ستُلقي التطورات الأخيرة التي شهدها السودان، خصوصًا مع سقوط الفاشر نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بظلالها على الأوضاع الداخلية والإقليمية أيضًا، خاصة فيما يتعلق بموقف دول الجوار منها تأثيرًا وتأثرًا. ومن بين هذه الدول الجارة الشمالية مصر، التي لها حدود واسعة مع الشمال (1287 كيلو مترًا تقريبًا)، ولم ينقطع الاهتمام المصري بالسودان منذ قرون طويلة، لاسيما أن السودان كان جزءًا من مصر حتى استقلاله عنها عام 1956. لذا لم يكن غريبًا أن تعرب مصر بعد يومين فقط من سقوط الفاشر عن قلقها بشأن مآلات الأوضاع في السودان، ثم يزور وزير خارجيتها بورتسودان بعدها بقرابة أسبوعين ليندد بانتهاكات الدعم السريع، ويعلن رفضه تقسيم السودان.
ولكي نفهم هذا الاهتمام، لابد أن نفهم أسبابه المختلفة (محدداته)، وأبرز التحركات المصرية قبل وبعد سقوط الفاشر، ثم الموقف المستقبلي المصري من هذه التطورات.
أولًا: أسباب الاهتمام المصري بالسودان
لا يقتصر الاهتمام المصري بالسودان على الأمن القومي بمفهومه العسكري الضيق، وإنما يتعدَّاه إلى الأمن القومي بمفهومه الواسع، والذي يتضمن أبعادًا إنسانية ومائية واقتصادية واجتماعية.
فمن الناحية العسكرية، وما يرتبط بها من أمن الحدود، فإن أبعاد الأمن القومي المصري بمفهومه العسكري والأمني الضيق ترتبط بالسودان تحديدًا كونه يشكِّل حدود مصر الجنوبية، وما يرتبط بذلك من إمكانية تهريب السلاح وتسلل الجماعات المسلحة وعمليات الاتجار بالبشر عبر الحدود، فضلًا عن أمن البحر الأحمر كممرٍّ مائي حيوي بالنسبة لمصر من ناحية، ولمنع تهريب السلاح القادم عبر السودان إلى غزة من ناحية ثانية خلال حكم البشير، إضافة لملف المعارضة المصرية (الإخوان) الموجودة في السودان، ناهيك عن ملف حلايب وشلاتين. ومن ثم اهتمت مصر بهذه الملفات، وأهمية التنسيق بشأنها مع النظام القائم في السودان بغضِّ النظر عن توجهاته، أو تبايناته معها في ملفات أخرى.
لذا حرصت القاهرة خلال زيارة البشير لها، في يناير/كانون الثاني 2019، أي قبل الانقلاب عليه بحوالي ثلاثة أشهر، على التوصل لاتفاق إطار للتعاون الأمني لمنع تهريب الأسلحة والمسلحين والمواد المحظورة عبر الحدود بعد اتهامات استهدفت البشير بالسماح بنقل أسلحة قادمة من إيران عبر السودان، ومنها لمصر ثم قطاع غزة. وبالنسبة لملف تأمين الحدود، تم إجراء تدريبات مشتركة عُرفت باسم "حارس الجنوب-1" بين قوات حرس الحدود في البلدين بقاعدة محمد نجيب العسكرية (أكتوبر/تشرين الأول 2021)، لمنع تسلل اللاجئين أو عصابات التهريب أو أية عناصر يمكن أن تهدد الأمن القومي للبلدين. وقبلها مناورات "حماة النيل" (مايو/أيار 2021) بين القوات الجوية والبرية في البلدين لتحسين التنسيق الدفاعي والهجومي المشترك، وتعزيز القدرات على مواجهة التهديدات المشتركة مثل الإرهاب وحماية المنشآت الحيوية(1).
