بنية الخطاب الإعلامي الإسرائيلي والدور الوظيفي في بناء تمثلات الحرب على غزة (2023-2024)

تسعى الدراسة إلى التعرف على دور الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في الحرب على غزة (2023-2024)، وأهدافه السياسية والأيديولوجية، من خلال الإجابة عن هذا السؤال المركب: ما اتجاهات الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في الحرب على غزة ومنظور معالجته لمجريات الأحداث وتطوراتها؟ وما الأساليب التي استخدمها هذا الخطاب في الترويج للسردية الإسرائيلية من أجل التأثير في الجمهور المحلي/الإسرائيلي والرأي العام العالمي؟ تُعد الحرب التي تشنُّها إسرائيل على غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حدثًا استثنائيًّا في سياق تطور القضية الفلسطينية منذ احتلال فلسطين عام 1948، وكذلك جاء الخطاب الإعلامي الإسرائيلي استثنائيًّا في بنية الملفوظ والتلفظ؛ إذ تجاوز وظيفته الإخبارية. وقد برز دور هذا الخطاب في الحرب وتطوراتها المختلفة، وشكَّل عنصرًا مهمًّا في سياق الجهد الحربي لتحقيق الأهداف الإستراتيجية التي انطلقت من أجلها الحرب.
الإعلام الإسرائيلي يرتكز على الرواية الرسمية لمنع انقسام الرأي العام والحفاظ على الجبهة الداخلية (الأناضول)

مقدمة 

يتشكَّل الخطاب الإعلامي في سياقات مختلفة وبيئات متعددة، منها ما يرتبط بالمحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي(1)، وعوامل أخرى لها علاقة باللغة والجمهور. فالخطاب يعكس مجمل الظروف المحيطة بعملية إنتاج بنية الملفوظ والتلفظ، بالإضافة إلى الرؤى التي يحملها مصدر الخطاب وتتسق مع التوجهات الاجتماعية، فضلًا عن الأبعاد السياسية التي تُلقي بظلالها على الخطاب. ومن خلال تحليل الخطاب الإعلامي، الذي يؤثر ويتأثر بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي وبمجريات الأحداث، يمكن استقراء أساليب التعامل مع الأفعال والأحداث التواصلية، وإدراك كيفية توظيف اللغة لخدمة الأهداف.

لذلك فإن الخطاب الإعلامي لا يحمل أفكارًا ومعلومات فحسب، بل يحمل رسائل مُوجَّهة -تُمثِّل أبعادًا سياسية وأيديولوجية وثقافية- تهدف إلى التأثير في الجمهور، لاسيما أثناء الحروب والأزمات؛ إذ يسعى الخطاب إلى دفع الأحداث باتجاهات محددة مسبقًا لدى القائم بالاتصال.

إن الحروب لا تحدث في فراغ، بل في سياقات تاريخية واجتماعية وثقافية، وتتفاعل مع عناصر وظروف ومواقف محلية وإقليمية ودولية. ولذلك، فإن الخطاب الإعلامي للدولة المحاربة يُعَدُّ ويُبْنَى أساسًا لتحقيق أهداف مختلفة، مثل تبرير الحرب ومجرياتها، وتقديمها للرأي العام المحلي والدولي باعتبارها "حربًا للدفاع عن النفس"، وتوظيف الأحداث والمواقف للتصدي للدعاية المعادية، فضلًا عن تحصين الجبهة الداخلية والحفاظ على دعم الحلفاء.

1. اعتبارات منهجية

إشكالية الدراسة 

تبحث الدراسة نمط الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في الحرب على غزة (2023-2024)، وطُرُق تَشَكُّلِه لمعرفة الدور الذي يقوم به في تحقيق أهداف الحرب، وترصد الأساليب التي استخدمها هذا الخطاب لتسويق الرواية الرسمية الإسرائيلية. كما تبحث الدراسة الحججَ التي وظَّفها الإعلام الإسرائيلي لإقناع الجمهور الإسرائيلي والعالمي بمشروعية الحرب وأهدافها، وكيفية توظيف هذه الحجج في التعبير عن المواقف الإسرائيلية للصراع.

وفي هذا السياق، تحاول الدراسة الإجابة عن سؤال مركب: ما اتجاهات الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في الحرب على غزة (2023-2024) ومنظور معالجته لمجريات الأحداث وتطوراتها؟ وما الأساليب التي استخدمها في الترويج للسردية الإسرائيلية من أجل التأثير في الجمهور المحلي/الإسرائيلي والجمهور العالمي؟

مجتمع الدراسة وعينتها  

يتمثَّل مجتمع الدراسة في الصحف الرقمية الإسرائيلية الأكثر انتشارًا، وهي: "تايمز أوف إسرائيل" (The Times of Isreal)، و"جيروزاليم بوست" (The Jerusalem Post). وقد انتقى الباحث المواد الإعلامية التي ترتبط بالحرب على غزة، خلال الفترة الممتدة من 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 8 مايو/أيار 2024. وحصل على عينة قصدية تتكون من 13 مادة إعلامية من صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" و11 مادة من "جيروزاليم بوست"، مستخدمًا كلمات مفتاحية لها علاقة بموضوعات الحرب في خانة البحث بالموقعين. 

الإستراتيجية المنهجية

تعتمد الدراسة التحليل النقدي للخطاب لمقاربة المواد الإعلامية التي تمكَّن الباحث من الوصول إليها في صحيفتي "تايمز أوف إسرائيل" و"جيروزاليم بوست". وتنطلق من المفهوم الذي يُحدِّد الخطاب باستخدام اللغة في السياق الاجتماعي والأيديولوجي والتاريخي، وتتداخل في تكوينه عوامل كثيرة؛ إذ بالإضافة إلى أن الخطاب ممارسة اجتماعية، فهو يحمل في طياته الدوافع والأهداف، ويستخدم الأساليب المباشرة وغير المباشرة، وتُحمَّل اللغة ما يفوق مجرد اللفظ والمعاني الظاهرية. وهنا، يسعى التحليل النقدي للخطاب إلى استكشاف المنطلقات والخلفيات الثقافية والأيديولوجية والتاريخية والاجتماعية للخطاب، ومفاعيلها في الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية(2). وفي هذا السياق، تحاول الدراسة الكشف عن تمثُّلات الأشخاص والقوى السياسية والفاعلين في الحرب وتطورات الأحداث في بنية الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، فضلًا عن استكشاف المعاني المتضمنة في هذا الخطاب، وهي معان تستند إلى الأساليب اللفظية المباشرة وغير المباشرة في إطار المقاربة التداولية، وبعدها التواصلي الذي يُمثِّل سعي المُرْسِل لإفهام المُسْتَقْبِل للرسالة(3). ومن خلال هذا المدخل يمكن استقراء الأبعاد الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية للإعلام الإسرائيلي التي تُشكِّل أساسًا لهذا الخطاب في توجيه الجمهور والتأثير عليه. وتفترض الدراسة أن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي يسعى إلى حشد الرأي العام الإسرائيلي وتوحيده في هذه الحرب مستخدمًا وسم "استمرار الحرب والعمل على تحقيق أهدافها"، ومكرسًا السردية الإسرائيلية بشأن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، ومبررًا الأعمال العسكرية التي تقوم بها ضد الفلسطينيين.

ويرى عالم دراسات الخطاب، توين فان ديك (Teun A. van Dijk)(4)، أن النفاذ إلى الخطاب السياسي والإعلامي يُعد من أهم الأمور المرتبطة بالخطاب من أجل تحقيق السيطرة (أو الهيمنة)؛ إذ إن هناك من يستطيع استخدام الخطاب للسيطرة على "العقل العام" والتحكُّم فيما سوف يُفكِّر فيه الناس. ويُقارن فان ديك بين من يستطيع إنتاج الخطاب والسيطرة على مضمونه وأسلوبه، ومن ثم السيطرة على الرأي العام، وبين من لا يملكون النفاذ إلى الخطابات وإنتاجها، مثل المهاجرين والملونين.

وفي سياق الحديث عن العنصرية في الخطاب، يُبيِّن فان ديك أهمية إدراك الكيفية التي يتم من خلالها بناء الخطاب، وسيرورة العمليات الإدراكية المعقدة؛ إذ يساعد ذلك في فهم عمليات التغطية الصحفية التي تؤدي إلى التحيز والتحامل وتشكيل وبناء الصور النمطية عن الآخر.

من هذا المنطلق، يرى الأكاديمي نورمان فاركلوف (Norman Fairclough)(5)، أن النصوص الخطابية يمكن أن تُشْعِل حروبًا، وأن تُسهِم في إحداث تغييرات في مجالات مختلفة. ولذلك، يعتقد أن تحليل الخطاب يتضمن النص الظاهر والنص المستتر، أي ما تعنيه الكلمات والجمل للمتلقين، والمعاني التي يُحمِّلها المتحدثون لتلك الكلمات والجمل ويسعون من خلالها إلى التأثير في عقول المتلقين.

إذن، الخطاب الإعلامي لا يحتوي على معلومات وبيانات فقط، ولكنه عملية اتصالية متكاملة، فهو يعيد إنتاج القوى، وله أبعاده وتأثيراته؛ إذ يشتمل على أدوات إقناعية قد تفتقدها الرسالة المنقولة عبر أي وسيلة اتصالية إلى المتلقي. وتشمل الأدوات المنهجية في تحليل الخطاب: أداة تحليل حقول المفاهيم، وأداة مسار البرهنة، وأداة تحليل المعنى الكامن، وأداة تحليل القوى الفاعلة، وأداة تحليل الأطر المرجعية(6).

ولكن السؤال الذي يبرز في سياق دراسة الخطاب الإعلامي الإسرائيلي خلال الحرب على غزة: هل يمكن أن يصل الخطاب الإعلامي إلى مستوى الدعوة إلى العنف أو الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني؟ 

تجيب الباحثتان أنجيلا هافتي (Angela Hefti) ولورا جوناس (Laura A. Jonas)(7) في بحثهما حول دور الإعلام في الإبادة الجماعية في رواندا عن هذا السؤال بالقول: إن الأمر يتعلق بالطريقة التي يجري من خلالها التعبير عن التصريحات التي تصدر عن الجهات الرسمية. وتُحدِّد هذه الطريقة مدى مسؤولية وسائل الإعلام. وترى الباحثتان أن أي دعوة مباشرة أو غير مباشرة، مثل الإيحاء بالدعم للعنف أو الكراهية في الخطاب، لا تُبرِّئ وسائل الإعلام من تلك المسؤولية. وتتمثَّل خطورة هذا الخطاب في أن الأساليب المذكورة تُسهِم في خلق حالة ذهنية عامة لدى الجمهور، يكون العنف نتيجة متوقعة لها؛ إذ تُعد وسائل الإعلام "أدوات إقناع وخلق حالة ذهنية تجعل عمليات القتل مقبولة لدى الجمهور".

