صعود الدور الكيني إقليميًّا: العوامل والإستراتيجيات والتحديات

تعمل هذه الورقة على استكشاف العوامل الكامنة خلف هذا البروز الكيني والإستراتيجيات الموظفة من قبل نيروبي في هذا السبيل، لتختم بإلقاء الضوء على التحديات والصعوبات التي تعترض طريقها.
تراجع الرئيس الكيني ويليام روتو عن قانون الضرائب محاولة منه لاحتواء المعارضة (الفرنسية)

*شهد العقدان الأخيران صعودًا ملحوظًا في الدور الكيني الإقليمي حيث برزت كقوة محورية في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، مدفوعة بمزيج من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية مشفوعة برؤى سياسية واضحة حول إمكانات نيروبي الإقليمية وفرصها، بجانب تراجع ملحوظ في الدور الإثيوبي.

وفي إطار سعيها لتعزيز نفوذها الإقليمي حددت نيروبي عددًا من الإستراتيجيات التي كان من أبرزها دبلوماسية السلام والدبلوماسية الاقتصادية والدبلوماسية الرقمية كقاطرات لعملية تكامل إقليمي يكون لكينيا دور رائد فيه ويعود عليها بمكاسب اقتصادية وجيوسياسية.

تعمل هذه الورقة على استكشاف العوامل الكامنة خلف هذا البروز الكيني والإستراتيجيات الموظفة من قبل نيروبي في هذا السبيل، لتختم بإلقاء الضوء على التحديات والصعوبات التي تعترض طريقها.

أولًا: عوامل دافعة للدور الإقليمي لكينيا

أسهمت مجموعة من العوامل المترابطة والمتداخلة في الصعود الذي شهده الدور الكيني في السنوات الأخيرة، وأبرز هذه العوامل:

أ- الموقع الجيوسياسي الحساس

بفضل موقعها الجغرافي المُطل على المحيط الهندي وغير البعيد عن خليج عدن والبحر الأحمر تمتلك كينيا ميزة جيوسياسية مهمة، فهي تُمثِّل بوابةً حيويةً للتجارة بين إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأوروبا(1)، كما أن سهولة وصولها المباشر إلى طرق الشحن الدولية الرئيسية تؤهلها للتحول إلى جسر لوجستي واقتصادي محوري للتجارة الإقليمية والعالمية.

ومن زاوية جيوسياسية يمتلك ميناء مومباسا أهمية كبيرة باعتباره بوابة بحرية للعديد من الدول الحبيسة في وسط وشرق إفريقيا كأوغندا ورواندا وجنوب السودان وغيرها، وهو ما يمكن ترجمته إلى نفوذ لنيروبي على هؤلاء الجيران وعلى سلاسل الإمداد الإقليمية، كما أنه يسهِّل مبادراتها للتكامل الاقتصادي داخل التكتلات الإقليمية مثل مجموعة دول شرق إفريقيا.

ب- الاقتصاد الديناميكي

في مؤشر واضح على درجة التعافي التي بلغها اقتصاد كينيا من تداعيات جائحة كورونا يتوقع صندوق النقد الدولي أن تصبح كينيا أكبر اقتصاد في شرق إفريقيا عام 2025 مع تقديرات بلوغ ناتجها المحلي الإجمالي132  مليار دولار أميركي متجاوزًا توقعات إثيوبيا البالغة117  مليار دولار أميركي وهو ما يُمثّل تحولًا كبيرًا في التسلسل الهرمي الاقتصادي الإقليمي(2).

هذه الإمكانات لتحقيق نمو قوي تُعزى إلى عوامل، منها: استقرار كينيا السياسي النسبي، وسياساتها الاقتصادية، وما أظهرته من مرونة  وديناميكية في مواجهة التحولات الاقتصادية، ومنظومة تحويلات مالية قوية ومشاركة فاعلة من القوى النسائية العاملة، بحيث يُتوقع أن ينمو الاقتصاد الكيني بنسبة 4.7% في عام 2025، متجاوزًا المتوسط العالمي المتوقع بـ3.2%(3).

ج- الاستثمار في البنى التحتية

مثَّلت الاستثمارات الكينية في تطوير البني التحتية عاملًا رئيسيًّا في تعزيز دورها الإقليمي، وقد ساعد تطوير شبكات الطرق والسكك الحديدية والمطارات في دعم سلاسل الإمداد الإقليمية واللوجستيات والصناعات التصديرية.