أما بالنسبة لقضية حلايب وشلاتين، فإن القاهرة ترى أن هذه القضية محسومة من وجهة نظرها منذ عام 1958، ثم تأكد الأمر أواسط تسعينات القرن الماضي بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري آنذاك، حسني مبارك، في أديس أبابا واتهام السودان بذلك، وقيام مصر بإرسال وحدة عسكرية قامت بطرد القوات السودانية الموجودة هناك. وبالتالي، فهي ترى أن النظام السوداني يسعى من حين لآخر لإثارتها لكسب الرأي العام، ومن ذلك محاولته إجراء الانتخابات بها، عام 2010، بوصفها دائرة انتخابية؛ مما حدا بالقاهرة إلى إدراج حلايب وشلاتين في الانتخابات البرلمانية، 2015، تأكيدًا للسيادة عليها(2). ومعنى هذا أن هذا الملف تراجع نسبيًّا بسبب ظروف الحرب الراهنة في السودان.
أما بالنسبة لملف الإخوان المسلمين بوصفه ملفًّا أمنيًّا، فقد كان أحد الملفات الخلافية بين الرئيسين: السيسي والبشير، وظل يُطرح من فترة لأخرى. وقد حرصت القاهرة بعد تقاربها مع البرهان، نهاية 2020، خاصة بعد خلافه مع حميدتي في مواجهة أحداث الفشقة، على طرحه من جديد خلال زيارة البرهان لمصر (27 أكتوبر/تشرين الأول 2020). وبعد الزيارة بشهرين فقط صدرت قرارات تتعلق بسحب الجنسية من 3 آلاف أجنبي حصلوا عليها خلال حكم البشير، منهم الإخوان، وإغلاق المراكز الدعوية التابعة لإخوان السودان (131 مركزًا)، أوائل 2021، بدعوى تلقِّيها أموالًا أجنبية لدعم الأنشطة الإرهابية والتحريض على العنف ونشر الفكر المتطرف في المنطقة(3). ومعنى هذا أن هذا الملف تراجع إلى حدٍّ كبير.
وفيما يخص الأمن المائي، فإن السودان -رغم كونه دولة ممر لمصر بنسبة 100%- لا يشكل أي تهديد مائي لها لوجود اتفاقية مائية (1959) تحدد حصة كل منهما، فضلًا عن وجود وفرة مائية سودانية؛ إذ تقدِّر الإحصاءات الرسمية السودانية الموارد المائية التقليدية بـ30 مليار متر مكعب(4) لا يتم استغلالها بالكامل، ونفس الأمر بالنسبة لحصته النيلية(5). بل إن جانبًا من حصة السودان -تُقدَّر بحوالي 6 مليارات- تذهب لمصر سنويًّا بسبب عدم قدرة السدود السودانية على تخزينها. وربما هذه الجزئية هي ما تلعب عليها إثيوبيا في أن سد النهضة، عبر تنظيم مرور المياه طيلة العام، سيجعل السودان يستغل كامل حصته التي يذهب جزء منها إلى مصر.
ومن هذا المنظور، فإن السودان مهم بالنسبة لمصر في مواجهة أي تعنُّت إثيوبي بشأن السد أو المياه عمومًا. وإذا كان سد النهضة قد اكتمل بناؤه هذا العام، فإن السودان يظل مهمًّا، لاسيما في ظل حرص القاهرة على التوصل لاتفاق ملزم مع أديس أبابا بخصوص قواعد الملء والتشغيل، فضلًا عن الرغبة المصرية في تأمين موقف السودان من السدود المستقبلية الإثيوبية على النيل الأزرق مثل "كادوبي" وغيره بإجمالي 138 مليار متر مكعب. فالتقارب الكبير بين حميدتي وآبي أحمد، واستقبال الأخير له، في سبتمبر/أيلول 2023، كرئيس دولة، فضلًا عن نجاح أديس أبابا في الضغط على جنوب السودان للتصديق على الاتفاقية الإطارية بخصوص مياه النيل (عنتيبي) ودخولها حيز التنفيذ، في يوليو/تموز 2024، رغم التحفظات المصرية والسودانية، جعل من مصلحة مصر التقارب مع البرهان الذي لا يزال يرفض الممارسات الإثيوبية بشأن ملفي سد النهضة واتفاقية عنتيبي.
وفيما يتعلق بالأمن الاجتماعي، ويُقصد به قضية وجود اللاجئين في مصر، وإمكانية اندماجهم أو انعزالهم عن المجتمع، وما قد يسببه ذلك من مشاكل اجتماعية تتفاقم تأثيراتها في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تمر بها القاهرة خلال السنوات العشر الأخيرة.
