أسطول الصمود العالمي: السردية الشارحة الكبرى لمقاومة الإبادة في غزة

تشهد حركة التضامن الإنساني الدولي مع قطاع غزة توسُّعًا أفقيًّا يتعزَّز مع مبادرات مجتمعية دولية كثيرة، منها أسطول الصمود العالمي، الذي يُسْهِم في تشكيل سردية شارحة كبرى عن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، ودور حركة التضامن في كسر الحصار على القطاع، وما تقوم به المقاومة الفلسطينية لمواجهة حرب الإبادة. وفي هذا الإطار، تُحاول الورقة الإجابة على الأسئلة التالية: ما الأبعاد الرمزية التي يُمثِّلها أسطول الصمود العالمي في إطار حركة التضامن مع غزة؟ وما الحدث الثقيل الوزن في قيمته، خلال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي جعل الحالة الفلسطينية تُنْتِج سردية شارحة عالمية عن حقيقة الاحتلال الإسرائيلي ودور المقاومة الفلسطينية في مواجهة سياساته ومخططاته؟ وإلى أي حدٍّ تُمثِّل هذه السردية الشارحة الكبرى حالة ثقافية عابرة للحدود الجغرافية والانتماءات السياسية والدينية والأيديولوجية؟ وكيف تُكرِّس هذه الحالة الثقافية العابرة للحدود مشروعيةَ المقاومة، أخلاقيًّا وسياسيًّا، دفاعًا عن الوجود الفلسطيني وحقِّه في إقامة دولته الفلسطينية؟
17 سبتمبر 2025
تعاظم التضامن الإنساني الدولي لمقاومة الإبادة المتوحشة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة (رويترز)

أعاد أسطول الصمود العالمي لكسر الحصار على غزة، والذي انطلقت سفنه وقواربه من موانئ دولية مختلفة، الزخْمَ لحركة التضامن الإنساني الدولي مع سكان القطاع، في ظل "الإبادة البنائية" التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ عامين تقريبًا لتدمير جميع مصادر الحياة الإنسانية، ومحاولة اجتثاث الفلسطينيين وتهجيرهم خارج حدود القطاع. ويكشف هذا الزخم التضامني مع غزة تعاظمَ قوة الرأي العام الدولي طوال فترة الحرب، واتساعَ أنشطته الاحتجاجية لفئات وحركات مختلفة، اجتماعية وحقوقية ونقابية وأكاديمية وفنية، رفضًا للإبادة الجماعية المتوحشة.  

فقد بات هذا الرأي العام يُدرك، أولًا: النزعة التوسعية (الإستراتيجية والدينية) لإسرائيل في المنطقة، من خلال ما تُسمِّيه "إسرائيل الكبرى"، وهو المشروع الذي يعتبره قادتها "مهمة تاريخية وروحية"، كما ورد في حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو(1). ويقوم البُنيان الأساس لهذا المشروع على إنهاء الوجود الفلسطيني وطمس هويته التاريخية عبر السياسة الاستعمارية التي يتَّبعها الاحتلال في ضمِّ الأراضي الفلسطينية، وتَهْوِيد المقدسات الدينية، والتطهير العرقي، والتوسع شرقًا وغربًا. وثانيًا: يرى هذا الرأي العام الدولي خطوات عملية لسياسة "الحلِّ الشامل" التي يتبنَّاها الجيش الإسرائيلي في إبادة سكان القطاع لمنع إقامة الدولة الفلسطينية، ومواجهة أي طرف يعترف بهذه الدولة، حتى لو كان من الحلفاء الغربيين، وهو ما يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني. وثالثًا، وهذا هو الأهم، أصبحت فئات واسعة من الرأي العام الغربي أساسًا، لاسيما الفئة العمرية من الشباب (18-24)، وحتى بعض الفئات العمرية الأخرى، تُقِرُّ بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بل وتُؤَيِّد فصائل المقاومة الفلسطينية، ومنها حركة حماس، في مواجهة إسرائيل وحرب الإبادة الجماعية التي تشنُّها ضد الفلسطينيين، وهو ما يُضفي المشروعية المجتمعية والسياسية على المقاومة في صراعها المسلح مع الاحتلال من أجل تحقيق الاستقلال، وإقامة الدولة الفلسطينية. وهذا ما تكفُله أيضًا المواثيق والقوانين الدولية للشعوب التي ترزح تحت الاستعمار دفاعًا عن أرضها واستقلالها الوطني، مثل البروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف (1977). وقد أظهر استطلاع للرأي، أجراه مركز الدراسات السياسية الأميركية بجامعة هارفارد (CAPS)، أن الفئة العمرية من الشباب الأميركي، الذين ينتمون للحزب الديمقراطي، يُؤَيِّدون حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في سياق الصراع مع إسرائيل بنسبة 60%. كما أن 71% من هذه الفئة العمرية "لا يُوافقون على سلوك إسرائيل" في هذا الصراع، وهو ما يعني رفضهم للإبادة الجماعية المتوحشة التي يتعرَّض لها سكان القطاع. ويُعارض 57% منهم الدعم العسكري الذي تُقدِّمه الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل(2)، بينما "يقول ما يقرب من نصف البالغين البريطانيين: إن إسرائيل تُعامِل الفلسطينيين كما عامَل النازيون اليهودَ في الهولوكوست"(3).