يبرز في هذا المجال عدد من المشاريع الكبرى كالممر الشمالي (Northern Corridor) الذي يتكون من مجموعة من الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب والممرات المائية الداخلية التي تربط البلدان الحبيسة كأوغندا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية بميناء مومباسا الكيني، ويمر عبره ما بين 2000 و3000 شاحنة يوميًّا(4).

د- الاستقرار السياسي النسبي

حققت كينيا إصلاحات سياسية واقتصادية مهمة خلال العقد الماضي؛ مما أدى إلى نمو اقتصادي قوي وتنمية اجتماعية واستقرار سياسي. ومع ذلك، لا تزال البلاد تواجه تحديات تنموية رئيسية، كالفقر وعدم المساواة وبطالة الشباب ونقص الوظائف الجيدة والشفافية والمساءلة(5).
ووفقًا لمؤشر (ذا غلوبال إيكونومي) للاستقرار السياسي سجلت كينيا -0.94، في عام 2023 (على مقياس من -2.5 إلى 2.5، حيث الأعلى يعني استقرارًا أكبر)، ورغم أنه لا يزال أقل من المتوسط العالمي البالغ -0.06 فإنه يعد تحسنًا كبيرًا قياسًا بما أحرزته عام 2016 والبالغ -1.35(6).

الاستقرار النسبي الذي عاشته كينيا مقارنة ببعض جيرانها كان له دور في جذب الاستثمارات الأجنبية والتحول إلى مركز لوجستي لشرق إفريقيا، كما أنه أسهم في قدرتها على تفعيل بعض مبادراتها المتعلقة بجهود الوساطة في دول الجوار والمشاركة في قوات حفظ السلام، كما أنه حوَّلها إلى خيار مفضل للعديد من القوى الدولية كشريك مستقر في وسط بيئة مضطربة أمنيًّا وسياسيًّا.

هـ- الرؤية السياسية

تصاعد الدور الكيني في السنوات الأخيرة كان نتاجًا لسياسة مدروسة ومدعومة دستوريًّا، وقد كان تنشيط السياسة الخارجية لكينيا أحد الإنجازات البارزة التي حققها أوهورو كينياتا خلال فترتيه الرئاستين بين عامي 2013 و2022. ففي خطاب تنصيبه صرَّح كينياتا بأن حكومته ستعزز الروابط الإقليمية من خلال حرية تنقل الأشخاص والبضائع والاستثمارات، وشدَّد على أهمية تعميق العلاقات مع جماعة شرق إفريقيا وإفريقيا ككل(7).

كما أصدرت حكومته، عام 2014، أول وثيقة مكتوبة منذ الاستقلال تحدد ملامح السياسة الخارجية للبلادـ وكان من أبرز أهدافها تعزيز التعاون الإقليمي والقاري؛ وتعزيز المصالح الاقتصادية الكينية؛ وإحياء الوحدة الإفريقية؛ وتفعيل الدبلوماسية النشطة(8).

وتعد السياسات الحالية تطويرًا لنهج كينياتا ومحاولة لتخطي الإخفاقات التي وقع فيها، وقد أكدت وثيقة السياسة الخارجية رقم 1 لعام 2025 وضع نيروبي التكامل الإقليمي في صميم سياستها الخارجية، مع الالتزام بتعزيز التعاون ضمن جماعة شرق إفريقيا (EAC)، والهيئة الحكومية للتنمية (IGAD)، والاتحاد الإفريقي، مع التشديد على أهمية تعميق الروابط الاقتصادية والسياسية والأمنية مع دول الجوار، والعمل على تطوير بنية تحتية عابرة للحدود وتسهيل التجارة والاستثمار الإقليميين(9).  

و- العضوية في المنظمات الإقليمية

تعد كينيا عضوًا فاعلًا في العديد من المنظمات الإقليمية كالجماعة الاقتصادية لشرق إفريقيا (EAC) والهيئة الحكومية للتنمية (IGAD) والسوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (COMESA)، والتي تمنحها المنصات المناسبة لطرح مبادراتها المتعلقة بالتكامل الإقليمي وتفتح لها آفاقًا اقتصادية متنوعة.

