
مقدمة
تعيش دولة جنوب السودان توترات عسكرية وسياسية واجتماعية متواصلة بين الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه الأول رياك مشار. احتدمت المواجهات العسكرية في ولاية أعالي النيل في مدينة الناصر، كما حدثت اعتقالات لبعض الوزراء والمسؤولين، مما أثار مخاوف من اندلاع حرب أهلية جديدة.
شهدت الدولة التي انفصلت عن السودان في العام 2011، استقرارًا لمدة عامين، وبعد ذلك انفجرت الأوضاع ودخلت البلاد في حرب أهلية في العام 2013 بين الجيش الشعبي وبين قوات رياك مشار نائب الرئيس. وسرعان ما أخذت الحرب بُعدًا قبليًا، حيث دعمت قبائل الدينكا الحكومة برئاسة سلفاكير، بينما انخرطت قبائل النوير في الصراع إلى جانب رياك مشار.
توسطت "الإيغاد" في العام 2015 بين الطرفين، لكن الاتفاق لم يصمد طويلًا، فاندلعت المواجهات المسلحة مرة أخرى في 2016. أسهم اتفاق السلام عام 2018 في عودة الهدوء والاستقرار إلى دولة جنوب السودان، وشُكلت حكومة وحدة وطنية بمشاركة معظم القوى السياسية، لكن لم يتم تنفيذ ما تبقى من نصوص الاتفاق، لاسيما مسألة دمج قوات رياك مشار في الجيش، وكذلك قضية إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. إرجاء استكمال بنود اتفاق السلام خلق حالة مستمرة من الاضطراب والتوتر طوال الأعوام الماضية منذ توقيع الاتفاق.
الخلفية التاريخية للصراع في جنوب السودان
أصبح جنوب السودان دولة مستقلة في يوليو 2011، عقب الاستفتاء الذي حصل على موافقة بنسبة 98.83% من الأصوات، وهي دولة عضو في الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والإيغاد، وعاصمتها جوبا، أكبر مدنها. ويحدّ السودان دولة جنوب السودان من الشمال، وإثيوبيا من الشرق، وكينيا من الجنوب الشرقي، وأوغندا من الجنوب، وجمهورية الكونغو الديمقراطية من الجنوب الغربي، وجمهورية إفريقيا الوسطى من الغرب.
لم يكن انفصال جنوب السودان عام 2011 نهاية للصراعات الداخلية، بل كان بداية لمرحلة جديدة من النزاعات السياسية والعرقية التي سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية دامية. فمنذ انفصالها عن السودان، واجهت الدولة الوليدة تحديات كبيرة على المستويين السياسي والاقتصادي، جعلتها ساحة مفتوحة للصراعات بين القوى السياسية المختلفة، التي تحكم تحالفاتها الانتماءاتُ الإثنية والمصالح السياسية الضيقة(1).
في يوليو 2013، اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان عندما أجرى الرئيس سلفاكير ميارديت تغييرات حكومية وحزبية، حيث أعفى نائبه رياك مشار وبعض الوزراء والمسؤولين الحكوميين المنحدرين من إثنية النوير وبعض الإثنيات الأخرى. وفي الحزب الحاكم "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، أقال سلفاكير الأمين العام باقان أموم وأحاله إلى التحقيق.
جاءت هذه القرارات نتيجة صراع مكتوم بين قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ أمد طويل، حتى قبل انفصال جنوب السودان، ويعود ذلك إلى طبيعة تشكيل الحركة التي تقوم على البعد الإثني والقبلي. استطاع جون قرنق أن يدير كل التناقضات والانقسامات بقدر كبير من الدهاء والحكمة، لكن بعد مقتله في يوليو 2005، انفجرت الأوضاع السياسية والأمنية في الحركة الشعبية. وبعد الانفصال، تسارعت وتيرة الانقسامات الداخلية حتى انفجرت بصورة علنية عقب إعفاء رياك مشار من منصبه.
دعم مشار عددًا من المسؤولين الذين أطاح بهم سلفاكير، ومن أبرزهم باقان أموم ودينق ألول وغيرهما، فضلًا عن المساندة اللامحدودة من قبيلة النوير(2).