فوفق مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تستضيف مصر أكثر من 914 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين من 61 جنسية مختلفة. ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبحت الجنسية السودانية هي الأكثر عددًا تليها السورية، تليها أعداد أقل من جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال والعراق.
فحتى 31 مارس/آذار 2025، وصل عدد اللاجئين المسجلين لدى المفوضية إلى 672,930 سودانيًّا (المركز الأول) بفارق 5 أضعاف تقريبًا عن السوريين الذين يُقدَّر عددهم بـ139,384، إضافة إلى 46,975 من جنوب السودان، و40,848 من إريتريا، و18,068 من إثيوبيا، و8,400 من الصومال، و8,255 من اليمن، و4,239 من العراق، وأكثر من 53 جنسية أخرى(6).
أما بالنسبة للأمن الاقتصادي، فإن السودان يشكِّل جسر التعاون بين مصر ودول الكوميسا، وأكثر دولة من حيث ميزان التبادل التجاري (1.43 مليار دولار عام 2022 مقارنة بـ1.2 مليار دولار عام 2021) نسبة الزيادة تقدر بـ18.7%(7)، فضلًا عن الاستثمارات المصرية في السودان والتي تقدَّر بـ(2.7 مليار تقريبًا)، وتتأثر بالأوضاع غير المستقرة في السودان(8).
ثانيًا: ديناميكيات التفاعل المصري مع تطورات الصراع في السودان
من أجل الحفاظ على مصالحها المختلفة المرتبطة بأمنها القومي بمفهومه الشامل السابق الإشارة إليه، حرصت مصر بعد الإطاحة بالبشير، عام 2019، على تبنِّي علانيةً موقف الحياد ودعم المجلس العسكري بقيادته المزدوجة بين الرئيس البرهان ونائبه حميدتي؛ لذا دعت القاهرة لعقد قمة إفريقية مصغرة، في 23 أبريل/نيسان 2019، أي بعد 12 يومًا فقط من الإطاحة بالبشير، لمناقشة الأوضاع في السودان، وعدم الضغط على المجلس العسكري لتسليم الحكم للمدنيين، وتمديد مهلة الاتحاد الإفريقي في ذات الشأن من 15 يومًا إلى 3 أشهر(9).
لكن هذا الموقف العلني، لم يُخْفِ قيام القاهرة بالتقارب مع البرهان الذي بدا أكثر انفتاحًا على تحقيق مطالبها ورعاية أمنها القومي مقارنة بحميدتي الذي بات أقرب لإثيوبيا، خصوصًا بالنسبة لموضوع الفشقة، نهاية 2020، لذا تم تفعيل التعاون والتدريب العسكري بين الجانبين، مثل تدريبات "حارس الجنوب-1 أكتوبر/تشرين الأول 2021"، وقبلها مناورات "حماة النيل" (مايو/أيار 2021)، بين القوات الجوية والبرية في البلدين لتحسين التنسيق الدفاعي والهجومي المشترك، وتعزيز القدرات على مواجهة التهديدات المشتركة مثل الإرهاب وحماية المنشآت الحيوية.
وإزاء هذا التقارب المصري مع البرهان، تمكنت القاهرة من الحصول على تأييد المجلس العسكري ممثلًا في البرهان في موقفها بشأن سد النهضة، لاسيما بعد دخول إثيوبيا على خط الأزمة السودانية بعد الإطاحة بالبشير. هذا التقارب المصري من المجلس العسكري انسحب بسرعة على الموقف من سد النهضة؛ إذ جعل السودان لا يطالب فقط بضرورة التوسط الإفريقي في أزمة السد، بل بضرورة تدويلها عبر مشاركة الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ لعدم قدرة الاتحاد الإفريقي بمفرده على الوساطة(10)، كما تبنَّى السودان الموقف المصري بضرورة التوصل لاتفاق ملزم قبل قيام إثيوبيا في حينها بملء المرحلة الثانية، في يوليو/تموز 2021، مبررًا ذلك بخطورة هذه العملية على تشغيل سد الروصيرص السوداني، وعلى حياة عشرين مليون نسمة يقطنون أسفله ويعيشون على ضفاف النيل الأزرق وحتى منطقة عطبرة(11).