2. استدعاء الأيديولوجيا والتاريخ

يمكن إدراك الإطار العام للخطاب الإعلامي الإسرائيلي، والأسس التي قام عليها أيضًا نظام الإعلام الإسرائيلي، من خلال رصد عدد من المظاهر التي تكشف تطرفه وانفصامه عن القيم المهنية للعمل الصحفي. إن ظهور الصحفي داني كوشمارو على شاشة القناة الـ12 الإسرائيلية حاملًا بندقية، وظهور المذيعة ليتال شيمش، وهي تضع مسدسًا خلف ظهرها داخل الأستوديو أثناء تقديمها نشرة الأخبار على القناة 14، ومواقف أخرى كثيرة، تؤكد اصطفاف الصحفيين إلى جانب المؤسسة السياسية والعسكرية. وقد تجاوز الأمر منظور التماهي مع هاتين المؤسستين، وتبنَّى هذا الإعلام منظور حجب صور الدمار والمجازر والدماء والأشلاء في غزة عن الجمهور الإسرائيلي، ويُعد ذلك نتيجة حتمية لـ"التطرف الإعلامي" الإسرائيلي، ومؤشرًا آخر على انخراط الإعلام الإسرائيلي في الحرب على غزة(8). وتؤكد صحيفة "الغارديان" (the Guardian)(9) البريطانية ذلك بالقول: إن نقادًا صحفيين يُبيِّنون أن التغطية التي تتجاهل محنة الفلسطينيين تترك الجمهور الإسرائيلي منفصلًا بشكل خطير عن بقية العالم. وتشير الصحيفة إلى عبارة "متحدون سننتصر" التي تظهر على شاشات التلفزة الإسرائيلية؛ إذ توضح الاتجاه الذي اختاره الإعلام الإسرائيلي في الحرب على غزة، وقد انعكس بطبيعة الحال على الخطاب الإعلامي ونوعية المادة التي يتلقاها الجمهور الإسرائيلي.

لقد شكَّل هجوم حركة حماس على المستوطنات الإسرائيلية ومعسكرات الجيش في غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، صدمة عميقة للإسرائيليين. واستخدمت الخطابات السياسية والإعلامية في إسرائيل سجلًّا لُغويًّا وصُورِيًّا لوصف هذه الصدمة والتعبير عن الغضب وروح الانتقام. ولجأت إلى استدعاء البعد الأيديولوجي التاريخي المتمثل في "العداء للسامية" لوصم كل من يتهم إسرائيل بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد الشعب الفلسطيني. ويُصاحب هذا البعد التذكير بالتجربة التاريخية المتمثلة في المحرقة التي تعرَّض لها اليهود على يد النازية في الحرب العالمية الثانية. ويُلامس هذا الخطاب مشاعر فئات واسعة من المجتمعات الغربية، فضلًا عن مشاعر اليهود في العالم والإسرائيليين. فقد استخدم موقع "تايمز أوف إسرائيل"(10) هذا الأسلوب، أي استدعاء العداء للسامية، من أجل تحريض المواطن الإسرائيلي والجمهور في مختلف دول العالم على المقاومة الفلسطينية. كما استحضر أحداث المحرقة التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية، وكذلك حرب 1948 وحرب 1973 والانتفاضة الثانية، من خلال إبراز عدد القتلى الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم في سياق هذه الأحداث. وربط الموقع ذلك بما يراه "استهدافًا لليهود" وليس لدولة الاحتلال الإسرائيلي.

إن خطاب الأيديولوجيا واستدعاء الأحداث التاريخية يمثِّلان محاولة لحشد الرأي العام العالمي خلف إسرائيل في حربها على غزة، حيث يُعد "العداء للسامية" خطًّا أحمر لدى الدول الحليفة للاحتلال الإسرائيلي، وجريمة يُعاقِب عليها القانون. ويعني ذلك استثناء لمبدأ حرية التعبير. كما أن استحضار فكرة "المحرقة" (الهولوكوست) في الخطاب يأتي في السياق نفسه، وهو السياق التاريخي الذي يلامس مشاعر الجمهور؛ إذ يرى هذا الخطاب أن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول تمثِّل "مأساة أكثر فتكًا بكثير من المحرقة" التي "لم يُقتل فيها هذا العدد الكبير من اليهود في يوم واحد منذ المحرقة".

وتقوم المشاعر الإنسانية بدور مهم في تحديد المواقف؛ الأمر الذي يجعل الجهة المُخَاطِبَة تستعين بالأحداث والتصريحات والمواقف ذات الصبغة الإنسانية للتأثير في الجمهور. ولذلك، فقد طغت تفاصيل أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول على الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، وانتشرت القصص الإنسانية التي يصفها بـ"الفظائع" التي ارتكبتها حركة حماس ضد المدنيين والأطفال والنساء في ذلك اليوم. وقد تبيَّن زيف عدد من تلك القصص التي فنَّدها سياسيون وإعلاميون إسرائيليون وأجانب كما سنرى لاحقًا. ويظهر استدعاء التاريخ أيضًا فيما نشره المتحدث السابق باسم الرئيس الإسرائيلي، آيلون ليفي: "ليس من المبالغة القول: إن الأمس كان أحلك يوم في التاريخ اليهودي منذ المحرقة"(11). ويُعد هذا الأسلوب الذي يمزج بين الأيديولوجيا والتاريخ ويُوظِّف المشاعر الإنسانية من الأساليب المألوفة في وسائل الإعلام الإسرائيلي؛ إذ يسعى إلى تَمْثِيل أي اعتداء على دولة الاحتلال باعتباره اعتداء على اليهود. وهي محاولة لإحاطة إسرائيل بالحصانة من النقد أو العقوبات، كما أن أي اعتداء عليها يستدعي أشد العقوبات، مثلما هو الشأن في حالة المعادين للسامية. لكن هذه المرة كان الأمر أشد وأقوى، بل لا يُقارن بالأحداث والخطابات التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

جدول (1): توظيف الأيديولوجيا والتاريخ والعنصرية في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي

بنية الخطاب المسوغات والتبريرات
الأيديولوجيا معاداة السامية
التاريخ التاريخ اليهودي، المحرقة (الهولوكوست)
العنصرية الاعتداء على اليهود

وتُظهِر سمات الخطاب الإعلامي الإسرائيلي نزوعه نحو الهيمنة، وهنا يشير فان ديك(12) إلى أن الخطاب الذي يُوظِّف الإيحاءات العنصرية ضد "الآخر" يُمثِّل التحيز والتحامل، ومن ثم الهيمنة على تفكير الجمهور ومواقفه تجاه هذا "الآخر". وإذا كان فان ديك اعتبر أن هذا النوع من الخطاب يمارس العنصرية بشكل خفي، فإن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي يمارس الدور ذاته بإسقاط العنصرية على "الآخر" الفلسطيني؛ إذ يصبح الفلسطيني هو الممارس للعنصرية؛ الأمر الذي يحقق للإسرائيلي ميزة الهيمنة على متلقي الخطاب.

3. الانتقائية واصطناع الواقع

في مفارقة بين التشكيك والإنكار لرواية جهات محسوبة على حركة حماس -من وجهة نظر إسرائيل- والبحث عن معلومات أو أفكار من مصادر أخرى، مثل الجمهور الفلسطيني، يلاحظ أن إسرائيل تسعى لتعزيز روايتها من مصادر متعددة، ولن تعدم وجود صوت يمكن أن يخدم سياستها وسرديتها. ففي هذه الحالة، تحقق إسرائيل أمورًا عدة، منها: الظهور بمظهر المحايد الناقل للرواية، والإيحاء بأن "العدو" (حماس) هو عدو لشعبه، وليس فقط لإسرائيل، ومن ثم نزع الشرعية عن الحركة، وتَمْثِيل صورة الإسرائيلي بـ"المنقذ للأبرياء من براثن الإرهاب". وتشكِّل هذه الإيحاءات حالة الإنكار لجرائم الاحتلال، والتنصل من مسؤولياته في عمليات الإبادة الجماعية في غزة. فقد استخدم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، على سبيل المثال، في خطاباته نتائج الاستطلاعات الأميركية ليؤكد أن الولايات المتحدة، حكومة وشعبًا، تقف مع إسرائيل في حربها على غزة، دون الإشارة إلى تفاصيل الاستطلاعات والتغيرات التي تحدث في الشارع الأميركي. كما اقتبس موقع "تايمز أوف إسرائيل"(13) عبارة عن أحد سكان قطاع غزة، الذين اعتقلهم الجيش الإسرائيلي، قائلًا: "انتظرناكم لتحررونا من طغيان حماس، وأطفالنا يموتون من الجوع". ولذلك، تلتقط أطراف الصراع العبارات التي تصدر عن هؤلاء المنتقدين لنزع الشرعية عن الطرف الآخر من خلال الإيحاء بأن هناك معارضة واسعة لسياسته في الحرب. ويبدو التناقض في خطاب هذا المواطن الفلسطيني واضحًا؛ إذ ذكر أن الأطفال يموتون جوعًا، وهو ما يُشير إلى ما قامت به إسرائيل من منع لدخول الطعام والماء والدواء عن غزة، وفق ما أكدته عدة جهات دولية، وباعتراف الحكومة الإسرائيلية أيضًا. ويتمثَّل التناقض هنا في أن هذا المواطن الفلسطيني ينتظر مساعدة الجيش الإسرائيلي الذي تسبب في المجاعة والقتل والتدمير، بدلًا من معارضتها. كما أن تصريحات شخص في الأسر لا يمكن أخذها في الاعتبار؛ لأنها قد تكون انتُزعت تحت التهديد أو التعذيب أو الابتزاز أو الإكراه.

وتبدو انتقائية الخطاب فيما نشره نفس الموقع نقلًا عن قناة إسرائيلية: "تبُثُّ القناة الـ12 شريط فيديو مسربًا ظاهريًّا من مصدر في الجيش الإسرائيلي يُظهِر مجموعة من الفلسطينيين تم تجريدهم من ملابسهم وتقييدهم بعد اعتقالهم من قبل الجيش الإسرائيلي في شمال غزة. وسُمع أحد المعتقلين وهو يقول للقوات: "على مدى 17 عامًا، عشنا في ظل الطغيان"، في إشارة إلى حماس. وجاء في الفيديو أيضًا: "عندما وصلتم بقينا في بيوتنا؛ لأننا نعيش في سلام ونحب السلام. لو كنا مذنبين لتركنا منازلنا وهربنا، لكننا نعيش في منازلنا بسلام".. "أقسم بالله لقد انتظرناك لتحررنا من الطغيان". ويبرز التناقض هنا عندما يكرر المواطن الفلسطيني الحديث عن الجوع الذي يعاني منه الأطفال، وأن النساء يتسولن في الشوارع للحصول على الطعام، وأن الأطفال يموتون جوعًا، ولا توجد رعاية طبية. ثم يسأله أحد الجنود: "خطأ من هذا؟"، وهنا يظهر أسلوب التلقين غير المباشر، فيجيب عدد من المعتقلين: "بسبب حماس! بسبب حماس!" في مشهد درامي مصطنع. لقد استخدم الموقع هذه العبارات وهذا المشهد لتعزيز الرواية الإسرائيلية التي تُحمِّل حركة حماس مسؤولية الصراع؛ إذ كان سؤال الجندي مقصودًا لتوجيه المواطن لتقديم إجابة محددة، إلا أن الخطاب أغفل أن هذا المشهد يتم في ظل الاعتقال، وتحت الحراب الإسرائيلية، بل ويتم في مشهد مروع؛ حيث يظهر المعتقلون مجردين من ملابسهم؛ الأمر الذي يخلق تناقضًا صارخًا في الرسالة التي يحملها المشهد.

