
سيطرة الجيش الغابوني على الحكم في البلاد عازلًا الرئيس، علي بونغو أونديمبا، وإعلانه الاستيلاء على السلطة، وحل جميع مؤسسات الدولة، وإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخرًا، والتي أسفرت عن فوز الرئيس علي بونغو بولاية رئاسية ثالثة لمدة خمس سنوات. وتم اعتقال عدد من رموز النظام الرئاسي بتهم تتعلق بارتكاب الخيانة العظمى ضد مؤسسات الدولة، واختلاس أموال عامة ودولية.
وأعقب ذلك قيام الانقلابيين بتحديد الإقامة الجبرية للرئيس واعتقال أحد أبنائه بتهمة الخيانة. وكان بونغو قد حكم الغابون منذ 2009 خلفًا لوالده الذي تولى الرئاسة، 1967، وأمضى 42 سنة في الحكم.
لم تَعُد الثروات النفطية والتعدينية بالنفع على سكان الغابون البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، فثلثهم تقريبًا فقراء، وربما كان ذلك الفساد المنتشر والحكامة غير الرشيدة أحد أسباب الانقلاب العسكري غير الناجح الذي قاده كيلي أوندو أوبيانغ، في 7 يناير/كانون الأول 2019.
يعكس الانقلاب العسكري في الغابون نمطًا من الصراعات الحادة داخل عائلة بونغو؛ حيث إن قائد الانقلاب، أوليغي نغويما، ابن عم الرئيس المعزول؛ وقد ظل يحظى بعلاقات وثيقة بآل بونغو.
وكانت لنغويما علاقة قوية بالرئيس السابق، عمر بونغو؛ فقد عمل مساعدًا له حتى وفاته في عام 2009، وبعد تولي علي بونغو الحكم، أُوكِل إلى نغويما مهام دبلوماسية في المغرب والسنغال، لكنه عاد إلى الغابون وتولى منصب رئيس الحرس الجمهوري.
ما قبل الانقلاب العسكري: الخلفية القاتمة
يعد الغابون قصةً معقدةً من الاستقلال إلى الانقلابات العسكرية، فقد شهدت البلاد تحولات سياسية واضطرابات تمثلت في سياقات متنوعة ومتعددة. في 1960، نالت الغابون استقلالها من فرنسا، وتم انتخاب ليون امبا رئيسًا للبلاد. ومع ذلك، شهدت الفترة الأولى من الاستقلال اضطرابًا ملحوظًا.
وبعد مرور ثلاث سنوات على استقلال البلاد، أطيح بالرئيس امبا عبر انقلاب عسكري، لكن الرئيس امبا عاد للحكم بدعم فرنسي، ثم خَلَفَه عمر بونغو، الذي أسس نظامًا حزبيًّا حكم البلاد بقبضة من حديد، مستفيدًا من الثروات الهائلة التي تزخر بها الغابون، سواءً الموارد النفطية الكبيرة، فالغابون أحد أكبر منتجي النفط في إفريقيا وعضو في منظمة الأوبك، وكذلك الموارد الخام الأخرى التي تمتاز بها الدولة، وأبرزها الأخشاب؛ إذ تغطي الغابات نحو 90% من إجمالي مساحة الغابون(1).
بدأ علي بونغو حياته السياسية عام 1981؛ إذ شغل منصب وزير الخارجية، كما كان عضوًا في البرلمان ثم وزيرًا الدفاع قبل أن يصبح رئيسًا في عام 2009. ومن المعلوم أن عائلة بونغو يشملها الاتهام بقضايا تتعلق بالفساد والمحسوبية. لقد خلص تحقيق للشرطة المالية الفرنسية، في عام 2007، إلى أن عائلة بونغو تمتلك 39 عقارًا في فرنسا و70 حسابًا مصرفيًّا وتسع سيارات فاخرة تبلغ قيمتها الإجمالية 1.5 مليون يورو.
على أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الغابون باتت تعاني من تراجع ملحوظ؛ مما دفع الحكومة، عام 2018، إلى تبني حزمة من التدابير التقشفية تماشيًا مع خطة تنشيط الاقتصاد المعتمدة من صندوق النقد الدولي، والتي أُقرَّت لمعالجة التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا منذ عام 2020(2).
حاول علي بونغو في ولايته الأولى، ورغم افتقاده لنقاط القوة التي تمتع بها والده مثل الكاريزما والعلاقات الخارجية القوية، الدخولَ في مشاريع كبرى بهدف تحقيق ثورة اقتصادية كافية لإخراج المواطنين من حالة الفقر والبؤس، لكنه أخفق في ذلك، تمامًا كما أخفق في خلق صورة زعيم حقيقي للبلاد.
وبهذه الحصيلة المتواضعة، دخل الرئيس الغابوني غمار السباق الرئاسي من جديد، وقد أعيد انتخابه في رئاسيات 27 أغسطس/آب 2016؛ إذ ضمن ولاية ثانية مع فارق ضئيل على منافسه مرشح المعارضة الرئيسي، جان بينغ. وقد أثار إعلان النتائج أحداث عنف في البلاد بسبب اعتراض بينغ وأنصاره على النتائج وسط إثارة بعض الجهات في الداخل والخارج شكوكًا بنزاهة وشفافية العملية الانتخابية.
في أكتوبر/تشرين الأول 2018، تعرض علي بونغو لجلطة دماغية أضعفته بدنيًّا، وصار يعاني صعوبات كبيرة في الحركة والنطق، وبقي قرابة عام بدون ظهور علني. وفي تطور متوقع استطاعت الحكومة إجهاض محاولة انقلابية بقيادة قائد الحرس الرئاسي، في يناير/كانون الثاني 2019(3).
الانقلاب العسكري: الدوافع والمسببات
جاء الانقلاب في الغابون حلقة أخيرة للتوترات السياسية المتصاعدة على إثر إجراء الانتخابات الرئاسية التي شهدت استقطابًا حادًّا بين التحالف الحزبي الداعم لترشح الرئيس علي بونغو، وتحالف "البديل 2023" المعارض للرئيس والداعم للمرشح، أبرت أوندو أوسا، بعدما رفضت المعارضة نتائج الانتخابات التي أعلنتها الهيئة الوطنية للانتخابات بفوز الرئيس بونغو بولاية رئاسية جديدة.
لقد أثارت المعارضة، وبشكل مبكر، العديد من نقاط الاعتراض على المسار الإجرائي للانتخابات، بفعل ما اعتبرته تزويرًا ممنهجًا من جانب أنصار التحالف الرئاسي. وقد أثبتت هذه التوترات المبكرة أن إعلان فوز الرئيس علي بونغو بولاية ثالثة سيعيد إدخال البلاد في أزمة سياسية معقدة مشابهة لتلك التي وقعت فور إعلان فوز بونغو على جان بينغ في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. وتفاديًا لتكرار الأزمة، وضعت السلطات في الغابون تدابير وإجراءات استباقية قبل إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات النتائج الرسمية، في 30 أغسطس/آب 2023، كقطع خدمات الإنترنت والاستنفار الأمني(4).
وعقب الإعلان الرسمي عن فوز الرئيس بونغو بالانتخابات أقدم عدد من ضباط النخبة في الحرس الرئاسي على إذاعة بيان عسكري أعلنوا من خلاله إلغاء نتيجة الانتخابات وحل مؤسسات الحكم، وذلك تجنبًا لأي موجة جديدة من أعمال الاحتجاج العنيف. كما أعلنت المجموعة إغلاق حدود البلاد قبل أن تعود وتعلن عن فتحها.
وفي هذا السياق تم تعيين الجنرال بريس كلوتير أوليغي نغويما، قائد الحرس الجمهوري، ليتولى رئاسة اللجنة ومن ثم ممارسة مهام رئاسة البلاد فعليًّا خلال المرحلة الانتقالية، وهو الإجراء الذي مثَّل داعمًا رئيسيًّا لنجاح إجراءات الإطاحة بالرئيس بونغو(5).
