الجهاديون "الفلان" في مالي والسناريوهات المحتملة

تحاول هذه الورقة الوقوف على الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل عموما ومالي خصوصا، في سياق تجذر الصبغة العرقية لبعض الحركات الجهادية وتفاقم هذه الهجمات وتوسع خريطتها، ووصول تهديداتها إلى مشارف دول الجوار كالسنغال وموريتانيا وساحل العاج وبنين.
جنود ماليون في قافلة عبر الصحراء إلى مدخل كيدال شمالي البلاد (رويترز)

مقدمة

مرّ أزيد من ربع قرن منذ عرفت جمهورية مالي بداية تمركز الحركات الجهادية على أراضيها، وذلك بعد لجوء القيادي السابق في "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" الجزائرية "المختار بلمختار" الملقب "بلّعور" إلى منطقة "أزواد" في الشمال المالي منتصف عام 2000، إثر معارك طاحنة مع الجيش الجزائري قرب الحدود بين البلدين، إذ قرر أن يستقر فيها مع رجاله ويجعل منها قاعدة لتجنيد وتدريب المقاتلين، والاحتفاظ بالرعايا الغربيين الذين يتم اختطافهم من دول المنطقة، فضلا عن اتخاذها منطلقا لترتيب وشن هجمات عنيفة في البلدان المجاورة، مثل الجزائر والنيجر وموريتانيا وبوركينافاسو، فضلا عن تنفيذ هجمات وعمليات اختطاف داخل الأراضي المالية.

وخلال عِقد من الزمن، تضاعف عدد تلك المجموعة عدة مرات، وتفرعت عنها تنظيمات جهادية وتأسست أخرى، حتى غدت منطقة أزواد في الشمال المالي الأكثر خطورة في الساحل، لكن سيطرة الأجانب ظلت هي السمة الغالبة على تلك الجماعات، خصوصا من طرف القادة الجزائريين والشرعيين الموريتانيين، رغم وجود أعداد كبيرة من المقاتلين الماليين فيها، حتى كان العام 2011.

بعد سقوط نظام العقيد القذافي في ليبيا وتدفق الأسلحة الليبية إلى الشمال المالي، ظهر أول تنظيم جهادي محلي ذي طابع عرقي ـ قبلي في مالي، وهو تنظيم "أنصار الدين" الذي أسسه الزعيم الطارقي "إياد أغ غالي" المكنى "أبو الفضل"، وضم عشرات المقاتلين من قبائل الإفوغاس الطارقية التي تنتشر في منطقة "آدرار الإفوغاس" شمال شرق البلاد(1). ثم التحق به مقاتلون من قومية "الفلان" في ولايتي "موبتي" و"سيكو" وسط البلاد مطلع عام 2013 أثناء سيطرته -مع تنظيمات جهادية أخرى- على مدن الشمال، ليشكلوا بذلك نواة لتنظيم جهادي عرقي آخر سيكون له شأن كبير في الساحة المالية ويشكل تهديدا جديا لباقي دول المنطقة، ويتعلق الأمر بتنظيم "كتائب ماسينا" الذي أعلِن عن تأسيسه مطلع عام 2015، على يد الزعيم الديني والداعية الفلاني "حمادو كوفا"(2)، ويرتبط مع "أنصار الدين" ببيعة مشتركة لأميرهم "إياد أغ غالي"، ثم أعلن لاحقا الاندماج مع عدد من الجماعات الجهادية التي تنشط في مالي (أنصار الدين، المرابطون، إمارة الصحراء) في تنظيم موحد تحت قيادة "إياد أغ غالي" تحت اسم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم القاعدة، وذلك في مارس/آذار 2017(3).