4. المبالغة والتهويل للتحريض على الإبادة الجماعية  

عدَّ السياسيون الإسرائيليون هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول ضربة غير مسبوقة، بل ومؤثرة بدرجة كبيرة على إسرائيل. واعتبر قادة الاحتلال -كما ذُكِر سابقًا- أن الهجوم يتجاوز ما واجهته إسرائيل من حروب وتحديات على مدى 75 عامًا، إلا أن مشاهد المبالغة كانت واضحة في خطابات السياسيين والإعلاميين. فمنذ اليوم الأول، تصاعدت الأصوات الناقدة لما وُصِف بـ"الفظائع التي ارتكبت في مستوطنات غلاف غزة، مثل قطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء، وحرق الناس أحياء". ورغم نفي هذه القصص من قِبَل جهات مختلفة إسرائيلية ودولية، إلا أن الإعلام الإسرائيلي لا يزال يكرر هذه الروايات كما ورد في تقرير نشره موقع "جيروزاليم بوست"(14) بعنوان: "الهدف كان مذبحة تل أبيب: الكشف عن خطة حماس الكاملة ليوم 7 أكتوبر". ويُفصِّل العنوان الفرعي للتقرير هذه المزاعم بالقول: "ومع تكشُّف فظائع السابع من أكتوبر، سعت حماس إلى بدء مرحلة ثانية من هجومها، والتي كانت ستشهد هجمات على تل أبيب وديمونة". وأورد التقرير في مقابلة مع إيلان كفير، مؤلِّف كتاب "غزة منتصرة"، أن حماس كانت تنوي، في حال نجاح المرحلة الأولى من خطتها للهجوم على إسرائيل، الانتقال إلى المرحلة الثانية للهجوم على ديمونة في الجنوب، ثم تل أبيب في الشمال، وأن حماس كانت تعتزم تنفيذ "مجزرة جماعية رهيبة" في ديمونة في وقت الازدحام، وأن أفرادها كان لديهم الاستعداد الذهني للانتحار؛ إذ لا توجد لديهم فرصة للعودة. ويؤكد كفير أن هناك أدلة وخرائط تشير إلى تلك الخطة.

إن أسلوب المبالغة والتهويل في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي يمكن أن يكون مقبولًا لو استند إلى أدلة ذات مصداقية، وهو يهدف إلى إبراء ذمة إسرائيل من أية نتائج سلبية. وحتى حين تكون الأدلة واضحة في إدانة الطرف الإسرائيلي، فإن التبرير والتفسير والتلاعب في الألفاظ يتم استخدامه للتنصل من المسؤولية، كما حدث في حادثة قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي لضحايا المطبخ المركزي العالمي. ويُظهِر التأمل في بناء التركيب اللفظي للخطاب الأهداف الخفية التي يسعى إليها، مثل استخدام ألفاظ "ادعى"، و"تنوي"، و"تعتزم"، و"الاستعداد الذهني للانتحار"، وهي جميعها عبارات غير مؤكدة. كما استخدم هذا الخطاب أسلوب التحريض غير المباشر، مثل عبارة "تنفيذ مجزرة جماعية رهيبة في ديمونة في وقت الازدحام"، وهي بالطبع صورة مروعة تدفع الجمهور لدعم جيش الاحتلال في اتخاذ كافة الأساليب ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني.

5. عقيدة التدمير البنيوي وسياسة التطبيع

لا ينفك الإسرائيليون، على لسان قادتهم، ومن خلال وسائل الإعلام، يسعون للحفاظ على العلاقات الإسرائيلية-العربية في إطار الاتفاق الإبراهيمي مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. ورغم أن هذا الاتفاق يعده البعض إنجازًا لإسرائيل التي عانت من عزلة في المنطقة العربية منذ إنشائها في 1948، إلا أن هدفها كان يتمثَّل في التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وهي الدولة ذات الثقل الأكبر اقتصاديًّا وسياسيًّا في المنطقة. وقد بُذلت جهود كبيرة لإنجاز عملية التطبيع، وكانت على وشك الحدوث لولا هجوم السابع من أكتوبر الذي عطَّل تلك الجهود، ووضع الجميع في موقف حرج.

استمرت إسرائيل في التطلع لإنجاز هذه العملية مع السعودية حتى في ظل الحرب من خلال تكرار ذلك في الخطاب الإعلامي؛ إذ تحتاج إسرائيل إلى تعزيز مكانتها وتحسين صورتها في ظل مشهد المجازر والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني التي طغت على المستوى العالمي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. وليس هناك أفضل من تقديم صورة عن الاحتلال باعتباره الدولة المقبولة عربيًّا في سياق "معسكر الاعتدال" الذي يضم عددًا من الدول العربية وإسرائيل. وتبدو معالم هذه الصورة في تقرير "جيروزاليم بوست"(15) الذي يعرض خطة نتنياهو لمرحلة ما بعد الحرب بعنوان: "تدمير حماس وتعزيز العلاقات السعودية: رؤية آيزنكوت لإسرائيل ما بعد الحرب". إن إشكالية "اليوم التالي" للحرب، وتلكؤ القيادة السياسية الإسرائيلية في الإجابة عن هذا السؤال لم يكن سببه غياب الرؤية، بقدر ما كان يمثِّل هروبًا من المواجهة مع العالم برؤية صادمة، يمكن أن تُدخل دولة الاحتلال الإسرائيلي في صراع سياسي مع المجتمع الدولي، إلا أن إصرار الولايات المتحدة على ضرورة تقديم تصور إسرائيلي لتلك المرحلة دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي، وعددًا من القيادات، لتقديم رؤية "مروعة"، تتمثَّل في السيطرة العسكرية الكاملة لدولة الاحتلال على قطاع غزة، وإدارة القطاع عن طريق عدد من "الوكلاء" للاحتلال من دول عربية وقوات دولية. وتُوصَف الرؤية بـ"المروعة"؛ لأنها تخالف كل التوقعات الأميركية والأوروبية والعربية، وتمثِّل تعميقًا للمشكلة، ولا تُقدِّم حلولًا أو إجابات للأسئلة المتعلقة بإنهاء الاحتلال وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه الوطنية والإنسانية.

ويمكن وصف هذا الخطاب بـ"الاستعلائي"؛ إذ تريد إسرائيل تحقيق هدفين يحملان تناقضات صارخة، هما: القضاء على حماس (الحرب)، حتى لو اقتضى الأمر الاستمرار في قتل المدنيين وتدمير كل مظاهر الحياة في غزة، وفي الوقت نفسه إنجاز عملية التطبيع (السلام) مع السعودية وما تبقَّى من الدول العربية. وينسجم هذا الأمر، بطبيعة الحال، مع اتجاه الرؤية الإسرائيلية التي لا ترى أن هناك شعبًا فلسطينيًّا يسعى إلى التحرر من الاحتلال. إن استخدام عبارة "تدمير حماس وتعزيز العلاقات مع السعودية" جمع بين أمرين متناقضين؛ إذ يُفترض منطقيًّا أن تؤدي الحرب ضد الفلسطينيين إلى تعطيل أي علاقة سلمية مع الدول العربية. ومن ثم، فإن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي يُقدِّم رؤية تسعى إلى القضاء على القضية الفلسطينية من خلال إنهاء المقاومة، مرة واحدة وإلى الأبد، ثم، وفي الوقت ذاته، فرض الهيمنة الإسرائيلية على المشهد الشرق أوسطي من خلال عملية التطبيع التي توقف مسارها مع السعودية بسبب "طوفان الأقصى". وهذا يعكس بشكل واضح الرغبة الدفينة في البطش والقتل بحق الشعب الفلسطيني، وعزل هذا المشهد تمامًا عن سياسة الدفع نحو التطبيع مع الدول العربية.

وتشمل خطة نتنياهو تفكيك حركة حماس، واستعادة الأسرى الإسرائيليين، وتشكيل تحالف أميركي-إسرائيلي-عربي لنقل الحكم المدني في غزة لقادة محليين (تكنوقراط) يديرون الشؤون المدنية في غزة، ولمواجهة خطر إيران ووكلائها في المنطقة، وكذلك "إزالة التطرف من نظام التعليم في غزة"، وإغلاق منظمة الأونروا بهدف شطب قضية اللاجئين التي تؤرق دولة الاحتلال، وإمكانية المفاوضات على إقامة دولة فلسطينية بعد خمس سنوات من التأكد من تنفيذ المخطط؛ إذ إن الاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية" في الوقت الراهن يُعد جائزة لحماس، كما ورد في المخطط.

إن سؤال "ما بعد حماس" في غزة يفرض نفسه بإلحاح على الولايات المتحدة وإسرائيل، ودول كثيرة أخرى ذات صلة بتطورات الأحداث. وجاءت الخطة المذكورة من قبل إسرائيل لكي تجيب عن ذلك السؤال، ولكن وفق رؤية إسرائيلية تستند إلى أيديولوجية التفوق والاستعلاء والسيطرة. لكن هذه الرؤية بالتحديد تصطدم بالواقع الذي يعكس فشل إسرائيل في تحقيق أهداف الحرب، وتحديدًا القضاء على حماس، وإحكام السيطرة على غزة، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين. إذن، يتجاهل هذا الخطاب أمورًا جوهرية مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بمقومات تنفيذ تلك الخطة، كوجود الفلسطينيين، بمن فيهم السلطة الفلسطينية، باعتبارهم خصمًا وطرفًا في الصراع، وتحديد أدوار أطراف أخرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية والدول العربية، وتحديدًا المملكة العربية السعودية، وحتى الأمم المتحدة بمسألة إدارة قطاع غزة.