بدأت إرهاصات انفجار الأوضاع في جنوب السودان تلوح في الأفق أثناء جلسات النقاش والحوار داخل الحزب الحاكم والبرلمان، حيث كان النقاش محتدمًا بشأن مسودة مشروع الدستور الدائم، وكذلك مشاريع عدد من القوانين المتعلقة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع إجراؤها في 2015. اتهم معارضو الرئيس سلفاكير بتفصيل دستور يُركز السلطات في يده، من خلال عدم إجراء الانتخابات الداخلية في الحزب الحاكم، التي كان يفترض عقدها منذ أبريل 2010(3).
أدى ذلك إلى تعقيد الأوضاع داخل الحزب الحاكم، حيث قادت مجموعة من قيادات الحزب المعارضة للرئيس سلفاكير حراكًا داخليًا سعت من خلاله إلى تغيير المسؤولين الحكوميين والحزبيين، متهمين الرئيس وأنصاره بأنهم يديرون الدولة بعقلية أمنية ويشددون الخناق على الصحافة وحرية الرأي(4).
في سياق الاضطرابات والتوترات، أعلن الرئيس سلفاكير عن محاولة انقلابية بزعامة نائبه رياك مشار وعدد من أنصاره. قاد هذا الإعلان إلى نشوب نزاع مسلح في ديسمبر 2013 استمر قرابة عامين، وأسفر عن مقتل الآلاف وتشريد نحو مليوني مدني، فضلًا عن وفاة حوالي 400 ألف شخص بسبب الجوع والمرض، حيث عجزت المنظمات ووكالات الأمم المتحدة الإغاثية عن إيصال المساعدات الإنسانية إلى المتضررين.
يتميز جنوب السودان بالتنوع الإثني والقبلي، حيث توجد فيها عشرات القبائل، غير أنها تعود في أصولها إلى ثلاث مجموعات رئيسية، أكبرها المجموعة النيلية التي تمثل 65% من السكان، والتي تضم القبائل ذات النفوذ السياسي الأكبر. فقبيلة الدينكا تمثل نحو 40% من المجموعة النيلية، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس سلفاكير، وتأتي قبيلة النوير في المرتبة الثانية بنسبة 20%، وهي القبيلة التي ينتمي إليها نائبه رياك مشار. ثم تأتي قبيلة الشلك بنسبة 5%، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم، ولام أكول أجاوين أحد قادتها التاريخيين(5).
ظل الصراع الإثني والقبلي حاضرا في جنوب السودان قبل الانفصال عن السودان، وبعده كانت الآمال عريضة بأن تتجاوز المكونات الاجتماعية فخ سيادة هويات قبلية على أخرى، حيث اعتمدت الحركة الشعبية منذ تأسيسها في مايو 1983 على القبيلة كمكون أساسي، مما أسهم في حدوث انشقاقات تتم على أساس قبلي، ومن أبرزها مجموعة الناصر بقيادة رياك مشار من النوير، ولام أكول من الشلك في عام 1991.
ظل رياك مشار نائب الرئيس المعزول في مسيرة شد وجذب داخل الحركة الشعبية (الحزب الحاكم في جنوب السودان)، فبعد إعلان الناصر، أسس مشار "الحركة الموحدة" في 1992، ثم "حركة استقلال جنوب السودان" في 1995، وبعد ذلك انخرط في مباحثات مع الحكومة السودانية أفضت إلى اتفاقية الخرطوم للسلام عام 1997، لكنه لم يمكث في الخرطوم طويلًا، حيث عاد إلى الحركة الشعبية مجددًا في عام 2000.
ظلت كل هذه التعقيدات ماثلة في الدولة الوليدة، مما أدى إلى تفجير الأوضاع الأمنية والسياسية وانزلاق جنوب السودان إلى حرب أهلية(6).