شعار مظلومية "الفلان"

عمدت "كتائب ماسينا"، المؤلفة من مقاتلين من قبائل "الفلان" المنتشرة في وسط مالي، فور تأسيسها إلى استراتيجية لم تكن معهودة لدى التنظيمات الجهادية من قبل، وهي رفع مظلومية ذات طابع قومي، وتتعلق بشعب "الفلان" كقومية إفريقية تعتبر نفسها مضطهدة في منطقة غرب إفريقيا عموما، وفي جمهورية مالي خصوصا. وقد عمد زعيم التنظيم الجديد "حمّادو كوفا" في خطاباته ورسائله المصورة والمسموعة التي يتم توزيعها على نطاق واسع محليا وإقليميا، إلى مخاطبة مجموعات "فولبي" (الاسم المحلي للفلان) في جميع أنحاء غرب إفريقيا، وحثِهم على الالتحاق بصفوف المقاتلين الجهاديين، وهي الدعوات التي آتت أكلها خلال سنوات قليلة؛ إذ باتت "كتائب ماسينا" -أحدث الجماعات الجهادية ظهورا في مالي- أسرعَ التنظيمات الجهادية نموا وتوسعا، حتى إن فروعها وكتائبها امتدت خلال السنوات الماضية إلى دول الجوار مثل بوركينافاسو والنيجر وساحل العاج وبنين والتوغو(4)، واستطاعت تجنيد آلاف الشباب من الرعاة وطلاب المدارس الدينية الأهلية، وتنفيذ هجمات عنيفة في تلك البلدان، لتصبح القوةَ الضاربة الأولى "لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، التابعة "لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في منطقة الساحل والغرب الإفريقي.

وأمام هذا النمو السريع، بدأت "كتائب ماسينا" توسيع المجال الجغرافي لضرباتها وتنويعها في عمق الأراضي المالية وفي جوارها، تساعدها في ذلك "إمارة الصحراء" ذات المكون المختلط من الطوارق والعرب والأجانب، من خلال تنفيذ هجمات ضد القوات المالية في ولايتي تمبكتو وتاودني في شمال غرب البلاد، و"إمارة غاوا الإسلامية" (المرابطون سابقا) التي تضم مقاتلين من العرب وبعض الطوارق والأجانب، في الشق الشمالي الشرقي من البلاد، وتحديدا في "غاوا" و"منيكا" و"غورما"، وهي مناطق متاخمة لمسرح عمليات "كتائب ماسينا" في الوسط، وفي غرب وشرق البلاد(5).

استراتيجية خنق المدن

غير أنه من اللافت للانتباه أن مقاتلي "الفلان" في جماعة "كتائب ماسينا" وحلفاءهم في باقي مكونات "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، ورغم قدرتهم على دخول عدد من المدن المالية والتجمعات السكانية الكبرى في وسط مالي وشمالها وشرقها وغربها، والسيطرة عليها بشكل كامل، اختاروا هذه المرة الاستفادة من تجربة الحركات الجهادية التي سبق أن سيطرت على مدن الشمال المالي عام 2012؛ إذ واجهت تلك الجماعات بعض الاستحقاقات والتكاليف التي لم تكن مؤهلة للقيام بها، من قبيل تسيير الشأن اليومي لسكان المدن التي تقع تحت سيطرتها، وتوفير رواتب للموظفين في مجالات الصحة والخدمات الأساسية، وتأمين حاجيات الأسواق من البضائع والسلع وغيرها، فضلا عن أن سيطرتها على تلك المدن شكلت حافزا للقوات الفرنسية التي أطلقت عملية "سرفال" ضدها مطلع عام 2013(6)، وقوات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، التي شنت هي الأخرى هجمات عنيفة على مقاتلي المجموعات الجهادية بغية إخراجهم من تلك المدن وملاحقتهم حتى سلسلة جبال "تغرغارت" في أقصى شمال شرق البلاد(7).

أما اليوم فالوضع يختلف تماما، إذ تبدو السيطرة على المدن في وسط مالي وشمالها أسهل وأقرب إلى الواقعية مما كان عليه الوضع عام 2012، فالقوات الفرنسية غادرت الأراضي المالية بعد طردها من قبل نظام الجنرال "عاصيمي كويتا" الحاكم العسكري لمالي. كما أن قوات "الإيكواس" من غير المرجح أن تعود للتدخل من جديد بعد مغادرتها الأراضي المالية وانسحاب مالي من المنظمة. وحتى القوة الموحدة لتجمع الدول الخمس في الساحل (مالي، موريتانيا، النيجر، تشاد، بوركينافاسو) والتي أنشئت أصلا بتعداد قوامه خمسة آلاف جندي واتخذت من مدينة "سيفاري" بولاية "موبتي" وسط مالي مركزا لقيادتها، اندثرت ولم تعد موجودة بعد تفكك هذا التجمع وانسحاب الحكومة المالية منه عام 2023 إلى جانب بوركينافاسو والنيجر. كما تعطل نشاط قوة "مبادرة أكرا" التي تأسست عام 2017 لمحاربة الجماعات المسلحة في المنطقة، وانضمت إليها جمهورية مالي بعد تأسيسها، وانسحبت قوات الأمم المتحدة (المنيسما) التي كانت ترابط في مدن شمال ووسط مالي منذ عام 2013، قبل أن يغادر آخر جنودها الأراضي المالية مطلع عام 2024 بناء على قرار من مجلس الأمن الدولي بطلب من حكومة باماكو(8).

