعض الحكام للهيمنة السياسية دون مبالاتهم بالصعوبات التي تثيرها أو أثره في إعاقة العمليات الديمقراطية المفتوحة والمنافسة السياسية الكاملة.

ب- نجاحات في ظل تزايد شهية الناخبين للبدائل: مما يلاحظ من الانتخابات المنتظمة بدول إفريقية كثيرة منذ عام 2010 -رغم شوائبها- أنها تسهِّل عملية ترسيخ النظام العام والشعور بالعدالة وتحفيز المواطنين على المشاركة في السياسة، وخاصة في الديمقراطيات الناشئة وأنظمة ما بعد الصراع.

وفي سياق الانتخابات الأخيرة، أظهرت انتخابات السنغال (التي أجريت في 24 مارس/آذار 2024)، وجنوب إفريقيا (التي جرت في 29 مايو/أيار 2024)، وبوتسوانا (التي جرت في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024) وغانا (التي جرت في 7 ديسمبر/كانون الأول 2024) ما تتمتع به هذه الدول من زيادة المشاركة السياسية تحت تأثير مطالب المواطنين بالإصلاحات الاقتصادية وخلق فرص العمل وتعزيز الحكم. ففي السنغال تتعزز التعددية السياسية وصورة البلاد الإيجابية كنموذج للدول الإفريقية الأخرى التي تسعى إلى أنظمة انتخابية تنافسية وشاملة؛ إذ سعى الناخبون إلى المساءلة والتقدم وسط المناقشات حول حدود الولاية الرئاسية والاستقرار الاقتصادي تحت إدارة الرئيس السابق "ماكي صال" الذي خفف قراره (بعدم السعي لإعادة انتخابه) من حدة التوترات، وكان القرار أيضًا خطوة مهمة نحو احترام المعايير الدستورية.

وفي جنوب إفريقيا، أثارت قضايا البطالة والفساد وتردي الخدمات الأساسية غضب المواطنين ضد حكومة حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" الحاكم، وهو ما عزز فرص أحزاب المعارضة مثل "التحالف الديمقراطي" و"المقاتلين من أجل الحرية الاقتصادية" وحزب "أومكونتو وي سيزوي" (رمح الأمة). ونتيجة لهذا، كان أداء "المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم" -الذي هيمن على المشهد السياسي بجنوب إفريقيا منذ انتهاء نظام الفصل العنصري في عام 1994- ضعيفًا في انتخابات عام 2024(6). ورغم أنه لا يزال الحزب الأكبر في البلاد، إلا أن فشله في الحصول على الأغلبية التشريعية (اللازمة لتشكيل الحكومة) أجبره على إنشاء حكومة وحدة وطنية مع عشرة أحزاب أخرى من مختلف أنحاء البلاد(7).

إن نجاح حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" الحاكم (والأحزاب المعارضة) في حل المعضلة السياسية (المتمثلة في عدم تأمين الأغلبية المطلوبة) يوضح مدى النضج الديمقراطي الذي وصلت إليه جنوب إفريقيا؛ إذ يقيِّم الناخبون أداء الأحزاب المهيمنة والحاكمة في صناديق الاقتراع. وقد أثبتت هذا الاتجاه أيضًا انتخاباتُ غانا (7 ديسمبر/كانون الأول 2024)، وبوتسوانا (30 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، والتي أبرزت التعددية في الممارسة السياسية والقدرة المتزايدة لحركات المعارضة على تحدي الأحزاب المهيمنة باستغلال شكاوى الشباب المطالبين بقادة جدد يتبنون سياسات إبداعية ومبادرات مبتكرة.

وفي بوتسوانا، التي تُعَد واحدة من أهم قصص النجاح في إفريقيا وتحتل مرتبة بين أغنى الديمقراطيات وأكثرها استقرارًا في القارة؛ تَرَك التراجع العالمي في الطلب على الماس المستخرج من مناجم البلاد، والذي يمثل أكثر من 80% من صادرات بوتسوانا، تأثيرًا سلبيًّا على اقتصادها، بينما ارتفعت البطالة إلى 27% في عام 2024 (مرتفعًا من 25.90% في عام 2023). وقد عززت هذه التحديات شعور العديد من البوتسوانيين قبل الانتخابات الأخيرة بأن "الحزب الديمقراطي البوتسواني" (الذي حكم البلاد منذ انتخابات عام 1965 حتى الانتخابات العامة في عام 2024) لا يملك مبادرة جديدة للبلاد، بينما تحالف المعارضة ("مظلة التغيير الديمقراطي") قدم مبادرات طموحة شملت مضاعفة الحد الأدنى للأجور وتحسين الخدمات الاجتماعية وتعزيز استقلالية السلطة القضائية. وكانت النتيجة أن أطاح الناخبون بالرئيس "موكغويتسي ماسيسي" من "الحزب الديمقراطي البوتسواني" من السلطة، ومنحوا الفوز لـ "مظلة التغيير الديمقراطي" ومرشحه الرئاسي "دوما بوكو"(8).

