انتهاء عمل مكتب المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR): الإنجازات والإخفاقات

تتناول هذه الورقة دور وأداء مكتب المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR) خلال عقدين من احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان، مع التركيز بشكل خاص على التقرير الثامن والستين، وهو آخر وأشمل تقرير يصدره هذا المكتب حول أوضاع أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية، في صيف 2021. وهذا التقرير ليس مجرد انعكاس لنتائج الرقابة التي أجراها المكتب في مجالات الفساد والمساعدات الإنسانية والإخفاقات البنيوية، بل يمثل أيضًا وثيقة ختامية تقترح إنهاء مهمة المكتب.
أطفال أفغان يعملون وينتظرون لساعات للحصول على المساعدات الإنسانية (الأناضول)

تبرز أهمية تقييم أداء المكتب في سياق أفغانستان نظرًا لدوره المحوري على مدار سنوات عمله؛ حيث نشر باستثناء التقرير الأخير سبعة وستين تقريرًا رسميًّا دوريًّا، وأسهم في كشف الفساد المالي، وتقييم فاعلية المساعدات الخارجية، والإشراف على مشاريع إعادة الإعمار. وفي ظل التحديات المعقدة التي تواجهها أفغانستان، مثل انهيار المؤسسات الأمنية، والانخفاض الحاد في المساعدات الدولية، وعودة "الإمارة الإسلامية" إلى السلطة، يمكن للتحليل الدقيق لتقارير المكتب أن يوفر فهمًا معمقًا لأسباب إخفاقات الماضي، ويرسم معالم السياسات المستقبلية. كما يسهم هذا التحليل في توضيح دور الجهات الخارجية في عمليات الإعمار وتأثيرها على البنى الداخلية لأفغانستان.

تستعرض هذه الورقة دور وأداء مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR) خلال عقدين من احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان، مع التركيز بشكل خاص على التقرير الثامن والستين، وهو آخر وأشمل تقرير يصدره هذا المكتب حول أوضاع أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية في صيف 2021. وليس هذا التقرير مجرد انعكاس لنتائج الرقابة التي أجراها المكتب في مجالات الفساد والمساعدات الإنسانية والإخفاقات البنيوية، بل يشكِّل أيضًا وثيقة ختامية تقترح إنهاء مهمة المكتب.

وتتناول هذه الورقة، استنادًا على التقارير الأخيرة للمكتب مع التركيز على الاستنتاجات الرئيسة، موضوعات عدة تشمل حضور المكتب في أفغانستان، ومجالات عمله، وإنجازاته ونتائجه الأساسية، وتقييم دوره في إعادة إعمار أفغانستان، وأسباب إنهاء عمله، وأخيرًا نظرة موجزة على تقريره الأخير المتعلق بأفغانستان.

التعريف بمكتب المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان  (SIGAR)

تأسس مكتب المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان، المعروف بـسيغار، في عام 2008، بموجب قرار الكونغرس الأميركي، بهدف الإشراف المستقل والدقيق على النفقات وأنشطة إعادة الإعمار في أفغانستان. وقد أنشئ هذا المكتب بموجب القسم 1229 من قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2008 (PL 110-181)، وكانت مهمته تشمل التدقيق والمراجعة والتحقيق في برامج إعادة الإعمار. وكان الهدف الرئيس لمكتب سیغار هو تعزيز الكفاءة والفعالية لهذه البرامج ومنع الهدر، والاحتيال، وسوء استخدام الأموال الضريبية للمواطنين الأميركيين. ويقع المقر الرئيسي للمكتب في كريستال سيتي، في ولاية فيرجينيا، وكان يقدم تقارير ربع سنوية إلى الكونغرس تتضمن تفاصيل الالتزامات المالية، والنفقات، والإيرادات المتعلقة بإعادة إعمار أفغانستان(1).

لم يقتصر عمل المكتب على المراجعة المالية والتنفيذية لمشاريع إعادة الإعمار فحسب، بل قدم أيضًا تحليلات معمقة للتحديات البنيوية والثقافية في أفغانستان. فقد جاء في تقارير المكتب أن أفغانستان مجتمع معقد ذو تقاليد راسخة واقتصاد سياسي صعب الإصلاح، وأن محاولات الولايات المتحدة لفرض هياكل سياسية واقتصادية وقضائية غربية قد فشلت. وأكد جان سابكو، المفتش الخاص، أن العديد من الأخطاء كانت ناتجة عن تجاهل المعلومات المتاحة حول واقع المجتمع الأفغاني، وليس نقص المعلومات. كما حذَّر المكتب من أن استخدام الزعماء المحليين لإنشاء بيروقراطية ناشئة في أفغانستان لم يكن عديم الفاعلية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تعزيز الهياكل غير الرسمية والفساد(2).

ولا شك أن الأساس القانوني لإنشاء هذا المكتب كان ناتجًا عن تزايد المخاوف بشأن الفساد، وسوء الإدارة، وعدم كفاءة مشاريع إعادة الإعمار بعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان. ولغرض تعزيز الشفافية والمساءلة، أطلق الكونغرس هذا المكتب مع صلاحيات واسعة للتحقيق، والتقارير، واقتراح الإصلاحات في برامج إعادة الإعمار في أفغانستان. وقد نشر مكتب سيغار خلال فترة عمله مئات التقارير على مستويات مختلفة، العديد منها كشف عن الفساد، وهدر الموارد، وفشل المشاريع الأميركية في أفغانستان.

وكان المكتب مكلفًا أيضًا، من خلال مراجعات دقيقة، وتدقيق مالي، وإعداد تقارير تحليلية، بتقييم فاعلية مشاريع إعادة الإعمار وكشف حالات الفساد وسوء الإدارة والهدر. وقد أشار مكتب سيغار مرارًا في تقاريره إلى الفساد الواسع في المؤسسات الحكومية الأفغانية، والضعف البنيوي للنظام القضائي، واستغلال المؤسسات القانونية للقمع الاجتماعي. كما حذَّر المكتب من أن غياب الشفافية واستقلالية القضاء قد وضع عملية إعادة الإعمار أمام تحديات كبيرة، وقلَّل من ثقة الجمهور بالمؤسسات الحكومية. ومن ناحية أخرى، يرى بعض المصادر أن مكتب سيغار، إلى جانب مهامه الرقابية، لعب دورًا إعلاميًّا أحيانًا، وحاول من خلال نشر معلومات مختارة توجيه الرأي العام حول الوجود الأميركي في أفغانستان(3).