أما جيوش "تحالف دول الساحل" الذي تأسس حديثا ويضم إلى جانب مالي كلا من بوركينافاسو والنيجر، فتبدو مشغولة بمحاربة الجماعات الجهادية على أراضيها، وتواجه ضعفا وانهيارا غير مسبوقين، وبالتالي فإن أي حديث عن دور حاسم لها في محاربة الجهاديين في مالي غير وارد على الإطلاق، والقوات الروسية من "فاغنر" إلى "الفيلق الإفريقي" لا تشكل أي تهديد جدي للجماعات الجهادية قياسًا على التهديد الذي شكلته القوات الفرنسية والإفريقية حين كانت منتشرة في مالي ودول مجاورة وأخرى قريبة مثل النيجر والسنغال وتشاد، مع التذكير بأن التركيز الروسي شبه غائب في مالي، نظرا لانشغال روسيا في مستنقع أوكرانيا بعيدا عن أدغال إفريقيا وصحاريها.

كما أن الجيش المالي الذي لم يستطع حماية المدن في الشمال من السقوط في أيدي الجماعات الجهادية عام 2012، رغم أنه كان يواجه حينها بضع مئات من المقاتلين من "أنصار الدين" و"القاعدة" و"جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا"، وهم خليط من الطوارق والعرب والأجانب، فضلا عن نشاط مسلح لحركات التمرد الأزوادية؛ يبدو اليوم أقل قدرة على حمايتها، بعدما تعزز هذا "الخليط الجهادي" وانضم إليه آلاف المقاتلين الفلان من "كتائب ماسينا"، المنتشرين في وسط البلاد من شرقها إلى غربها، وفي حاضنة اجتماعية تتسم بالكثافة السكانية وصعوبة التضاريس الغابية، هذا مع استمرار حركات التمرد الأزوادية في أنشطتها العسكرية ضد الجيش المالي والقوات الروسية في الشمال، وهو ما يعني أن قدرة الجهاديين على غزو المدن والسيطرة عليها تضاعفت اليوم بشكل كبير، مقابل ضعف وانهيار الجيش المالي حاليا، وغياب القوات الإفريقية والفرنسية الداعمة له، واستبدالها بقوات روسية أقل عددا وعدة(9).

لكن، رغم كل هذه المعطيات، اختارت "كتائب ماسينا" ومن ورائها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في استراتيجيتهما الجديدة؛ تكتيكا آخر يتمثل في خنق المدن وحصارها وقطع الطرق المؤدية إليها، بدلا من دخولها والسيطرة عليها، وذلك لدفع السكان إلى التمرد على الحكومة وأجهزة الدولة العاجزة عن توفير الأمان والغذاء والدواء لهم.

إشكالية حكم الأقليات

كما أن مقاتلي "كتائب ماسينا" مُصنَّفون في أغلبهم من قومية واحدة هي قومية "الفلان" التي تُشكل نسبة تزيد على 13% من مجموع سكان مالي البالغ عددهم أكثر من 23 مليون نسمة، ومدعومون من مقاتلي "أنصار الدين" و"إمارة الصحراء" و"إمارة غاوا"، وهم مزيج من المجموعات العربية والطوارقية وبعض الأجانب. وتشكل قوميات "البمبارة" و"السونغاي" و"السوننكي" و"الدوغون" و"الماندينغ" أغلبية سكان المدن التي تقع في مرمى نيران "كتائب ماسينا" وباقي فصائل "نصرة الإسلام والمسلمين". وهذا ما يعني احتمال مقاومة ورفض أغلبية السكان لسيطرة مقاتلين من قوميات تُشكل أقلية في البلاد، وتتسم العلاقة بينها وبين باقي القوميات الأخرى بالحساسية والتعقيد، نتيجة تراكمات تاريخية واجتماعية يضيق المقام عن سردها.