وفي حالة الانتخابات الرئاسية في غانا؛ فقد عاد الرئيس السابق "جون دراماني ماهاما" من حزب "المؤتمر الوطني الديمقراطي" المعارض إلى السلطة بانتصار اعترف به خصمه نائب الرئيس "محمدو بوميا" (مرشح الحزب الوطني الجديد)، وكان الفوز إيذانًا بنهاية حكم "الحزب الوطني الجديد" الحاكم بقيادة الرئيس "نانا أكوفو أدو" (الذي كان يقضي فترة ولايته الثانية والأخيرة). وقد دعم هذا التغيير حقيقة أن غانا في عهد "نانا أكوفو أدو" مرَّت بأسوأ أزمة اقتصادية منذ سنوات، وتخلفت عن سداد ديونها، وانخفضت قيمة عملتها الوطنية، إلى جانب قضايا أخرى هيمنت على الحملات الانتخابية وأثارت الاحتجاجات المناهضة للحكومة والسخط العام(9).

وعلى ما سبق، تعكس حالات بوتسوانا وغانا والسنغال وجنوب إفريقيا البيئات السياسية التنافسية المتنامية في مختلف الدول الإفريقية؛ إذ تتزايد شهية الناخبين للبدائل؛ مما يمنح أحزاب المعارضة اليد العليا في الانتخابات. وهذه هي الحالة نفسها في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بموريشيوس؛ إذ حقق زعيم المعارضة "نافين رامغولام" (من "تحالف التغيير") فوزًا ساحقًا، متغلبًا على رئيس الوزراء "برافيند جوجناوث" (من "تحالف الشعب" بقيادة حزب "الحركة النضالية الاشتراكية")(10). ورغم اعتماد نموذج الانتخابات الموريشيوسية العامة على مبدأ الهيمنة شبه الكاملة للتحالفات الفائزة على الحكم والبرلمان؛ إلا أن الانتخابات أيضًا أبرزت التقدم الذي أحرزته البلاد من حيث إجراء انتخابات سلمية والقدرة على إدارة المنافسة السياسية داخل مجتمع متنوع ومتعدد الإثنيات والأديان؛ الأمر الذي يعزز الحكم والتنمية المستدامة في البلاد.

ج- اضطرابات وعنف ما بعد الانتخابات: يشكل ظهور العنف أثناء العمليات الانتخابية أو بعد إعلان النتائج نمطًا متكررًا في المشاهد السياسية الإفريقية؛ إذ كثيرًا ما يلجأ الشباب وأنصار المعارضة إلى العنف للاحتجاج على ما يرونه ظلمًا في العمليات الانتخابية؛ الأمر الذي يقوض قدرة الدولة على الحفاظ على النظام المدني والسلام العام.

وتقدم الانتخابات الأخيرة في موزمبيق نموذجًا حيًّا لهذه النقطة؛ إذ كان الموزمبيقيون في حالة التوتر منذ إجرائها، في التاسع من أكتوبر/تشرين الثاني 2024، وإعلان "دانييل تشابو"، زعيم "جبهة تحرير موزمبيق" (الذي يحكم البلاد منذ استقلالها عن البرتغال في عام 1975) رئيسًا منتخبًا. وجاء حزب "المتفائلين من أجل تنمية موزمبيق" المعارض (الذي أُسس في 7 مايو/أيار 2019) في المرتبة الثانية في هذه الانتخابات مزيحًا حزب "المقاومة الوطنية الموزمبيقية" -حزب المعارضة الرئيسي منذ عام 1992- من مكانته التقليدية. وقد رفض أنصار "المتفائلين من أجل تنمية موزمبيق" وزعيم المعارضة "فينانسيو موندلين" نتائج الانتخابات زاعمين أن مرشحهم هو الفائز الحقيقي، فنزلوا إلى الشوارع منذ ذلك الحين محتجين ضد النتائج، ولكنهم قوبلوا بإطلاق النار من قبل قوات الأمن؛ مما أدى إلى انتشار الفوضى والعنف ومقتل ما لا يقل عن 110 أشخاص بحلول 23 ديسمبر/كانون الأول 2024(11).