وتتوافر مجموعة من العوامل المؤثرة التي ترتبط بحدوث الانقلاب العسكري، ويمكن إجمال هذه الأبعاد على النحو التالي:
أولًا: تدهور الحالة الصحية للرئيس
أُصيب الرئيس علي بونغو بجلطة دماغية، في عام 2018، وقد غاب عن المشهد السياسي حوالي عام. وقد استغلت الحاشية المحيطة بالرئيس تدهور الأوضاع الصحية للرئيس للقيام بأعمال منافية للقانون؛ إذ قاموا باستغلال سلطاتهم من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
وعقب الانقلاب العسكري، قام الجيش الغابوني باعتقال عدد من مستشاري الرئيس وتوجيه العديد من التهم إليهم، منها: تهمة الخيانة العظمى، واختلاس أموال عامة على نطاق واسع من قِبَلِ عصابة منظمة، والتزوير، وتزوير توقيع رئيس الجمهورية، والفساد النشِط، والاتجار بالمخدرات(6).
ثانيًا: تنامي السخط على نظام الحكم
وقد ظهر ذلك بسبب التعديل الدستوري الذي أقرَّته الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ؛ إذ سمح ذلك بتخصيص جولة واحدة للانتخابات، بدلًا من جولتين، وهذا ما رفضته المعارضة، وقد رأت أن هذا التعديل يهدف إلى تسهيل إعادة الانتخابات للرئيس الحالي، علي بونغو، على الرغم من إقرار التعديل بتخفيض عدد سنوات الولاية الرئاسية من 7 إلى 5 سنوات. فضلًا عن زيادة الصراع داخل عائلة بونغو، وذلك من خلال قيام ابن عم الرئيس المعزول، قائد الانقلاب، أوليغي نغويما، بالانقلاب عليه؛ إذ كان يحظى بثقة الرئيس علي بونغو، فعندما تولى الحكم، أوكل إليه مهام دبلوماسية في المغرب والسنغال، وكذلك تولى أخيرًا قائد الحرس الرئاسي.
وقد تأكد التشكيك في نزاهة ومصداقية الانتخابات، وذلك من خلال عدم وجود رقابة دولية لمتابعة الانتخابات الأخيرة، وتعليق بث وسائل الإعلام الأجنبية داخل الدولة للانتخابات، وقيام السلطات بإصدار قرارٍ بقطْع خدمة الإنترنت، وفرْض حظرٍ ليلي للتجوال في جميع أنحاء البلاد. فضلًا عن قيام مرشح المعارضة، ألبرت أوندو، بالإعلان عن عدم وجود أوراق تصويتية في مراكز الاقتراع، وعدم وجود قائمة تضم أسماء المرشحين للانتخابات، ووجود أسماء عددٍ من المرشحين المنسحبين من السباق الرئاسي على ورقة التصويت(7).
ثالثًا: تدهور الأوضاع الاقتصادية
بالرغم من تمتع الغابون بالعديد من الثروات النفطية، إلا أن ثلث سكانها يعيشون تحت خط الفقر، بسبب عدم قدرة الدولة على تنويع مصادر الإيرادات، والاعتماد بشكلٍ كبيرٍ على صناعة الوقود الأحفوري. وشهدت الغابون مؤخرًا ارتفاعًا هائلًا في معدل التضخم، بجانب ارتفاع معدل البطالة والفقر، فضلًا عن استشراء الفساد والمحسوبية في أوساط النخبة الحاكمة(8).
ردود الأفعال الإقليمية والدولية إزاء الانقلاب في الغابون
تنوعت ردود الفعل الإقليمية والدولية على الانقلاب في الغابون بين الإدانة والرفض والدعوة إلى العودة إلى النظام الدستوري، وكذلك بين الترحيب المشروط أو الحذر حيال إنهاء حكم استمر عقودًا.
