أحزمة الصين المتعددة

تخوض الولايات المتحدة الأميركية الحرب التجارية، التي أطلقها الرئيس ترامب، من موقع دفاعي حمائي منفرد، بينما تخوص الصين هذه الحرب، متدرّعة بعدد من الأحزمة الجيو-اقتصادية والسياسية، التي تشكل قوة مضافة إلى قوتها الذاتية الصاعدة، التي باتت واقعًا لم يعد ممكنًا تجاوزه أو حتى احتواؤه.
(الجزيرة)

منذ يومه الأول بعد عودته إلى الحكم وبداية عهدته الثانية، أطلق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سلسلة من الإجراءات الحمائية بهدف تصحيح وضع الاقتصاد وخفض الدَّيْن الخارجي وإعادة التوازن لاختلال الميزان التجاري مع الكثير من دول العالم. ولأن تلك الإجراءات كانت شاملة، ومسَّت جميع الاقتصادات دون استثناء، فقد رأى فيها جل الدول حربًا تجارية غير مسبوقة وتهديدًا مباشرًا للاقتصاد العالمي. ولتخفيف آثار تلك "الصدمة" على الأسواق العالمية، قررت إدارة الرئيس ترامب، تأجيل تنفيذ الإجراءات التي اتخذتها، ومنحت شركاءها التجاريين، خاصة من الأوروبيين، تسعين يومًا للتفاوض بشأن الوصول المشترك إلى إقرار تعريفات "مناسبة". غير أن هذا التأجيل لم يشمل الصين، فردت بيجين بإجراءات مماثلة، ومضى البلدان في تصعيد الموقف ورفع متبادل للتعريفات الجمركية بلغ نسبة 145% من الجانب الأميركي و125% من الجانب الصيني.

وإذا كان مفهومًا أن تكون الصين هدفًا أساسيًّا لهذه الحرب، باعتبارها "العدو الشامل" للولايات المتحدة، فإن استهداف الأصدقاء والحلفاء التجاريين والإستراتيجيين، مثل كندا وبريطانيا وأستراليا واليابان وبلدان الاتحاد الأوروبي، يدعو للكثير من التساؤلات حول عقلانية هذه السياسة وجدواها ومدى خدمتها للمصالح الأميركية على المديين، المتوسط والبعيد. فالولايات المتحدة، وهي تخوض هذه المواجهة، سعيًا لتحقيق رؤية "أميركا أولًا"، تبدو خائفة مرتبكة، وتتحرك من موقع دفاعي حمائي، وتنظر إلى أصدقائها باعتبارهم أعباء على اقتصادها وأمنها وقوتها. في هذه الأجواء التي يغيب فيها اليقين، تبدو أميركا الترامبية تسير نحو العزلة، متحللة من التزاماتها الدولية ومن تحالفاتها الخارجية ومن أحزمتها الإستراتيجية التي شكَّلت، على مدى عقود طويلة، قوتها الحقيقية ومنحتها موقع القيادة والريادة العالميتين.

في المقابل، تخوض الصين هذه المواجهة، متدرِّعة بعدد من الأحزمة، تدور حولها وتعزز قوتها الصاعدة. فهدف الصين الأساسي، الذي تسعى لتحقيقه مع حلول العام 2049، وهو التاريخ الذي ستحيي فيه مئوية تأسيس الجمهورية، هو امتلاك ناصية "القوة الشاملة". ولن يتحقق ذلك في نظر القيادة الحالية، دون توحيد البر الصيني باستعادة تايوان، وتحقيق التفوق الاقتصادي النوعي، والريادة في مجال التكنولوجيات الفائقة، وامتلاك القوة العسكرية التي تمكِّنها من حماية حدودها وتأمين مصالحها المتنامية في الداخل والخارج. وامتلاك القوة الشاملة بهذا المعنى، لا يتحقق بالانكفاء على الذات ومراكمة الإجراءات الحمائية، بل بالمزيد من الانحراط في شؤون العالم والاندراج الواسع في نسيجه المتنامي.