ويُبرِز هذا الزخم لحركة التضامن رفضَ الرأي العام الدولي لحرب الإبادة الجماعية، ويشمل ذلك فئات اجتماعية وهيئات ومؤسسات مختلفة؛ إذ يتحوَّل (الزخم) يومًا بعد آخر إلى اتجاه متصاعد في جوهر حركة التضامن الدولي مع سكان غزة. ويتجاوز هذا التضامنُ الطابعَ الإنساني، من خلال العمل الميداني في محاولة لفكِّ الحصار على القطاع وإدخال المساعدات الإنسانية، ليقوم بتشكيل واقع ثقافي جديد (بنى فوقية) عبر سردية شارحة عالمية لحقيقة الوضع الراهن في غزة والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين، والسياق العام للقضية الفلسطينية، ودور فصائل المقاومة الفلسطينية والمشروعية المجتمعية والسياسية لعملها المسلح في مواجهة الاحتلال. كما تُبيِّن هذه السردية الموقفَ الأخلاقي لحركة التضامن الدولي في دعم صمود الشعب الفلسطيني، ومنظورَها الثقافي للحرية الإنسانية، وموقفَها من الصهيونية والاستعمار، والأخطارَ التي تتهدَّد الأمن والسلم الدوليين في ظل استمرار حرب الإبادة على غزة.

في هذا السياق، الذي تتصاعد فيه سردية شارحة كبرى عن "الحدث الثقيل الوزن في قيمته" بغزة، ودور حركة التضامن الدولي في كسر الحصار على القطاع، وما تقوم به المقاومة الفلسطينية لمواجهة هذا الحدث، تُحاول الورقة الإجابة على الأسئلة التالية: ما الأبعاد الرمزية التي يُمثِّلها أسطول الصمود العالمي في إطار حركة التضامن مع غزة؟ وما الحدث الثقيل الوزن في قيمته، خلال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي جعل الحالة الفلسطينية تُنْتِج سردية شارحة عالمية عن حقيقة الاحتلال الإسرائيلي ودور المقاومة الفلسطينية في مواجهة سياساته ومخططاته؟ وإلى أي حدٍّ تُمثِّل هذه السردية الشارحة الكبرى حالة ثقافية عابرة للحدود الجغرافية والانتماءات السياسية والدينية والأيديولوجية؟ وكيف تُكرِّس هذه الحالة الثقافية العابرة للحدود مشروعيةَ المقاومة، أخلاقيًّا وسياسيًّا، دفاعًا عن الوجود الفلسطيني وحقِّه في إقامة دولته الفلسطينية؟

النموذج المطلق للشر 

يُعَد مصطلح السرديات الشارحة (الكبرى) نمطًا من الأنماط السردية التي استأثرت باهتمام دراسات النظرية الاجتماعية ونظرية التواصل، ويُستَخْدَم في هذه الورقة بالمعنى الذي حدَّدته أستاذة علم الاجتماع والتاريخ، مارغريت سومرز (Margaret Somers)، في نمذجتها لأصناف السرديات في سياق الحركات الاجتماعية. فقد ميَّزت بين أربع سرديات: السرديات الأنطولوجية (أو الذاتية)، والجماهيرية، والتصورية، والشارحة، في محاولة لرسم حدود الوظائف الاجتماعية والفحوى السياسية للسردية. وقامت الأكاديمية، منى بيكر، بإثراء هذه الأصناف والتوسُّع في تحديد مفهومها وأبعادها، نظريًّا وتطبيقيًّا، في كتابها: "الترجمة والصراع"، الذي يُعَدُّ مرجعًا مهمًّا في هذا المجال.