أولًا: ردود القوى الإقليمية
أدان الاتحاد الإفريقي الانقلاب العسكري وعلَّق عضوية الغابون في مؤسساته كما فعل مع دول إفريقية أخرى شهدت انقلابات مؤخرًا كالسودان، ومالي، وبوركينا فاسو، وغينيا، والنيجر؛ إذ دعا الاتحاد الإفريقي إلى العودة إلى النظام الدستوري بأسرع وقت ممكن.
في ذات السياق، أعربت المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا عن قلقها العميق وعقدت اجتماعًا طارئًا لبحث التطورات، كما جمَّدت أنشطة الغابون موقتًا، وأنها أرسلت بعثة لتقصي الحقائق وعرض الوساطة. فيما يتعلق بدول الجوار، التزم أغلبها الحذر في تعليماتها، خشية من انتقال عدوى الانقلابات، واكتفت بالدعوة إلى ضبط النفس والحوار(9).
ثانيًا: ردود القوى الدولية
عبَّرت فرنسا عن قلقها إزاء تطور الأوضاع في الغابون لاسيما وأنها كانت مستعمرة فرنسية سابقة وتحتفظ بعلاقات عسكرية واقتصادية وثيقة مع باريس. وقد نددت بالانقلاب العسكري لكنها أيضًا انتقدت نقص الشفافية في الانتخابات التي سبقت الإطاحة بعلي بونغو. ويعكس الطموح الفرنسي بالتعاون مع المجلس العسكري الحاكم للحفاظ على نفوذها الذي تراجع في الساحل الإفريقي.
كما دعت الولايات المتحدة الأميركية إلى احترام إرادة الشعب الغابوني، وشدَّدت على ضرورة العودة للمسار الديمقراطي. وفي الجانب الآخر، التزمت الصين وروسيا الحذر ودعتا إلى الاستقرار والحوار؛ إذ تسعى الصين للحفاظ على مصالحها الاقتصادية الكبيرة في الغابون لاسيما في مجال صناعة النفط، فيما تسعى موسكو إلى ملء الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الفرنسي كما حدث في دول الساحل الإفريقي(10).
ماذا بعد انتخاب انغيما رئيسًا للغابون
أسفر الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد لدولة الغابون، في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عن الموافقة عليه بأغلبية كبيرة، ليصبح هذا المشروع هو الدستور الجديد للغابون رسميًّا، والذي من المقرر أن يدخل حيز التنفيذ عقب انتخابات رئاسة الجمهورية في 2025 لإنهاء الفترة الانتقالية التي تعيشها الغابون منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام بونغو. ورغم نسبة التصويت المرتفعة نسبيًّا لصالح مشروع الدستور الجديد، إلا أن هناك العديد من القضايا الخلافية التي كانت -ولا تزال- موضع انقسام سياسي واجتماعي كبير(11).
جرت الانتخابات بعد أن اتخذ المجلس العسكري سلسلة من التدابير والإجراءات لضمان الانتقال إلى مرحلة جديدة من الحكم، بما في ذلك إجراء إصلاحات دستورية، كتقييد فترة حكم الرئيس بولايتين اثنتين، ترفع مدة كل واحدة إلى سبع سنوات بعدما كانت خمس سنوات مع التأكيد على دورتين فقط.
كما تقضي بتحويل النظام إلى رئاسي بإلغاء منصب رئيس الوزراء، ومنع أفراد الأسرة من خلافة الرئيس في إشارة إلى رفض التوريث في الحكم، وذلك بالإشارة إلى رفض تجربة آل بونغو في الحكم مما أسهم في دفع عدد من المدنيين للانخراط بشكل فاعل في تأييد المجلس العسكري الانتقالي. فضلًا عن ذلك، قطع الدستور الجديد الطريق أمام الذين حصلوا على جنسيات دول أجنبية(12).
ثم إن بعض الشروط يبدو طبيعيًّا كشرط السن؛ إذ حدد عمر المترشح بأن يتراوح بين 35 و70 سنة، وحددت الكفالة المالية بـ48 ألف دولار أميركي.