اتفاقيات السلام: السياق والمآلات
وقّع رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت وزعيم "الحركة الشعبية" المتمردة رياك مشار في سبتمبر 2018 بالعاصمة السودانية الخرطوم؛ على اتفاق سلام يتضمن 6 بنود رئيسية، ويشمل فترة انتقالية مدتها 3 سنوات تُجرى بعدها انتخابات عامة، ويتم بموجبه بناء جيش قومي بعيد عن القبلية، وجمع الأسلحة من المواطنين.
كان طرفا الأزمة في جنوب السودان قد وقّعا على اتفاق سلام في يوليو 2015 لإنهاء الحرب الأهلية، أتاح لمشار أن يتولى مجددًا منصب نائب الرئيس ويعود إلى جوبا. لكن الاتفاق لم يصمد طويلًا وانهار في أغسطس 2016، واندلع القتال من جديد. وبعد مواجهات عنيفة، اضطر رياك مشار إلى الفرار من بلاده قبل أن يصل إلى السودان لتلقي العلاج، ثم قررت "الإيغاد" بقاءه قيد الإقامة الجبرية في جنوب إفريقيا(7).
يشمل الاتفاق الذي تم توقيعه في الخرطوم أن ينتهي الطرفان من ترتيباته حالًا، بما فيها فض الاشتباك، والفصل بين القوات المتمركزة في مواجهة بعضها البعض، وسحب القوات الصديقة من جميع مسارح العمليات، وفتح المعابر للأغراض الإنسانية، مع الإفراج عن الأسرى والمعتقلين السياسيين.
كما نص الاتفاق على أهمية التوافق بين الطرفين على آليات للمراقبة الذاتية لوقف إطلاق النار، مع دعوة الاتحاد الإفريقي و"الإيغاد" إلى نشر القوات اللازمة للمراقبة(8).
في البند الثاني، نص الاتفاق (الذي وقّعته فصائل أخرى من جنوب السودان) على اتخاذ الترتيبات الأمنية اللازمة لجعل القوات المسلحة والشرطة والأجهزة الأمنية ذات طابع قومي خالٍ من القبلية والنزعات العرقية، مع اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لجمع الأسلحة من المواطنين في أنحاء البلاد.
أما البند الثالث، فنص على إكمال الاتفاق بناءً على مقترح من "الإيغاد" حول تقاسم السلطة، على أن تبدأ فترة انتقالية مدتها 36 شهرًا، تُجرى خلالها انتخابات عامة مفتوحة لكل القوى السياسية، تكون شفافة وحرة ونزيهة.
كما ينص البند الرابع على تكثيف الجهود اللازمة لتحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية في جنوب السودان، خاصة القطاعات الأكثر ارتباطًا بمعيشة المواطنين، وناشد الطرفان المجتمع الدولي المساعدة في هذا المجال.
كذلك قضى الاتفاق في بنده الخامس بتأمين حقول النفط في ولاية الوحدة المحاذية للحدود السودانية، على أن تعمل حكومة جوبا بالتنسيق مع حكومة الخرطوم لإنجاز تلك المهمة، وذلك حتى يعود الإنتاج النفطي إلى مستوياته السابقة بعد تضرره من الحرب(9).
أعلنت رئاسة جنوب السودان أن الانتخابات التي طال انتظارها ستؤجل لعامين إضافيين، ما يمدد مجددًا المرحلة الانتقالية المتفق عليها بموجب اتفاق سلام الخرطوم. و يعود ذلك إلى عدم تنفيذ بنود اتفاق السلام الشامل، لا سيما مسألة دمج الفصائل المسلحة في الجيش الشعبي، بالإضافة إلى الإحصاء السكاني والإجراءات المتعلقة بالانتخابات العامة، مما أدى إلى تأجيل الانتخابات التي كان مقررا إجراؤها في ديسمبر 2024 إلى يوم 22 ديسمبر 2026.
وبالرغم من أن هذا التمديد يُنظر إليه على أنه ضرورة لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، فإن الدول الراعية لاتفاق السلام مثل "الترويكا" (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، والنرويج) أعربت عن خيبة أملها من هذه الخطوة، لعدم تحقيق تقدم ملموس في تنفيذ الاتفاق(10).