وتتجلى مفارقات برامج الإصلاح السياسي التي تتبناها غالبية الدول الإفريقية بوضوح من خلال المناخ السياسي خلال السنوات الخمس الماضية والعنف الذي أعقب بعض الانتخابات في القارة. وتوضح تجربة موزمبيق عن أهمية عدم المركزية السياسية كإستراتيجية لتسوية النزاعات الوطنية في المجتمعات المنقسمة؛ إذ من أجل تخفيف سيطرة الحكومة المركزية على المقاطعات ومعالجة المظالم التي غذَّت الصراعات السابقة في البلاد، تَضمَّن اتفاق السلام لعام 2019 بين "جبهة تحرير موزمبيق" و"حركة المقاومة الوطنية الموزمبيقية" إصلاحًا مهمًّا -وهو الانتخاب المباشر لحكام المقاطعات في انتخابات عام 2024-.

ومع ذلك، وفي خضم الجدل الدائر حول الانتخابات الوطنية في عام 2019 والانتخابات المحلية في عام 2023، يواجَه حزب "جبهة تحرير موزمبيق" الحاكم أيضًا بالميل نحو الممارسات القمعية والإفلات من العقاب، بينما انتخابات عام 2024 التي أجرتها حكومة الحزب شابتها تحديات لوجستية وتقارير عن ترهيب الناخبين ووقوع انتهاكات في بعض المناطق. هذا، بالإضافة إلى أن هذه الانتخابات تجسد تحدي إجراء الانتخابات في المناطق المتضررة من الصراع، وهو السيناريو نفسه الذي تكرر في منطقتي الساحل والقرن الإفريقي؛ إذ أجرت موزمبيق هذه الانتخابات في ظل التمرد المسلح المستمر في مقاطعة "كابو ديلغادو" والذي أثَّر على إقبال الناخبين للتصويت وأثار تساؤلات حول شمولية العملية الانتخابية.

ومن الملاحظ أيضًا قلة عدد الديمقراطيات الإفريقية المعصومة من ظاهرة التوترات والعنف بعد الانتخابات؛ إذ دولة ناميبيا التي تحظى بثناءات الاستقرار السياسي والنجاح الديمقراطي شهدت إبان انتخاباتها، في آخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، توترات مرتفعة بعد تمديد موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلى نهاية الأسبوع بسبب "المخالفات" التي أدت إلى إبطاء التصويت. وبينما أُعلِن، في 3 ديسمبر/كانون الأول 2024، فوز "نتومبو ناندي ندايتواه" من حزب "المنظمة الشعبية لجنوب غرب إفريقيا" (الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال في عام 1990) برئاسة البلاد؛ مما يجعلها أول رئيسة لناميبيا، فقد رفض "الوطنيون المستقلون من أجل التغيير" (حزب المعارضة الرئيسي الذي أسسه "باندوليني إيتولا" في عام 2020) نتائج الانتخابات بسبب مزاعم وقوع ممارسات انتخابية "صارخة لا يمكن إنكارها".

د- الانتخابات المحلية والتشريعية كنقطة دخول سياسي للهيمنة وبناء المصداقية: تلعب الانتخابات المحلية والإقليمية والتشريعية دورًا حاسمًا في السياسة الإفريقية لإمكاناتها على خلق فرص للأحزاب السياسية. ورغم أن هذه الانتخابات –وخاصة المحلية والإقليمية- تعاني عادةً من انخفاض نسبة المشاركة في التصويت، إلا أنها غالبًا ما تكون مطمع الأحزاب الحاكمة، وخاصة في الدولة الإفريقية التي ترتبط فيها الانتخابات المحلية بالإجراءات التشريعية الوطنية، مثل الدول الفرنكفونية التي يشكل أعضاء مجالسها البلدية جزءًا من الهيئة الانتخابية التي تنتخب المشرعين في البلاد. وهذه الأهمية للانتخابات المحلية والإقليمية تجعل العديد من الزعماء والحكومات يؤجلون عقدها وإجراءها رغم التزاماتها الدستورية(12).