ويبدو أن بعض الشروط موجه ضد أشخاص بعينهم، مثل شهادة الكفاءة اللغوية التي تفيد إتقان المرشح لإحدى اللغات المحلية بجدارة، وهناك شرط ينص على التخلي عن الجنسية الأجنبية قبل ثلاث سنوات بالنسبة لمزدوجي الجنسيات، فضلًا عن تقديم شهادة إقامة دائمة في الغابون طيلة ثلاث سنوات سابقة للانتخابات.
وقد اعتبر بعض المراقبين أن الإصلاحات التي شهدتها الغابون إبان حكم المجلس العسكري الانتقالي لا تعدو أن تكون تمهيدًا لتعبيد الطريق أمام الرئيس الانتقالي باعتباره الرجل القوي في الغابون، ليصبح رئيسًا شرعيًّا للبلاد، باعتبار ما حدث من تدابير وإجراءات يتماشى مع اشتراطات الشركاء الإقليميين والدوليين، من أجل عودة الغابون إلى الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيكاس(13).
رفضت المحكمة الدستورية 19 ملفًّا من أصل 23 يمثلون المرشحين للانتخابات الرئاسية؛ إذ اقتصرت على قبول ملفات أربعة مرشحين فقط، هم: برايس كلوتير أوليغي انغيما، قائد الحرس الرئاسي سابقًا ورئيس المجلس العسكري الانتقالي، وكلود بيلي باي نزيه، آخر رئيس وزراء في الغابون، وستيفان جيرمان إيلوكو، القيادي في الحزب الحاكم سابقًا الحزب الديمقراطي الغابوني، وأخيرًا المحامي جوزيف لابينسيه إيسيغون الذي يقدم نفسه باعتباره مرشح القطيعة مع النظام السابق. وتتسارع الخطى في ليبرفيل لإخراج البلاد من نادي دول الانقلابات، فهي المعروفة منذ الاستقلال بالاستقرار السياسي؛ ما جعلها قِبلة مفضَّلة للمستثمرين(14).
بإعلانه الفائز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في الغابون، 12 أبريل/نيسان 2025، لم يخرج الرئيس المنتخب، برايس أوليغي انغيما، عن العُرف الإفريقي في ارتداء الزي المدني رئيسًا شرعيًّا لبلاده بعد انتخابه.
كما تميزت الانتخابات بالهدوء على عكس ما كان سائدًا في انتخابات 2016 و2023؛ إذ انقطع الإنترنت وعاشت البلاد موجات من العنف والاضطرابات وصلت في بعض الأحيان إلى إطلاق الرصاص من قبل قوات الأمن لتفريق المتظاهرين. ويأمل الغابونيون أن تشكل هذه الانتخابات مرحلة حاسمة في القطيعة مع الممارسات التي كانت سائدة إبان حكم آل بونغو طيلة خمسة عقود، التي اتسمت بالفساد وغياب الحوكمة(15).
مآلات المشهد السياسي في الغابون
رغم النسبة الكبيرة التي تحصَّل عليها الجنرال برايس انغيما في نتائج الانتخابات، إلا أن بعض مرشحي المعارضة يشككون في نزاهة العملية الانتخابية، ويصفونها بالمهزلة التي لا تتوافق مع تطلعات شعب الغابون التي كان يصبو إليها بعد سقوط حكم نظام بونغو. ذلك أنه سرعان ما تحول الوضع الحالي مع نهاية المرحلة الانتقالية إلى نظام حكم ذي خلفية عسكرية، ثم تم تحويله إلى حكم مدني عن طريق انتخابات رمزية معروفة نتيجتها مسبقًا دون مزيد من التشويق أو المفاجآت، ولكن سيظل الجنرال برايس انغيما ورفاقه الذين دعموه للوصول إلى السلطة هم الفاعل الأكبر تأثيرًا في المشهد السياسي في الغابون خلال السنوات المقبلة(16).