ويمكن القول: إن هذا الخطاب يمثِّل هروبًا إلى الأمام من خلال استدعاء فكرة التطبيع مع السعودية، والتعويض عن فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه بـ"تصدير الأزمة"، والسعي لأن تقوم دول أخرى وجيوش عربية وأجنبية بالمهمة بالوكالة عن دولة الاحتلال. فهو يُقدِّم تصورًا لا يُرى فيه سوى الإسرائيليين ومصالحهم ووجودهم، وتخرج كل الأطراف الأخرى من هذا الإطار، بل وتُوظَّف تلك الأطراف لخدمة أهداف الإسرائيليين فقط. وتسعى إسرائيل إلى تسويق هذا التصور من خلال الإيحاء بأن كل الأطراف المذكورة (الخاضعة لهيمنة إسرائيل وفق ما يُشير إليه خطابها) تقف في معسكر واحد في مواجهة إيران وأذرعها في المنطقة، وضمنها المقاومة في غزة. ويتحدث الوزير الإسرائيلي بالأسلوب التقليدي نفسه "الاستعلائي/المهيمن" المتمسك بلهجة التفوق والتفرد في رسم ملامح المرحلة القادمة، وإنكار وجود طرف آخر يمكن أن يكون له دور في أي مستقبل، بل وكأن دول العالم، وعلى رأسها الدول الحليفة لإسرائيل، مثل الولايات المتحدة، أو الدول التي يفترض أن يكون لها دور في غزة وفق الرؤية الإسرائيلية، مثل مصر والإمارات والسعودية، ستكون جزءًا من الخطة الإسرائيلية دون أن تُشارك في وضعها أو أن يكون لها رأي فيها. 

ومما يزيد موقف إسرائيل حدة، بالإضافة إلى تعثرها في الحرب على غزة، هو مواقف دول العالم (منفردة أو من خلال منظمة الأمم المتحدة)، ومواقف شخصيات وازنة حليفة لها، والتي تناقض سياسة الحكومة الإسرائيلية في الحرب على غزة. فقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، في الخامس والعشرين من مارس/آذار 2024، بتأييد 14 عضوًا، وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت(16)، وكذلك تصريحات أبرز المؤيدين لإسرائيل في الكونغرس الأميركي، السيناتور تشاك شومر، في الرابع عشر من مارس/آذار 2024، التي انتقد فيها نتنياهو وسياسته بشدة(17)، كان له أثر كبير في تعنت إسرائيل وغضبها تجاه هذين الموقفين، ورفضهما، في صورة تتخذ شكل الاستعلاء والتشنج ورفض الخضوع لأية قرارات دولية. فقد كتبت يارا سيجال (Yaara Segal) في صحيفة "جيروزاليم بوست"(18) مقالًا شديد اللهجة ضد مجلس الأمن، وتشاك شومر، وكذلك ضد مصر وقطر. واعتبرت أن قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، وموقف الولايات المتحدة بعدم استخدام حق النقض (الفيتو) الذي سمح بتمرير القرار، هو قرار معاد لإسرائيل، ويخدم حماس وإيران، ويمنع إطلاق سراح الإسرائيليين من غزة، في اتهام مبطَّن لأميركا بالجهل لخدمة "الأعداء" من خلال عدم استخدامها للفيتو. وترى الكاتبة أن شومر، وكذلك مصر وقطر، يخدمون حركة حماس، ولا يشعرون بمدى الألم الذي تسبب به هجوم حماس على دولة إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كما ترى أن مصر وقطر لم تبذلا الجهود الكافية للضغط على حماس للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين. وتعتبر الكاتبة هؤلاء الأسرى "مدنيين أبرياء"، بينما تعد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية "إرهابيين". وتزعم أن قادة حماس يعيشون في فنادق فخمة في الدول العربية، ويتنقلون بحرية تامة بين هذه الدول. كما تُشبِّه الكاتبة حركة حماس بتنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي يتعامل مع الأسيرات الإسرائيليات باعتبارهن "سبايا" تمامًا كما فعل التنظيم مع الأسيرات الأيزيديات في العراق.

ويمكن أن نلمس في هذا الخطاب أطروحة الهيمنة والاستعلاء، وحشد المفردات التي تضع "الآخرين" في قفص الاتهام بمساعدة "العدو" ضد إسرائيل. وهو خطاب قائم على إنكار الآخر، أو أن هذا الآخر يخدم حماس بجهله لعواقب ما يقوم به، مقابل تعظيم الذات (الهيمنة)، وهو ما يجعل إسرائيل ترى الأمور من زاوية ضيقة؛ فلا هي تعترف بأن هناك احتلالًا لأراض فلسطينية، ولا ترى أن هناك شعبًا يُباد في غزة، وتتحجَّج باختباء مقاتلي حماس بين المدنيين، ولا ترى أن أكثر من مليون نازح فلسطيني في رفح هم بشر يستحقون حماية حقوقهم الإنسانية في الحياة الكريمة والحماية من القصف الإسرائيلي للمدنيين، مقابل ما يقارب 130 أسيرًا إسرائيليًّا في أنفاق القطاع. وما يؤكد اتجاه هذا الخطاب، هو عنوان مقال يارا سيجال المشار إليه آنفًا، وهو: "حماس تلعب بالغرب". فالعنوان يتضمن وصف الغرب بالجهل، وبعدم إدراك خطورة تصرفاته التي لا تدعم إسرائيل بشكل مطلق، ويمثِّل هذا الأسلوب محاولة لاستفزاز الغرب ودفعه لتبني سياسات الاحتلال الإسرائيلي. ويشكِّل هذا الخطاب، في حده الأدنى، سخرية من الدول الغربية، ومجلس الأمن الدولي، وكذلك الدول العربية التي تسمح لقادة حماس بالتنقل بحرية، ويمثِّل في حده الأقصى التحريض على المقاومة الفلسطينية. فالخطاب منفصل تمامًا عن أية حسابات ومعايير عقلانية، ويقوم فقط على اعتبارات عاطفية مبنية على الكراهية والرغبة في الانتقام، والنظرة الأحادية المتضمنة لفكرة أن العالم بأجمعه "متواطئ مع حماس".

6. تجنيد الصحافة الإسرائيلية للتماهي مع الرواية الرسمية

إن الجرائم التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في الحرب على غزة، سواء بحق المدنيين الفلسطينيين، أو طواقم الإغاثة الفلسطينية والدولية، أو الصحفيين، أو الأطباء والممرضين، تتعامل معها إسرائيل بأساليب مختلفة، سواء على مستوى القيادة السياسية أو على مستوى وسائل الإعلام. فتارة يتجاهل هؤلاء تجاهلًا تامًّا الضحايا المدنيين في غزة، وتارة أخرى يميل الخطاب إلى تبرير الجرائم، وحرف الموضوع عن مساره، وتارة إبراز الحجة التي تستتر وراءها جميع الجرائم الإسرائيلية، وهي "إرهاب حماس". إذن، لا تقيم إسرائيل أي اعتبار للضحايا الفلسطينيين، ولا تذكرهم، حتى في خطاب التبرير، إلا إذا كانت مضطرة بضغط من الدول والمنظمات العالمية. لذا، فإن تعليق إسرائيل على حادثة مقتل 7 أفراد يحملون جنسيات أجنبية مختلفة في قصف الجيش الإسرائيلي لمركبات موظفي المطبخ العالمي المركزي، يمثِّل نموذجًا لخطاب التبرير. ففي افتتاحية صحيفة "جيروزاليم بوست"(19) حول هذه الحادثة، جاء في العنوان: "القتل غير المتعمد لعمال المطبخ العالمي المركزي أمر مأساوي، لكن حماس لا تزال مسؤولة عن الحرب". ثم تضيف في المقدمة: "نعم، هذه الحوادث تحدث في ظروف المعركة. لقد حدث ذلك لكل دولة شاركت في الحرب".

جدول (2): الأدوات المنهجية في تحليل الخطاب لحادثة مقتل موظفي المطبخ العالمي المركزي(20)  

الأداة الفقرة
تحليل المفاهيم

حضور المفهوم: القتل غير العمد. غياب المفهوم: الفاعل: الجيش الإسرائيلي.

مسار البرهنة الحجج والبراهين والتبريرات: هذه الحوادث تحدث في المعارك.
المعاني الكامنة المعاني الظاهرة: حادثة قتل موظفي المطبخ العالمي أمر مأساوي.
المعاني الضمنية: رفض إسرائيل لوجود أجنبي في غزة، لوم الضحية.
القوى الفاعلة منتج الخطاب: الصحفي الإسرائيلي.
القوى الأخرى: مسؤولية حماس عن قتل موظفي المطبخ العالمي، حماس ترتكب اعتداءات جنسية.
الأطر المرجعية السياقات الاجتماعية والتاريخية: قصف أميركا لمدنيين في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن في الماضي.

وبصرف النظر عن ملابسات الحادث، والمؤشرات القوية التي تُبيِّن أن القصف كان متعمدًا، وأن وراءه أهدافًا سياسية، أقلها "إرهاب" طواقم المساعدة والإغاثة لردعها عن تقديم أية خدمات خارج إطار الهيمنة الإسرائيلية، وتكريس احتكار دولة الاحتلال لشؤون غزة، وخاصة القضايا الإنسانية منها، فإن هناك أهدافًا أخرى قد تصل إلى مستوى ردع دول العالم والمنظمات الدولية والإنسانية عن التدخل في الحرب لأي هدف لا يخدم أهداف إسرائيل، حتى لو كان التدخل من بوابة المساعدات الإنسانية.

إن الخطاب الذي استخدمته صحيفة "جيروزاليم بوست" في اعتماد رواية القادة السياسيين بأن القتل لم يكن متعمدًا، وأن الحادث مأساوي، هو خطاب يتساوق مع الأساليب الدعائية الحربية التي يستخدمها القادة السياسيون والعسكريون والمتحدثون الرسميون باسم الحكومة الإسرائيلية. ويُكرِّس أطروحة "تجنيد الصحافة الإسرائيلية" في الحرب على غزة. كما أن الزج بحركة حماس في عنوان الافتتاحية هو محاولة واضحة للتنصل من المسؤولية، وشيطنة الخصم وإلقاء اللوم على الضحية التي تُعد "سببًا في كل ما يحدث من كوارث". فكما قالت غولدا مئير، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة: "لن نُسامح أبدًا الفلسطينيين؛ لأنهم جعلونا نقتل أطفالهم"(21)، وهو خطاب يدخل في إطار متلازمة "لوم الضحية"(22)، وكأنها تقول: "إن على الخصم أن يستسلم؛ لأن قتاله سيجعلنا نقتل أطفاله، ومن ثم فهو السبب في سقوط الضحايا من الأطفال".

وفي تحليل مفردات الخطاب يبدو لافتًا أن الصحيفة أسقطت "الفاعل" في عملية القتل، وهو الجيش الإسرائيلي، واستخدمت "المصدر" (القَتْل) بدلًا من "الفعل" (قَتَل)، ثم استخدمت عبارة "مأساوي"، وكأن من قُتِلوا ضحايا كارثة طبيعية، بالإضافة إلى العبارة التي تؤكد "استمرارية" تحميل مسؤولية القتل لحركة حماس.