ومن الأمثلة على ما سبق الانتخابات التشريعية (والانتخابات الإقليمية التي أجريت للمرة الأولى) في دولة توغو -التي تحكمها عائلة "غناسينغبي" منذ عام 1967-؛ إذ أمر الرئيس "فوري غناسينغبي" بتأجيل الانتخابات مرتين (وكان التأجيل الثاني غير محدد الأجل)، وذلك بدعوى السماح بإجراء "مشاورات"(13) بشأن محاولة إصلاح دستوري يبدل النظام الرئاسي بنظام برلماني ويضع السلطات التنفيذية في مكتب رئيس الوزراء، ويحل التصويت البرلماني محل الانتخاب المباشر لرئيس البلاد. وفي النهاية عُقِدَت الانتخابات التشريعية والإقليمية، في 29 أبريل/نيسان 2024، بعد انتقادات المعارضة ودعوات للمظاهرات الشعبية، لتكون نتائجها استمرار هيمنة "الاتحاد من أجل الجمهورية" (حزب الرئيس "غناسينغبي") على البرلمان محتفظًا بقبضة قوية على المشهد السياسي التوغولي(14).

وهناك مثال آخر في الانتخابات البرلمانية لعام 2024 بدولة مدغشقر، والتي عُقِدت بعد بضعة أشهر من إعادة انتخاب الرئيس "أندريه راجولينا" في رئاسيات نوفمبر/تشرين الثاني 2023؛ إذ أسفرت هذه الانتخابات البرلمانية عن بقاء حزب "الشباب الملغاشي ذوي الإرادة" (Tanora Malagasy Vonona = TGV) (بالتعاون مع حزب الرئيس أندري راجولينا "IRMAR") كأكبر كتلة في الجمعية الوطنية. وكشفت هذه الانتخابات عن الاستقطاب المستمر بين الائتلاف الحاكم للرئيس "راجولينا" وقوى المعارضة، بما في ذلك أنصار "مارك رافالومانانا" (رئيس مدغشقر من 2002 إلى 2009)(15).

جدير بالذكر أن الانتخابات المحلية والتشريعية كانت غالبًا نقطة دخول تبدأ بها جل أحزاب المعارضة هيمنتها الوطنية وتَبْنِي مصداقيتها وثقتها مع السكان المحليين في دول إفريقية مختلفة. ويؤكد على هذا حقيقة أن أحزاب المعارضة والمرشحين المستقلين الذين أدوا نجاحًا باهرًا في الانتخابات الرئاسية منذ عام 2022 بمختلف أنحاء إفريقيا قد حققوا قبل ذلك مكاسب ملحوظة في بعض الدوائر والمناطق في انتخابات دولهم المحلية والبرلمانية. وأبرز مثال على ذلك في السنغال بين عامي 2022 و2024؛ إذ إن فوز حزب المعارضة "الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة" (أو "باستيف" باختصار والذي أسسه موظفون مدنيون شباب بقيادة "عثمان سونكو") -وتحالفه السياسي "حرروا الشعب" (Yewwi Askan Wi)- بأغلبية المجالس المحلية في الانتخابات المحلية لعام 2022 قد ساعد الحزب وقادته لإطلاق رحلات الفوز في الانتخابات الرئاسية لعام 2024(16).

ثانيًا: نتائج انتخابات غير متوقعة: حقبة جديدة من التغيير السياسي؟

لقد أظهرت الانتخابات الإفريقية الأخيرة أنه بالرغم من أنها لا تعني دائمًا تحقيق الديمقراطية، إلا أنها تمثل نقطة تحول مهمة في تقييم فاعلية المؤسسات الحكومية وأداء مسؤوليها والالتزام بالإدماج السياسي وسيادة القانون. وهذه النقطة واضحة في كون نتائج انتخابات جنوب إفريقيا والتوترات التي أعقبت الانتخابات في ناميبيا والعنف في موزمبيق (نتيجة رفض الشباب للنتائج) تؤشر على التراجع الحاد في نسبة الدعم الذي تحظى به الحركات السياسية التي قادت نضالات التحرير؛ إذ هذه الأحزاب المهيمنة على السياسة الوطنية في دولها تشهد انخفاضًا حادًّا في حصصها من الأصوات للمرة الأولى في تاريخها الانتخابي.