عوامل ودوافع تأجيل الانتخابات العامة
يمكن تلخيص هذه العوامل والدوافع فيما يلي:
1- الاضطرابات الأمنية:
تمر الأوضاع الأمنية في جنوب السودان بحالة من عدم الاستقرار رغم توقيع اتفاق السلام في 2018، فالتوترات بين الرئيس سلفاكير ونائبه الأول رياك مشار ما زالت حاضرة، وذلك بسبب الإخفاق في دمج الفصائل المسلحة في الجيش الشعبي تحت قيادة موحدة، مما أدى إلى زيادة حدة التوترات بين أطراف عملية السلام. بالإضافة إلى ذلك، تُعد الصراعات القبلية من العوامل الأساسية التي أسهمت في تعقيد الوضع الأمني في جنوب السودان، مما أسفر عن نزوح ملايين الأشخاص وتدهور الوضع الإنساني(11).
2- عدم استكمال تنفيذ اتفاق السلام:
تم توقيع اتفاق السلام المُعاد تجديده عام 2018 بين الأطراف المتنازعة في جنوب السودان، حيث ينص على خطوات نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء إصلاحات دستورية، وتنظيم انتخابات. ولكن تنفيذ الاتفاق كان بطيئًا، لا سيما فيما يتعلق بإصلاح المؤسسات الأمنية والقانونية، مما جعل إجراء انتخابات حرة ونزيهة أمرًا صعبًا.
تواجه جنوب السودان صعوبات وعقبات كثيرة فيما يتعلق بالدستور والقوانين ذات الصلة، وفي إعادة تشكيل المجالس التشريعية في الولايات، وتنفيذ آليات العدالة الانتقالية، وإعلان مفوضية صياغة الدستور والانتخابات، وتكوين البرلمان. لذا، يُعد استكمال اتفاق السلام خطوة مهمة نحو إجراء الانتخابات العامة(12).
3- انعدام الموارد المالية:
تعاني جنوب السودان من أزمة اقتصادية خانقة بسبب تراجع إنتاج النفط، وفساد المؤسسات، وتدني مستويات التنمية، بالإضافة إلى العديد من العوامل الخارجية التي أثرت على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بالأساس. فقد أدت الحرب في السودان إلى عودة اللاجئين الجنوبيين إلى بلادهم، مما زاد الضغط الاقتصادي نتيجة الحاجة الماسة إلى توفير الاحتياجات الأساسية والرعاية الصحية والأغذية والمخيمات لإيواء كل تلك المجموعات.
إجراء الانتخابات يتطلب موارد ضخمة، وهو ما لا تملكه جنوب السودان في الوقت الراهن، خاصة بعد تراجع صادرات النفط عبر السودان بعد سيطرة قوات الدعم السريع على منشآت تصدير النفط(13).
التطورات الأخيرة وانهيار اتفاق السلام
الأزمة الحالية في جنوب السودان ليست مجرد خلاف سياسي بين سلفاكير ونائبه رياك مشار، بل هي امتداد لصراعات متجذرة تتعلق بتقاسم السلطة والثروات، وتُغذى بالانتماءات القبلية. فالصراع بين الدينكا والنوير لا يزال يشكل عاملاً رئيسيًا في تأجيج النزاع، خاصة في ظل غياب مؤسسات قوية قادرة على فرض سيادة القانون، واستمرار الانقسام داخل الجيش، ووجود مليشيات تمتلك القدرة على تحريك الأحداث(14).
تصاعد الاحتقان داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة رياك مشار، حيث اشتعلت الاشتباكات بعدما أعلن خصوم الأخير داخل الحركة الإطاحة به من قيادتها. وجاء ذلك بعدما شنّت قوات تابعة للحركة بقيادة الجنرال "سايمون غاتويتش دوال" هجومًا في ولاية أعالي النيل على أنصار مشار.
تم تعيين "دوال" قائدًا مؤقتًا للحركة، وعزت القيادات العسكرية هذه التحركات إلى فشل رياك مشار في تمثيل مصالحهم واستكمال مسار اتفاق السلام، في حين أعلن أنصار مشار دعمهم المتواصل له، بما يعكس حجم الانقسامات الداخلية والتباين في وجهات النظر داخل معسكر الحركة الشعبية بزعامة مشار فيما يتعلق بمستقبل الشراكة مع الحكومة بزعامة سلفاكير(15).