وفي سياق التبرير والتنصل من المسؤولية في التقرير ذاته، استشهدت الصحيفة بحادثة قصف القوات الأميركية لعرس في يوليو/تموز 2008، ومقتل 47 مدنيًّا، بمن فيهم العروس. وكذلك مقتل 37 مدنيًّا في قصف عرس آخر، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه. وتفترض "جيروزاليم بوست" من خلال هذا العرض أن ما قام به الجيش الإسرائيلي، الذي قتل موظفي الإغاثة السبعة، هو أمر طبيعي يحدث في كل الحروب. كما أضافت أن الولايات المتحدة قتلت 432.903 من المدنيين في العراق وأفغانستان واليمن وسوريا وباكستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. وفي هذا السياق، اعتبرت الصحيفة توبيخ الرئيس الأميركي، جو بايدن، لإسرائيل على حادثة قتل الموظفين السبعة "يبدو مخادعًا إلى حدٍّ ما". ولكن مثل هذا الخطاب الذي يلجأ إلى أحداث سابقة مشابهة، لا يُقدِّم فقط تبريرًا للسلوك الإجرامي، بل أيضًا يمنح هذه الممارسات المشروعية و"صكَّ البراءة" والتهرب من المسؤولية، فضلًا عن إهانة الرئيس الأميركي لردعه عن انتقاد جرائم إسرائيل في غزة. 

واستخدم الإعلام الإسرائيلي خطاب الشيطنة لحركة حماس، وتشبيهها بتنظيم الدولة؛ إذ ذكر الكاتب شيث فرانتزمان (Seth Frantzman)(23) في مقال تحليلي نشره موقع "جيروزاليم بوست" أن هناك أوجه تشابه واختلاف بين هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول وهجوم مسلحين على حفل موسيقي في مدينة كروكوس الروسية، مستحضرًا الحدث لتشبيه حماس بتنظيم الدولة ليُبرِّر العنف الشديد الذي تمارسه إسرائيل في غزة. وهاجم الكاتب الدول التي أدانت الهجوم في روسيا، في الوقت الذي امتنعت فيه عن إدانة هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وتضمنت بنية الملفوظ تحريضًا على حركة حماس بشكل مباشر؛ إذ كرر الخطاب ادعاء الإسرائيليين بأن "مقاتلي حماس ارتكبوا اعتداءات جنسية"، بينما لم يحصل ذلك في الهجوم بروسيا، متجاهلًا التقارير التي نشرتها الصحف الإسرائيلية، مثل "هآرتس"، وصحف أجنبية، مثل "ليبراسيون" (Libération)(24) التي نفت وجود أية أدلة على هذه الادعاءات. كما تضمن هجومًا على عدد من الدول العربية والغربية متهمًا إياها بغض النظر عن الكثير من الأمور، ومن ذلك، التحذير الأميركي المسبق لروسيا حول الهجوم على الحفل الموسيقي، فيما لم يكن هناك تحذير لإسرائيل بشأن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كما ندد الخطاب بالصمت الغربي لاستضافة قطر وتركيا قيادات من حركة حماس، لكنه لم يتضمن الإشارة إلى المجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة بحق المدنيين والأبرياء، وعمليات منع دخول المساعدات الإنسانية التي أدت إلى وفيات بسبب الجوع ونقص المواد الغذائية. وكانت هذه القضايا أثارت سخطًا واسعًا في عدة دول على مستوى الشعوب وفي أروقة السياسة العالمية. كما لم يُشر الكاتب إلى أن الفلسطينيين يعيشون تحت احتلال عسكري، وأن غزة تعيش حصارًا مطبقًا منذ العام 2006 عندما فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية، وشكَّلت الحكومة الفلسطينية العاشرة.

وتبنَّى الإعلام الإسرائيلي أيضًا الخطاب الرسمي، سواء الخطاب السياسي أو العسكري. ويظهر ذلك جليًّا في تضمين المادة الإعلامية لما ورد في تلك الخطابات، وتبنيها بالكامل، دون نقدها أو البحث عن معلومات من مصادر أخرى. ففي التقرير الذي كتبه الصحفي إيمانويل فابيان (Emanuel Fabian) في موقع "تايمز أوف إسرائيل"(25) حول عمليات الجيش الإسرائيلي في غزة، تبنَّى الكاتب بشكل كامل رواية الجيش، التي تحيط بها شكوك كثيرة لأسباب مختلفة، أولًا: من الطبيعي أن يتم توظيف الإعلام خلال الحرب لأهداف دعائية من شأنها أن تُعزز ثقة المواطن بدولته وجيشه وإعلامه. وثانيًا: بهدف تحطيم معنويات الخصم. وثالثًا: بهدف التأثير في الرأي العام العالمي، وخاصة المؤيد لدولة الاحتلال الإسرائيلي. وتأتي الشكوك في مضمون المادة الإعلامية التي يتم بثها انطلاقًا من النقد الداخلي للمعلومات، مثل إحصائيات لا تخلو من مبالغة، أو الادعاء بتحقيق أهداف "خارقة"، أو افتراضات لتبرير قصف أماكن مدنية وقتل أعداد كبيرة من المواطنين.

لقد تضمن تقرير الجيش الإسرائيلي، بحسب فابيان، ادعاءات بأن الضربات التي وجهها لمناطق في غزة، حيث بلغت 450 موقعًا، استهدفت مراكز لحماس، وقتلت "العديد من نشطائها". ويضيف أن الجيش الإسرائيلي دمر "المباني التي تحتوي على البنية التحتية لحماس في جامعة الأزهر بمدينة غزة. وعُثِر في حرم الجامعة على مدخل نفق يؤدي إلى مدرسة على بعد حوالي كيلومتر واحد، حيث وجد الجيش عبوات ناسفة وأجزاء من صواريخ ومنصات إطلاق ومعدات أخرى في المنطقة". وقال الجيش الإسرائيلي: "تُظهِر النتائج أن منظمة حماس الإرهابية استخدمت مبنى الجامعة لغرض القتال ضد قواتنا".

إن عمليات القصف والقتل التي مارسها جيش الاحتلال في غزة على امتداد أكثر من تسعة أشهر، تم تقديمها من قِبَل الإسرائيليين بصورة مشابهة، باعتبارها "إنجازات ضد المقاومة"، وتشمل تدمير أنفاق ومنشآت عسكرية، وثبت في عدد من الأحداث أن معلومات جيش الاحتلال لم تكن صحيحة، وكانت في بعض الأحيان مفبركة، كما حدث في قصف المستشفى المعمداني، والاقتحام الأول لمستشفى الشفاء، وكذلك، في عملية قصف سيارات المطبخ المركزي العالمي، وغيرها من الجرائم. وحتى لو كانت هذه المعلومات صحيحة، فإن اتهام حماس بالاختباء بين المدنيين لا يُبرِّر لأي قوة عسكرية قتل المدنيين وتدمير الجامعات والمدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء. فهذا يعني بالضرورة عدم احترام إنسانية الإنسان وحياته، بصرف النظر عن جنسيته وهويته ودينه. ويبرز هذا النمط من الخطاب في تصريحات السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد أردان(26)، عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ يرى أن حماس ليست موجودة فقط في المدارس والجامعات في غزة، ولكنها موجودة أيضًا في جامعات عريقة، مثل كولومبيا وهارفارد في الولايات المتحدة الأميركية. وهذا الخطاب يؤكد أن الادعاءات التي تتهم حماس بالاختباء بين المدنيين تُعد ادعاءات كاذبة، ولا تعدو أن تكون أداة دعائية تحريضية، بل وأسلوبًا مكشوفًا لشيطنة الطرف الآخر. وتُعقِّب الكاتبة نعومي كلاين (Naomi Klein)(27)، في صحيفة "الغارديان"، على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة قائلة: "اليوم يُبرِّر هذا الصنم الكاذب ]تقصد الصهيونية[ قصف كل جامعة في غزة، وتدمير عدد لا يحصى من المدارس، والأرشيف، والمطابع، وقتل مئات الأكاديميين والصحفيين والشعراء، هذا ما يُسمِّيه الفلسطينيون قتل المدارس، أي قتل وسائل التعليم".

وفي السياق ذاته، وفي إطار إستراتيجية تبنِّي الرواية الإسرائيلية الرسمية، نشر موقع "تايمز أوف إسرائيل" تقريرًا(28) يتعرض لقضية الأسرى الفلسطينيين من غزة لدى جيش الاحتلال، والذين تم تجريدهم من ملابسهم، باستثناء الملابس الداخلية، وكانوا معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي خلف ظهورهم في منطقة جباليا شمال قطاع غزة. فقد لجأ الكاتب إلى تبرير ذلك من خلال نقل تعليق المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: "إن الرجال استسلموا للجيش، ونقوم بالتحقيق فيمن هو مرتبط بحماس ومن ليس كذلك. نعتقلهم جميعًا ونستجوبهم"، دون أي إشارة إلى أن هذا الأسلوب في الاعتقال هو مخالف للقوانين الإنسانية الدولية، ولا يختلف عن أسلوب النازية في اعتقال اليهود ووضعهم في مناطق مسيَّجة بشكل مهين. هذا فضلًا عن الروايات الكثيرة التي تحدثت عن قتل عدد من الأسرى وتعذيب آخرين.

ولم تكن تلك الأصوات الإعلامية التي تتماهى مع الخطاب الرسمي الإسرائيلي تتبنَّى الأسلوب المباشر وحده كما ذُكِر آنفًا، بل اتخذ هذا الخطاب أساليب أخرى تقوم على نقد الخطاب الرسمي، ولكن لتحقيق الهدف ذاته، وهو "لوم الضحية" وتبرير المجازر الإسرائيلية بالمنطق الذي يقبله الجمهور الإسرائيلي من جهة، ويُبرِّئ ساحة الاحتلال أمام الرأي العالمي من جهة أخرى. ويتضح ذلك فيما نشرته الكاتبة الإسرائيلية-الأميركية، أيالا كرامر (Ayala Kramer)، بموقع "جيروزاليم بوست"(29)، حول تجريد حركة حماس من البعد الإنساني؛ إذ خاطبت الرأي العام والمسؤولين في إسرائيل بضرورة عدم استخدام هذا الأسلوب، لأنه يُعفي الأطراف المتهمة من المسؤولية تجاه ما يحدث. وترى كرامر أن حماس تتحمل المسؤولية الكاملة لقيام إسرائيل بارتكاب المجازر في غزة؛ لأنها "تتخذ من المدنيين دروعًا بشرية". وتُبيِّن أن من الخطأ تجريد حماس من الإنسانية؛ لأن ذلك يُعفيها من المسؤولية. كما ترى أن تجريد إسرائيل من الإنسانية يضر بها، ويعطي ذريعة لدول العالم والمنظمات الدولية لعدم تقديم المساعدات لها. 