السجل التاريخي لحضور مكتب المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان

كما ذُكر سابقًا، تأسس مكتب سيغار في عام 2008 إلا أن بداية مهمة هذا المكتب تزامنت مع تصاعد المخاوف في واشنطن بشأن عدم كفاءة مشاريع إعادة الإعمار وهدر مليارات الدولارات من المساعدات المالية التي خصصتها الولايات المتحدة لأفغانستان بعد احتلالها في عام 2001 وكان من مهام المكتب، بصفته جهة مستقلة، التحقق من فاعلية برامج إعادة الإعمار عبر المراجعات المالية، والتقييمات الميدانية، وإعداد التقارير التحليلية، وإبلاغ الكونغرس عن حالات المخالفات. ولم تقتصر مهمة المكتب على الإشراف المالي فقط، بل شملت أيضًا التقييم السياسي والأمني؛ حيث أشارت بعض التقارير إلى دور الإمارة الإسلامية في الاستفادة من المساعدات الخارجية وإضعاف المؤسسات الحكومية. وقد بدأت هذه المهمة في إطار سياسات إعادة الإعمار بعد الحرب، وبهدف تعزيز الشفافية والمساءلة في استخدام الموارد المالية العامة الأميركية. وقد لعب المكتب، منذ تأسيسه وحتى عام 2025، دورًا محوريًّا في مراقبة استخدام المساعدات المالية الأميركية في أفغانستان، ونشر على مدى أكثر من عقد ونصف، العشرات من التقارير التي أظهرت الفساد الواسع، وسوء الإدارة، والفشل في تنفيذ المشاريع الأساسية(4).

وفي آخر تقرير له، وهو التقرير الثامن والستون الصادر في 30 يوليو/تموز 2025، تناول المكتب الوضع الاقتصادي في أفغانستان بعد انخفاض حاد في المساعدات الخارجية، محذرًا من أن التوقف المفاجئ لهذه المساعدات قد يهدد الاستقرار النقدي وأداء البنك المركزي الأفغاني. كما كشف التقرير أن حوالي 24 مليار دولار من المساعدات الأميركية قد هُدر بسبب الفساد وسوء الاستخدام منذ إنشاء المكتب. وأشار المكتب في هذا التقرير إلى عوامل مثل العزلة السياسية، ونقص الكوادر المتخصصة، وعدم القدرة على طباعة النقود كأسباب للأزمة الاقتصادية. قبل سقوط حكومة جمهورية أفغانستان، في أغسطس/آب 2021، كان لمكتب سيغار دور أساسي في الإشراف على المساعدات المالية الأميركية لأفغانستان، وكان يتعاون مباشرة مع الحكومة الأفغانية والمؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، لضمان الشفافية وفاعلية مشاريع إعادة الإعمار. ومع ذلك، أظهرت تقارير المكتب أن الفساد الواسع، وتركيز السلطة، وانعدام الثقة في عملية انسحاب القوات الأميركية كانت من بين الأسباب الرئيسة لفشل إعادة الإعمار المستدام وسقوط الحكومة. كما أن المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة والإمارة الإسلامية دون مشاركة الحكومة الأفغانية أدت إلى إضعاف مكانة الحكومة وتعزيز موقف الإمارة الإسلامية، وهو ما اعتبره المكتب أحد العوامل الأساسية لانهيار النظام الجمهوري(5).

بعد عودة الإمارة الإسلامية إلى السلطة في أفغانستان، تغير دور المكتب بشكل كبير. ومع انخفاض المساعدات الأميركية بنسبة 82٪، فقد أصبح المكتب غير قادر على التعامل مباشرة مع الحكومة، وركز جهوده على الإشراف على المساعدات الإنسانية عبر المؤسسات الدولية(6). وبحسب تقارير المكتب، قامت الأمم المتحدة، منذ أغسطس/آب 2021، بتحويل أكثر من 2.9 مليار دولار مساعدات نقدية إلى أفغانستان، تم تمويل الجزء الأكبر منها من قبل الولايات المتحدة(7). وتم توزيع هذه المساعدات عبر البنوك الخاصة والمنظمات غير الحكومية، لكن المكتب حذَّر من أن تلك التدفقات المالية قد تُسهم بشكل غير مباشر في تعزيز البنية المالية للإمارة الإسلامية.

وبالنظر إلى تراجع الدور السياسي للولايات المتحدة في أفغانستان، اقترح المكتب إنهاء مهمته بحلول نهاية عام 2025 وتسليم مسؤولية الإشراف على المساعدات إلى مكتب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. ويُظهر تقريره الأخير أن المكتب لم يتمكن من الاستمرار حتى نهاية العام، وأعلن أخيرًا عن انتهاء مهمته في أفغانستان خلال النصف الأول من العام الجاري.

مجالات عمل وتركيز مكتب سیغار في أفغانستان

على الرغم من صعوبة تحديد المجالات الدقيقة لعمل مكتب سيغار في أفغانستان، إلا أننا سنستعرض أهم هذه المجالات كما يلي:

أولًا: مكافحة الفساد المالي: كان مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR) ظاهريًّا أحد الجهات الرئيسية في كشف الفساد المالي الواسع في الهياكل الحكومية الأفغانية، إلا أن الفحص الدقيق لتقاريره يُظهر أن المكتب نفسه كان جزءًا من حلقة رقابية غير فعَّالة. فقد جاء في تقرير صادر عن المكتب أن وزارة الدفاع الأميركية أنفقت بين عامي 2019 و2021 أكثر من232  مليون دولار لدفع رواتب قوات الأمن الأفغانية دون رقابة فعَّالة، وتم صرف جزء منها لأشخاص غير مسؤولين أو جنود وهميين(8). وعلى الرغم من توفر المكتب على معلومات وموارد واسعة النطاق، لم يتمكن من منع وقوع هذه المخالفات المالية، واكتفى بالكشف عنها بعد حدوثها(9). كما أكد المكتب في تقاريره أن الحكومة الأفغانية تصرفت بلا مبالاة في مكافحة الفساد الإداري، وأن مؤسسات مثل مركز العدالة لمكافحة الفساد ركَّزت على القضايا الصغيرة بدلًا من التعامل مع القضايا الكبرى، في حين كان موظفو هذه المؤسسات يعملون تحت التهديد والخوف(10). ومع هذه الانتقادات، لم ينجح المكتب في تقديم آليات فعَّالة لدعم المؤسسات المناهضة للفساد أو تعزيز القدرات الداخلية لأفغانستان. وهذا يدل على أن الفساد المالي في أفغانستان كان أزمة بنيوية وليس مجرد تحدٍّ إداري، وأن الجهات الخارجية مثل المكتب كانت غير قادرة على مكافحته. ومن هذا المنظور، كان أداء المكتب أقرب إلى تسجيل الفشل بدلًا من منعه. 