هذا التقارب المصري مع البرهان، ربما يفسر أسباب قيام حميدتي بأسر جنود مصريين في قاعدة مروي الجوية بعد اندلاع القتال مباشرة مع البرهان، وإعلان السيسي بعدها بيومين (17 أبريل/نيسان) عدم الانحياز لأيٍّ من طرفي الصراع، عارضًا الوساطة لتسوية الأزمة بينهما؛ إذ أشار إلى "خطورة التداعيات السلبية لتلك التطورات على استقرار السودان"، مطالبًا الأطراف السودانية بتغليب لغة الحوار والتوافق الوطني، وإعلاء المصالح العليا للشعب السوداني الشقيق(12). كما أكد السيسي خلال لقائه بأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة في البلاد، في 18 أبريل/نيسان 2023، على أن "القوات المصرية الموجودة في السودان هدفها التدريب فقط وليست لدعم طرف على حساب آخر". وقد قام سامح شكري، وزير الخارجية المصري في حينها، بإجراء اتصالين، في 4 مايو/أيار 2023، بكلٍّ من البرهان وحميدتي للمطالبة بضبط النفس والوقف الفوري لإطلاق النار(13)، كما أيدت مصر ما تم التوصل إليه في اتفاق جدة (12 مايو/أيار 2023) بشأن "تعهد الطرفين بعدم استهداف المدنيين، واعتبار ذلك خطوة للتوصل عبر الوسطاء والشركاء الإقليميين والدوليين، لوقف شامل ودائم لإطلاق النار واستئناف الحوار، بما يسهم في إخراج السودان من محنته، واستعادة الشعب السوداني الشقيق لحقه في أن ينعم بالسلم والأمن والاستقرار"(14).
وقد استضافت القاهرة، في 13 يوليو/تموز 2023، قمة جوار السودان بمشاركة رؤساء دول وحكومات جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وإريتريا وإثيوبيا وليبيا وجنوب السودان، وبحضور رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي وأمين عام جامعة الدول العربية، لبحث كيفية معالجة الأزمة السودانية(15).
لكن هذا الحياد العلني المصري لم يستمر طويلًا؛ إذ تحول لانحياز فعلي لصالح البرهان، بعدما توجه حميدتي لأديس أبابا، في سبتمبر/أيلول 2023، واستقباله استقبالًا رسميًّا من قبل آبي أحمد. واتضح هذا التقارب بصورة أكبر في رعاية أديس أبابا المفاوضات التي تمت بين حميدتي وحمدوك، رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، أوائل عام 2024، لوقف إطلاق الحرب ولعودة الحكم المدني، في ظل غياب الجيش "الطرف الآخر من المعادلة".
وهنا لعبت مصر دورًا مهمًّا في دعم الجيش للسيطرة على منطقة جبل موية الإستراتيجية بولاية سنار شرق البلاد، والتي كانت تأتي منها الإمدادات الإثيوبية لميليشيا الدعم السريع، كما توجد بها أكبر قاعدة جوية في جنوب الخرطوم، وهي قاعدة كنانة الجوية التي تبعد عن مدينة ربك حوالي 21 كيلومترًا إلى الجنوب الشرقي. واستهدف حميدتي من السيطرة على جبل موية السيطرة على سنار والتمدد جنوبًا للوصول للحدود الإثيوبية لتأمين خطوط إمداد من أقصى الشرق إلى الغرب.
لذا لا غرابة في اتهام حميدتي لمصر (أكتوبر/تشرين الأول 2024)(16) بالمشاركة في عمليات التدريب والقتال مع الجيش السوداني، ليس هذه المرة فحسب، وإنما منذ بدء القتال؛ "حيث شارك سلاح الجو المصري في القتال إلى جانب الجيش، كما شارك الطيران المصري في قصف معسكرات قوات الدعم السريع، ومنها مجزرة معسكر كرري بأم درمان (12 أكتوبر/تشرين الأول 2024)؛ إذ قُتل في بداية الحرب جرَّاء القصف الغادر أكثر من 4 آلاف من الجنود العُزّل الذين كانوا يتأهبون للمغادرة للسعودية للمشاركة في عاصفة الحزم، وظلت مصر تدعم الجيش بكل الإمكانيات العسكرية، وسهَّلت عبر حدودها دخول إمدادات السلاح والذخائر والطائرات والطائرات المسيرة؛ إذ قدمت خلال شهر أغسطس الماضي ثماني طائرات من طراز "K8" للجيش وصلت للقاعدة الجوية في بورتسودان، وتشارك الآن في القتال، وآخرها معركة جبل موية، كما أسهم الطيران المصري في قتل مئات المدنيين الأبرياء في دارفور والخرطوم والجزيرة وسنار ومليط والكومة ونيالا جنوب دارفور والضعين، وكذلك وفرت مصر للجيش إمدادات بقنابل 250 كيلو أمريكية الصنع كانت سببًا في تدمير المنازل والأسواق والمنشآت المدنية"(17).