وعلى الرغم من أن هذا الخطاب استخدم البعد الإنساني بأسلوب يخاطب العقل، وأن ظاهره هو الدعوة إلى الالتزام بالمعايير الإنسانية في التعامل مع أطراف الصراع ونبذ أسلوب "التجريد من الإنسانية"، إلا أن نمط هذا الخطاب يسعى لإقناع الرأي العام بأن إسرائيل تُعد ضحية "الارهاب"، وأن حماس تستدرجها وتضطرها لقتل المدنيين وارتكاب المجازر بحقهم. إن هذا الخطاب يُبرِّئ إسرائيل بالكامل من المجازر والفظائع التي ترتكبها في غزة، ويحاول إقناع الرأي العام الغربي لتفهُّم سياسات الاحتلال، والتحريض على الضحية. ويجعل من المجرم بريئًا، ويحمِّل الضحية مسؤولية جرائمه بأسلوب "متلازمة لوم الضحية"، كما ذُكِر سابقًا، ويعكس ذلك حالة نفسية غير سوية لدى الاحتلال في التعامل مع الجرائم. وهذا المنطق يجعل جميع المجرمين أبرياء؛ لأن هناك دائمًا أسبابًا لارتكاب الجرائم، لكن لا يوجد سبب واحد يُبرِّر قتل الأطفال والنساء وارتكاب كل أشكال الإبادة الجماعية. فمثلًا، وبمنطق إسرائيل نفسه، نجد أن الاحتلال وحلفاءه يرفضون اعتبار احتلال فلسطين سببًا لعملية السابع من أكتوبر، خاصة قتل المدنيين الإسرائيليين، وهذا تناقض صارخ في توظيف المبررات(30).

وفي سياق استمرار التهرب من المسؤولية عن قتل المدنيين في غزة، واستخدام أساليب "لوم الضحية" والتبرير وتحويل الانتباه، ألقى السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة، جلعاد أردان، بالمسؤولية على حركة حماس التي تُعد في نظره "المسؤولة الوحيدة" عن الوضع الإنساني في غزة من دمار وقتل ومجاعة. فقد نشر موقع "تايمز أوف إسرائيل"(31) مقطعًا من كلمة أردان أمام مجلس الأمن قائلًا: "على المجلس أن يدعو حماس إلى وقف إطلاق النار إذا أرادت إنهاء القتال في غزة. لماذا لا يكون مشروع القرار هذا موجهًا إلى يحيى السنوار وإسماعيل هنية؟". وأشار أردان إلى "قادة الجماعة الإرهابية": "ألا تعرفون من المسؤول عن إنهاء وقف إطلاق النار السابق وإعادة إشعال الأعمال العدائية؟" ويستخدم أردان عبارات دينية للتأثير في مواقف أعضاء مجلس الأمن، والإيحاء بأن الأمم المتحدة "مُضَلَّلَة"، قائلًا: "أدعو الله أن نرى معجزة حانوكا أخرى هنا في الأمم المتحدة، وأن يسمح الله عز وجل بأن تسود الحقيقة والنور هنا في هذا المجلس".

جدول (3): خطاب الهيمنة والفوقية

أفعال المسؤولية

الجهات المسؤولة

المسؤولية على العنف

حماس

الشخصيات المسؤولة عن العنف

إسماعيل هنية (حماس)

يحيى السنوار (حماس)

الأعمال العدائية

حماس

الجهل

الأمم المتحدة

المعاني الضمنية:

- عدم المسؤولية عن العنف.

- عدم المسؤولية عن وقف إطلاق النار.

- المعرفة.

إسرائيل

إذا كان الخطاب الإسرائيلي يتهم بشكل واضح ممثلي المجتمع الدولي في مجلس الأمن بالجهل، وهي نظرة أيديولوجية استعلائية مبنية على مفهوم التفوق العرقي الذي يعتقد به اليهود (شعب الله المختار)، فإن الإسرائيليين يتجاهلون في خطابهم حقائق مهمة وبسيطة، ويدركها كل من يتابع الحرب، منها أن القصف الإسرائيلي العنيف هو الذي يتسبب بالمعاناة الإنسانية في غزة. ويتجاهل كذلك أن الفلسطينيين هم الذين يطالبون بوقف إطلاق النار بهدف حماية المدنيين ووقف المجازر المتواصلة، وهو ما تؤكده مفاوضات صفقة تبادل الأسرى؛ إذ ترفض إسرائيل الوقف الكامل والشامل لإطلاق النار بحجة أن ذلك سيسمح لحماس باستعادة قوتها وتهديد كيان دولة إسرائيل(32). لذا، فإن مطالبة أردان بتوجيه قرار الأمم المتحدة للفلسطينيين لوقف إطلاق النار هو قلبٌ للحقائق، وأسلوب للتضليل بتحميل المسؤولية للطرف الفلسطيني، وتبرئة الجانب الإسرائيلي من الجرائم التي ترتكب في غزة. ويتجنب الخطاب تمامًا الإشارة إلى رفض الإسرائيليين لكل العروض والمبادرات للانخراط في مسار يؤدي إلى وقف إطلاق النار. إن هذا الخطاب يقوم على افتراض سذاجة المتلقي بسبب السطحية والابتذال في أسلوبه؛ إذ لم يجد أي صدى في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إلا أن الصمت تجاهه من قِبَل المتلقين يمكن أن يُعزى إلى التواطؤ مع إسرائيل التي تحظى بغطاء كامل من الولايات المتحدة وبقية حلفائها الغربيين للمجازر في غزة التي تتم أمام العالم.

7. خطاب الإسقاط النفسي الدفاعي

الإسقاط هو شكل من أشكال الدفاع، يتم من خلاله نقل المشاعر غير المرغوب فيها إلى شخص آخر؛ إذ تظهر بعد ذلك تهديدًا من العالم الخارجي. يحدث الشكل الشائع من الإسقاط عندما يَتِّهِم فرد، مُهدِّدًا بمشاعره الغاضبة، شخصًا آخر بإيواء أفكار عدائية. فهي محاولة للتوصل إلى حلول وسط للصراعات النفسية التي لا يستطيع حلها بإلقائها على الآخرين(33). ويُستخدَم الإسقاط النفسي في الخطاب الإعلامي الدعائي؛ إذ يسعى المُخَاطِب إلى التنصُّل من الصفة السلبية ويتهم بها خصمه لشيطنته وتبرئة الذات. ويكون الدافع من وراء ذلك ليس فقط تحريض الناس على الخصم، بل تطهير النفس من الشعور بالإثم والخطيئة.

وقد تضمن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي أسلوب الإسقاط في مواطن كثيرة، وفي سياقات متعددة. ففي مفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2023 -وامتدت لعدة شهور وانخرطت فيها الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وحماس من جهة أخرى، بوساطة مصرية قطرية- ألقت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالمسؤولية عن تعثرها على حركة حماس أكثر من مرة بسبب تشدد إسرائيل، رغم أن الحركة وافقت على الصيغة النهائية للاتفاق، في مايو/أيار 2024. وتُلقي إسرائيل باللوم على حماس في تعثر الصفقة، وتُردِّد الولايات المتحدة الخطاب ذاته على لسان مسؤوليها. فقد حاول الخطاب الإعلامي الإسرائيلي تبرئة الذات الإسرائيلية وشيطنة الذات الفلسطينية، مستخدمًا أسلوب الإسقاط باتهام الطرف الآخر بالتشدد، وهو في الأصل السلوك الإسرائيلي تجاه المفاوضات وشروط الصفقة. ويظهر ذلك في التقرير الذي نشرته "جيروزاليم بوست"(34) بعنوان: "حماس ترفض التسوية الأميركية بشأن صفقة الرهائن ولا تُلبِّي المطالب". وفي العنوان الفرعي: "وافقت إسرائيل يوم السبت على التسوية التي اقترحتها الولايات المتحدة بشأن عدد السجناء الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم".

وقد استمر الخطاب ذاته طيلة فترة المفاوضات لتبادل الأسرى ووقف الحرب لعدة أشهر، ويظهر ذلك من خلال الرسائل التي يتضمنها العنوان، ومن أبرزها "حماس ترفض" مقابل "وافقت إسرائيل". ولكن بتفكيك هذه المسألة يمكن أن نتوصل إلى أن الولايات المتحدة، التي تُعد حليفًا إستراتيجيًّا لدولة الاحتلال وليست وسيطًا نزيهًا في الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، من البديهي أن تُقدِّم المقترحات التي تخدم إسرائيل. لذلك فإن أي اقتراح من قِبَل الولايات المتحدة لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار لن يكون لصالح حماس أو الشعب الفلسطيني، بل يهدف إلى منع الحركة من تحقيق أية مكاسب سياسية، وذلك استنادًا إلى المواقف الأميركية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي بشكل مطلق. لذا، فمن الطبيعي أن توافق إسرائيل على المقترح الأميركي، وأن ترفض حركة حماس هذه التسوية.

ويؤكد ملفوظ التقرير ما ذهب إليه الباحث؛ إذ جاء فيه أن "رد حماس يأتي بعد أن وافقت إسرائيل يوم السبت على التسوية التي اقترحتها الولايات المتحدة بشأن عدد السجناء الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم، وتنتظر رد الحركة الإرهابية". كما جاء في التقرير أن الولايات المتحدة -بعد امتناعها عن استخدام حق النقض ضد قرار مجلس الأمن بالوقف الفوري لإطلاق النار- "لا تزال تؤيد هدف إسرائيل المتمثل في هزيمة حماس". وكل ذلك يؤكد أن الولايات المتحدة ليست وسطيًا نزيهًا في مفاوضات تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس، وأن تحميل حماس المسؤولية عن تعثر المفاوضات هو أمر غير منطقي.

ولأن حركة حماس تشترط أن تستند أية صفقة إلى مبدأ وقف نهائي لإطلاق النار، الذي يقتضي بالضرورة وقف عمليات القتل والتدمير الممنهج المستمر لأكثر من عشرة أشهر، فإن الإعلام الإسرائيلي يستخدم أسلوب الإسقاط بهدف الشيطنة من جهة، ووضع حركة حماس في قفص الاتهام من جهة أخرى، باعتبارها "تُعطِّل صفقة التبادل". وبالطبع، لن يعترف الإعلام الإسرائيلي، ولا السياسيون، بالمسؤولية عن تعطيل الصفقة برفضهم لشروط حركة حماس؛ ما يعني إسقاط مواقفهم الحقيقية على الطرف الآخر(35). إن هذا الخطاب يعوزه المنطق؛ إذ يفترض أن الصفقة عادلة؛ لأن إسرائيل وأميركا وافقتا عليها، وليس لحركة حماس الحق في رفضها. وقد افتضح هذا الأمر عندما وافقت حماس على آخر صيغة للاتفاق، بينما رفضت إسرائيل هذه الصفقة.

8. سياسة تحويل الانتباه عن جذور الصراع والهروب إلى الأمام 

تستخدم إسرائيل وسائل متعددة لمواجهة الأزمة التي تمر بها نتيجة هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. فقد وصلت الأمور إلى درجة عالية من التعقيد؛ إذ وضعت أهدافًا للحرب عجزت عن تحقيقها. ورغم حجم القصف والدمار وعدد الضحايا في غزة، وحجم الاجتياح البري، فإنها لم تتمكن من القضاء على حماس وإطلاق سراح الأسرى، بل إن الأمور تزداد تعقيدًا أمام الجيش الإسرائيلي؛ إذ تزداد خسائره، ويعجز عن الإمساك بزمام الأمور على الأرض.

