مفهوم الدولة المدنية في الفكر السياسي الغربي الحديث: دراسة في الأصول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية

(الجزيرة)

مقدمة

شهد مسار بناء الدولة المدنية في السياق الغربي تطورًا تاريخيًا طويلًا، اتسم بالصراع بين المدافعين عن الأطروحة الدينية وحملة أطروحة الدولة، أي بين رجال الدين ورجال السياسة. وقد اتخذ هذا الصراع أبعادًا فكرية واجتماعية واقتصادية كبرى، وكان محوره الأحقية في السيطرة على سلطتي الحكم والدين، خاصة من جانب رجال الدين الذين صاروا مصدرًا للشرعية الدينية والزمنية معًا.

اندلعت الحروب الدينية والمذهبية، وتواصلت النزاعات السياسية قرونًا متتالية، ولم تبدأ المجتمعات بالتحرر إلا مع بزوغ العصر الحديث الذي شكّل نقطة انطلاق نحو إعادة بناء الدولة على أسس وضعية وإنسانية. جاء ذلك عقب مسار طويل من النقد للمنظومة الدينية والدعوة إلى إسقاط الوساطة بين الفرد والخالق، فبرزت رؤى جديدة أكثر تحررًا في السياسة والدين والثقافة. ومعها طُويت صفحة العصور الوسطى بما حملته من تقاليد جامدة ورؤى محدودة، لتتأكد استحالة الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية تحت هيمنة واحدة.

هكذا انتقلت الدولة في الغرب من "دولة الكنيسة" إلى "دولة الأمير" وصولًا إلى الدولة الحديثة، عبر استبدال السلطتين التقليدية والدينية بسلطة سياسية مدنية. وتأسست الدول على قاعدة "الوحدة الإنسانية" بدلًا من "الوحدة الدينية" التي أثبتت التجارب التاريخية أنها لا تقود سوى إلى الانقسام وانهيار السلطتين معًا. ومع النهضة تحددت مجالات السلطتين، وتكرّس منع توظيف الديني في السياسي أو العكس. فترسّخ مبدأ "دين بلا سياسة" و"سياسة بلا دين"، وجاء بناء الجدار الفاصل بين المجالين حلًا للصراعات التاريخية، ولا يزال هذا الجدار صامدًا إلى عصرنا الراهن.

أولًا: المفهوم المركزي

حرصنا على تجنّب التعريفات الجاهزة التي تحسم النقاش، وبحثنا في القواميس المختلفة فلاحظنا غياب مفهوم "الدولة المدنية"، مقابل حضور "المجتمع المدني" المرتبط بتحولات المجتمع الغربي ونظرياته. معظم القواميس تقدّم تصنيفات للدولة: ذات سيادة، مطلقة، اتحادية، رعاية، فيدرالية... أو إقليمية، اشتراكية، ديمقراطية، ديكتاتورية، قومية، مركزية.

وبحثنا في كلمة "مدني" (Civic / Civil) دون ربطها بالدولة مباشرة، فوجدنا أنها تعني ما ينسب إلى المدينة (Cité)، وإلى من يعيشون فيها. فالواجبات المدنية هي التزامات المواطن كالتعليم المدني أو الزواج المدني. كما تحيل "مدني" إلى الحقوق والواجبات المدنية، وإلى ما هو غير عسكري. بينما تدل "مدنية" (Civilization) على الحضارة والعمران والعالم المتحضر.

وفي استعمال (Etat Civil) نجد "الحالة المدنية" باعتبارها وضعًا مجتمعيًا ناتجًا عن عقد اجتماعي، مقابل الحالة الطبيعية. كما تحيل "Civile" إلى الحرية (Liberté) والحضارة  (Civilisation)، بما هي منظومة مركبة من ظواهر اجتماعية وثقافية وأخلاقية وجمالية وفنية وتقنية، تنتقل بين الأجيال وتشترك فيها مكونات المجتمع.

وبالجمع بين "الدولة" (Etat / State) و"مدني" (Civil / Civile) نصل إلى ثلاث دلالات:

  1. المدني بوصفه الحضارة، أي الانتقال من البداوة إلى التمدن.
  2. المدني في مقابل العسكري، أي الحكم المدني.
  3. المدني نقيض الديني، أي الحكم المؤسسي غير الديني.

وبالاستناد إلى التجربة الغربية التاريخية، فإن الدلالة الثالثة هي الأكثر انطباقًا، حيث برزت الدولة المدنية مقابل الدولة الدينية التي تستمد شرعيتها من السماء لا من المواطن.

ثانيًا: الدراسات السابقة

أظهرت مراجعتنا للأدبيات وجود أعمال مهمة أرست اللبنات الأولى لهذه الإشكالية:

- كتاب برهان غليون "نقد السياسة: الدولة والدين"، الذي حلّل علاقة الدين بالسياسة والعلمانية في العالم العربي والإسلامي، مبرزًا أسباب نجاح الغرب في إصلاح أوضاعه مقابل إخفاق التجربة الإسلامية في بناء دولة حديثة علمانية تستوعب مكوناتها المتعددة.