ورغم نفي مصر لاتهامات حميدتي، إلا أن بيان النفي أشار له بأنه قائد ميليشيا الدعم العسكري؛ ما يعني اعتباره جهة غير مشاركة في القتال(18).
ثالثًا: مستقبل الموقف المصري بعد سقوط الفاشر
يمكن القول: إن مصر لم تكن بعيدة عن التطورات في الفاشر، رغم البعد المكاني بينها وبين الحدود المصرية؛ إذ كانت تراقب الأمور عن كثب، لترى إلى أين ستتجه الأوضاع العسكرية، وإن الموقف المصري المعلن منذ أحداث الفاشر الأخيرة هو عدم تزويد القوات المسلحة بالسلاح، أو ربما تم تزويدها بصورة سرية، لكن لم يكن هذا كافيًا مقارنة مثلًا بما تم في الشرق أو الوسط.
هذا الأمر قد يجد تفسيره في كون مصر تركز على مناطق التَّماس الخاصة بها، والتي تدخل في صلب أمنها القومي، وهذا يعني تركيزها على المناطق الشمالية حيث الحدود المباشرة، أو الوسط حيث الخرطوم مركز استقرار السودان، أو الشرق حيث أمن البحر الأحمر من جهة، أو مواجهة التمدد الإثيوبي من جهة أخرى. ولعل هذا يفسر صيغة البيان الدبلوماسي الصادر عن وزارة الخارجية، 28 أكتوبر/تشرين الأول، بعد سقوط الفاشر بيومين فقط، والذي تعرب فيه عن قلقها البالغ إزاء التطورات الأخيرة في السودان دون الإشارة الواضحة للفاشر أو انتهاكات الدعم السريع بها، مع التأكيد على رفض التقسيم(19).
لكن مصر تخلَّت عن هذه الصيغة الدبلوماسية المتزنة، مع تزايد انتهاكات حقوق الإنسان في الفاشر ودارفور بصفة عامة، واستعداد ميليشيا الدعم للسيطرة على كردفان كهدف مرحلي في طريق محاولة السيطرة على الوسط "الخرطوم"، والشرق مرة أخرى. وفي هذا الإطار، يمكن فهم زيارة وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، لبورتسودان، 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ولقاء البرهان فقط وتأكيده تضامن مصر الكامل مع السودان ودعم استقراره وأمنه وسيادته ووحدة وسلامة أراضيه ومؤسساته الوطنية وعلى رأسها القوات المسلحة السودانية، مشددًا على إدانة مصر للانتهاكات والفظائع في مدينة الفاشر، وتواصلها مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية لتعزيز الجهود الرامية للوصول لتسوية شاملة للأزمة السودانية بما يصون مقدرات الشعب السوداني ويحقق تطلعاته في الأمن والاستقرار؛ كما أن ملف الأمن المائي شغل حيزًا من المباحثات؛ إذ تم التأكيد على وحدة موقف البلدين كدولتي مصب لنهر النيل، والتشديد على ضرورة الالتزام الكامل بالقانون الدولي في حوض النيل الشرقي، والرفض التام للإجراءات الأحادية في نهر النيل(20).
إن التحدي الأكبر لمصر هو أنها ليست الطرف الوحيد في المعادلة السودانية؛ فهناك الرباعية الدولية التي تضم دولتين عربيتين، هما الإمارات الموصوفة بقربها من الصراع في السودان، والسعودية التي استضافت عدة جلسات حوارية بجدة، ناهيك عن المنافسة والانحياز الإثيوبي من خلال الإيغاد والاتحاد الإفريقي، ووقوع القاهرة بين الرغبة في مواجهة إثيوبيا مع عدم الرغبة في الاصطدام بالإمارات بوصفها أكبر مستثمر في مصر.