الحزام والطريق

تتمدد مصالح الصين في الخارج بعدة أشكال، ولكن الرؤية التي تقود هذا التمدد وتضبط إيقاعه في سياق إستراتيجي واحد، تعكسها "مبادرة الحزام والطريق". فقد أطلقت بيجين، عام 2013، مشروعًا جيو-اقتصاديًّا ضخمًا يربط شرق العالم بغربه عبر شبكة من الطرقات البرية والبحرية، وبنية تحية متطورة من الطرق السريعة وسكك الحديد وأنابيب الطاقة والمعابر الحدودية ومناطق التجارة الحرة، لتسهيل تنقل البضائع والأموال. من خلال هذه المبادرة، التي تنطوي في بعض أبعادها، على رغبة في إحياء طريق الحرير القديم، تحدد الصين طبيعة دورها وحدود تأثيرها ونمط حضورها في العالم. فشبكة الحزام والطريق تربط الصين بأكثر من 150 دولة في شرق آسيا وغربها وفي أوروبا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وتمر عبر المحيطين، الهادئ والهندي، إضافة إلى جنوب الأطلسي، وتشكِّل فيها منطقة الشرق الأوسط حلقة رئيسية. تغطي هذه الشبكة مساحة جغرافية تضم أكثر من ثلثي سكان المعمورة، ويتجاوز مجموع ناتجها المحلي الخام 40% من الناتج العالمي، وتستقطب نصف قيمة التجارة الخارجية للصين.

رغم القيمة الاقتصادية لمبادرة الحزام والطريق، فإن أهميتها الحقيقية تكمن في كونها تعبِّر عن رؤية الصين الشاملة لمستقبل العالم. عالم تكون فيه بيجين قطبًا رئيسيًّا ومركزًا فاعلًا لا هامشًا تابعًا، وتحتل فيه موقعًا قياديًّا على جميع المستويات، وتشكل جزءًا ضروريًّا من نسيجه الاقتصادي والسياسي والأمني لا يمكن عزله أو الاستغناء عنه. غير أن مبادرة الحزام والطريق، على أهميتها، ليست هي الحزام الوحيد الذي يدور حول الصين ويعزز من قوتها الاقتصادية وتأثيرها السياسي. فثمة أحزمة أخرى من المنظمات الإقليمية والدولية والتحالفات الإستراتيجية التي تشكل روافع متعددة لصعود الصين قوة عالمية ضاربة. مثل ذلك، منظمة شانغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، التي شهدت في العام 2024 توسعًا لافتًا، خاصة تجاه منطقة الشرق الأوسط.

شانغهاي للتعاون

تأسست منظمة شانغهاي للتعاون في العام 2001، وضمَّت، حين تأسيسها، كلًّا من الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان. هذه المنظمة الأوراسية ذات طبيعة اقتصادية وسياسية وأمنية، وهي أكبر المنظمات الإقليمية على أكثر من صعيد، خاصة بعد توسعها وانضمام أربع دول أخرى، هي الهند (2017) وباكستان (2017) وإيران (2023) وروسيا البيضاء (2024). فامتدادها الجغرافي يغطي نحو ربع مساحة العالم، وعدد سكانها يتجاوز 40% من سكانه. أما الناتج المحلي الخام لمجموع أعضاء المنظمة فيبلغ 23% من الناتج المحلي الخام على مستوى العالم. إلى جانب أعضائها العشرة، تضم شانغهاي للتعاون عضوين مراقبين، هما منغوليا وأفغانستان، وتتمتع أربع عشرة دولة أخرى بوضعية "شريك حوار"، منها ست دول عربية، هي مصر والسعودية وقطر والإمارات والكويت والبحرين.

تدار المنظمة، على مستوى القمة، بمجلس رؤساء الدول، ثم مجلس رؤساء الحكومات، ومجلس وزراء الخارجية، وتنشط في إطارها شبكة متنوعة من الهيئات، مثل نادي الطاقة ومنتدى شباب شانغهاي وبرنامج التبادل الطلابي ومنتدى الأحزاب السياسية ومراكز الأبحاث، إضافة إلى عدد من مجموعات العمل المتخصصة. تعد الصين القلب النابض لمنظمة شانغهاي والمحور الذي تدور عليه، فهي لا تمنحها اسم إحدى مدنها وحسب، بل تعد الشريك الاقتصادي الأكبر لكل بلدانها. وتعمل منظمة شانغهاي في تناسق مع سياسة بيجين الخارجية، وتتكامل مع مبادرة الحزام والطريق، التي تنخرط فيها أغلب دول المنظمة. كما تشكِّل منصة متقدمة لاستعراض قوة الصين الاقتصادية وتأكيد وزنها العالمي.