هل يتجه الحكم في الغابون نحو الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ليدشن صفحة جديدة في تاريخ البلاد، أم هي مجرد مناورة يسعى من خلالها الجنرال برايس انغيما لاستنساخ نموذج للسلطة أشبه بنموذج بونغو؟ لذا نسعى من خلال السيناريوهات المتوقعة إلى معرفة مآلات الأوضاع في الغابون بعد انتهاء الفترة الانتقالية وانطلاق مرحلة جديدة.
السيناريو الأول: الانفراد بالحكم واستنساخ نموذج آل بونغو
ينظر العديد إلى الرئيس الجديد، برايس انغيما، على أنه امتداد لنظام أسرة بونغو، وبالتالي لا يمثل قطيعة حقيقية مع العهد البائد، ولن يحدث تغيير كبير في البلاد. وبالتالي يتخوف البعض من إعادة إنتاج السياسات القديمة التي أرهقت شعب الغابون بكافة طبقاته، وخاصة تلك السياسات المتعلقة بالعمل السياسي، خاصةً بعدما سمح قانون الانتخابات للعسكريين بالترشح في الانتخابات التشريعية والمحلية. ولهذا يتخوف البعض من أن يهيمن أنصار وأتباع الجنرال انغيما من العسكريين على المشهد الانتخابي خلال الفترة المقبلة، وتكوين برلمان موالٍ للنظام لا يعكس الطموح في التغيير.
ومع كل هذا فهنالك شعور لدى قادة الأحزاب السياسية في الغابون يتسم بالخوف على مستقبل بقاء الأحزاب التي ينتمون إليها، بعد احتمال قيام الجنرال انغيما بإعادة صياغة المشهد الحزبي في البلاد، ووضع قانون للعمل السياسي يتم بموجبه تقليص الأحزاب السياسية، وإنشاء أحزاب سياسية جديدة تكون لها الصدارة في المشهد السياسي.
ويتأكد هذا مع وجود تصريحات تشير إلى احتمال تحول منصة تجمع البنَّائيين (RDB) التي دعمت الجنرال انغيما خلال الانتخابات إلى حزب سياسي مهيمن على الساحة السياسية في البلاد، وهو ما سيضيق الخناق على أحزاب المعارضة، التي تتطلع إلى السماح لها بالمشاركة في المشهد السياسي(17).
السيناريو الثاني: الانفتاح السياسي وترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة
رغم فوز الجنرال برايس انغيما بالانتخابات الرئاسية مؤخرًا، إلا أن هناك بعض الإشارات الإيجابية؛ إذ حرص على التأكيد أن فوزه لا يعني استمرار منظومة أسرة آل بونغو، وإنما هو بداية جديدة تتضمن إصلاحات عميقة تستهدف بنية النظام السياسي.
وفي ذات السياق، طمأن الجنرال كل القوى السياسية والمجتمع المدني بالتزامه بإعادة تأسيس الحياة السياسية على مبادئ التعددية والشفافية وحرية العمل الحزبي والنقابي. كما أكد على ضرورة إطلاق حوار وطني شامل يجمع مختلف الأطراف السياسية والمدنية، بهدف التوصل إلى ميثاق سياسي يؤسس لديمقراطية مستدامة.
وتعهد كذلك بأن تكون حكومته المقبلة حكومة كفاءات وطنية عابرة للأحزاب والانتماءات، تسعى للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي(18).
السيناريو الثالث: عودة الانقلابات العسكرية
في ظل استمرار المخاوف من عدم حدوث قطيعة فعلية مع النظام السابق، وازدياد القلق بين النخب السياسية من تغول العسكر في الحياة السياسية، يبقى احتمال وقوع انقلاب عسكري خيارًا واردًا، لاسيما إذا فشلت الحكومة الجديدة في إدارة التوازنات السياسية والاجتماعية أو فرضت إصلاحات تقلص نفوذ العسكريين داخل أجهزة الدولة، أو الإقدام على محاكمات لبعض القيادات العسكرية المتورطة مع بونغو في قضايا فساد(19).