أحد أبرز أسباب اندلاع الاشتباكات في منطقة الناصر في ولاية أعالي النيل هو الخلاف على استبدال الجنود الذين ظلوا في الخدمة فترة طويلة بقوات الدفاع الشعبي لأكثر من 10 سنوات، وهو ما قاومه "الجيش الأبيض" -وهو مجموعات مسلحة تنتمي إلى عرقية النوير التي يتزعمها مشار- ورفض نشر قوات جديدة.
بعد هذا الخلاف، اندلعت اشتباكات عنيفة في ولايتي غرب الاستوائية وأعالي النيل (خاصة مدينة ناصر) بين الجيش الشعبي والجيش الأبيض، استُخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمدافع، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا ونزوح الآلاف.
أسفرت المواجهات بين الطرفين في مارس 2025 عن استيلاء الجيش الأبيض على القاعدة العسكرية في الناصر. وتفاقمت الأوضاع أكثر عندما أسقط الجيش الأبيض طائرة تابعة للأمم المتحدة كانت تحاول إجلاء عدد من المسؤولين العسكريين من القاعدة، مما أسفر عن مقتل عدد من القيادات العسكرية على رأسهم اللواء ماجور داك (من قادة الدينكا)، مما أدى إلى تعقيد الأوضاع وخروجها عن السيطرة(16).
إثر ذلك، أجرى الرئيس سلفاكير تغييرات واسعة في مناصب رفيعة بالدولة، أبعد بموجبها كل المسؤولين الحكوميين التابعين للحركة الشعبية (تيار رياك مشار)، وعلى رأسهم وزير العدل والشؤون الدستورية روبن مادول أرول، ووزيرة التعليم العام والعالي أدوات دينق أكويل، ووزير التجارة والصناعة جوزيف موم ماجاك. لم تُذكر أي أسباب للإقالات في المرسوم، رغم أن ذلك غير دستوري ويتنافى مع اتفاق السلام.
بالإضافة إلى ذلك، شنت الاستخبارات العسكرية لحكومة جنوب السودان حملة اعتقالات واسعة استهدفت قادة بارزين في الحركة الشعبية (تيار رياك مشار)، وكان من بين المعتقلين رئيس هيئة الأركان بالجيش الشعبي غابرييل دوب لام، ووزير النفط وبناء السلام.
بالتوازي مع حملة الاعتقالات، عمدت القوات الأمنية إلى محاصرة منزل رياك مشار في العاصمة جوبا دون تقديم أي توضيحات، مما يعني وضع نائب الرئيس قيد الإقامة الجبرية(17).
وفي تطورات متسارعة، طلب سلفاكير مساندة عسكرية من أوغندا، التي أرسلت قوات إلى العاصمة جوبا وانتشرت في عدد من المواقع المهمة دون أن يُعرف التفويض الممنوح لها، مما أثار الشكوك حول طبيعة ما يجري على الأرض، خاصة أن الرئيس الأوغندي أعلن وقوفه مع سلفاكير في مواجهة خصومه.
صرح أويت ناثانيال بيرينو، نائب رئيس الحركة الشعبية، أن احتجاز رياك مشار يعني "إلغاء الاتفاق"، وأضاف أن هذا "يقوض الاتفاق فعليًا، وبالتالي فإن آفاق السلام والاستقرار في جنوب السودان أصبحت الآن في خطر شديد"(18).
كما دعت كينيا المجاورة (التي أرسلت وفدًا رفيع المستوى للحد من التوتر) والاتحاد الإفريقي و"الإيغاد" إلى إعادة الأوضاع إلى نصابها. كما دعت بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب السودان إلى ضبط النفس، قائلةً إن البلاد على شفا الانزلاق إلى صراع واسع النطاق.
وأضافت البعثة الأممية أن "انفجار الأوضاع لن يُدمر جنوب السودان فحسب، بل سيؤثر أيضًا على المنطقة بأكملها".