مجموعة بريكس (بلس)

مجموعة بريكس، حزام جيو-اقتصادي آخر يدعم صعود الصين ويشكِّل قوة مضافة إلى قوتها الذاتية. وقد أصبحت المجموعة، التي تأسست عام 2009، وضمَّت في السابق كلًّا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، تشمل عشر دول، بعد توسعها في العام 2024 وانضمام مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات والمملكة العربية السعودية. ولا تزال المجموعة مفتوحة لضم المزيد من الدول، ولعب دور متزايد في إطار مواجهة الهيمنة الغربية، وتعزيز نسيج المنظمات الإقليمية والدولية، وتمهيد الطريق لنظام عالمي متعدد القطبية. ما يعكس أهمية المجموعة في خضم التحولات التي تشهدها العلاقات الدولية، وزنها الجيو-اقتصادي وحجمها الديمغرافي. فدولها تضم، حاليا، أكثر من نصف سكان العالم، وتمتد على ثلاث قارات، وتتمتع بقوة اقتصادية تناهز ربع حجم الاقتصاد العالمي.

تزداد أهمية مجموعة بريكس في ظل النقاش الجاري بشأن التخلص من هيمنة الدولار الأميركي الذي لا يزال يستحوذ على نحو 80% من التجارة العالمية. فدول المجموعة تسعى إلى تشكيل عملة بديلة وتسعير مبادلاتها التجارية البينية بعملاتها المحلية، كما تبحث سبل إنشاء سلة مشتركة من عملات أعضائها. وقد أنشأت في هذا السياق بنكًا مشتركًا للتنمية وصندوقًا احتياطيًّا للطوارئ، لتعزيز التعاون بين بلدان الجنوب العالمي، وفي مسعى لمنافسة مؤسستي البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، اللتين نشأتا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في إطار ترتيبات "المنتصرين" لخدمة مصالح دول الشمال الصناعية الغنية.

إلى جانب هذه الأحزمة المتعددة، تحيط الصين نفسها بشراكات إستراتيجية مع أكثر من 80 دولة، وتعد بيجين الشريك التجاري الأكبر لأهم الكتل الاقتصادية في العالم، مثل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي ومنظمة آسيان. وهي كذلك الشريك التجاري الأكبر لأكثر من 60 دولة، أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية وروسيا وأستراليا وجنوب إفريقيا والسعودية والبرازيل. ومع كونها ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، تُعد الصين، حسب إحصاءات 2024، المُصدِّر الأول للبضائع في العالم بقيمة ناهزت 3.58 تريليونات دولار، متجاوزة قيمة صادرات الولايات المتحدة التي تقدر بـ2.1 تريليون دولار.

تدرك بيجين جيدًا أن العالم يمر بتحولات كبرى، ويبدو أنها ترى في اللحظة الترامبية الراهنة فرصة تاريخية لشد أحزمتها وتعديل وتيرة سيرها في خضم جملة من المفارقات، أولها: أن ترامب، الذي يرغب في السير منفردًا، ويستهدف الجميع بسياساته الحمائية، لا يزعجها بقدر ما يربك أصدقاءه وحلفاءه. وثانيها: أن الصين، التي ارتبط اسمها بالانغلاق والحمائية، وظلت على مدى ألفي عام تبني حولها "سور الصين العظيم"، تجد نفسها اليوم في مقدمة القوى العالمية التي تقود حركة العولمة، التي ارتبطت بالغرب إلى حدٍّ كبير، وأسهمت الولايات المتحدة تحديدًا، في رسم مساراتها وفتح الأسواق أمام التجارة الدولية.

أخيرًا

يتوقف الأمر على الموقع الذي ينظر منه المرء إلى أحزمة الصين المتعددة؛ فهي، من جهة، تبدو كأنها تحتضن العالم وتضم بعضه إلى بعض بمنظومة من المنافع المشتركة. ومن جهة أخرى، تبدو كأنها تطوِّقه، وتشده إليها بشبكة من الحبائل التي يمكن أن تحوِّل تلك المنافع إلى ديون متراكمة في ظل الاختلال المتزايد والنمو غير المتكافئ لاقتصادات العالم. وبصرف النظر عن موقعنا وموقفنا من تلك الأحزمة، الأكيد أن ثمة شيئًا قد تغير في مزاج الصين وفي رؤيتها لذاتها وللعالم، كشف عنه موقفها الصلب في حرب التعريفات الترامبية، مفاده أن على أميركا أن تعترف بأن القوة الصينية باتت واقعًا لم يعد ممكنًا تجاوزه أو حتى احتواؤه، وأن على الصين أن تدرك، بالمقابل، حقيقة قوتها وأن تتصرف في العالم وفق هذا الإدراك.

نبذة عن الكاتب