من هنا، تستخدم إسرائيل جميع الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية، وحتى "الإرهابية" التي تشمل استهداف المدنيين والعاملين في المنظمات الإنسانية والصحفيين والأكاديميين، وغيرهم، بالإضافة إلى منع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود إلى غزة، حتى وصلت الأوضاع إلى حافة المجاعة. ومن ضمن الأساليب التي تستخدمها إسرائيل أسلوب تحويل الانتباه والهروب إلى الأمام. تتحدث تارة عن حكم غزة وبناء مستوطنات بعد الانتهاء من الحرب، وتارة أخرى عن استئناف عملية التطبيع مع السعودية. وعبَّرت الكاتبة تشاما ميشتالي (Chama Mechtaly)(36) في مقال تحليلي نشرته "جيروزاليم بوست"، بعنوان "تفكيك حماس يتطلب التطبيع العربي الإسرائيلي: إن المزيد من التطبيع مع العالم العربي وفتح الطريق أمام حل الدولتين هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا"، جادلت الكاتبة بأن هناك تغيُّرًا كبيرًا في العالم تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأن ثمة اتجاهًا متصاعدًا نحو ضرورة إقامة دولة فلسطينية. وتشير ميشتالي إلى أن نتنياهو عارض هذا الاتجاه بقوة، واعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة يمثِّل تهديدًا وجوديًّا لدولة إسرائيل، وأن مثل هذه الدولة تُعد مكافأة لحماس على ما قامت به من "مجزرة" لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية. ويتضح أن الكاتبة تخالف نتنياهو في الرأي، وترى أن التطبيع الذي حدث بين الإمارات والبحرين والمغرب من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، يمثِّل ضمانة للاستقرار في المنطقة، وتحسين أوضاع الناس. ويرى الباحث في هذا الخطاب محاولة للنظر إلى الأحداث بصورة بانورامية تشمل الصراع بين التيارات الإسلامية في العالم العربي وبين الأنظمة العربية "المعتدلة" من جهة أخرى، التي يُنظر إليها على أنها تقف مع الاحتلال في معسكر واحد ضد "التطرف". وترى ميشتالي أن الجماعات الإسلامية المتشددة "اختطفت" الربيع العربي، الذي مثَّل إرادة المواطنين لتحسين أوضاعهم المعيشية، وأن البديل هو التطبيع الذي يُشكِّل تحالفًا لأنصار السلام والاستقرار والأمن في مواجهة القوى "المتطرفة" في المنطقة.

ويمثِّل مقال ميشتالي نموذجًا واضحًا لخطاب الهروب إلى الأمام، والعجز عن حل المشكلة وتركها عالقة، والانتقال إلى قضية أخرى، وكأن الأمر يتعلق بالتطبيع بين إسرائيل والدول العربية وليس قضية شعب يعيش تحت نير الاحتلال، الذي يعجز عن تحقيق أهداف حربه على غزة(37). وتعتبر ميشتالي أن استمرار الحرب من دون أهداف واضحة يجعل الوضع يقترب من مرحلة قد تضطر فيها الأنظمة "المعتدلة" إلى قطع العلاقات مع إسرائيل لتهدئة المشاعر المحلية واحتواء الغضب الإسلامي. وترى أن "شركاء إسرائيل العرب المعتدلين" يتصرفون بخفة، ويوازنون بين السماح بانتقاد التصرفات الإسرائيلية وإظهار التضامن الداعم للفلسطينيين، في حين يتواصلون أيضًا وراء الأبواب المغلقة مع إسرائيل، ويرون أن من "حقها الدفاع عن نفسها ضد حماس"، ويقاومون الدعوات المطالبة بإنهاء التطبيع. وتعتقد أن "تحقيق رؤية شرق أوسط جديد متكامل يعتمد على التعاون العربي-الإسرائيلي المشترك ضد التطرف الإيراني (...) الذي كان ولا يزال يُغذِّي المشاعر المؤيدة للفلسطينيين".

إن خطاب "الهروب إلى الأمام" يهدف إلى لفت أنظار الساسة الإسرائيليين إلى أهمية اتخاذ وجهة مختلفة عن الخيار العسكري من خلال توظيف العلاقات مع الدول العربية لحسم المعركة، دون إخلال بوحدانية الأهداف. ومن الوضح أن الكاتبة تسجل تقديرها لمواقف الدول العربية المطبِّعة وتلك التي لها علاقات دبلوماسية مع الاحتلال؛ إذ لم تقطع علاقاتها مع إسرائيل، وحتى لم تلوِّح بهذا الخيار رغم حجم الدمار والقتل الممنهج الذي يجري في غزة. ولذلك تراهن على الدور العربي للمشاركة في وضع تصور لنهاية الحرب، وفي مستقبل الوضع الفلسطيني والخريطة السياسية في المنطقة. كما أن هذا الخطاب، رغم استناده إلى المنطق مقارنة بخطاب التحريض والكراهية، يمثِّل محاولة لتقديم صورة طوباوية غير متصلة بالواقع، ويتجاهل بالكامل اتجاهات الشعوب العربية نحو حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة. فقد وقعت ميشتالي في تناقض صارخ؛ إذ تطالب من جهة بالتطبيع مع السعودية، ومن جهة أخرى تُقِرُّ بأن الشارع العربي يشهد غليانًا واحتقانًا ضد المجازر الإسرائيلية في غزة؛ ما قد يدفع الأنظمة "المعتدلة" إلى قطع العلاقات مع إسرائيل لتهدئة الغضب الذي يجتاح الشعوب العربية والإسلامية. فكيف يمكن للتطبيع أن يكون حلًّا للواقع المتأزم نتيجة الحرب؟! تُعد هذه الفكرة ضربًا من الوهم، رغم أن هناك جهودًا أميركية لإبرام صفقة تطبيع بين إسرائيل والسعودية خلال الحرب. ولكن هذه الصفقة قد تضيف المزيد من التأزم في الوضع القائم.

9. خطاب التشكيك والإنكار

تخضع المعلومات التي يبثها الإعلام الإسرائيلي للرأي العام المحلي والرأي العام الدولي بشأن الحرب على غزة إلى الرقابة العسكرية. لذلك تستند الإستراتيجية التواصلية لإسرائيل إلى السيطرة على تلك المعلومات من أجل تماسك الجبهة الداخلية، والحد من لجوء المتلقي الإسرائيلي إلى مصادر غير تلك التي تُعلنها وتسمح بها السلطات الإسرائيلية، فضلًا عن دور هذا الخطاب في السعي للهيمنة على الجمهور على المستوى الدولي.

من هنا، تلجأ إسرائيل إلى محاصرة المعلومات التي تصدر عن جهات تراها "معادية" لها من خلال التشكيك في تلك المعلومات، وفي مصادرها، وإنكار المعلومات التي يمكن أن تتسبب لها في الضرر. إن إستراتيجية الإنكار التي تُبْنَى على شيطنة الآخر وتجريده من صفاته الإنسانية، ومن ثم تحطيم صورته أمام الجمهور، وتجريده من المصداقية، تهدف إلى تعزيز الرواية الإسرائيلية. إن كل ما يصدر عن هذا الخصم (حماس) هو كَذِب؛ الأمر الذي يفتح المجال أمام إسرائيل لارتكاب الجرائم بحقه دون إعطائه الحق أو الفرصة للدفاع عن نفسه. وقد استمر الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في التشكيك في إحصائيات الشهداء والدمار في غزة من خلال أسلوب إسناد الإحصائيات لحركة حماس، أو الجهات التي تُتهم بأنها خاضعة لحماس، مثل حكومة غزة، أو وزارة الصحة في القطاع. ولأن الدول الغربية تُصنِّف حماس حركة "إرهابية"، فلن تكون مصدرًا موثوقًا للمعلومات وفق المنظور الإسرائيلي والأميركي وحلفائهما. وقد نشر موقع "تايمز أوف إسرائيل"(38) خبرًا عن عدد ضحايا الحرب، مستخدمًا عبارة "وزارة الصحة التي تديرها حماس"، وأن عدد القتلى وصل إلى 23.084 (حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة). فالعنوان يتضمن إشارة واضحة إلى عدم موثوقية الأرقام من خلال التركيز على أن وزارة الصحة تديرها حركة حماس. واعتبر الموقع أن الوزارة في غزة لا تفرق في إحصائياتها بين المدنيين والمقاتلين، وأنها تشمل كذلك القتلى جرَّاء الصواريخ الطائشة التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية في غزة، مشيرًا إلى أن إسرائيل قتلت 8500 مسلح فلسطيني، منذ شنَّت حربها للإطاحة بحماس، وأن هذه الحرب جاءت ردًّا على هجوم الحركة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والذي قُتل خلاله حوالي 1200 إسرائيلي واحتجز حوالي 240 "رهينة". ويلاحظ أن الإعلام الإسرائيلي لم يُقدِّم أي دليل على المعلومات التي وردت في الخبر، سواء فيما يتعلق بـ"الصواريخ الطائشة" أو عدد القتلى من المسلحين الفلسطينيين. ويتكرر هذا الخطاب في الإعلام الإسرائيلي من أجل تعظيم إنجازات الاحتلال، والتشكيك في إحصائيات الفلسطينيين بسبب أن وزارة الصحة تُدار من قبل حماس من وجهة نظر إسرائيل، مع التسليم التام برواية الاحتلال، بل إن الإعلام الإسرائيلي لا يعترف بإحصائيات الأمم المتحدة التي تطابقت مع إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية التي نشرت أعداد الضحايا، مشفوعة بالتفاصيل والأدلة.

إن فكرة الإنكار تنبع من الرغبة في الاستفراد بالرواية، والعمل على تحييد كل العوامل المؤثرة في الرأي العام المحلي والدولي وعزله عن الصورة التي يُقدِّمها الطرف الآخر. وهذا يمهد لقبول الجمهور لرواية الطرف الذي يمارس عملية الإنكار.

خاتمة

إن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي بات خطابًا نمطيًّا تقليديًّا يسعى للجمع بين خصائص واضحة ومحددة. ويُخفي الخطاب الدوافع الحقيقية للسياسة الإسرائيلية، فيما تفضح العبارات والمواقف تلك الدوافع. فمن ناحية، يستخدم الاحتلال الخطاب التبريري بشكل أساسي، وذلك لإعطاء شرعية لسياساته وجرائمه في قطاع غزة. ويُسهِم هذا التبرير في تشتيت الجمهور وتضليله، ويُدخله في دهاليز الشك والجدل، ويسلب الخصم فرصة إثبات روايته. كما أن الخطاب الإسرائيلي في ظل الحرب على غزة استند إلى البعد الأيديولوجي، واتسم بلغة الاستعلاء والغطرسة والغرور، وهي سمة واضحة في الخطاب الإسرائيلي الذي يعتمد بشكل كامل على القوة الاقتصادية والعسكرية للاحتلال، ويرتكز تمامًا على الدعم الأميركي والغربي، وتحديدًا في المجال السياسي والعسكري والاقتصادي. فالولايات المتحدة تمنح الاحتلال الغطاء الكامل لممارسة كل أشكال القتل والإبادة الجماعية في غزة؛ الأمر الذي يردع أي دولة في العالم عن التعرُّض لإسرائيل بأي شكل من الأشكال، ويُقدِّم لها الحصانة الكاملة من المساءلة أو العقوبة.