وتُحيل السرديات الشارحة على القصة أو الحكاية الكبرى التي يكون الأفراد منغرسين فيها كفاعلين في التاريخ، وهي تُشَفِّر رؤيتهم للأحداث وتُؤَطِّر نظرتهم للقضايا الكبرى، مثل التقدم والانحطاط والتصنيع والتنوير. ويمكن أن تكون أيضًا "دراسة ملحمية لزمننا: الرأسمالية مقابل الشيوعية، الفرد مقابل المجتمع، البربرية مقابل التحضر"(4). وبهذا المعنى، فإن أسطول الصمود العالمي، الذي يتكوَّن من اتحاد أسطول الحرية، وحركة غزة العالمية، وقافلة الصمود، ومنظمة صمود نوسانتارا الماليزية، يصوغ قصة كبرى عن التضامن الإنساني الدولي العابر للحدود مع قطاع غزة، ومواقفه المبدئية من حرب الإبادة الجماعية. لذلك يُمثِّل حالة كونية تتجاوز الاعتبارات السياسية والأيديولوجية والدينية والثقافية والجغرافية للمشاركين والمؤيدين؛ إذ ينخرط في صياغة هذه السردية التضامنية والأخلاقية ناشطون وفاعلون دوليون، من 44 بلدًا، في مجالات مختلفة اجتماعية وحقوقية ونقابية وسياسية وفنية...إلخ.  

وتعكس السردية الشارحة الكبرى تحوُّلًا في وعي الرأي العام العالمي ويقظته تجاه ما يجري في غزة، لاسيما في ظل استمرار الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في القطاع دون ملاحقة المسؤولين المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية. ولذلك لم يَعُد الرأي العام الدولي يتحمَّل بشاعة هذه الجرائم، وكذلك عجز المؤسسات الدولية عن وقف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني. وهنا، تُمثِّل حرب الإبادة، وآثارها الإنسانية والصحية والأمنية والاقتصادية على الوجود الفلسطيني، "حدثًا ثقيل الوزن في قيمته" الشريرة؛ إذ بدأت تُشكِّل منظورَ الرأي العام العالمي تجاه حقيقة نمط الاحتلال الإسرائيلي، الذي ظل طوال تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يُقدِّم نفسه "ضحية" ما يُسمِّيه "الإرهاب الفلسطيني"، وأن "إسرائيل لها الحق في الدفاع عن النفس" لاجتثاث "التهديد الإرهابي" للمقاومة الفلسطينية، والقضاء على مصادره عبر القتل الممنهج للفلسطينيين، وتدمير المساكن والتهجير القسري لإنهاء مصادر الحياة الإنسانية في القطاع. فيرى هذا الرأي العام الدولي أن إسرائيل ترتكب اليوم "جريمة الجرائم"، على الهواء مباشرة، وهو الوصف الذي كانت أطلقته محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية على أحداث الحرب في يوغسلافيا ورواندا، وسبق أن أصَّل مفهومه الأكاديمي، رافائيل ليمكن (Raphael Lemkin)، الذي صاغ مصطلح "الإبادة الجماعية"، واعتبرها "خطة مُنَسَّقة لمجموعة من الأعمال المختلفة التي تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية لحياة الجماعة الوطنية"(5).   