وفي حين لا يمكن الجزم بأن حقبة جديدة من التغيير السياسي قد وصلت بمجرد نتيجة الانتخابات الأخيرة، وخاصة باعتبار حالتي الانتخابات في تشاد ورواندا التي تجعل المشاهد السياسية الإفريقية العامة تبدو وكأن شيئًا لم يتغير، إلا أن النتائج غير المتوقعة وظهور وجوه سياسية جديدة نتيجة هذه الانتخابات تشير إلى تحولات جارية في الديناميكيات السياسية الإفريقية؛ إذ أظهرت حالات الانتخابات في السنغال وجنوب إفريقيا وبوتسوانا وغانا وموريشيوس أن الناخبين الشباب كانوا يعبِّرون عن استيائهم من الأنظمة القائمة منذ فترة طويلة، وأنهم يختارون بدلًا منها أحزاب المعارضة أو المرشحين المهمشين سابقًا. وهذه النتائج والاضطرابات الانتخابية في هذه الدول تَحدَّت الأنظمة السياسية الراسخة وكشفت التحول الكبير في أولويات الناخبين، وخاصة في سياقات الإحباطات الناجمة عن الفساد والتحديات الاقتصادية وقضايا الحكم وهي المواضيع نفسها التي أثارت الاحتجاجات والمظاهرات الوطنية الأخيرة التي اجتاحت بعض دول القارة في عام 2024، بما في ذلك احتجاجات رفض مشروع قانون التمويل في كينيا وإنهاء الحكم السيء في نيجيريا ومحاربة الفساد في أوغندا.

وعلى المنوال نفسه، عززت حالات غانا وبوتسوانا والسنغال وموريشيوس سمعة هذه الدول كديمقراطيات إفريقية مستقرة، ونصبتْها كسابقة لقادة آخرين في القارة، مثل رواندا وأوغندا وبوروندي وموزمبيق وجزر القمر وساحل العاج، وغيرهم من زعماء الدول التي أشعلت الخلافات حول تحديد مدة الولاية الرئاسية نقاشات حادة أو حالات من عدم الاستقرار.

وقد أظهرت ردود الأفعال وسلوكيات الناخبين تجاه جميع الانتخابات الأخيرة بإفريقيا أن مشاركة الشباب في العمليات السياسية المعاصرة تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد زيادة عدد الناخبين؛ إذ أصبحت منظمات المجتمع المدني -التي يهيمن عليها الشباب- أكثر أهمية. وكانت النتيجة أن أصبحت الأجيال الشابة تؤثر بشكل متزايد على الخطاب السياسي من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية، والتكنولوجيا الجديدة، والحركات الشعبية التي تدعو إلى حكومة تمثل أهدافها في الاستقرار والنمو والمساءلة والشفافية.

ويضاف إلى ما سبق أنه رغم حالات التوترات السياسية وعنف ما بعد الانتخابات وتبادل الاتهامات بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة بالإهمال، فقد أظهر العديد من الدول الإفريقية القدرة على الصمود، مع انتقالات سلمية للسلطة واحترام العمليات الديمقراطية. وهناك نقطة أخرى متمثلة في أن بعض الاضطرابات الانتخابية رغم كونها نابعة من مشاعر عامة حقيقية ضد الأحزاب الحاكمة أو مرشحيها، فإن النزاعات حول نزاهة الانتخابات واتهامات تدخل الحكومة لا تزال السبب الرئيسي للتوترات والاضطرابات الأخيرة، مثل حالتي ناميبيا وموزمبيق.

جدير بالذكر أن مما يدفع بالتغييرات السياسية الجارية في القارة تعاقبَ الأزمات المحلية والإقليمية والدولية والتي أدت إلى تلاشي التفاؤل بين العديد من الأفارقة الذين كانت أعمار 60% منهم تحت 25 عامًا، وتراجع دعم بعض المواطنين للأنظمة الديمقراطية والمدنية أو قادتها. وترجح كفة هذه النقطة الموجةُ الأخيرة من الانقلابات العسكرية التي كان بعضها انعكاسًا لعدم الرضا عن الحكم والقيادة وانعدام الأمن؛ إذ إن هذه الانقلابات غالبًا ما يصورها الجنرالات الانقلابيون على أنها محاولات لمعالجة القضايا النظامية التي فشلت الحكومات المدنية في حلها. بل وتُظهر عودة الانقلابات العسكرية نقاط الضعف في المؤسسات الديمقراطية في جميع أنحاء القارة؛ إذ إنه رغم أن الانتخابات هي السمة السائدة للتغيير السياسي، إلا أن التلاعب بهذه الانتخابات أو فشلها في تحقيق فوائد ملموسة يؤديان إلى تقويض الثقة العامة. ومع ذلك، تثير الانقلابات العسكرية أيضًا تساؤلات حول استدامة الأنظمة السياسية الإفريقية ومدى فاعلية القوة العسكرية في تشكيل المستقبل السياسي واستعداد الجيش الحقيقي لتنفيذ مطالب المواطنين وتحقيق طموحاتهم.