لقد استند الخطاب الإعلامي الإسرائيلي أيضًا إلى الرواية الرسمية التي تسعى إلى توحيد بنياته للحفاظ على الجبهة الداخلية، ومنع أية إمكانية لانقسام الرأي العام حول الحرب على غزة. ورغم الخلافات العميقة بين مكونات الجمهور الإسرائيلي، فإن توحيد الخطاب نجح إلى حدٍّ كبير في منع انهيار الإجماع الإسرائيلي على الاستمرار في الحرب.

وقد وظَّف الخطاب الإعلامي الإسرائيلي أساليب الهروب إلى الأمام، مثل السعي للتطبيع مع السعودية في ظل حالة من الغضب والاحتقان في الشارع العربي الذي يعيق مثل هذه الخطوة. كما وظَّف أسلوب المبالغة والتهويل في التحذير من أن حماس كانت ستجتاح تل أبيب في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. واستخدم أيضًا الانتقائية من خلال اقتباس عبارات وردت على لسان مواطنين فلسطينيين لإدانة حماس. كما استخدم الخطاب أسلوب التنصل من المسؤولية، وألقى باللوم على حركة حماس، واعتبر أن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول يُبرِّر للاحتلال شن الحرب على غزة بغض النظر عن حجم الدمار والقتل الذي نتج عنها. واستخدم الخطاب كذلك أسلوب الإسقاط من خلال اتهام حماس بمسؤوليتها عن الحرب، متجاهلًا أن صلب المشكلة هو الاحتلال.

نشرت هذه الدراسة في العدد الخامس من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) Teun Van Dijk, Society and Discourse: How Social Contexts Influence Text and Talk, (Cambridge: Cambridge University Press, 2009), 24.

(2) محمود سيد علي، علي السيد عجوة، "التحليل النقدي للخطاب الإعلامي: المفهوم، الأسس النظرية ومداخل التحليل"، المجلة العلمية لبحوث العلاقات العامة والإعلان، (جامعة القاهرة، كلية الإعلام، مصر، المجلد 3، العدد 24، ديسمبر/كانون الأول 2022)، ص 581-604.

(3) عباس محمد عبد الباقي، جمال الدين إبراهيم أحمد، "تحليل الخطاب في اللسانيات الحديثة: المقاربة التداولية نموذجًا"، مجلة العلوم الإنسانية والطبيعية (مركز الأبرار للأبحاث والدراسات الإنسانية، السودان، المجلد 2، العدد 10، أكتوبر/تشرين الأول 2021)، ص 130-149.

(4) توين فان ديك، الخطاب والسلطة، ترجمة غيداء العلي، ط 1 (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014)، ص 22-48.

(5) نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة طلال وهبة، ط 1 (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص 33-39.

(6) منية عبيدي، "موجهات الخطاب الإعلامي الغربي ومغالطات التغطية الإخباري للحرب الإسرائيلية على غزة"، الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام (مركز الجزيرة للدراسات، قطر، العدد 3، يناير/كانون الثاني 2024)، ص 239-252.

(7) Angela Hefti, Laura Jonas, "From Hate Speech to Incitement to Genocide: The Role of the Media in the Rwandan Genocide," Boston University International Law Journal, (Vol. 38, Issue. 1, 2020): 34-35

(8) "كيف تجنَّد الإعلام الإسرائيلي طوعًا في الحرب على غزة؟"، الجزيرة نت، 23 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2024)، https://tinyurl.com/3x3nef2w.

(9) Emma Graham-Harrison, Quique Kierszenbaum, "Journalists see their role as helping to win: How Israeli TV is covering Gaza war," The Guardian, January 6, 2024, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/mv7ea5s6.

(10) "Was Hamas’s attack on Saturday the bloodiest day for Jews since the Holocaust?," Times of Israel, October 9, 2023, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/mwzk7bt5.

(11) Eylon Levy, (@EylonLevy), "It’s no exaggeration to say yesterday was the darkest day in Jewish history since the end of the Holocaust," X, October 8, 2023, https://rb.gy/zak8se.

(12) فان ديك، الخطاب والسلطة، مرجع سابق، ص 22-48.

(13) "Gazan detained by IDF: We waited for you to free us from Hamas tyranny, our children are dying of hunger," Times of Israel, January 8, 2024, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/ye99jndv.

(14) "The goal was a massacre of Tel Aviv’: Hamas's full plan for October 7 revealed," The Jerusalem Post, March 26, 2024, "accessed July 4, 2024". https://rb.gy/3eb3d1.

(15) "Destroy Hamas, Strengthen Saudi Ties: Eisenkot's Vision for Post-War Israel," The Jerusalem Post, March 29, 2024, "accessed July 4, 2024". https://rb.gy/7tu1rd.

(16) "Security Council Demands Immediate Ceasefire in Gaza for Month of Ramadan, Adopting Resolution 2728 (2024) with 14 Members Voting in Favour, United States Abstaining," United Nations, March 25, 2024, "accessed July 4, 2024". https://rb.gy/57nns6.

(17) "Top Democrat Schumer Calls for New Elections in Israel, Saying Netanyahu is an Obstacle to Peace," apnews, March 14, 2024, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/ykjr4w4v.

(18) "Hamas is playing the West," The Jerusalem Post, March 28, 2024, "accessed July 4, 2024". https://rb.gy/bxs3xw.

(19) "Unintentional Killings of WCK Workers is Tragic, but Hamas is Still to Blame for War," The Jerusalem Post, April 4, 2024, "accessed July 4, 2024". https://rb.gy/quavle.

(20) عبيدي، "موجهات الخطاب الإعلامي الغربي ومغالطات التغطية الإخباري للحرب الإسرائيلية على غزة"، مرجع سابق، ص 248-252.

(21) نعيمة عبد الجواد، "طوفان الأقصى وسيناريو 1948"، القدس العربي، 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2024)، https://tinyurl.com/m234u5u3.

(22) تُعد "متلازمة لوم الضحية" ظاهرة نفسية اجتماعية يحاول فيها الأفراد أو المجموعات التعامل مع الأشياء السيئة التي حدثت للآخرين من خلال إلقاء اللوم على ضحية الصدمة أو المأساة. انظر:

"Blaming the Victim," American Psychological Association, April 19, 2018, "accessed July 4, 2024". https://shorturl.at/5ghcq.

(23) Seth Frantzman, "Moscow Mass Shooting and October 7 Massacre: Similarities and Differences," The Jerusalem Post, March, 3, 2024, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/yck5tr4t.

(24) "لا أدلة أو شهود.. مزاعم اعتداءات جنسية في 7 أكتوبر إلى طريق مسدود"، العربي، 20 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 1 أبريل/نيسان 2024)، https://tinyurl.com/5ejp2ayt.

(25) Emanuel Fabian, "IDF Says it Hit 450 Gaza Sites in a Day; 2 Soldiers Killed; Rockets Target Tel Aviv," Times of Israel, December 8, 2023, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/4jrrwy5z.

(26) "Israel's delegate to the United Nations: "We always knew that Ha*m*as was hiding in schools in Gaza, but we did not realize that at Harvard and Columbia universities as well," May 2, 2024, Instagram, "accessed July 4, 2024". https://shorturl.at/DQo3a.

(27) Naomi Klein, "We Need an Exodus from Zionism," theguardianf, April 24, 2024, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/mr89wkhb.

(28) "Israeli Envoy Tells UN that Hamas ‘Solely Responsible’ for Humanitarian Situation in Gaza," Times of Israel, December 8, 2023, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/yeytcazv.

(29) Ayala Kramer, "Dehumanizing Palestinians has Hurt Israel," The Jerusalem Post, March 26, 2024, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/3m4wzub6.

(30) توجد دراسات ومقالات مفصلة حول التبرير؛ إذ يرى البعض أن التبرير سلاح العاجز، ويعتبره آخرون علامة ضعف، وهو "عملية اختلاق أعذار لسلوك أو أفكار أو آراء لتحل محل الدوافع والأسباب الحقيقية، وأيضًا إخفاء الواقع والحقيقة بمبرر يقبله الفرد ويوافق عليه، دون أي رد فعل أو شعور بالذنب". للتوسع، انظر:

"Justification is the Excuse of the Weak," Islamweb, September 19, 2017, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/3h9t5tbn.

(31) "Israeli Envoy Tells UN that Hamas ‘Solely Responsible’ for Humanitarian Situation in Gaza," op, cit.

(32) "Netanyahu: Israel will not Agree to a Ceasefire ‘at any Price’," The Jewish Chronicle, February 21, 2024, "accessed July 4, 2024". https://tinyurl.com/7m9yf8fd.

(33) "Defense Mechanism," Britannica, July 10, 2024, "accessed July 10, 2024". https://tinyurl.com/ycyb872b.

(34) "Hamas rejects US hostage deal compromise, 'doesn't meet demands'," The Jerusalem Post, March 25, 2024, "accessed July 10, 2024". https://tinyurl.com/bdh74k9n.

(35) لقد سقطت الرواية الإسرائيلية والأميركية التي تتهم حماس بإفشال صفقة تبادل الأسرى، وأن إسرائيل قبلتها، وذلك عندما أعلنت الحركة قبولها بالصيغة الأخيرة للاتفاق بتاريخ 6 مايو/أيار 2024. فقد فوجئت إسرائيل بهذه الموافقة، وأعلنت رفضها للاتفاق. وسقطت الرواية الإسرائيلية عندما نقلت "وكالة أسوشيتدبرس" عن مصادر أن تعديلات طفيفة تم إجراؤها على النسخة الأخيرة من الاتفاق، و"أن التغييرات أجريت بالتشاور مع مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، وليام بيرنز، الذي تبنى المسودة قبل إرسالها إلى حركة حماس".

انظر: "وسائل إعلام أميركية تكشف عن أن واشنطن تبنت مسودة الاتفاق والأمر بيد إسرائيل"، الجزيرة نت، 7 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 8 مايو/أيار 2024)، https://tinyurl.com/3mde8m9e.

(36) Chama Mechtaly, "Dismantling Hamas requires Arab-Israeli normalization," The Jerusalem Post, March 31, 2024, "accessed July 10, 2024". https://tinyurl.com/5y2dmr4k.

(37) أحمد مصطفى، "المعارك السهلة والهروب إلى الأمام"، سكاي نيوز عربية، 9 سبتمبر/أيلول 2022، (تاريخ الدخول: 7 أبريل/نيسان 2024)، https://tinyurl.com/3uenedza.

(38) "Gaza Death Toll Climbs to 23.084: Hamas-run Health Ministry Says," Times of Israel, January 8, 2024, "accessed July 10, 2024". https://tinyurl.com/y4tfbecm.