ثانيًا: الإشراف على مشاريع الإعمار: بدأ المكتب نشاطه بهدف مراقبة استخدام المساعدات المالية الأميركية في مشاريع إعادة الإعمار، إلا أن أداءه كان دائمًا موضوعًا لانتقادات شديدة؛ إذ تشير تقارير المكتب إلى أن العديد من المشاريع عانى من الفساد، وعدم الكفاءة، وانعدام الشفافية، لدرجة أن جهتين أميركيتين داعمتين لم تتمكنا من الالتزام بمعايير الرقابة التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، ولم تقدما المستندات المتعلقة بصرف مئات الملايين من الدولارات(11).  كما أن انخفاض المساعدات الأميركية بنسبة 82٪ بعد التطورات السياسية في 2021 دفع المكتب إلى اقتراح إنهاء مهمته للكونغرس؛ مما يُظهر ضعف استمرارية الرقابة الفعَّالة في الظروف الحرجة. ومن خلال مراجعة تقارير المكتب، يظهر أنه بدلًا من التركيز على إعادة الإعمار الفعلية، كان منخرطًا في حرب إعلامية ونشر معلومات موجهة، وبعض تقاريره وُصفت بأنها تفتقر إلى الدقة والحيادية(12).

تشير هذه الانتقادات إلى أن المكتب، بالرغم من الأهداف الإيجابية الأولية، لم يتمكن عمليًّا من كسب ثقة الجمهور أو لعب دور فعَّال في تحسين وضع إعادة الإعمار في أفغانستان.

ثالثًا: تقييم فاعلية المساعدات الأميركية: أظهر تقييم المكتب لفاعلية المساعدات الأميركية لأفغانستان، وهي أحد المحاور الرئيسية لعمله، أنه على الرغم من ضخامة حجم المساعدات التي تجاوزت 150 مليار دولار بين 2002 و2021، لم تتوافق نتائج هذه الاستثمارات مع الأهداف المعلنة. وقد حذَّر المكتب مرارًا من أن جزءًا كبيرًا من هذه المساعدات فُقد بسبب غياب الرقابة الفعالة، وضعف القدرات التنفيذية للمؤسسات المحلية، والفساد الواسع. بعد عودة الإمارة الإسلامية إلى السلطة، تم توزيع المساعدات الإنسانية الأميركية غالبًا عبر مؤسسات وسيطة مثل الأمم المتحدة، لكن لا يزال هناك قلق بشأن استغلال الإمارة لهذه الموارد وعدم وصول المحتاجين الفعليين إليها. وهذا يُظهر أن المساعدات الخارجية بدون آليات شفافة ومسؤولة، لا تؤدي إلى تنمية مستدامة، بل يمكن أن تُفاقم التبعية البنيوية والفساد المؤسسي.

رابعًا: تقديم التقارير إلى الكونغرس والهيئات الرقابية الأميركية: كانت إحدى المهام الرئيسية للمكتب تقديم تقارير دورية إلى الكونغرس والمؤسسات الرقابية الأميركية حول سير إعادة الإعمار وكيفية استخدام المساعدات المالية. ومع ذلك، رغم نشر عشرات التقارير الفصلية والمتخصصة، كان أداء المكتب في ضمان الشفافية والمساءلة الكاملة يواجه تحديات كبيرة. على سبيل المثال، اتهم المكتب في السنوات الأخيرة الحكومة الأميركية، خاصة وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية (USAID)، بالتستر وعرقلة تقديم المعلومات المتعلقة بانسحاب القوات العسكرية وطريقة توزيع المساعدات بعد سقوط الحكومة الجمهورية. ويُظهر هذا أنه حتى ضمن البنية الرقابية الأميركية، يمكن لتضارب المصالح وغياب التعاون بين الجهات أن يضعف فاعلية التقارير(13). ومن هذا المنظور، على الرغم من أن المكتب لعب دورًا مهمًّا في توثيق الإخفاقات، إلا أنه لم يحقق نجاحًا كبيرًا في تحويل هذه المستندات إلى إصلاحات هيكلية وسياسات فعالة.

الإنجازات والنتائج الرئيسية لمكتب سیغار

فيما يتعلق بما حققه مكتب المفتش العام المختص بإعمار أفغانستان (SIGAR) خلال فترة نشاطه، يمكن تلخيص أبرز إنجازاته ونتائجه على النحو التالي:

أولًا: الإشراف على المشاريع: خلال عقدين من النشاط، أشرف مكتب سيغار على مئات مشاريع إعادة الإعمار والتنمية في أفغانستان، بعضها ذو أهمية مالية وسياسية كبيرة. ومن بين المشاريع التي خضعت لإشراف المكتب، برامج الصحة العامة، وتنمية الزراعة، والتعليم، والبنية التحتية للطاقة. ومن أبرز الأمثلة: المشاريع المتعلقة بالنظام الصحي في أفغانستان، الذي واجه أزمة شديدة في الميزانية والكوادر بعد سقوط الحكومة الجمهورية. وقد حذَّر المكتب في تقاريره باستمرار من أن توقُّف الدعم الدولي، وخصوصًا من البنك الدولي، دفع نظام الرعاية الصحية إلى حافة الانهيار.