- أطروحة عبد الرحيم العلام "العلمانية والدولة المدنية: تواريخ الفكرة وسياقاتها وتطبيقاتها"، التي تناولت العلاقة بين الدين والسياسة في الحضارتين المسيحية والإسلامية من العصور الوسطى حتى العصر الحديث.

- دراسة محمد طه عليوة حول "دور الدين في النظام الدستوري المصري"، التي اعتمدت المنهج المقارن لرصد تطور العلاقة بين الدين والدولة من الحضارات القديمة حتى الدولة القومية الحديثة.

ثالثًا: أهمية الموضوع ودوافع اختياره

تتجلى أهمية موضوع الدولة المدنية في تداخله مع التاريخ الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي، وفي امتداده العميق داخل التجربة الأوروبية التي لا تزال تأثيراتها قائمة. كما أن حضوره في الخطاب السياسي والمجتمعي لا يقابله حضور علمي موازٍ، مما يجعل هذه الدراسة محاولة أكاديمية لإضافة تحليل معمّق للمفهوم ومقوماته.

رابعًا: الإشكالية

إذا كان مفهوم الدولة المدنية يعني فصل الدين عن السياسة، مع مراعاة تعقّد العلاقة بينهما عبر التاريخ، فما هي الأصول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ساهمت في تأسيس الدولة المدنية في السياق الغربي الحديث؟

خامسًا: فرضية البحث

إن مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية دفعت نحو التأسيس لمفهوم الدولة المدنية في الغرب الحديث، سواء على المستوى الفكري أو الواقعي.

سادسًا: الأسئلة الفرعية

  • ما أبرز النظريات المؤسسة لفصل الدين عن الدولة؟
  • ما طبيعة الطروحات الناقدة لفكرة الفصل بينهما؟
  • كيف ساهمت الأصول الاجتماعية والاقتصادية في ترسيخ مفهوم الدولة المدنية؟
  • وما حدود إسهام الثورات السياسية الغربية في هذا التأسيس؟

سابعًا: المقاربة المعتمدة

تنتمي هذه الدراسة إلى حقل الفكر السياسي وتاريخ الأفكار، مستعينة بعلم الاجتماع السياسي والفلسفة السياسية والتاريخ. وقد اعتمدنا مقاربة "كوينتن سكينر" الحديثة، القائمة على قراءة النصوص المؤسسة للأفكار السياسية ضمن سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أنتجتها، إيمانًا بأن فهم مسارات تشكّل الدولة المدنية يقتضي ربط الفكرة بجذورها التاريخية.

تاسعًا: هندسة البحث

القسم الأول: الأصول الفكرية لمفهوم الدولة المدنية

يتناول التحولات النهضوية والصراع الديني–السياسي (الفصل الأول)، والكتابات المؤسسة لفصل الديني عن السياسي (الفصل الثاني)، مع عرض المرجعيات الفكرية الناقدة.

القسم الثاني: الأصول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية

يشمل دراسة العوامل الثقافية والعلمية والاجتماعية (الفصل الأول)، ثم الأصول السياسية من الحكم المطلق إلى الثورات (الفصل الثاني).

الخاتمة

إن البحث في مفهوم الدولة المدنية يتجاوز ما هو فكري واجتماعي واقتصادي، ليشمل البعد السياسي أيضًا. فهذا المفهوم لا يُفهم في السياق الغربي إلا بالعودة إلى جذوره التاريخية التي جعلت منه حلًا وضعيًا لإشكالية الدين والدولة. لقد مثّل الدولة المدنية "دواءً" غربيًا لـ"داء" مسيحي مزمن، أعاد التوازن بين السلطتين الروحية والزمنية.

ومن رحم الصراعات تبلور هذا المفهوم كصيغة جديدة لتحييد الدولة تجاه الدين، باعتباره نتاجًا طبيعيًا للإصلاح الديني والجدل الفكري والحراك الثقافي والاجتماعي والتطور الاقتصادي. وهو تعبير عن اكتمال الحداثة السياسية الغربية التي تجاوزت التمييز بين المواطنين لصالح عقد سياسي يقوم على المواطنة المتساوية.

إن الدولة المدنية الحديثة تجسّد نماذج متعددة من العلاقة بين الدين والسياسة، تتراوح بين الفصل الصارم والفصل المرن وإدماج نسبي للكنيسة. وهي في جوهرها إعادة توزيع لموازين القوى لصالح الدولة التي أصبحت المالك الفعلي للصالح العام، بعد تحييد المؤسسة الدينية عن المجال السياسي.

ومع أن التجربة الأوروبية قد رسّخت هذا النموذج، إلا أن إشكالية العلاقة بين الدين والدولة تظل مطروحة في مجتمعات أخرى، خاصة في السياقات الإسلامية والآسيوية، حيث يظل البحث في "مدنية الدولة" ضرورة ملحّة لإعادة قراءة الظاهرة في ضوء خصوصياتها التاريخية والاجتماعية.

تنويه

  • الآراء الواردة في هذه الدراسة تُعبِّر عن كاتبها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات
  • للاطلاع على النص الكامل للأطروحة (اضغط هنا)
  • يمكن للباحثين الراغبين في نشر رسائلهم وأطروحاتهم مراسلتنا على العنوان التالي:  ajcs-publications@aljazeera.net

نبذة عن الكاتب