لقد تأسست وجهة النظر المصرية على أن الجيوش القومية، وليست الجهات الفاعلة غير الحكومية، في إشارة إلى حميدتي، هي الأولى بالدعم "طبعًا حال تحقيق مصالحها"، وهي مرتبطة بكل حالة. فمثلًا في ليبيا، راهنت مصر على حفتر وبالتالي كسبت عداء طرابلس. وإذا كانت هناك مخاوف لدى السودانيين من إمكانية توجه حميدتي نحو الجنوب حيث باقي ولايات كردفان، لكن الأهم من وجهة النظر المصرية هو توجهه شمالًا حيث الولاية الشمالية والحدود مع مصر، أو حتى الخرطوم، أو الشرق حيث البحر الأحمر؛ إذ قد يشكِّل الأمر تهديدًا لمصر التي ربما يتضمن تحركها خلال الفترة القادمة ما يلي:
1) السعي للتوصل لتسوية سلمية من خلال الرباعية والاتحاد الإفريقي بل ومجلس الأمن الذي يبدو عازفًا حتى هذه اللحظة خاصة في ظل الفتور الأميركي، واهتمام ترامب بملفات أخرى.
وبحسب تصريحات وزير الخارجية المصري لـ"القاهرة الإخبارية" قبل سفره للسودان، 11 نوفمبر/تشرين الثاني، فإن تقسيم السودان "خط أحمر" لبلاده، ولن تقبل أو تسمح به، مشيرًا إلى أنه "لا حلول عسكرية للأزمة في السودان"(21).
2) تقديم مزيد من الدعم العسكري للجيش لمحاولة وقف زحف الدعم السريع صوب الجنوب "كردفان"، أو الشمال "الولاية الشمالية وحدود مصر الجنوبية"، أو صوب الوسط في محاولة لاستعادة العاصمة.
وهنا يلاحَظ سهولة وصول التدفقات العسكرية المصرية من خلال البر "الحدود البرية الجنوبية" أو من خلال البحر "ميناء بورتسودان". لكن يبقى السؤال: هل يكفي هذا الدعم لتغيير موازين المعادلة العسكرية؟ وأين القوى الداعمة للبرهان من أحداث الفاشر، وفي مقدمتها تركيا وروسيا؟ أظن أن الإجابة عن هذا السؤال قد تحتاج لورقة بحثية أخرى.
خاتمة
تُظهر قراءة مجمل المسار المصري تجاه تطورات الصراع في السودان، وخاصة بعد سقوط الفاشر، أن القاهرة تتعامل مع الحدث السوداني بوصفه ملفًّا مركَّبًا يتجاوز حدود الأزمة الداخلية السودانية إلى مسارات أوسع تمسُّ أمنها القومي في مستوياته المائية والحدودية والاجتماعية والإقليمية. فبين الحياد المعلن والانحياز العملي، وبين حسابات الردع وضبط الإيقاع الإقليمي، تتحرك مصر في مساحة ضيقة تحاول فيها الموازنة بين تهديد إثيوبي صاعد وبيئة دولية غير مكترثة وصراع داخلي سوداني مفتوح على احتمالات شديدة التعقيد. وهذه الموازنة -على هشاشتها- تعكس إدراكًا مصريًّا لأن استقرار السودان ليس مجرد مطلب أخلاقي أو سياسي بل هو شرط بنيوي لاستقرار مصر نفسها. ومن ثَمَّ، فإن الأشهر المقبلة ستكشف قدرة القاهرة على تحويل هذا الإدراك إلى إستراتيجية فاعلة تمنع مزيدًا من الانهيار، وتحافظ في الوقت ذاته على خطوطها الحمراء: وحدة السودان، وأمن حدوده، ومنع تمدد الفاعلين غير الدولتيين شمالًا وشرقًا. وفي انتظار ذلك، سيبقى المشهد مفتوحًا، وستظل المقاربة المصرية رهينة توازن دقيق بين ضرورات الأمن وحدود النفوذ، وبين واقع يتفلت بسرعة، ومصالحَ لا تحتمل المغامرة.