خاتمة

بالنظر إلى مختلف الانتخابات الأخيرة ونتائجها، واستنادًا إلى توقع إجراء حوالي 17 دولة إفريقية لانتخابات رئاسية ومحلية وبرلمانية في عام 2025، يمكن القول: إن الحقبة الجديدة من التحولات أو التغييرات السياسية بإفريقيا لا تزال مستمرة وستكون لها آثار متتالية على الدول الإفريقية المختلفة، وإن نتائج الانتخابات غير المتوقعة ستعيد تشكيل التحالفات الإقليمية والسياسات الاقتصادية. وفي حين أن التطورات الأخيرة في القارة تؤكد على أن شباب إفريقيا لم يعد راضيًا عن الجلوس على الهامش، فإن السؤال الآن هو ما إذا كان القادة الجدد ووجوه السياسة الوطنية الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة أو أطاحوا بالأنظمة الديمقراطية سيقدمون أداء أفضل من نظرائهم الذين خسروا الانتخابات أو أزيحوا من سدة الحكم بالقوة العسكرية.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- “EISA African Election Calendar 2024.” Electoral Institute for Sustainable Democracy in Africa (EISA), 2024, https://shorturl.at/Gk4QL (last visited on January 11, 2025)

2- Helga Dickow (2024). “Chad’s Mahamat Deby doubles down on authoritarian rule in wake of election victory.” The Conversation, June 3, 2024, https://shorturl.at/njARO (last visited on January 11, 2025)

3- Danai Nesta Kupemba. “Rwanda's president smashes his own election record.” BBC, July 18, 2024, https://shorturl.at/2PxdU (last visited on January 11, 2025)

4- حكيم ألادي نجم الدين، "الرئاسة المهيمنة ومعضلة تغيير الدستور في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى"، مركز الجزيرة للدراسات، 19 سبتمبر/أيلول 2020، (تاريخ الدخول: 11 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/wTsOm

5- “Comoros Election Exercise Promises More of the Same.” Africa Center for Strategic Studies, January 11, 2024, https://shorturl.at/hf3Mv (last visited on January 11, 2025)

6- “South Africa’s ANC loses 30-year parliamentary majority after election.” Al Jazeera, June 1, 2024, https://shorturl.at/RFrrz (last visited on January 12, 2025)

7- Tannur Anders. “Which parties make up South Africa's unity government?” Reuters, June 24, 2024, https://shorturl.at/hUggQ (last visited on January 12, 2025)

8- “Botswana opposition wins election; BDP ousted from power after 58 years.” Al Jazeera, November 1, 2024, https://shorturl.at/0xXDk (last visited on January 12, 2025)

9- Lloyd G. Adu Amoah. “Ghana’s president John Mahama makes a comeback – what lies ahead.” The Conversation, December 10, 2024, https://shorturl.at/tv6p0 (last visited on January 12, 2025)

10- سعيد ندا، "الديمقراطية تترسخ: كيف خسر الائتلاف الحاكم انتخابات موريشيوس لعام 2024م؟"، الأفارقة للدراسات والاستشارات، 3 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 12 يناير/كانون الثاني 2025)، https://rb.gy/y572jo

11- Shola Lawal. “Mozambique’s controversial election result upheld: What to know.” Al Jazeera, December 23, 2024, https://rb.gy/gucze8 (last visited on January 12, 2025)

12- Danielle Resnick, & Landry Signé. “Democratic resilience in Africa: Lessons from 2024 elections.” Brookings Institution, November 12, 2024, https://rb.gy/rah0jk (last visited on January 13, 2025)

13- “Togo’s 20 April parliamentary elections postponed indefinitely amid constitutional controversy.” The North Africa Post, April 4, 2024, https://rb.gy/8cimah (last visited on January 13, 2025)

14- “Togo: National Assembly”. Inter-Parliamentary Union, 2024, https://rb.gy/3ns3vw (last visited on January 13, 2025)

15- “Madagascar: National Assembly.” Inter-Parliamentary Union, 2024, https://tinyurl.com/bdz2536c (last visited on January 13, 2025)

16- Diadie Ba. “Senegal's ruling party loses key cities in local elections.” Reuters, January 24, 2022, https://tinyurl.com/yw3tmkmf (last visited on January 13, 2025)