كما تم استئناف المشاريع نصف المكتملة قبل عودة الإمارة الإسلامية، مثل برامج الحد من سوء التغذية والفقر وتنمية الزراعة، بتمويل جديد من USAID، لكنها واجهت تحديات تنفيذية ورقابية جسيمة. بالإضافة إلى ذلك، أشرف المكتب على كيفية صرف أكثر من ثلاثة مليارات دولار من المساعدات الإنسانية الأميركية بين 2021 و2023، والتي وزعت بشكل رئيسي عبر مؤسسات دولية مثل برنامج الغذاء العالمي (WFP) ومنظمة الصحة العالمية (WHO)(14). ومع ذلك، أكد المكتب في تقاريره الأخيرة أن هذه المؤسسات تفتقر إلى آليات رقابية قوية، وأنه في بعض الحالات، لم تكن الشفافية والمساءلة في استخدام الموارد المالية كافية. وتشير هذه النتائج إلى أن إشراف المكتب، رغم فاعليته في توثيق الإخفاقات، كان محدودًا في ضمان فعالية واستدامة المشاريع، ويمكن تقييم أدائه أكثر كتسجيل للانكسارات المنهجية في إعادة إعمار أفغانستان بدلًا من ضمان نجاحها.

ثانيًا: كشف نماذج من الفساد وسوء الاستخدام: كشف المكتب خلال نشاطه عن العديد من حالات الفساد المالي وسوء الاستخدام التي أظهرت أبعاد الأزمة البنيوية. ومن أبرز الأمثلة: كشف مشروع العيادات الوهمية لوزارة الصحة العامة الأفغانية؛ حيث تبين أن من بين 610 عيادات مزعومة من برنامج التعاون الصحي (PCH)، عشرات العيادات لم تكن موجودة فعليًّا، أو كانت في دول مجاورة مثل باكستان وطاجيكستان، وبعضها في مناطق غير مأهولة أو حتى في الأنهار. هذه النتائج لم تكشف فقط عن قصور الرقابة في المؤسسات التنفيذية، بل بيَّنت أيضًا أن المساعدات المالية الأميركية عبر مؤسسات مثل USAID كانت عرضة لسوء الاستخدام بسهولة دون مراجعة دقيقة وآليات رقابية فعالة(15).

كما حذَّر المكتب في تقرير آخر من أن الفساد الواسع في المؤسسات الحكومية للجمهورية، بما في ذلك وزارة الدفاع، أدى إلى دفع رواتب جنود وهميين، وتوجيه الموارد المالية لمجموعات معارضة بدل تعزيز الأمن. وتدل هذه الأمثلة على أن الفساد في أفغانستان لم يكن مجرد تحدٍّ إداري، بل كان تهديدًا للاستقرار السياسي والأمني، وأن إشراف المكتب، رغم فاعليته في الكشف، كان محدود القدرة على منع تكرار المخالفات.

ثالثًا: تأثير تقارير السیغار على السياسات الأميركية تجاه أفغانستان: أثَّرت فضائح المكتب بشأن الفساد الواسع وسوء إدارة الموارد وفشل مشاريع الإعمار بشكل كبير على السياسات الأميركية تجاه أفغانستان. بعد سقوط الحكومة الجمهورية وعودة الإمارة الإسلامية، أدت هذه التقارير إلى مراجعة شاملة لكيفية تخصيص ومراقبة المساعدات الخارجية. على سبيل المثال، قلصت الحكومة الأميركية خلال السنوات الأخيرة مساعداتها التنموية لأفغانستان بشكل كبير، وركزت على التهديدات الإرهابية وإعادة المواطنين الأميركيين. كما قامت وزارة الخارجية الأميركية، بسبب الخوف من سوء استغلال الإمارة للموارد المالية، بوقف ميزانية برنامج الغذاء العالمي في أفغانستان، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بأنه تهديد لملايين الأفراد المعرضين للجوع(16).

ويعتقد بعض المحللين أن فضائح المكتب لم تقتصر على زيادة الشفافية داخليًّا في الولايات المتحدة، بل أسهمت أيضًا في تغيير نهج السياسة الخارجية الأميركية تجاه أفغانستان، من مساعدات واسعة إلى سياسات أكثر تقييدًا ومرتبطة بمراقبة دقيقة، رغم أن هذه التغييرات قد تكون أكثر استجابة ظرفية منها إصلاحًا هيكليًّا حقيقيًّا، مع استمرار تحديات في المساءلة وفاعلية السياسات الأميركية.

أسباب إنهاء مهمة المكتب في أفغانستان

على الرغم من الإنجازات والصلاحيات، واجه المكتب تحديات كبيرة، خصوصًا بعد سقوط الجمهورية وعودة الإمارة الإسلامية، ومن أبرزها:

القيود الأمنية وصعوبة الوصول: كان أحد أبرز التحديات، بعد التطورات السياسية في 2021، القيود الأمنية الصارمة وصعوبة الوصول الميداني داخل أفغانستان. بعد عودة الإمارة الإسلامية، فقد المكتب القدرة على الحضور المباشر لتقييم المشاريع ومراقبة صرف المساعدات المالية. ويشير تقرير الربع الأول لهذا العام إلى أن التهديدات الأمنية الناتجة عن مجموعات مثل داعش خراسان والقاعدة قلَّصت بشكل كبير مساحة العمل للمنظمات الدولية والمهام الرقابية. كما حذَّر المكتب من أن غياب إستراتيجية أمنية فعَّالة من حكومة الإمارة أدى إلى زيادة تحرك الجماعات الإرهابية بحرية في مختلف المناطق، وخلق مخاطر جسيمة على الموظفين والمراقبين الأجانب.

هذا الوضع أجبر المكتب على الاعتماد على المصادر الثانوية وتقارير الوكالات الوسيطة والبيانات غير المباشرة؛ مما أثَّر على دقة ومصداقية التقييمات. ومن ثم، لم تمنع القيود الأمنية فقط الرقابة الفعَّالة على المشاريع، بل أسهمت أيضًا في إنهاء مهمة المكتب في أفغانستان.  