إن أي محاولة لبسط النفوذ على وسط مالي والسيطرة على مقاليد الأمور في باماكو دون مشاركة من قوميات "البمبارة" و"السونغاي" و"السوننكي" يُعتبر ضربًا من المستحيل، باعتبارها القوميات الأكبر والأكثر تحكمًا وتغلغلًا في مفاصل الدولة منذ استقلال البلاد عام 1960. وقد بات لزامًا على قيادات "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التي تنتمي إليها "كتائب ماسينا" أن تعمد إلى التريث وإعادة ترتيب أوراقها باتباع أسلوب جديد أكثر واقعية ومنطقية.

تبدو ملامح التأثر بتجربة بعض الجماعات الجهادية المحلية مثل "جبهة النصرة" في سوريا سابقًا، و"حركة طالبان" في أفغانستان؛ واضحة، وذلك من خلال التنازل عن بعض مفردات ومسلمات الخطاب الجهادي العالمي، والاعتراف بالدولة الوطنية وبحدودها الموروثة عن المستعمر، ومخاطبة سكانها كشعب في دولة ذات حدود معلومة.

لقد عمدت قيادة "نصرة الإسلام والمسلمين"، مع تقدم مقاتليها في الوسط وسيطرتهم على مزيد من الأراضي، إلى الدعوة في بيان لها صدر خلال يونيو/حزيران 2025، لتشكيل ما سمّتها "حكومة شرعية" في البلاد، دون أن تتطرق إلى "حكم المجاهدين" أو "إقامة إمارة إسلامية" على يد مقاتليها، محذّرة من مغبّة أن يتحول الوجود الروسي في مالي إلى استنساخ للتجربة السوفياتية في أفغانستان. كما خاطبت "نصرة الإسلام والمسلمين" في بيانها الشعب المالي "من جميع الأعراق والقبائل"، وبدأ مقاتلوها بتنفيذ بعض الإجراءات ذات الطابع الإداري في مناطق سيطرتهم في الشمال والوسط، كجباية الزكاة على التجار والمزارعين وملاك الحيوانات، وإقامة محاكم شرعية للفصل في النزاعات المحلية بين السكان، ومعاقبة مرتكبي المخالفات الشرعية، وتشجيع المدارس القرآنية في أماكن سيطرتها.

ثم عمدت الجماعة إلى خطوة أخرى من شأنها تخفيف هاجس الطابع العرقي لهيمنة الفلان في "كتائب ماسينا" على غرب ووسط مالي، أو على الأقل في قمة هرم قيادة المقاتلين هناك، وذلك بتعيينها للقيادي الموريتاني في التنظيم "عبد الرحمن ولد الحسن" المُلقب طلحة الليبي (عاش في ليبيا فترة من الزمن)، مسؤولا عن منطقة مثلث الحدود بين مالي وموريتانيا والسنغال، وكان "طلحة الليبي"، الذي ينحدر من إحدى القبائل العربية في موريتانيا، يتولى سابقًا قيادة "إمارة الصحراء" التي تنشط في ولايتي تمبكتو وتودني في شمال غرب البلاد(10).

تصعيد على مشارف السنغال

ومع تصاعد سلسلة الهجمات العنيفة والمتلاحقة التي شنتها "كتائب ماسينا" خلال الأسابيع الماضية، وتركزت في غرب وجنوب غرب مالي، على الحدود مع السنغال وموريتانيا، عرفت المنطقة تطورًا خطيرًا في مسار الأحداث، وذلك بالتزامن مع حالة غير مسبوقة يعيشها هذا البلد الغرب إفريقي المترامي الأطراف؛ من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتفاقمة بشكلٍ مطردٍ ومتسارع.