لكن في الواقع تبدو "جريمة الجرائم"، أو "أم الجرائم"، التي تُنفِّذها إسرائيل في قطاع غزة أكثر تَوَحُّشًا؛ إذ لم يُعْرَف مثلها في التاريخ الحديث، فقد اشتملت على جميع أنواع الإبادة (الجسدية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، البيولوجية، الثقافية، الدينية، الأخلاقية، المكانية، الصحية، الإعلامية...)؛ حيث تسعى -كما يقول الفلسطينيون- إلى تدمير الإنسان والحجر والشجر والحيوان والقيم، وتحويل القطاع إلى أرض يَبَاب لا حياة فيها. وهذا يَنْسِف أطروحة "الدفاع عن النفس"، التي تُبرِّر من خلالها إسرائيل والقوى التي تدعمها هذه الحرب، قياسًا على مبدأ التناسب في الردِّ؛ إذ ألقت إسرائيل حتى الآن أكثر من 100 ألف طن من القنابل على غزة. وكانت القنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على مدينة هيروشيما اليابانية، يوم 6 أغسطس/آب 1945، تعادل حوالي 15 ألف طن. وهذا يعني أن غزة التي تبلغ مساحتها 365 كلم2 عوقبت بقصفٍ يُعادِل في قوته التفجيرية سبع مرات قنابل هيروشيما تقريبًا(6).

وأصبحت هذه الإبادة المتوحشة، التي تُدمِّر في طريقها كل شيء بالقطاع، التمثيلَ الرمزي المهيمن للشر في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو ما يُسمِّيه الفيلسوف طه عبد الرحمن، بـ"الشر المطلق" (الحدث الأعظم الذي تضج به الساعة)، وهو "عبارة عن أعمال محددة مؤذية إيذاء يُعطِّل العقل، فلا يقدر أن يتصور هذا الإيذاء، فضلًا عن أن يُصدِّقه. كما أنه يُعطِّل الإرادة، ولا ينفد ولا ينحدُّ، ويكون الوجه اللاحق من كل عمل من هذه الأعمال أشدَّ إيذاء من الوجه الذي سبقه؛ إذ يتكاثر الأذى في هذا العمل ويتعاظم حتى لا نهاية يقف عندها"(7). ويُشير الدكتور عبد الرحمن إلى بعض تجليات هذا الشر المطلق وأبعاده؛ إذ شاهد الناس "الصلاة" في بيوت الله تُقْصَف، و"البراءة" في الطفولة تُزْهَق، و"العافية" من المستشفيات تُطْرَد، و"اللجوء" إلى المآوِي يُرهَب، وقس على ذلك ما شابَهه. ورأى الناس احتضار كل قيم الخير التي خُلِق الإنسان من أجلها، وليس "الشر المطلق" إلا مشاهد الموت الذي يأتي على كل القيم(8).

وتُثِير هذه الأعمال المتوحشة (الشر المطلق) صدمةَ الرأي العام العالمي حتى بين اليهود أنفسهم الذين سبق لهم أن واجهوا "المحرقة (الهولوكوست)، وشكَّلت التمثل الرمزي المهيمن للشر في أواخر القرن العشرين"؛ إذ تستخدم إسرائيل جميع الأسلحة (قتل الأطفال والنساء، تدمير المساكن والأبراج، حرق الخيام والمستشفيات، التجويع، التعطيش، التهجير القسري...) لإبادة سكان غزة. وهو ما يُظْهِر نمط الأعمال المؤذية غير المسبوقة التي يُواجهها الفلسطينيون في القطاع. وهنا، يحاول أسطول الصمود العالمي، من خلال حركة التضامن الدولي، كسرَ عدد من الثنائيات/المغالطات التي ترسَّخت طوال فترة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، منها: ثنائية "الضحية/الإرهاب الفلسطيني"، و"حق إسرائيل في الدفاع عن النفس/التهديد الإرهابي الفلسطيني"، و"النور (الحضارة، الحداثة، الديمقراطية)/الظلام (التخلف، العنف، الفوضى)" لتبرير السلوك الإبادي لإسرائيل وأفعالها الانتقامية ضد الشعب الفلسطيني. وهي ثنائيات تُشكِّل جوهر السردية التي قامت عليها الدعاية الإسرائيلية "الهاسبارا" منذ نشأة هذا الكيان إلى اليوم، وكانت تحظى بالرعاية والدعم الإعلامي والثقافي والأكاديمي في العالم الغربي حتى انكشفت كليًّا مع الحدث الثقيل الوزن في قيمته الشريرة (الإبادة المتوحشة).