الانتقادات لأساليب إعداد التقارير: أحد التحديات الرئيسية الأخرى كان تزايد الانتقادات حول منهجيات التقارير، والتي اعتبرتها جهات محلية وبعض الخبراء منحازة وغير واقعية(17)، وكانت بعض التقارير مرفوضة من قبل المسؤولين الحكوميين خلال فترة الجمهورية. كما يبدو أن المكتب في تقاريره الأخيرة تعامل بغير حيادية، محاولًا إظهار ضعف حكومة الإمارة الإسلامية، متجاهلًا إنجازات الإمارة في السياسة الخارجية، مثل الاعتراف الروسي بالحكومة، وتبادل السفراء مع دول أخرى، والتعاون الإقليمي، وتحسين الأمن الداخلي(18). كما تجاهل المكتب في تحليله للوضع الاقتصادي دور برامج البنية التحتية للإمارة الإسلامية وجهودها لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وأشار بعض الخبراء الدوليين إلى فشل المكتب في فهم البيئة الأفغانية بدقة وعدم التنسيق في تنفيذ المشاريع، وهو ما اعتبره جان سابكو، رئيس المكتب، أكبر خطأ أميركي في تعزيز القطاع الخاص في أفغانستان. وقد أسهمت هذه الانتقادات في تقليل التعاون مع المكتب، وتعطيل قدرته على الاستمرار في مهامه الرقابية والتحليلية؛ مما أدى في النهاية إلى إنهاء مهمته.

ردود فعل المسؤولين الأفغان والأميركيين: كانت ردود المسؤولين الأفغان على نتائج المكتب أحد أبرز التحديات لاستمرار مهمته. فمن النادر أن تمر تقارير المكتب دون رفض جزئي أو كامل من قبل المسؤولين سواء في فترة الجمهورية أو بعد عودة الإمارة الإسلامية. فقد رفضت وزارة الاقتصاد تقرير المكتب النهائي، مؤكدة أن الاقتصاد الأفغاني لم يعد يعتمد على المساعدات الخارجية. واعتبر عبد اللطيف نظري، معاون الوزارة، أن تقارير المكتب جزء من "حرب نفسية ضد مصالح أفغانستان"، مؤكدًا أن الإمارة الإسلامية تنفذ برامج بنية تحتية واسعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي(19).

كما وصفت وسائل الإعلام التابعة للحكومة، مثل موقع الإمارة، المكتب بأنه جهة دعائية واستخباراتية تهدف إلى توجيه الرأي العام ضد النظام الحالي ونشر معلومات مغلوطة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي. هذا الموقف يعكس انخفاض الشرعية وقبول تقارير المكتب داخل أفغانستان؛ مما أثَّر مباشرة على قدرته في التقييم والمراقبة الفعَّالة. من جهة أخرى، أبدى المسؤولون الأميركيون ردود فعل مختلفة، أحيانًا تعكس اختلافات داخلية. فقد أشار المكتب في تقاريره الأخيرة إلى انخفاض المساعدات الأميركية بنسبة 82٪ بعد عودة الإمارة، واقترح إنهاء مهمته، بحجة أن الظروف الجيوسياسية الجديدة جعلت الرقابة الفعَّالة مستحيلة. وقال جان سابكو أمام الكونغرس: إن استمرار نشاط المكتب دون وصول ميداني وتعاون الحكومة الأفغانية سيكون بلا جدوى. ومع ذلك، أصر بعض الجهات الأميركية، مثل وزارة الخارجية، على ضرورة الرقابة على المساعدات الإنسانية وتعزيز آليات الشفافية في المؤسسات الدولية النشطة في أفغانستان(20). ويؤدي هذا التباين في وجهات النظر داخل الهيكل الحكومي الأميركي إلى تعقيد مستقبل المكتب في أفغانستان وخلق تحديات إستراتيجية له.

نظرة على آخر تقرير لمكتب سیغار

استعراض موجز لمحتوى التقرير: يعد التقرير الثامن والستون لمكتب سیغار، الصادر في يوليو/تموز 2025، آخر وأشمل تقييم لهذا المكتب حول الوضع في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية وتراجع المساعدات الخارجية بشكل حاد. يركز التقرير على العواقب الاقتصادية والأمنية والإنسانية الناتجة عن التطورات بعد أغسطس/آب 2021، محذرًا من أن التوقف المفاجئ للمساعدات الدولية، لاسيما من الولايات المتحدة، هدَّد استقرار النقد في أفغانستان بشدة، وأوقع أداء البنك المركزي، الذي يعتمد على المساعدات النقدية للأمم المتحدة، في أزمة حقيقية. كما أشار التقرير إلى عوامل أخرى مثل العزلة السياسية لحكومة الإمارة الإسلامية، ونقص الكوادر المتخصصة، والعجز عن طباعة النقد كأسباب رئيسية للركود الاقتصادي(21). وأشار جزء آخر من التقرير إلى أن حوالي 24 مليار دولار من المساعدات الأميركية منذ عام 2008 قد أُهدرت نتيجة الفساد وسوء الإدارة وغياب الرقابة الفعَّالة في أفغانستان. كما تناول التقرير التراجع الكبير في المساعدات الإنسانية، خاصة في مجالات الصحة والتغذية والتعليم، مؤكدًا أن ملايين الأفغان معرضون لخطر الفقر المدقع والجوع(22).

وفي ردِّها على هذا التقرير، رفضت وزارة الاقتصاد الأفغانية محتواه، مؤكدة أن اقتصاد البلاد لم يعد معتمدًا على المساعدات الخارجية، وأنها تنفذ برامج بنيوية واسعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي.

النقاط الرئيسية والنتائج المهمة: يقدّم التقرير الثامن والستون والأخير لمكتب سیغار صورة نقدية وشاملة للوضع في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية. يؤكد التقرير أن تراجع المساعدات الإنسانية الأميركية من أكثر من 968 مليون دولار في عام 2023 إلى 342 مليون دولار في عام 2025، في ظل تزايد الاحتياجات الداخلية في أفغانستان، ترك آثارًا عميقة على معيشة الناس.(23) وحذّر التقرير أيضًا من أن حكومة الإمارة الإسلامية انتهكت على نطاق واسع حقوق النساء والفتيات خلال السنوات الأربع الماضية، وحدّت من وصولهن إلى التعليم والعمل والخدمات الاجتماعية. وفي قسم «النقاط الختامية للبعثة»، أشار التقرير إلى حالات هدر الموارد، بما في ذلك مشروع بقيمة 26 مليون دولار لبناء مرافق للشرطة الحدودية، ظلت العديد من مبانيه غير مستخدمة أو استُخدمت لأغراض غير مرتبطة مثل تربية الدواجن. كما انتقد التقرير الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، لتوفيرها موارد مالية هائلة خلال العقدين الماضيين، مما أدى إلى فساد هيكلي في أفغانستان، بينما فضّلت الأهداف الأمنية والسياسية على الشفافية والمساءلة. (24) وأكد محللون دوليون مثل توماس روتيغ وأورسولا نعمت على أن التحذيرات المتكررة من مكتب سیغار تم تجاهلها على مر السنين، وأنه لو أُخذت بعين الاعتبار في وقتها، ربما كان مسار إعادة إعمار أفغانستان سيختلف. إن هذا التقرير لا يشكل مجرد نهاية لمهمة الرقابة لمكتب سیغار، بل يُعد أرشيفًا موثقًا لفشل الإستراتيجيات الغربية في أفغانستان.(25)(26)