تتيح عضوية كينيا في الإيغاد لها الفرصة للمشاركة في بناء الوساطات وتسوية النزاعات، ومن خلال عضويتها في جماعة شرق إفريقيا لعبت كينيا دورًا رئيسيًّا في انضمام كل من الكونغو الديمقراطية والصومال، كما استضافت نيروبي مقر قوة الاستعداد لشرق إفريقيا (EASF) ما منحها مركز قيادة للأمن الإقليمي.

ز- تراجع الدور الإثيوبي

لطالما اعتبرت إثيوبيا الدولة الأكثر تأثيرًا في القرن الإفريقي ودولة نافذة في شرق إفريقيا عمومًا مستفيدة من العديد من الميزات كالحجم والموقع وعدد السكان واحتضانها لمقر الاتحاد الإفريقي؛ حيث لعبت على الدوام دورًا مهمًّا في التطورات في جوارها كالسودان وجيبوتي والصومال والتي تشمل الالتزامات الأمنية والشراكات الاقتصادية ومفاوضات السلام(10).

غير أن التطورات السلبية التي شهدتها إثيوبيا في السنوات الأخيرة، والتي بلغت ذروتها في حرب تيغراي المدمرة، أضعفت موقف أديس أبابا الإقليمي وزادت الفجوة بين تطلعات البلاد ووسائل سياستها الخارجية. ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى إعادة تركيز الموارد على الاحتياجات المحلية(11) والتوتر الذي شاب علاقاتها مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

هذا التراجع الإثيوبي أتاح لكينيا التقدم فاعلًا رائدًا في المنطقة حيث عملت نيروبي على تأكيد نفسها زعيمة للسلام والأمن الإقليميين والقيام ببعض الأدوار الدبلوماسية والأمنية التي تخلت عنها أديس أبابا(12).

ح- الاستفادة من التوازنات الدولية

تعمل كينيا على الاستفادة من التوازنات الدولية وتقديم نفسها شريكًا موثوقًا لجذب الموارد والتقنيات من قوى عالمية كبرى كالصين والولايات المتحدة أو من القوى المتوسطة كالإمارات العربية المتحدة بما يصب في تعزيز نفوذها الإقليمي. 

وعلى سبيل المثال، تتمتع نيروبي بعلاقات قوية وطويلة الأمد مع الولايات المتحدة التي صنفتها، عام 2024، حليفًا رئيسيًّا غير عضو في حلف الناتو للولايات المتحدة؛ مما يسلط الضوء على مكانتها الإستراتيجية والدعم الذي تحظى به(13)، في حين تُعد الصين الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لنيروبي على مدى العقدين الماضيين(14)، وتتركز العلاقات بين البلدين بشكل أساسي على الاقتصاد، مع تمويل صيني كبير لمشاريع البنية التحتية الكبرى.

ثانيًا: إستراتيجيات تعزيز نفوذ نيروبي

في سبيل تعزيز نفوذها الإقليمي، اعتمدت كينيا عددًا من الإستراتيجيات، من أبرزها:

أ-دبلوماسية السلام

 وتتضمن مجموعة من المبادرات الإستراتيجية، ويأتي على رأسها:

 - الوساطات

انخرطت كينيا في دبلوماسية السلام، مستفيدةً من استقرارها السياسي النسبي وقوتها الاقتصادية للتوسط في النزاعات في الدول المجاورة وبسط نفوذها(15)؛ حيث تحوَّل الانخراط في الأمن الإقليمي إلى جزء محوري من سياستها الخارجية أكدته وثيقة السياسة الخارجية لعام 2025.

ومن خلال اعتمادها لدبلوماسية الوساطة والسلام ترمي نيروبي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، حيث ترسخ الوساطات مكانتها قوة دبلوماسية إقليمية، كما أن استقرار الجيران ينعكس إيجابيًّا على الأمن الكيني لجهة وقف تدفق اللاجئين وكبح مخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة. بجانب ما سبق، يدعم استقرار البيئة الإقليمية مصالح كينيا الاقتصادية، خاصة في مجالات التجارة والاستثمار والطاقة.

وقد برز الدور الكيني في مبادرات لتفكيك أزمات مختلفة كان من أبرزها مبادرة تميني للسلام في جنوب السودان، عام 2024، ووساطة رايلا أودينغا في نفس البلد، 2025، في جنوب السودان، وكانت نيروبي عضوًا في لجنة 3+1 التي سعت إلى حل النزاع في إقليم تيغراي الإثيوبي، كما استضافت المحادثات التي أفضت إلى توقيع اتفاق نيروبي الذي يمثل خارطة طريق تنفيذية لاتفاقية بريتوريا، وقاد الرئيس الكيني السابق، أوهورو كينياتا، عام 2022، "عملية نيروبي" التي تمكنت من جمع نحو 30 مجموعة مسلحة من شرق الكونغو.