1)- حول هذه الجزئية، انظر: شافعي، بدر حسن، مصر وأزمة السودان: حدود الدور والتأثر، مركز الجزيرة للدراسات، 30 مايو/أيار 2023 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025):
https://studies.aljazeera.net/ar/article/5653
2) شافعي، بدر حسن، السودان في الحسابات المصرية.. الموقع والدور، مركز الجزيرة للدراسات، 30 مايو/أيار 2017 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)،
https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/05/170530172110432.html
3) العلاقات المصرية السودانية.. مصالح متبادلة وملفات مشتركة، موقع صحيفة الوطن المصرية على الإنترنت، 6 مارس/آذار 2021 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025): https://2u.pw/ki5sSK
4)- Ministry of Electricity and Dams in Sudan: Water Resources Management, Dam Implementation Unit, (No Date), (Visited on 15 Nov., 2025), P.P. 8–9
https://2u.pw/9Qf7Mv
5)- Piesse, M., The Grand Ethiopian Renaissance Dam: Power for Ethiopia, Disaster for Egypt? Strategic Analysis Paper, (June 2019), p. 3.
6) سياق اللاجئين في مصر، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين-مصر، دون تاريخ (تاريخ الدخول: 10 ديسمبر/كانون الأول 2025)، https://www.unhcr.org/eg/ar/refugee-context-egypt
7)- مجلس الوزراء: مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، نقلًا عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 11 سبتمبر/أيلول 2023. 18.7% ارتفاعًا في قيمة التبادل التجاري بين مصر والسودان.
8) جابر، شيرين، تأثير تطورات الأوضاع في السودان على الأمن القومي المصري، الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والإستراتيجية، العدد الثالث، السنة الثانية، يناير/كانون الثاني 2024، ص 29.
9) عبد الحكيم، أحمد، العلاقة بين مصر والسودان... ما قبل البشير وبعده، إندبندنت عربية، 28 أبريل/نيسان 2019 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://2u.pw/F7c4rs
10) عوض، عبد الحميد، "وفد كونغولي في الخرطوم بشأن سد النهضة"، العربي الجديد، 25 فبراير/شباط 2021 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://cutt.us/Zu7V7
11) شافعي، بدر حسن، التقارب المصري من السودان: محاولة للضغط على إثيوبيا، مركز الجزيرة للدراسات، 9 مارس/ آذار 2021، (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025): https://2u.pw/5MD5Mj
12) السيسي يعلِّق على أحداث السودان.. ويحذِّر من "التداعيات السلبية"، موقع سكاي نيوز، 16 أبريل/نيسان 2023 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://2u.pw/Wdw68X
13) موقع الخارجية المصرية على الفيسبوك، 4 مايو/أيار 2023 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://2u.pw/b8MEIf
14) موقع الخارجية المصرية على الفيسبوك، 12 مايو/أيار 2023 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://2u.pw/gKDig0
15) البيان الختامي لقمة دول جوار السودان، موقع رئاسة الجمهورية المصرية، 13 يوليو/تموز 2023 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://2cm.es/OtO9
16) بيان المتحدث باسم الدعم السريع، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024، على تليغرام (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://t.me/RSFSudan
17) "الدعم السريع توجه تحذيرًا للقاهرة وتكشف عن أسرى مصريين لديها"، موقع صحيفة الراكوبة، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://tinyurl.com/ycyvtuxj
18) وزارة الخارجية تنفي مزاعم قائد ميليشيا الدعم السريع، موقع وزارة الخارجية المصرية (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://urli.info/1eIfi
19) وزارة الخارجية المصرية، مصر تعرب عن قلقها إزاء التطورات الأخيرة في السودان، بيان صحفي، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://urli.info/1jwqI
20) وزير الخارجية يلتقي رئيس مجلس السيادة السوداني الانتقالي، صفحة وزارة الخارجية المصرية على الفيسبوك، 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://urli.info/1jwqW
21) وزير الخارجية: تقسيم السودان بالنسبة لمصر "خط أحمر"، بوابة الأهرام، 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، https://urli.info/1eIfU