التغييرات مقارنة بالتقارير السابقة: يُظهر التقرير الثامن والستون لمكتب سیغار، وهو التقرير الرسمي الأخير لهذا المكتب، عدة تغييرات مهمة وهيكلية مقارنة بالتقارير السابقة، تعكس نهاية مرحلة معينة وانعكاس الحقائق الجيوسياسية الجديدة في أفغانستان.

أول وأهم تغيير هو الاقتراح الرسمي لرئيس مكتب سیغار، جان سابكو، بإنهاء مهمة هذا المكتب. بينما ركّزت التقارير السابقة بشكل رئيسي على المراقبة وكشف الفساد وتقييم مشاريع إعادة الإعمار، ركّز التقرير الأخير على القيود التشغيلية وتراجع الوصول الميداني وعدم فعالية آليات الرقابة في الظروف الجديدة لأفغانستان. تغيير آخر هو الأسلوب الأكثر صراحة وانتقادًا لأداء الجهات الأميركية والدولية. على عكس التقارير السابقة التي ركزت غالبًا على الفساد الداخلي في أفغانستان، انتقد التقرير الثامن والستون مباشرة وزارة الخارجية ووكالة USAID لإهمالهما تقديم المعلومات والالتزام بمعايير الرقابة. كما أكد التقرير أن العديد من المشاريع المدعومة من الولايات المتحدة، بما في ذلك مرافق الشرطة الحدودية، بقيت غير مستخدمة أو منخفضة الجودة على الرغم من صرف ملايين الدولارات. أخيرًا، عمل التقرير كوثيقة ختامية، مجمِّعًا نتائج 17 سنة من المتابعة، مقترحًا نهاية مهمة مكتب سیغار نتيجة للظروف السياسية والأمنية والمالية الجديدة.

التداعيات المحتملة سياسيًّا ودبلوماسيًّا: يحمل التقرير الثامن والستون لمكتب سیغار تبعات سياسية ودبلوماسية كبيرة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي؛ إذ يشير إلى تراجع المساعدات الإنسانية الأميركية من أكثر من 968 مليون دولار في عام 2023 إلى نحو 342 مليون دولار في عام 2025؛ مما يعكس انسحاب واشنطن الإستراتيجي من التزاماتها السابقة تجاه أفغانستان. هذا التراجع سيؤثر على معيشة ملايين الأفغان.

من المنظور الدبلوماسي، فإن إنهاء مهمة مكتب سیغار، بصفتها الجهة الرقابية المستقلة الوحيدة على المساعدات الخارجية، يخلق فراغًا كبيرًا في الشفافية والمساءلة، كما يشير إلى فشل المهمة الغربية بقيادة الولايات المتحدة في أفغانستان. علاوة على ذلك، يسلِّط التقرير الضوء على إخفاق الإمارة الإسلامية في تنفيذ التزامات اتفاقية الدوحة، بما في ذلك تشكيل حكومة شاملة ومكافحة الإرهاب، وهو ما قد يؤثر سلبيًّا على علاقات أفغانستان مع الولايات المتحدة والدول الغربية. بالتالي، لا يمثل التقرير مجرد نهاية للوجود المادي للولايات المتحدة في أفغانستان، بل يعد درسًا لجميع القوى حول تبني سياسات هجومية تجاه دول تختلف في أيديولوجياتها بشكل جذري.

ردود الفعل على التقرير الأخير: واجه التقرير الثامن والستون والأخير لمكتب سیغار ردود فعل واسعة من وسائل الإعلام والجهات الحكومية والمحللين السياسيين. فقد اعتبرت وسائل الإعلام مثل "راديو أوروبا المححرة" و"طلوع نيوز" التقرير فضيحة تكشف إخفاقات الإستراتيجيات الأميركية في أفغانستان. أشار التقرير إلى التراجع الكبير في المساعدات الإنسانية الأميركية، وانتهاك حقوق النساء من قبل الإمارة الإسلامية، وهدر مليارات الدولارات في مشاريع غير فعَّالة، فيما وصفه بعضهم بـ"أرشيف ثمين لفشل الغرب".

على الصعيد الداخلي في أفغانستان، كانت ردود الفعل غالبًا دفاعية وانتقادية. إذ رفضت وزارة الاقتصاد مزاعم التقرير في بيان رسمي، مؤكدة أن «المساعدات الأميركية يجب ألا تُسيّس»، وأن «الإمارة الإسلامية ليس لها أي تدخل في توزيع المساعدات الدولية». وأوضح عبد اللطيف نظري، معاون وزير الاقتصاد، أن تقرير مكتب سیغار يحتوي على «جوانب إيجابية وسلبية»، لكنه شدد على أن الولايات المتحدة بانتهاجها السياسة في تقديم المساعدات انتهكت المبادئ الإنسانية والقوانين الدولية. وأشار محللون أفغان، مثل إدريس محمد زازي، إلى أن «رغم تعدد تقارير مكتب سیغار حول الفساد الإداري، لم تُتخذ أي إجراءات فعالة لمنعه».(27) هذه الردود تظهر أن التقرير النهائي لمكتب سیغار لم يكن مجرد وثيقة رقابية، بل أصبح محفزًا للنقاشات السياسية والدبلوماسية على المستويين الداخلي والدولي.