- المشاركة في قوات السلام

تشارك كينيا بشكل فعال في عمليات حفظ السلام الإقليمية والدولية منذ ستينات القرن الماضي، وتتنوع دوافعها بين الاعتبارات الأمنية كحماية الحدود ومكافحة التهديدات الأمنية، والاقتصادية المرتبطة بتحسين بيئة الأعمال الإقليمية، كما تعزز هذه المشاركة علاقات نيروبي مع القوى الكبرى كالولايات المتحدة التي تمول المركز للتدريب على دعم السلام في نيروبي.

وقد نشرت كينيا قواتها في 44 عملية حفظ سلام حول العالم، وتحتل كينيا المرتبة 22 عالميًّا و13 في إفريقيا، مع مساهمات في بعثات الأمم المتحدة في جمهورية إفريقيا الوسطى ودارفور والكونغو الديمقراطية وليبيا ومالي والصومال وجنوب السودان، وخدم المسؤولون العسكريون الكينيون في أعلى مستويات القيادة لعمليات حفظ السلام في دول كأنغولا وليبيريا وليبيا وموزمبيق والصومال وجنوب السودان(16).

- مكافحة الإرهاب

تستند مشاركة كينيا القوية في جهود مكافحة الإرهاب إلى اعتبارات أمنية ملحَّة، ومصالح إستراتيجية واقتصادية، وطموحاتها في ترسيخ قيادتها في القرن الإفريقي، وقد تعرضت كينيا لمجموعة من الهجمات الإرهابية كهجوم جامعة غاريسا، 2015، وهجوم مركز ويستغيت التجاري، عام 2013.

بجانب ما سبق، يشكِّل الإرهاب تهديدًا لاستقرار الاقتصاد الكيني من خلال تعطيل السياحة، وردع الاستثمارات الأجنبية، وتهديد البنية التحتية الحيوية مثل الموانئ والممرات التجارية(17)، كما تُمثِّل مكافحة الإرهاب أداة لاستقطاب الدعم الدولي من دول كالولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، وقد بلغت المساعدات الأميركية لمكافحة الإرهاب في كينيا 400 مليون دولار خلال العقد الماضي(18).

وقد شاركت القوات الكينية في مقاتلة حركة الشباب في الصومال منذ غزوها للبلاد، في أكتوبر/تشرين الأول 2011، وقد تم دمج هذه القوات لاحقًا في بعثات الاتحاد الإفريقي بنسخها المختلفة في الصومال، وقد عززت هذه المساهمة صورة كينيا دولة استقرار ووسيطًا موثوقًا وشرطيًّا غربيًّا لمكافحة الإرهاب في المنطقة.

ب-الدبلوماسية الاقتصادية

منحت كينيا في السنوات الأخيرة الأولوية للدبلوماسية الاقتصادية، وقد تُوِّج ذلك بجعلها واحدة من الركائز الأساسية للسياسة الخارجية كما هو منصوص عليه في إطاري السياسة الخارجية الكينية لعامي 2014 و2025.

وضمن هذا الإطار فإن نهج "السلام من خلال التجارة"(19) هو تجسيد مباشر لذلك؛ حيث يُسعى إلى الاستقرار كوسيلة لفتح فرص تجارية أكبر للشركات الكينية، وهو ما يسمح لكينيا بإبراز نفوذها من خلال التجارة والاستثمار بدلًا من الاعتماد فقط على الوسائل العسكرية أو السياسية التقليدية.

وترتكز الدبلوماسية الاقتصادية في السياسة الخارجية الكينية على جملة أهداف، من بينها: زيادة تدفقات رأس المال إلى كينيا ومنطقة شرق إفريقيا، ودعم ترويج الصادرات والاستثمار من قِبل الشركات الكينية داخل المنطقة وخارجها، وتعزيز المجتمعات والمنظمات الاقتصادية الإقليمية لتكون بمنزلة منصات تنافسية للانطلاق إلى الأسواق الناشئة والعالمية(20).