فعلى غرار ما يحصل في شرق مالي وخصوصًا في مثلث "غورما ـ ليبتاكو" على الحدود المشتركة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر؛ إذ باتت تلك المنطقة المصنفة من أخطر المناطق في العالم، ومعقلًا للتناحر بين مقاتلي "ولاية الساحل" التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية، ومقاتلي "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، فإن "كتائب ماسينا" تسعى من خلال هجماتها الأخيرة وتوسيع نطاقها وحجمها إلى خلق مثلث رعب جديد للحكومة المالية، لكن هذه المرة في غرب ووسط البلاد، على الحدود مع موريتانيا والسنغال. وبات هذا المثلث خالصًا لها حتى الآن بفعل خلوه من أي وجود لمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، وتسعى من وراء توسيع تلك الهجمات إلى توجيه أكثر من رسالة للحكومة المالية وحكومات دول الجوار، فضلًا عن تحقيق أهداف استراتيجية خططت لها الجماعة على مدى السنوات الماضية.

شكّل الهجوم الأخير على مدينة "جيبولي" (Djiboli) المالية الاستراتيجية على الحدود مع السنغال، تطورًا غير مسبوق، يتمثل في اقتراب تهديد الجهاديين "الفلان" من الجارة السنغال التي تشكل قبائل "الفلان" قرابة ربع سكانها البالغ عددهم زهاء 19 مليون نسمة.

ظلت السنغال خلال العقدين الماضيين بمنأى عن العمليات والهجمات التي تنفذها الجماعات الجهادية المسلحة في المنطقة، رغم تحركها وتنفيذها لهجمات عنيفة في بلدان مجاورة لها مثل مالي وموريتانيا وساحل العاج. أما اليوم فيطرق الجهاديون أبواب السنغال الشرقية عن طريق منطقة حدودية تنتشر فيها حاضنتهم الاجتماعية؛ إذ تشكل القرى والتجمعات السكانية في شقها السنغالي امتدادًا للتجمعات السكانية في الشق الآخر من الحدود، كما ينشط الجهاديون الفلان ويرفعون عقيرتهم في وجه الدولة المالية بكل ما أوتوا من قوة وبأس.

على أن الأمر يتعلق هذه المرة بالسيطرة على طريق يشكل شريان الحياة بالنسبة لباماكو، وهو محور "دكار ـ باماكو" الذي يشهد حركة كبيرة لنقل البضائع بين ميناء دكار في السنغال والعاصمة المالية باماكو التي لا تتوفر على أي إطلالة بحرية. ويعبر هذا الطريق الحدود بين البلدين من مدينة "جيبولي" ومنها إلى "خاي" (Kayes) و"جيبوغو" (Djibougou) ثم "كوليكورو" (Koulikoro) قبل أن يصل إلى العاصمة باماكو، وهي مناطق تعرض معظمها لهجمات الجهاديين، وسيشكل قطع تلك الطريق ضربة قوية للاقتصاد المالي الهش أصلًا، الذي يعتمد على الواردات القادمة عبر ميناء دكار من خلال طريقٍ يناهز 1300 كلم، أو عبر ميناء نواكشوط من خلال طريق يبلغ طوله قرابة 1400 كلم.

الجهاديون على مشارف موريتانيا

كما شملت الهجمات مدينة "نيور"، حاضرة الطريقة الحموية التيجانية على الحدود الموريتانية المالية بزعامة الشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله، والتي تُعتبر عمقًا روحيًا واستراتيجيًا لموريتانيا داخل الأراضي المالية، فضلًا عن بلدة "كوكي" الحدودية المقابلة لمدينة "كوكي الزمال" الموريتانية التي تُشكل أكبر نقطة عبور للبضائع بين البلدين، وسوقًا كبيرة للتبادل التجاري بينهما تخطط الحكومة الموريتانية لإقامة ميناء بري عليه، بهدف إنعاش حركة التبادلات التجارية بينها وبين معظم دول غرب إفريقيا، مرورًا بالأراضي المالية.

وتُشكل الحدود الموريتانية المالية واحدًا من أكبر التحديات الجغرافية للبلدين؛ إذ يبلغ طولها قرابة 2300 كلم، جزء كبير منها عبارة عن صحارٍ قاحلة غير آهلة بالسكان، بينما يُمثل الجزء الممتد منها بين ولايات الحوض الغربي ولعصابة وكيديماغا في موريتانيا، وبين الولايات المالية المقابلة لها، وهي نارا وكولكورو وخاي؛ تحديًا أكبر نظرًا لتداخل الحاضنة الاجتماعية فيها، حيث تنتشر التجمعات السكانية لقبائل الفلان بشكل كبير، وكذلك التجمعات السكانية من قومية السوننكي على طرفي الحدود، كما تنتشر القبائل العربية على طرفي الحدود بين ولاية الحوض الشرقي في موريتانيا، وولايتي تمبكتو وتاودني في مالي. تُضاف إلى ذلك الحركة الكبيرة على طرفي الحدود بسبب التداخل السكاني، وحركة التبادل التجاري وتنقل الأشخاص والبضائع والمواشي بشكل دائم بين البلدين.