تقييم دور مكتب سیغار في عملية إعادة إعمار أفغانستان

لم يتمكن مكتب سیغار، منذ انطلاق عمله في مسار إعادة إعمار أفغانستان، رغم كشفه للفساد الواسع وعدم الكفاءة في استخدام المساعدات المالية الأميركية، من لعب دور فعَّال في إصلاح الهياكل، بل أصبح أشبه بمراقب سلبي بدلًا من كونه جهة إصلاحية. غالبًا ما صُمِّمت مشاريع إعادة الإعمار دون تقييم للاحتياجات الحقيقية للشعب الأفغاني ودون إشراك المجتمع المحلي؛ مما أدى إلى خلق تبعية، وتوسيع الفساد النظامي، وتطبيق سياسات خاطئة، وتكريس شرعية الحكومة. كما تم تجاهل التحذيرات المتكررة بشأن تقييم المشاريع في واشنطن، وتحول ملف إعادة الإعمار إلى أداة لتحقيق الأهداف الجيوسياسية للولايات المتحدة.

بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، تغيَّر دور مكتب سیغار بشكل ملحوظ، من مراقبة ميدانية لمشاريع إعادة الإعمار إلى تقييم المساعدات الإنسانية وتحليل العواقب السياسية والاقتصادية للتطورات الجديدة بشكل يميل إلى الانحياز. وفقًا للتقرير الرسمي لهذا المكتب، الصادر في فبراير/شباط 2023، كُلِّف بدراسة أسباب انهيار القوات الأمنية الأفغانية، والتي شملت تقييم 20 عامًا من المساعدات الأمنية بقيمة تجاوزت 90 مليار دولار(28).

ويذكر التقرير أن قرار رئيس الولايات المتحدة بالخروج أثَّر على جميع القرارات اللاحقة للحكومات الأميركية والأفغانية والإمارة الإسلامية؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى الانهيار السريع للقوات الأمنية الأفغانية. ومع محدودية الوصول الميداني وغياب التعاون من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأميركية، اضطر مكتب سیغار للاعتماد على مقابلات مع مسؤولين أفغان وأميركيين سابقين ومصادر غير رسمية، وهو ما يعكس تراجع القدرة التشغيلية للمكتب في الظروف الجديدة(29).

في المرحلة التالية، ركَّز مكتب سیغار على مراقبة كيفية استخدام المساعدات الإنسانية الأميركية بعد الانسحاب العسكري. وفقًا لتقرير نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، خصصت الولايات المتحدة، من أغسطس/آب 2021، وحتى ذلك الحين أكثر من 3.3 مليارات دولار كمساعدات إنسانية وتنموية لأفغانستان، تم توزيع جزء كبير منها عبر منظمات دولية مثل الأمم المتحدة(30).

مع ذلك، حذَّر مكتب سیغار في تقاريره من أن الإمارة الإسلامية سيطرت بشكل مباشر على العديد من المنظمات غير الحكومية وعملية توزيع المساعدات؛ مما زاد، بحسب المكتب، من خطر إساءة استخدام الموارد ومن تعزيز شرعية غير مباشرة للحكومة. كما انتقد المكتب عدم تحقيق أهداف الأمم المتحدة في تمويل المساعدات الإنسانية، مشيرًا إلى أن 37٪ فقط من الميزانية المطلوبة لعام 2024 قد تم توفيرها(31).

تشير هذه التطورات إلى أن دور مكتب سیغار بعد انسحاب القوات الأميركية تحول من الرقابة الفنية والميدانية إلى التحليل الإستراتيجي والتحذير من العواقب السياسية والإنسانية، بهدف إبراز ضعف حكومة الإمارة الإسلامية. كما ذكر المكتب في تقريره النهائي للكونغرس الأميركي أن الإمارة الإسلامية، من خلال تنفيذ قانون "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قد قلَّصت المساحات الاجتماعية والتشغيلية؛ حيث يمكن للمسؤولين المختصين مراقبة سلوك المواطنين وفرض العقوبات عند مخالفته(32). ويرى مكتب سیغار أن هذه السياسات لم تقتصر على تقييد الحريات الفردية فحسب، بل أعاقت وصول النساء إلى الخدمات الإنسانية؛ إذ تشير بيانات الأمم المتحدة التي أوردها التقرير إلى أن أكثر من 70٪ من النساء الأفغانيات حُرِمْن من المساعدات بسبب حظر عمل النساء وغياب الكوادر النسائية(33). علاوة على ذلك، حذَّر المكتب من تدخل الإمارة الإسلامية المباشر في أنشطة المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك التحقيقات المفاجئة، وطلب المعلومات المالية والتشغيلية، وحتى التهديد الجسدي أثناء توزيع المساعدات. كما فُرض حظر عمل النساء في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة؛ مما أدى إلى أزمة في تنفيذ البرامج الإنسانية بفاعلية. ورغم ذلك، يظل مكتب سیغار، على الرغم من تحول توجهه في تقديم التقارير بروح نقدية، يتوقع من الإمارة الإسلامية التمتع بالحريات التي كانت متاحة في فترة الجمهورية، وهو أمر من المستحيل تحقيقه.

خاتمة

بشكل عام، يمكن القول: إن مكتب سیغار لعب على مدى أكثر من خمسة عشر عامًا دورًا محوريًّا في توثيق التكاليف والنجاحات والإخفاقات الواقعية لإعادة إعمار أفغانستان من قبل الولايات المتحدة. وقد انتهت الآن مهمته، وتُعَد تقاريره الموسعة عن أفغانستان في معظم الحالات توثيقًا لفشل الغرب في هذا البلد. ورغم أن المساعدات الأمنية وحدها خلال عشرين عامًا من الوجود الأميركي في أفغانستان بلغت قيمتها 90 مليار دولار، إلا أن أي حضور حتى لمكتب رقابي أميركي لم يعد موجودًا. ومع ذلك، يقدم انتهاء مهمة مكتب سیغار دروسًا مهمة للقوى الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، يمكن تلخيصها كما يلي:

الدرس الأول: لا يمكن شراء الأمم أو هندستها بالمال والقوة العسكرية. أثبتت تجربة أفغانستان أن المشاريع التي تبدو ديمقراطية والتي تُبنى وفق مصالح القوى الجيوسياسية وليس وفق احتياجات الشعب، تؤدي في النهاية إلى فقدان الثقة والفشل والانهيار.