وفي هذا الإطار، اعتمدت نيروبي على عدد من الإستراتيجيات، ومن أبرزها:

- شراكات تطوير البنية التحتية

تُعد استثمارات كينيا في البنية التحتية ركيزة لدبلوماسيتها الاقتصادية؛ إذ تعزز الربط الإقليمي وتجذب الاستثمارات الأجنبية، وتحتوي كينيا على العديد من الممرات الداخلية والإقليمية التي تسهِّل حركة البضائع والأشخاص، وتخفض تكاليف النقل وتقلل أوقات السفر، وهو أمر حيوي للتجارة والتكامل الإقليمي(21).

وفي هذا السياق، يعد ميناء مومباسا "جوهرة على خريطة الخدمات اللوجستية في شرق إفريقيا"(22)، وهو أكبر ميناء في شرق إفريقيا وثاني أكبر ميناء في إفريقيا، ويضم الكثير من المرافق ومنها 17 طريق شحن ويمكنه الاتصال بأكثر من 80 ميناء حول العالم. ويبلغ متوسط الطاقة الإنتاجية للميناء 1.3 مليون حاوية نمطية سنويًّا(23)، وهو منفذ رئيسي لتجارة عدد من الدول الحبيسة في المنطقة. 

ومن ضمن المشاريع الكينية الطموحة يبرز ممر لابسيت (LAPSSET) الذي تبلغ قيمته 25 مليار دولار ويربط كينيا بإثيوبيا وجنوب السودان عبر طرق وسكك حديدية ممتدة إلى ميناء لامو، ويهدف لجعل كينيا البوابة الرئيسية لشرق ووسط إفريقيا وتعزيز التجارة وأمن الطاقة.

- مبادرات التكامل الإقليمي

 باعتبارها عضوًا مؤسسًا في مجموعة شرق إفريقيا (EAC) والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (IGAD)، دعت كينيا باستمرار إلى تكامل أفضل لتعزيز نطاقها الاقتصادي في المنطقة.
وباعتبارها أكبر اقتصاد في EAC، تسهم نيروبي بفعالية في مبادرات من قبيل دعمها للدعوة إلى اعتماد سياسة التعرفة الخارجية الموحدة في تكتل شرق إفريقيا، كما لعبت نيروبي دورًا محوريًّا في انضمام الكونغو الديمقراطية إلى نفس المجموعة، في مارس/آذار 2022؛ مما ضاعف مساحة التجمع الاقتصادي الإقليمي وفتح سوقًا ضخمة تضم أكثر من 100 مليون نسمة أمام الشركات الكينية.

  • الاستثمار في دول الجوار

 وسَّعت الشركات الكينية حضورها الاستثماري في شرق إفريقيا بشكل إستراتيجي، معتمدة على خبرتها المالية والتكنولوجية واللوجستية لترسيخ مكانة كينيا قوة اقتصادية إقليمية. وتسهم هذه الاستثمارات في تعزيز النفوذ الجيوسياسي الكيني من خلال تعميق الاعتماد الاقتصادي المتبادل، وتشكيل السياسات الإقليمية، وجعل نيروبي مركزًا للتجارة والابتكار.

وتتنوع القطاعات التي تنشط فيها الشركات الكينية، وعلى سبيل المثال تمتلك مجموعتا Equity Group Holdings  وKCB المصرفيتان فروعًا في أوغندا وتنزانيا ورواندا وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية، في حين يعد بنك Equity BCDC ثاني أكبر بنك في الكونغو الديمقراطية بميزانية تبلغ 2.5 مليار دولار أميركي مع 74 فرعًا تخدم نحو مليون عميل(24).

ج- الدبلوماسية الرقمية

اتخذت كينيا العديد من الخطوات الإستراتيجية للتحول إلى المركز الرقمي الرائد في شرق إفريقيا، سواء على مستوى البنية التحتية كمشروع الطريق الرقمي السريع الهادف إلى مدِّ 100.000 كيلومتر من كابلات الألياف الضوئية وتركيب 25.000 نقطة اتصال واي فاي عامة(25)، أو من خلال الاستفادة من منظومات الشركات الناشئة في مجالات كالتكنولوجيا المالية، والتكنولوجيا الزراعية، والتكنولوجيا الصحية التي استطاعت، عام 2023، استقطاب القسم الأكبر من تمويلات بلغت 800 مليون دولار أميركي متجاوزة بذلك باقي الدول الإفريقية(26).