وقد حلَّت محلَّ هذه المغالطات، ثنائيات أخرى لعل أبرزها ثنائية "الشر المطلق/العدالة"؛ إذ أصبحت إسرائيل في منظور فئات واسعة من الرأي العام الدولي كيانًا عدوانيًّا، وعنوانًا للشر المطلق كما تُجسِّده الإبادة الجماعية لسكان القطاع. وهنا يُمثِّل أسطول الصمود العالمي القوةَ الأخلاقية لاستعادة قوة القانون بدل قانون القوة، ووضع حدٍّ لما تعتقده إسرائيل بأن "ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة" (الإبادة المتوحشة). لذلك يسعى نشطاء الأسطول والمؤيدون لهم إلى إيقاف الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة حتى لو كانت هذه العدالة من الأسفل عبر المبادرات التضامنية الشعبية والمجتمعية العابرة للحدود، أو من خلال حركات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والفنية، التي بدأت تنتشر حتى في القلاع التي كانت يُهيمن عليها النفوذ الإسرائيلي، مثل هوليود والجامعات الأميركية. وهناك ثنائية أخرى تتكشَّف عبر حركة التضامن الدولي، وتتلخص في "الدولة المارقة/والمقاومة لهذا المروق بكل الوسائل". وتُهدِّد هذه الدولة المارقة الأمنَ والسلم الدوليين، وتنتهك سيادة الدول في المنطقة، متجاوزة القانون الدولي والأعراف الدولية، ويستهدف اعتداؤها حتى الدولة التي تحتضن مفاوضات إطلاق الأسرى وإنهاء الحرب على غزة مُنْتَهِكَة كل التقاليد والأعراف الدبلوماسية والدولية، بل تُهاجم أسطول الصمود في ميناء سيدي بوسعيد بتونس. ويستدعي ذلك "مقاومة هذه السياسة المارقة" وفي صلبها سياسات الاحتلال الإسرائيلي في القتل الممنهج لسكان غزة وإبادتهم، والعدوان على دول المنطقة (لبنان، إيران، اليمن، سوريا، قطر، تونس). وتنطوي هذه الثنائية على ثنائية فرعية تتمثَّل في "النزعة الاحتلالية-الاستعمارية لإسرائيل/والمساعي الفلسطينية والعربية لإحلال الأمن والسلام في المنطقة". كما يُبرِز أسطول الصمود العالمي ثنائية "العزلة السياسية والدبلوماسية لإسرائيل" التي أصبحت محاصرة ومنبوذة سياسيًّا في علاقاتها الخارجية حتى مع بعض حلفائها التقليديين، في الوقت الذي تؤكد فيه حركة التضامن العالمي أن "الفلسطينيين ليسوا وحدهم"، بل يتعاظم الدعم العالمي لغزة وللقضية الفلسطينية على المستوى المجتمعي، وكذلك على المستوى الرسمي في عدد من الدول، لاسيما الغربية، التي بدأ بعضها، مثل كندا، في مراجعة وإعادة تقييم علاقته مع إسرائيل(9).

حالة ثقافية كونية للمقاومة

أسهم أسطول الصمود العالمي في تغيير منظور فئات واسعة من الرأي العام الدولي تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي لم يَعُد صراعًا بين دولة احتلال -ترى في التوسع مهمة روحية وتاريخية- وبين شعب يرزح تحت الاستعمار، وإنما أصبحت مشكلة إسرائيل مع قوة القانون الدولي، والصراع مع السلم والأمن الدوليين عبر محاولة فرض هيمنتها وسيطرتها على المنطقة بالحديد والنار والإبادة. وبات الرأي العام العالمي، كما يُمثِّله أسطول الصمود، يُدرك هذه الحقائق، وهو ما يُحفِّزه على مواجهة هذه المشكلة ومقاومتها؛ إذ أصبحت الإبادة الجماعية التي تجري في القطاع تهمُّ العالم بكامله -وليست شأنًا فلسطينيًّا أو إقليميًّا. وتتطلب عملًا يُشكِّل رافعة قوية لعزل الاحتلال الإسرائيلي وتفكيك مصادر قوته، مثلما حدث مع نظام الفصل العنصري الذي حكم جنوب إفريقيا منذ العام 1948 حتى أوائل التسعينات. فقد انطلقت حملات وحركات اجتماعية عالمية كثيرة لمقاطعة نظام الأبارتايد على المستوى الاقتصادي والثقافي والأكاديمي والنقابي والرياضي، فضلًا عن المقاومة الداخلية السياسية والعسكرية التي كان يقودها المؤتمر الوطني الإفريقي.