الدرس الثاني: إن سياسة الولايات المتحدة المزدوجة في أفغانستان، من دعم حقوق الإنسان والديمقراطية ظاهريًّا، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأمنية والسياسية عمليًّا، لم تؤدِّ فقط إلى فقدان الشرعية لمزاعمها الأخلاقية، بل أسهمت في تكوين كراهية شعبية عميقة تجاه الوجود الأجنبي.

الدرس الثالث: السلوك القمعي تجاه الشعوب، من خلال العقوبات الاقتصادية، وقطع المساعدات الحيوية فجأة، واستخدام حقوق الإنسان أداة ضغط سياسي، جعل من أفغانستان نموذجًا واضحًا للتكاليف الباهظة لهذا النهج.

بعبارة أخرى، إن انتهاء مهمة مكتب سيغار في أفغانستان يُمثل مرآةً صادقةً تُظهر أن القوى الكبرى، إذا فضَّلت مصالحها على حقوق الشعوب، فلن تقدر، ولو أنفقت عشرات مليارات الدولارات وامتدَّ وجودها طويلًا على إقامة نظام مستدام وشعبي. هذا الفشل التاريخي يشكِّل إنذارًا للأمم والدول الأخرى بأن الديمقراطية الحقيقية ينبغي أن تنبع من صميم المجتمع نفسه، لا أن تُحمل في حقائب الجنود الأجانب، ولا أن تُفرض عبر العقود المالية والسياسية التي تبرمها القوى العالمية.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), 2025, 1–6, (accessed: sep,9, 2025):

https://primarynewssource.org/wp-content/uploads/2025-07-30qr.pdf

  1. Sopko, J. F, Remarks prepared for delivery on the release of SIGAR’s Lessons Learned Report: Corruption in Conflict, September 14, 2016, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction, (accessed: sep,9, 2025): https://www.sigar.mil/News/Article-Display/Article/4018819/remarks-prepared-for-delivery-by-special-inspector-general-john-f-sopko-on-the/
  2. Thomas, C, The Washington Post’s “Afghanistan Papers” and U.S. Policy: Main Points and Possible Questions for Congress (CRS Report No. R46197), January 28, 2020, Congressional Research Service, (accessed: sep,9, 2025): https://www.congress.gov/crs_external_products/R/PDF/R46197/R46197.4.p
  3. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), 2025, 38, (accessed: sep,9, 2025):

https://primarynewssource.org/wp-content/uploads/2025-07-30qr.pdf

  1.   page  22.
  2.   page  6.
  3. page 29.
  4. Page  42.
  5. Page  47
  6. Page  47
  7. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), 2024, 108, (accessed: sep,9, 2025):

 https://kabulnow.com/2024/07/sigar-us-aid-vetting-lapses-may-have-profited-taliban-and-militant-groups/

  1. AfgReview, An Analysis of SIGAR’s Warnings Regarding Afghanistan, August 13, 2025, (accessed: sep,9, 2025): https://afgreview.com/en/economic/sigar/
  2. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), 2024, 12, (accessed: sep,9, 2025):

 https://kabulnow.com/2024/07/sigar-us-aid-vetting-lapses-may-have-profited-taliban-and-militant-groups/

  1. Page  33.
  2.   Page  51.
  3. Page 35.
  4. Ministry of Economy of Afghanistan, Afghanistan Self-Reliant Economically; SIGAR Report Undue, August 4, 2025, The Kabul Times, (accessed: sep,9, 2025):

https://thekabultimes.com/afghanistan-self-reliant-economicaly-sigar-report-undue

  1.      Sopko, J. F, Remarks prepared for delivery by Special Inspector General John F. Sopko on the release of SIGAR’s Lessons Learned Report on Private Sector Development, March 20, 2024, (accessed: sep,9, 2025):

https://www.sigar.mil/News/Article-Display/Article/4018819/remarks-prepared-for-delivery-by-special-inspector-general-john-f-sopko-on-the/

  1.    Ministry of Economy of Afghanistan, Afghanistan Self-Reliant Economically; SIGAR Report Undue, August 4, 2025, The Kabul Times, (accessed: sep,9, 2025):

https://thekabultimes.com/afghanistan-self-reliant-economicaly-sigar-report-undue

  1. Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction, A Broken Aid System: Delivering U.S. Assistance to Taliban-Controlled Afghanistan, August, 2025, (accessed: sep,9, 2025): https://www.sigar.mil/Portals/147/Files/Reports/lessons-learned/SIGAR-25-29-LL.pdf
  2. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), 2025, 15, (accessed: sep,9, 2025):.

https://primarynewssource.org/wp-content/uploads/2025-07-30qr.pdf

  1.   Page. 22
  2. Page. 25.
  3.   Page. 30.
  4.   Nemat, O, Final US Report Reveals Serious Failures in Afghanistan Mission, August 4, 2025, Gazeta Express, (accessed: sep,9, 2025):

https://www.gazetaexpress.com/en/US-final-report-reveals-serious-failures-in-Afghanistan-mission/

  1. Kayhan International, Final U.S. Report on Afghanistan Cites Widespread Corruption, August 4, 2025, (accessed: sep,9, 2025):

https://kayhan.ir/en/news/142174/final-us-report-on-afghanistan-cites-widespread-corruption

  1. Zazai, I. M, SIGAR Reports on Aid Cuts, Women's Rights Violations in Afghanistan, August 1, 2025, TOLOnews, (accessed: sep,9, 2025): https://tolonews.com/afghanistan-195248
  2. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), 2025, 10, (accessed: sep,9, 2025):

https://primarynewssource.org/wp-content/uploads/2025-07-30qr.pdf

  1. Page. 12.
  2. SIGAR, November 2024 Quarterly Report to Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction, 2024, 40, (accessed: sep,9, 2025):

https://www.sigar.mil/pdf/quarterlyreports/2024-10-30qr.pdf

  1. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), July, 2024, 112, (accessed: sep,9, 2025):

 https://www.sigar.mil/pdf/quarterlyreports/2024-07-30qr.pdf

  1. SIGAR, Quarterly Report to the United States Congress, Washington, D.C, Special Inspector General for Afghanistan Reconstruction (SIGAR), 2025, (accessed: sep,9, 2025):

https://www.sigar.mil/Portals/147/Files/Reports/Quarterly-Reports/2025-07-30qr.pdf

  1. page 28.