عززت هذه الإجراءات من التأثير الكيني في دول الجوار عبر إستراتيجيات منها دفع التكامل الرقمي الإقليمي حيث يهدف مشروع تسريع الاقتصاد الرقمي الكيني  (KDEAP) التابع للبنك الدولي إلى تعزيز قدرة كينيا على تحقيق هذا الهدف، وتوسيع نطاق الإنترنت عالي السرعة عبر الحدود، ومواءمة الأطر التنظيمية مع الدول المجاورة بما يعزز قدرة كينيا على قيادة التكامل الرقمي الإقليمي، مع تحقيق آثار إيجابية على البلدان الأخرى(27).

ثالثًا: تحديات

تواجه طموحات كينيا لزيادة نفوذها الإقليمي مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية، والتي يمكن حصر أهمها في التالي:  

أ-المنافسة الاقتصادية والتوترات السياسية: تشهد العلاقات بين دول مجموعة شرق إفريقيا أوجهًا مختلفة من التنافس البيني الذي يعوق عملية التكامل الإقليمي ويحد بالتالي من فرص استفادة كينيا منها.

وفي هذا السياق، تتحدى تنزانيا بشكل متزايد هيمنة كينيا الاقتصادية؛ حيث فقد ميناء مومباسا عشرة بالمئة من أعمال النقل لصالح ميناء دار السلام في تنزانيا، كما تشتد المنافسة بين الممر الشمالي الذي يمتد بين مومباسا وأوغندا ورواندا وبوروندي وشرق الكونغو الديمقراطية، والممر المركزي الممتد بين تنزانيا ورواندا وبوروندي وأوغندا وشرق الكونغو الديمقراطية، مع نقطة خروج ودخول في ميناء دار السلام(28).
كما تواجه المجموعة تحديات في تحقيق التكامل الإقليمي بسبب التوترات السياسية بين الدول الأعضاء، كالنزاعات بين أوغندا ورواندا، وورواندا والكونغو الديمقراطية، ورواندا وبوروندي بما يلقي بظلاله على فعالية المجموعة وعلى قدرة كينيا على تعزيز نفوذها من خلال هذه المنصة الإقليمية.

وعلى الرغم من أن كينيا من المتوقع أن تتجاوز إثيوبيا كأكبر اقتصاد في شرق إفريقيا بحلول عام 2025، إلا أن إثيوبيا تظل لاعبًا اقتصاديًّا مهمًّا مع ناتج محلي إجمالي كبير وتدفقات استثمار أجنبي مباشر، خاصة من الصين.

ب- عدم الاستقرار الإقليمي والتهديدات العابرة للحدود

تواجه كينيا مجموعة من التحديات الأمنية التي تهدد بقدر أو آخر محاولاتها لتعزيز نفوذها الإقليمي حيث تقع في قلب منطقة من أكثر بقاع العالم تعرضًا للنزاعات من حروب أهلية وحركات تمرد وإرهاب سواء في القرن الإفريقي أو في مجموعة شرق إفريقيا.

وبشكل مستمر، تنفذ حركة الشباب هجماتها داخل الأراضي الكينية وتنشط في استقطاب المجندين من معسكرات اللاجئين الصوماليين في كينيا؛ ما يلقي بظلاله السلبية على الاقتصادات المحلية(29)، في حين تُضعف الهجمات على بنى تحتية ذات بُعد إقليمي الثقةَ في قدرة نيروبي على حماية هذه المشروعات وتوفير ممرات آمنة للدول التي ستعتمد عليها، كما هي الحال مع ممر لامو الذي يجمع بين كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان(30).

من جانب آخر، تشكل الصراعات المسلحة المستمرة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية تهديدًا كبيرًا للاستثمارات الكينية طويلة الأجل، وقد أضر فشل التدخل الأمني الكيني (قوة شرق إفريقيا الإقليمية EACRF) في شرق الكونغو الديمقراطية بصورتها لدى الشعب الكونغولي ما قد يؤثر سلبيًّا على العلاقات الاقتصادية الحالية بين البلدين إذا ما اعتبرت النظرة السياسية والشعبية كينيا دولة معادية(31)، وهو ما يسلط الضوء على أن النجاح الاقتصادي لا يُترجَم تلقائيًّا إلى نجاح أمني أو سياسي سهل.