وفي هذا السياق، يأتي دور السردية الشارحة الكبرى التي يعكسها التضامن الدولي عن المقاومة (مقاومة الشر المطلق الذي تُمثِّل إسرائيل نموذجه المعاصر/الإبادة الجماعية المتوحشة)، من خلال كسر الحصار عن غزة، ودعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الإبادة رغم المخاطر التي تُهدِّد أسطول الصمود. وهكذا تتحوَّل المقاومة إلى خطاب ثقافي كوني تتشكَّل مضامينه انطلاقًا من قواعد القانون الدولي الإنساني في حماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية، وحقِّه في التحرر والاستقلال وإنشاء دولة مستقلة. ويستمد هذا الخطاب قوته أيضًا من الحركات والمظاهرات الاحتجاجية الواسعة في المجتمعات الغربية بالمؤسسات الجامعية والهيئات والجمعيات الأكاديمية، والمهرجانات الفنية الدولية، وكذلك عبر المحتوى الرقمي على منصات التواصل الاجتماعي.

وهنا، يصبح نشاط حركات المقاومة الفلسطينية بمجالاته المختلفة دفاعًا عن الوجود الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها في حق الشعب الفلسطيني. وبات ذلك النشاط يحظى بتأييد فئات واسعة من الرأي العام العالمي الذي ينظر إلى المقاومة الفلسطينية باعتبارها عملًا مشروعًا؛ إذ ما ظهرت فصائل المقاومة إلا لتُواجِه احتلالًا إحلاليًّا مُتَوحِّشًا منذ حوالي ثمانية عقود. وهذا ما جعل بعض المشاركين في أسطول الصمود العالمي، مثل الناشطة السويدية في مجال المناخ، غريتا ثونبرغ (Greta Thunberg)، ترى أن المقاومة ضرورة في ظل تصعيد أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني بالقطاع، فـ"عندما تُصَعِّد إسرائيل الإبادة الجماعية، نُصعِّد نحن أيضًا المقاومة. لا يمكننا الاكتفاء بمشاهدة إبادة جماعية تُبَثُّ مباشرة (...) لقد سَئِم العالم رؤيةَ الأطفال يموتون جوعًا، وسَئِم رؤيةَ المستشفيات تُقْصَف، وكذلك المدراس والمنازل"(10).

وفي هذا السياق، تصبح المقاومة نضالًا وخيارًا وجوديًّا وشرطًا لبقاء الجماعة أو الأمة، بل تُعَد المقاومة عملية مستمرة من الكفاح في مواجهة "الأعمال المؤذية" ونموذج "الشر المطلق"، الأمر الذي يجعل مصير البشرية الإنسانية وحريتها مشتركة أمام الفعل الإبادي المتوحش. ولذلك يعتقد البعض أن حرية الشعب الفلسطيني جزء من حرية الشعوب الأخرى التي ستظل حريتها غير ناجزة أو منقوصة ما لم تتحقق حرية الشعب الفلسطيني، كما يُبَيِّن زوليفوليل مانديلا، حفيد زعيم جنوب إفريقيا الراحل، نيلسون مانديلا: "جدي علمنا أن حريتنا لن تكتمل دون حرية الفلسطينيين. واليوم، نحن نُجسِّد هذه الكلمات بأفعالنا"، معتبرًا أن الوضع الفلسطيني "أسوأ من الأبارتايد"(11). ويرى في دعم أسطول الحرية استمرارًا طبيعيًّا لنضال الأجيال السابقة في جنوب إفريقيا.