يمكن القول إن هناك جهودًا ومساعي من جهات دولية وإقليمية عدة لتشجيع الأطراف الجنوبية على التهدئة، خاصة أن خروج الأمور عن السيطرة واندلاع الحرب مجددًا من شأنه أن يهدد الأمن والاستقرار في القرن الإفريقي الكبير(19).
السيناريوهات المحتملة
مع زيادة حدة الاحتقان والتوترات في جنوب السودان، لا سيما بعد اعتقال نائب الرئيس وعدد من المسؤولين الحكوميين التابعين للحركة الشعبية (تيار رياك مشار)، يمكن استشراف عدد من السيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة خلال الفترة المقبلة، بناءً على محاولات القوى الإقليمية والدولية مثل "الإيغاد" ودول "الترويكا"، لنزع فتيل التوتر. وفيما يلي أبرز السيناريوهات:
1- انزلاق جنوب السودان نحو حرب أهلية:
إذا استمرت المواجهات المسلحة بين القوات الحكومية وقوات رياك مشار (الجيش الأبيض) في ولايتي أعالي النيل والوحدة، بالإضافة إلى تصاعد الاعتقالات والاستهداف السياسي لمجموعة مشار وبعض الفصائل الأخرى، فمن المرجح أن تنزلق البلاد إلى جولة جديدة من الحرب الأهلية، باعتبار أن حكومة الوحدة الوطنية انهارت بسبب الخلافات والاعتقالات مؤخرًا.
ومع تأكيد الحركة الشعبية (تيار رياك مشار) أنها لم تعد جزءًا من اتفاق السلام الموقع عام 2018، فإن انتشار القتال في مناطق متفرقة، والاستهداف على أسس عرقية، قد يحوّلان الأزمة إلى حرب أهلية، خاصة في ظل تدخل قوى إقليمية لدعم أحد الأطراف، مما قد يُعقّد المشهد أكثر(20).
2- العودة إلى اتفاق السلام:
بعد انفجار الأوضاع في جنوب السودان، بدأت بعض القوى الدولية والإقليمية (مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي و"الإيغاد") في التدخل لاستعادة مسار الفترة الانتقالية. يمكن أن تزيد هذه الجهود من الضغط على الأطراف المتنازعة للعودة إلى اتفاق السلام والالتزام بتنفيذ ما تبقى من بنوده، وذلك من خلال تقديم تنازلات سياسية، مثل إعادة توزيع المناصب الحكومية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين (بمن فيهم رياك مشار والمسؤولون الحكوميون التابعون لتياره)، ودمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد، وسن القوانين المتعلقة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع عقدها في ديسمبر 2026(21).
3- انفراد سلفاكير بالحكم:
ظلت العلاقة بين الرئيس سلفاكير وبعض القيادات السياسية والعسكرية في الحزب الحاكم والمعارضة معقدة، تسودها خلافات حول قضايا مثل التداول السلمي للسلطة والحريات والشفافية والحوكمة.
يفسر البعض أن الإعفاءات والإقالات التي قام بها سلفاكير في الحكومة والحزب الحاكم عام 2013 كانت تهدف إلى مزيد من الهيمنة على الحكم، وربما يسعى سلفاكير إلى البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة بدعم من بعض القوى الإقليمية مثل أوغندا.
مورست ضغوط على سلفاكير لاستكمال تنفيذ اتفاق السلام، لكن التماطل في ذلك يخدم بقاءه في الحكم. ويبدو أنه استفاد من الدعم الذي قدمه الرئيس الأوغندي بنشر قوات عسكرية لتعزيز السيطرة الأمنية.
ومن خلال إبعاد أصحاب النفوذ من مراكز صنع القرار في الجيش الشعبي وتحييد قوات رياك مشار جزئيًا، بعد حملة الاعتقالات والإقالات، يراهن سلفاكير على الزمن للانفراد بحكم جنوب السودان، ثم إجراء الانتخابات في ظل أوضاع تمكنه من الفوز بها#(22).