ج- الاضطراب السياسي الدوري والفساد

على الرغم من صورتها كنموذج للاستقرار تشهد كينيا توترات تتصاعد بشكل خاص خلال سنوات الانتخابات؛ مما يؤدي إلى اضطرابات مدنية وعنف وتعطيل الأعمال، ويؤثر على سمعتها كدولة مستقرة.

بجانب ما سبق، تعد التظاهرات العنيفة التي شهدتها البلاد، صيف 2024، نموذجًا لتأثير التحديات الاقتصادية الداخلية، من قبيل ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة الضرائب والفساد الحكومي المستشري، على سياسات الرئيس، ويليام روتو، حيث اضطرته إلى التراجع عن قانون الضرائب ومحاولة احتواء المعارضة(32).

ويُظهر هذا النوع من التحديات قابلية الاستقرار الكيني للتأثر الشديد بالديناميكيات السياسية والاقتصادية الداخلية، ويكشف عن مواطن خلل إن لم تتم معالجتها فستؤثر على قدرة نيروبي على بناء نفوذ إقليمي واستدامته.

خاتمة
بالاعتماد على ما تم تحليله في هذه الورقة من عوامل صعود النفوذ الكيني إقليميًّا، وأدواته، والتحديات التي تعترضه، تبرز الحاجة إلى بناء إستراتيجية متكاملة تعزز فرص نيروبي في ترسيخ مكانتها الإقليمية. ففي مواجهة التحديات الداخلية تزاد أهمية منح الأولوية لقضايا من قبيل مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وتحسين الحوكمة، فالاستقرار الداخلي يشكِّل حجر الزاوية لأي مصداقية خارجية، وهو الضامن الأساسي لفعالية السياسة الخارجية الكينية.

كما تقتضي المرحلة الراهنة من كينيا تبني نهج متكامل يوازن بين مصالحها الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية، بحيث تُصمم تدخلاتها الإقليمية بما يعزز المنفعة المتبادلة ويحدُّ من التصورات السلبية المرتبطة بالهيمنة أو التدخل، كما ظهر في التجربة الكينية في جمهورية الكونغو الديمقراطية. إن الحفاظ على صورة نيروبي فاعلًا بنَّاء يتطلب منها إعادة تأطير سياساتها الإقليمية في اتجاه يراعي حساسية السيادة والانفتاح على الشراكات المتوازنة.

في السياق ذاته، فإن تبني كينيا لسياسات تعاون مرن مع القوى الإقليمية الأخرى، كما في نموذج "المراسي المزدوجة" مع إثيوبيا، يمكن أن يعزز من قدرتها على التعامل مع قضايا الأمن الإقليمي بطريقة تشاركية وليست تصادمية.

 كما أن امتلاك كينيا لميزة تنافسية في الاقتصاد الرقمي والدبلوماسية التكنولوجية يفتح أمامها آفاقًا جديدة لتوسيع نفوذها وتعزيز مكانتها دولة إفريقية رائدة تستثمر في الابتكار، ليس فقط من أجل التنمية الوطنية، بل أيضًا لتعزيز مكانتها الإقليمية ضمن منظومة تتجه أكثر فأكثر نحو الاقتصاد المعرفي والحوكمة الرقمية.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- Simiyu, Tracy, Kenya: A Strategic Gateway for Exporters into Africa, Recovery Advisers, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/w4tva  

2- Odour, Michael, Kenya set to surpass Ethiopia as East Africa’s largest economy in 2025 – IMF, African news, 6/5/2025, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/2mzqp  

3- Mastercard, Mastercard Economics Institute’s 2025 Economic Outlook for Kenya: Steering through change, 11/3/2025, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/3huxh  

4- برنامج الأمم المتحدة للبيئة، بين ثنايا الجهود المبذولة الرامية إلى تنظيف أحد أكثر طرق النقل تلوثًا في إفريقيا، أغسطس/آب 2024، (تاريخ الوصول: 1 يونيو/حزيران 2025)، https://n9.cl/4ffgk 

5-World Bank Group, The World Bank in Kenya, 1/4/2025, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/eswdm  

6- The Global Economy, Kenya: Political stability, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/mbvy9  

7- Muliro, Wilfred, Uhuru Kenyatta failed to turn Kenya into as big an international player as he could – here’s why, The Conversation, 23/9/2025, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/fps2x  

 8 -  المصدر السابق.

9- The National Assembly, Sessional Paper NO.1 of 2025 On The Foreign Policy Of Kenya, April 2025.