وبتنفيذها لهجماتها الأخيرة في غرب مالي، تكون "كتائب ماسينا" قد وسعت نطاق حصارها للمناطق والمدن المالية المحاذية للحدود مع موريتانيا عبر محور "خاي" و"نيور" و"كوكي" و"نامبالا" و"سيكو"، بينما شكّلت وحداتها في شمال الوسط مع كتائب "إمارة الصحراء"، تهديدًا بقطع الطرق الحدودية بين الشرق الموريتاني ومدن "ليرة" و"غندام" و"لرنب" و"تمبكتو" المالية.

تضييق الخناق على باماكو

ومع تفاقم هذه الهجمات وتوسع خريطتها ووصول تهديداتها إلى مشارف دول الجوار، يمكن القول إن العاصمة باماكو وكبريات المدن المالية باتت تحت رحمة المقاتلين الجهاديين، عبر تحكمهم في معظم الطرق المؤدية إليها من خارج الحدود أو تلك التي تربط بينها داخليًا. لقد بات نشاط الجهاديين يمتد من الغرب على الحدود مع السنغال، مرورًا بالحدود مع موريتانيا والجزائر شمالًا، ثم الحدود مع النيجر وبوركينافاسو شرقًا.

كما تشهد منطقة الحدود الجنوبية مع ساحل العاج نشاطًا مكثفًا لمقاتلي "كتائب ماسينا" الذين ينفذون هجمات متكررة على المدن العاجية والمالية على طرفي الحدود، خصوصًا في ولاية "سيكاسو" المالية وفي منطقة "سافاني" العاجية؛ إذ بدأت "كتائب ماسينا" تعبر الحدود نحو ساحل العاج منذ عام 2020، وركزت عملياتها أساسًا في شمال البلاد. وقد أُسنِدت مهمة إدارة أنشطتها في تلك المنطقة إلى واحد من أبرز قادتها الميدانيين، ويُدعى "سيدي بي" الملقب "حمزة"، الذي ركز انتشار مقاتليه في الغابات والأحراش والمزارع، واستطاع اكتتاب عشرات الشباب من القرى الحدودية في المثلث الواقع بين مالي وساحل العاج وبوركينافاسو.

ومما زاد الوضع تعقيدًا على حكومات هذه الدول الثلاث، نزوح عشرات الآلاف من بوركينافاسو عبر الحدود بعد تفاقم العمليات القتالية بين الجيش البوركينابي والمقاتلين الجهاديين، ثم عبور آلاف السكان من ساحل العاج إلى بوركينافاسو ومالي، في لجوء معاكس بسبب العمليات العسكرية للجيش العاجي في شمال البلاد. كما عبر آلاف الماليين حدود بلادهم إلى ساحل العاج وبوركينافاسو، في عمليات نزوح غير مستقرة بسبب القتال الدائر على الحدود الثلاثية بين الدول. كما يوجّه السكان المحليون للقوات الحكومية في مالي وساحل العاج وبوركينافاسو اتهامات باستهداف الأبرياء واعتقال وقتل عشرات الشبان والرجال على أساس عرقي، بسبب انتمائهم لقومية "الفلان".

السناريوهات المحتملة

ومع استمرار هذا الوضع المتفاقم، يمكن القول إن أمام مقاتلي "كتائب ماسينا" وحلفائهم من "نصرة الإسلام والمسلمين"، أحد سيناريوهيْن:

ـ أولهما، اقتحام المدن المالية في أي لحظة والسيطرة عليهاـ بما فيها العاصمة باماكو، وهو أمر ما يزال الجهاديون يُحجمون عنه حتى الآن، ويرون أن الظروف المحلية والإقليمية والدولية لم تنضج بعد للقيام به، وستكون له تداعيات خطيرة على المنطقة برمتها في حال حصوله، وربما تنتقل عدواه سريعاً إلى بوركينافاسو ثم إلى النيجر اللتين تسيطر الجماعات الجهادية على أجزاء كبيرة من أراضيهما، كما سيشكّل تحدياً كبيراً لدول الجوار الأخرى مثل موريتانيا والسنغال وساحل العاج، التي ستجد نفسها في مواجهة حكام جدد في باماكو طالما صنّفتهم إرهابيين وحاربتهم واعتقلت عناصرهم ولاحقتهم، فضلاً عما يشكله ذلك من حساسية في التعامل مع الأقليات الفلانية الموجودة في هذه البلدان.