خاتمة
تواجه جنوب السودان تحديات تتمثل في العجز عن تحويل أطراف النزاع من حالة الحرب إلى الاهتمام بالتنمية، فضلًا عن تغيير نمط الحياة العسكري إلى قيم مدنية مثل الشفافية والعدالة والديمقراطية، مما يجعل الحفاظ على سلام دائم مسألة معقدة.
لذا، أتوقع أن يكون صمود اتفاق السلام أمرًا صعبًا، وأن يظل انزلاق الأوضاع نحو حرب أهلية جديدة احتمالًا قائمًا.
في المقابل، فإن تجاوز هذه الأزمة يتطلب رغبة أطراف الصراع في تفضيل الحلول السلمية، بالإضافة إلى انخراط القوى الإقليمية والدولية في الدفع نحو العودة إلى اتفاق السلام، بالنظر إلى أن انهيار الأوضاع في جنوب السودان سينعكس على أمن واستقرار القرن الإفريقي.
- سعيد إسماعيل ندا، الصراع في جنوب السودان: مستقبل التسوية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، مايو 2017، ص 9-12.
- المصدر السابق، ص 14-15.
- الصراع في جنوب السودان: خلفياته وتداعياته المحتملة، تقرير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يناير 2014 (تاريخ الدخول: 12 مارس 2025)،https://shorturl.at/HW0Vi
- المصدر السابق.
- منى عبد الفتاح، لعنة الانقسامات تطارد دولة جنوب السودان، الجزيرة نت، (تاريخ الدخول: 15 مارس 2025): https://tinyurl.com/57cf24s8
- المصدر السابق.
- نص إعلان الخرطوم للاتفاق بين الأطراف المتحاربة في جنوب السودان، راديو تمازج، يونيو 2018، (تاريخ الدخول: 15 مارس 2025): https://tinyurl.com/67w69pbx
- المصدر السابق.
- إليو قرنق، سياقات اتفاقية السلام لجنوب السودان ومآلاتها، مركز الجزيرة للدراسات، يوليو 2018، (تاريخ الدخول: 19 ما رس 2025)،https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/07/180729112725510.html
- محمد عبد الكريم أحمد، سياسات جنوب السودان الإقليمية: التطلعات والأعباء، قراءات إفريقية، أكتوبر 2024، (تاريخ الدخول: 21 مارس 2025): https://tinyurl.com/5x928kvf
- محمد فؤاد رشوان، تأجيل الانتخابات في جنوب السودان: الأسباب والتداعيات والسيناريوهات المتوقعة، قراءات إفريقية، سبتمبر 2024، (تاريخ الدخول: 21 مارس 2025): https://tinyurl.com/26d5uup7
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- فاروق حسين، تصاعد الأزمة في جنوب السودان: مشهد مضطرب ومستقبل غامض، قراءات إفريقية، مارس 2025، (تاريخ الدخول: 27 مارس 2025): https://tinyurl.com/yyakexcv
- المصدر السابق.
- محمد صالح عمر، صراع القوة يهدد مستقبل دولة جنوب السودان، الجزيرة نت، 17 مارس 2025، (تاريخ الدخول: 26 مارس 2025): https://tinyurl.com/35svm9p6
- المصدر السابق
- 5 نقاط تشرح ما يجري في جنوب السودان، الجزيرة نت، 13 مارس 2025، (تاريخ الدخول: 27 مارس 2025):https://shorturl.at/kTEJD
- حزب نائب رئيس جنوب السودان رياك مشار يلغي اتفاق السلام، قراءات إفريقية، 27 مارس 2025، (تاريخ الدخول: 28 مارس 2025):https://shorturl.at/e5caQ
- عدنان موسى، تصاعد حدة الأزمة السياسية في جنوب السودان: الدلالات والمسارات المحتملة، قراءات إفريقية، أغسطس 2021، (تاريخ الدخول: 28 مارس 2025): https://shorturl.at/PglWe
- محمد زكريا، ما تداعيات التوترات في جنوب السودان، إنتر ريجيونال للتحليلات الإستراتيجية، 10 مارس 2025، (تاريخ الدخول: 29 مارس 2025):https://shorturl.at/Bvvi8
- المصدر السابق.