10- Dizolele, Mvemba Phezo, Singo, Mwachofi & Wondimu, Hallelujah, Vying for Regional Leadership in the Horn of Africa.. Kenya and Ethiopia, Competitors or Partners? Centre for Strategic and International Studies, 24/2/2025, (Accessed: 4/6/2025), https://n9.cl/z7dbp

11- المصدر السابق.

12- المصدر السابق.

13- محمد علي، عبد القادر، لهذه الأسباب تعتزم واشنطن تصنيف كينيا حليفًا رئيسيًّا من خارج الناتو، الجزيرة، 6 يونيو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2025)، https://n9.cl/uqofq 

14- Pollichieni, Luciano & Caprara, Giovanni, The exploitation of geopolitical competition for the development of Kenyan connectivity, Luiss School of Government, May 2024.

15- Centre for Strategic and International Studies, Kenya's Emergence as a Regional Power, 26/2/2025, (Accessed: 2/6/2025), https://n9.cl/z7dbp  

16- Dizolele, Mvemba Phezo, Singo, Mwachofi & Wondimu, Hallelujah, Vying for Regional Leadership in the Horn of Africa.. Kenya and Ethiopia, Competitors or Partners?

17- Sidi Kazungu, Conny, The Strategic Importance of Kenya in the Fight Against Terrorism in the Horn of Africa -- Evaluating Counterrorism Measures in Kenya, Howard H. Baker Jr. Center for Public Policy, March 2018.

18- Dizolele, Mvemba Phezo, Elebe, Nick, Kenya and the Democratic Republic of the Congo- Where Is the Security Partnership? , Centre for Strategic and International Studies, 26/2/2025, (Accessed: 3/6/2025), https://n9.cl/4kyh0

19- Dizolele, Mvemba Phezo, Singo, Mwachofi & Wondimu, Hallelujah, Vying for Regional Leadership in the Horn of Africa, Centre for Strategic, and International Studies, 24/2/2025, (Accessed: 2/6/2025),

20- Irungu, Eric J., The Role of Kenya’s Economic Diplomacy in Enhancing Economic Resilience in the East African Community (EAC) Region, The International Journal of Research and Scientific Innovation, 4/2/2024, https://n9.cl/eikyhp  

21- African Development Bank Group, Regional corridors are the way for faster integration, Adesina tells Kenyan ambassador, 24/2/2025, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/hc6pk

22- New China, Album: Mombasa Port -- a pearl on East Africa's logistics map, 14/1/2017, (Accessed: 1/6/2025), https://n9.cl/7y9vwx  

23- سي جي تي إن، ماذا يحدث حاليًّا مع مشاريع التعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق والتي اتهمتها وسائل الإعلام الغربية بأنها "فخ ديون"؟: ميناء مومباسا في كينيا، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2025)، https://n9.cl/l753z

24- EQUITYBCDC, About EquityBCDC, (Accessed: 3/6/2025), https://n9.cl/sfwh0  

25- International Trade Administration, Kenya Country Commercial Guide, Digital Economy, 18/9/2024, (Accessed: 4/6/2025), https://n9.cl/v72re9  

26- المصدر السابق.

27- World Bank Group. Kenya and the World Bank Group Provide a $390 Million Boost the Digital Economy, 5/4/2023, (Accessed: 4/6/2025), https://n9.cl/l6ai6  

28- The Star, Kenya-TZ port rivalry fostering regional trade barriers – official, 21/6/2023, (Accessed: 12/6/2025), https://n9.cl/wb8iw  

29- Gakuo Mwangi, Oscar, Five reasons why militants are targeting Kenya’s Lamu county, The Conversation, 14/02/2022, (Accessed: 12/6/2025), https://n9.cl/ggqy7

30 - الجزيرة، هل يجهض تنظيم القاعدة طموح كينيا الاقتصادي بالمحيط الهندي؟، 10 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 12 يونيو/حزيران 2025)، https://n9.cl/lsdwn 

31- Dizolele, Mvemba Phezo, Kahombo, Balingene & Ocheing, Baverly, Kenya’s Economic Initiatives in the Democratic Republic of the Congo, Centre for Strategic and International Studies, 21/2/2025, (Accessed: 12/6/2025), https://n9.cl/sibwz  

32- Congress.Gov, Kenya: Current Issues and U.S. Relations, 23/4/2025, (Accessed 12/6/2025), https://n9.cl/culmy3