خاتمة
تعد الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخرًا في الغابون بداية لانطلاق مرحلة جديدة يسودها التفاؤل والأمل لدى قطاعات واسعة من الشعب الغابوني، رغم ما واجهته العملية الانتخابية من تحديات، أبرزها التشكيك في نزاهتها وضمان حقوق الأحزاب السياسية في التنافس العادل. وفي السياق ذاته، ستواجه الحكومة الجديدة، بقيادة الجنرال برايس انغيما، تحديات أخرى تتعلق بتنفيذ الإصلاحات الضرورية المرتبطة بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مثل ضمان حرية التعبير، وتوسيع المشاركة السياسية، ومكافحة الفساد والمحسوبية، بما يحقق تطلعات المواطنين نحو حكم ديمقراطي مستقر.
1) عطا المنان بخيت، الغابون، لماذا انهار عرش آل بونغو؟، الجزيرة نت، 3 مارس/آذار 2023، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/yjf786dw
2) تُنظر الإحالة:
Gabon :la justice française clôt l’enquête sûr les bien mal acquis de la famille Bongo , publié le 8 avril 2025 , vu le 16 avril 2025: https://tinyurl.com/yyrtscpp
33) المهدي الزايداوي، مزرعة آل بونغو: قصص الغابون المظلمة وغير المروية، الجزيرة نت، 12 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/3munvrr3
4) محمد الجزار، الانقلاب العسكري في الغابون: الأسباب والتداعيات، قراءات إفريقية، 30 أغسطس/آب 2023، (تاريخ الدخول: 18 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/43vtp28w
5) بدر حسن شافعي، انقلاب الغابون: الأسباب والمآلات، 3 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 21 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/yepdjcrn
6) شيماء ماهر، عدوى الانقلابات العسكرية: رؤية تحليلية للمشهد السياسي في الغابون، 3 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 22 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/rutxr656
7) محمد عادل عثمان، انقلاب الغابون: ما التداعيات والسيناريوهات المحتملة؟، 7 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/yprafyuk
8) انظر الموضوع:
Coup d’État au Gabon le général Brice Oligui Nguema nommé préside de la transition, publié le 30 août 2023, vu le 22 avril 2025: https://tinyurl.com/43k8uc2k
9) آفاق المشهد السياسي في الغابون بعد الانقلاب العسكري، تقرير موقف، مركز الإمارات للسياسات، 8 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/3hk3wzhz
10) حسام البقيع، لماذا سمحت فرنسا بانقلاب الغابون؟، 31 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2025)، https://rcssegypt.com/16606
11) محمد الجزار، دراسة تحليلية للقضايا الخلافية في دستور الغابون الجديد 2024، قراءات إفريقية، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 29 أبريل/نيسان 2025)، https://tinyurl.com/3ku6cw5z
12) تنظر الإحالة:
Gabon: pourquoi le projet de nouvelle construction fait débat, publié le 25 /10/2024, vu le 28/4/2025 : https://tinyurl.com/5xh8a3kz
13) تنظر الإحالة:
Au Gabon, un an après chute d’Ali Bongo, le général Brice Oligui Nguema prépare son maintien au pouvoir, publié le 30 août 2024, vu le 30 avril 2025: https://tinyurl.com/bdzhew3v
14) محمد طيفور، انتخابات الغابون: خطوة نحو الحكم المدني أم مناورة عسكرية؟، جيسكا، 2 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 30 أبريل/نيسان 2025)، https://search.app/6zf1YrAHak4ZKXCY7
15) المصدر نفسه.
16) محمد الجزار، دراسة تحليلية للانتخابات الرئاسية في الغابون، قراءات إفريقية، 28 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 30 أبريل/نيسان 2025)، https://search.app/HMEDzYWjxmpNWQfQ6
17) المصدر نفسه.
18) تنظر الإحالة:
Gabon : une victoire électorale et après ?, publié le 17/04/2025, vu le 30/04/2025: https://tinyurl.com/4tkwc996
19) المصدر نفسه.