ـ أما السيناريو الثاني فهو مواصلة الجهاديين استراتيجية استنزاف الدولة المالية وإضعاف أجهزتها عبر التضييق على المدن، والاقتحام المستمر للثكنات العسكرية وقتل الجنود ونهب مخازن الأسلحة والذخيرة والعتاد، ودفع السكان والجيش المثخن بالجراح والمرهق من المعارك الخاسرة، إلى التحرك ضد الحكومة وأجهزة الدولة والإطاحة بها، ومن ثم خلق فراغ حكومي وأمني، سبيلاً إلى نشر الفوضى، وتمهيداً لتطبيق أهم مراحل نظرية "إدارة التوحش" استعداداً للسيطرة على الدولة ومفاصلها عبر ما يسمونه "حكومة شرعية"، ومن ثم تطبيق الأجندات والبرامج التي قاتل الجهاديون من أجلها خلال العقدين الماضيين.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1)- "إياد غالي".. من يساري لمؤسس حركة "أنصار الدين" في مالي، بوابة الحركات الإسلامية، منشور بتاريخ 18 نوفمبر 2026 (تم التصفح في 10 يوليو 2025): https://www.islamist-movements.com/36483

2)- كتيبة تحرير ماسينا.. الإرهاب العرقي الجديد في الساحل الإفريقي، المركز الأوروبي لدراسة مكافحة الإرهاب والاستخبارات، منشور بتاريخ 13 يناير 2020 (تم التصفح في 10 يوليو 2025): https://shorturl.at/kF9aK

3)- "جماعة الإسلام".. تنظيم يتبع القاعدة بمنطقة الساحل، الجزيرة نت، منشور بتاريخ 4 مارس 2018 (تم التصفح في 8 يوليو 2025): https://shorturl.at/9cmZq

4)- الأنشطة غير المشروعة تُغذي التطرف في مناطق الصراع بمنطقة الساحل، المعهد الإفريقي للدراسات الأمنية "أفروبوليسي"، بتاريخ 11 يوليو 2025 (تم التصفح في 12 يوليو 2025): https://shorturl.at/ODjhm

5)- توسع رقعة الإرهاب في الساحل وغرب إفريقيا، زاد التبيان، منشور بتاريخ 2 يونيو، 2025 (تم التصفح في 7 يوليو 2025): https://zaadaltabiyan.com/post/6756

6)- من إيبرفييه لبرخان.. عمليات عسكرية فرنسية بإفريقيا، الجزيرة نتـ منشور بتاريخ 3 فبراير 2026 (تم التصفح في 8 يوليو 2025): https://shorturl.at/F5WeF

7)- ينظر:

Gilbert Maoundonodji: L'intervention militaire tchadienne au Mali : enjeux et limites d'une volonté de puissance régionale, SciencesPo Centre de Recherches International, Publié le: 07/2013 (Vu le 10 Juillet 2025): https://tinyurl.com/wb4bb9jd

8)- ينظر:

Comment la France a-t-elle été chassée du Sahel? Le Monde, Publié le 22 décembre 2023(Vu le 8 Juillet 2025): https://tinyurl.com/2ask685k

9)- الطوارق: قتلنا وأصبنا العشرات من جنود مالي وفاغنر الروسية، الجزيرة نت، منشور بتاريخ 27 يوليو 2024 (تم التصفح في 8 يوليو 2025): https://tinyurl.com/3fu3tszz

10)- ينظر:

Exclusif. Talha Abou Hind Al Libi chargé par le groupe Nosra de porter la violence en Mauritanie et au Senegal, Sahel Intelligence (Vu le 12 Juillet 2025): https://tinyurl.com/ye8jb4rx