ويخشى مشاركون آخرون في أسطول الصمود من خطر الصهيونية على العالم، والشر الذي تُمثِّله في نزوعها نحو الهيمنة والاستعمار، لذلك تُعَد مقاومة الصهيونية واجبًا، في نظر هؤلاء، مثلما يؤكد الأكاديمي، جاريد ساكس (Jared Sax)، الذي يُمثِّل منظمة يهود جنوب إفريقيا من أجل فلسطين حرة: "المزيد من اليهود في جميع أنحاء العالم يدركون شر الصهيونية، ويدركون أنه يجب تدميرها، ليس فقط لغرض دعم الشعب الفلسطيني، ولكن أيضًا لإنقاذ عالمنا الذي يُدَمَّر بشرور الصهيونية التي ترتبط بشرور الاستعمار والإمبريالية والإمبريالية الأميركية".

يُعزِّز هذا المنظور المتصاعد لمقاومة الصهيونية، ونموذج الشر المطلق الذي تُمثِّله إسرائيل، موقفَ فصائل المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، باعتبارها حركات تحرُّر وطني لا تختلف عن حركات المقاومة التي عرفها التاريخ البشري بمراحله المختلفة لصدِّ الغزاة والمحتلين والمستعمرين، وهو ما يُكْسِب عمل هذه الفصائل الشرعيةَ الأخلاقية والسياسية والقانونية، وأيضًا الدعم المجتمعي العالمي. وهنا، يتحوَّل إصرار المشاركين في أسطول الصمود العالمي على استمرار نشاطهم لكسر الحصار على غزة، رغم المخاطر والتهديدات الأمنية الإسرائيلية، إلى حالة ثقافية يترسَّخ الاعتقاد بفاعليتها وتنتشر بين الناس من خلال المصير المشترك بين حرية الشعوب أمام "شرور الصهيونية والاستعمار". لذلك يعتقد قطاع واسع من الرأي العام والمشاركون في أسطول الصمود أن: "حرية الشعب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من حرية الشعوب الأخرى".

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) "Netanyahu says he’s on a ‘historic and spiritual mission,’ also feels a connection to vision of Greater Israel," August 12, 2025, timesofisrael, "accessed September 13, 2025". https://tinyurl.com/5n8andp6.

(2) Harvard Caps, "The Hariss Poll and HarissX," harvardharrispoll, June 11-12, 2025, "accessed September 13, 2025". https://tinyurl.com/yexrpae4.

(3) "صحيفة أمريكية موالية لإسرائيل: "الدولة اليهودية" تخسر العالم وتواجه خطر أن تصبح منبوذة"، القدس العربي، 13 سبتمبر/أيلول 2025، (تاريخ الدخول: 13 سبتمبر/أيلول 2025)، https://tinyurl.com/bdfu76x4.

(4) منى بيكر، الترجمة والصراع: حكاية سردية، ترجمة طارق النعمان، ط 1 (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2018)، ص 126.

(5) Raphael Lemkin, Axis Rule in Occupied Europe, (New Jersey: The Lawbook Exchange, Ltd, 2014), 79.

(6) "تذكير قاتم بغزة: 100 كيلو طن تعادل سبع قنابل بحجم قنبلة هيروشيما تقريبًا"، القدس، 24 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 13 سبتمبر/أيلول 2025)، https://tinyurl.com/35hr575h.

(7) طه عبد الرحمن، الشر المطلق ومسؤولية الفيلسوف، الجزيرة نت، 21 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 13 سبتمبر/أيلول 2025)، https://tinyurl.com/3vwcwkvw.

(8) حوار مع الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن لـ"الجزيرة نت" أجراه عبد الحكيم أحمين: "المقاومة الطوفانية" حركة تحرر للإنسان والعالم، الجزيرة نت، 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 13 سبتمبر/أيلول 2025)، https://tinyurl.com/2j7jcs8b.

(9) "صحيفة أمريكية موالية لإسرائيل: الدولة اليهودية تخسر العالم وتواجه خطر أن تصبح منبوذة"، مرجع سابق.

(10) Robyn Vinter, "Keir Starmer has ‘legal duty to stop Gaza genocide’, says Greta Thunberg," theguardian, September 7, 2025, "accessed September 13, 2025". https://tinyurl.com/3pct46bs.

(11) عبد العزيز أبو بكر، "رحلة الصمود.. عندما تبحر جنوب إفريقيا نحو غزة المحاصرة"، الجزيرة نت، 5 سبتمبر/أيلول 2025، (تاريخ الدخول: 13 سبتمبر/أيلول 2025)، https://tinyurl.com/27enzc7x.