إغراء السلطة المطلقة: مسار العنف في علاقة الشرطة بالمواطن عبر التاريخ

يمثل كتاب "إغراء السلطة المطلقة: مسار العنف في علاقة الشرطة بالمواطن عبر التاريخ" مادة مناسبة كمقرر لحقوق الإنسان بكليات الشرطة والإدارة العامة والعلوم الاجتماعية وقد خلص إلى نتائج من أبرزها استمرار العنف والعنف المضاد بين أجهزة الشرطة والشارع المصري وهو أمر يحتاج لأكثر من معالجة.
201211768564734_20.jpg

المؤلفة: بسمة عبد العزيز
عرض: مازن النجار

العنوان: إغراء السلطة المطلقة: مسار العنف في علاقة الشرطة بالمواطن عبر التاريخ
دار النشر: صفصافة للنشر
سنة النشر: 2011.

جاءت الثورات العربية كرد فعل (ولو جزئيا) على عنف وقمع هائل مارسته المنظومات الأمنية للأنظمة العربية بالعقود الماضية ضد المواطن العربي، وانتشار ثقافة الخوف والتعذيب والقوانين الاستثنائية. قد فتحت الأوضاع السياسية الجديدة الباب واسعا للحديث عن مسار العنف في التعامل بين الشرطة والمواطنين وعلاقة ذلك بسيادة القانون وتحقيق الديموقراطية والعدالة في المرحلة القادمة، فهذه العلاقة تعبر عن عقد اجتماعي تلتزم به الدولة إزاء مواطنيها، ويلتزم به المواطن تجاه المجتمع.

كما جاء اندلاع أعمال البلطجة وظهور قطعان البلطجية، في الفترة الانتقالية بعد ثورة 25 يناير بمصر، ليكشف عن بعض إرث النظام السابق البشع والمرعب في مشروع تأبيد فساده وقهره وسيطرته على البلاد والعباد بإحلال الخوف والإذعان في نفوس المواطنين. ففي تصريح لأول وزير للعدل بعد الثورة، المستشار محمد عبد العزيز الجندي، ذكر الوزير أن هناك نحو 450 ألف بلطجي مرتبطين بمختلف أجهزة وزارة الداخلية، منهم 69 ألفا مرتبطين بجهاز مباحث أمن الدولة وحده. وجاءت مؤخرا حادثة القبض على صبري حلمي نخنوخ، أحد متعهدي البلطجة المرتبطين بالنظام السابق والحزب الوطني المنحل، وتقديمه إلى المحاكمة لتظهر ربما «رأس جبل» البلطجة فقط بانتظار فتح ملفاتها كاملة.

مؤلفة كتاب إغراء السلطة هي بسمة عبد العزيز، الناشطة الحقوقية بـ«مركز النديم لضحايا العنف» بالقاهرة، ومهنتها طبيبة أمراض نفسية وعصبية. يمثل الكتاب جزءا من عملها البحثي الطبي والحقوقي كإخصائية للأمراض النفسية والعصبية.

ركزت المؤلفة على تعامل الشرطة مع المواطن العادي غير المهتم بالسياسة لأن علاقات وتاريخ الاشتباك بين الشرطة والجماعات السياسية والدينية -لو أعطيت تبريرا- ولو مغلوطا للعنف، فإنه لا يمت بصلة للمواطن العادي؛ كما أن تصاعد العنف تجاه المواطن المسالم جدير بالدراسة.
يتكون الكتاب من خمسة فصول وخاتمة. تغطي الفصول تاريخ جهاز الشرطة، والعنف الأمني وتحولاته، ونظرة المواطن إلى الشرطي، والعنف الأمني في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وانفراط العقد الاجتماعي.

يتناول الفصل الأول نشأة وتطور وأداء جهاز الشرطة. فتعرض المؤلفة لتكوين مؤسسة الأمن الداخلي من عهد الأسرة الأولى بمصر القديمة كما تتيحه المصادر التاريخية، إلى نشأة ديوان الوالي بعهد محمد علي ثم نظارة الداخلية التي تحولت إلى «وزارة الداخلية» بعد إعلان الحماية البريطانية. يعتبر منصب وزير الداخلية بالغ الأهمية لدرجة أن في 50 من 69 حكومة مصرية، احتفظ رئيس الوزراء بوزارة الداخلية. كذلك، عرضت تطورات هيكل وزارة الداخلية منذ نشأتها حتى استقر بشكله الراهن. ظهرت أول مدرسة للشرطة في 1896، وتطورت إلى كلية الشرطة ثم أكاديمية مبارك للأمن، وتطورت مناهجها فأصبح طلابها بعد 4 سنوات يتخرجون بدرجتين في الحقوق وعلوم الشرطة.

حوادث مؤسفة

تظهر متابعة أداء الشرطة تاريخيا نظام وبنية المجتمع وآليات الضبط الاجتماعي وفلسفة العقاب ووسائل الحساب، مما يعكس نظرة الدولة لعقدها الاجتماعي بالمواطنين. وأوردت مختلف المراحل التاريخية من مصر القديمة إلى الاحتلال الروماني والفتح العربي الإسلامي والعثماني، ثم الاحتلال الفرنسي والبريطاني، ثم عصر عبد الناصر والسادات، وخصت عصر مبارك بفصل كامل. ومنذ افتقاد الحكم الوطني بمصر القديمة حتى قيام الجمهورية بالقرن العشرين، استخدم المحتل جيشه لفرض الأمن بالقمع والعنف بدلا من الشرطة، لبسط سلطة الاحتلال وتهميش أمن المواطنين. مع الاحتلال الروماني، ظهر لأول مرة، منصب الحاكم العسكري بينما ظهر التعذيب والقمع خلال حكم المماليك وبعد الفتح العثماني. ورغم الفصل بين الجيش والشرطة والاستعانة بالمصريين في العمل الشرطي منذ 1896، لم يتراجع القمع زمن الاحتلالين الفرنسي والبريطاني بسبب تسييس جهاز الشرطة.

تواصل تداخل السلطات وارتباك المفاهيم تجاه دور الشرطة حتى قيام الجمهورية. ففي عهد عبد الناصر، أدخلت إصلاحات هيكلية على جهاز الأمن والمناهج الدراسية، لكن استمر قمع أصحاب الرأي. ونشأ لأول مرة في 1968 جهاز «مباحث أمن الدولة» بديلا عن «قلم البوليس السياسي» المنحل منذ أغسطس/ آب 1952. وبرغم أن المعاملة اليومية للمواطن غير المسيَّس كانت مبنية على الاحترام المتبادل، إلا أن العنف والتعذيب ضد الخصوم السياسيين كانا على أشدهما لدرجة قتل بعضهم تحت التعذيب.

تراجع العنف ضد الخصوم السياسيين في عصر السادات، وانحصر التعذيب في حوادث معدودة. ورغم تراجع أعداد المعتقلين، لكن استحدثت قوانين لوضع المعارضين قيد الحجز والمحاكمات، وبقي الاحتجاز والسجن دون تعذيب. وبرغم جو التحرر النسبي وتراجع العنف السياسي، بدأ العنف ضد المواطنين العاديين يظهر بشكل حوادث فردية (ستأخذ لاحقا شكلا نظاميا في التعامل بعصر مبارك). بين عامي 1974-1976، طرأ ما يسمى بـ«الحوادث المؤسفة»، وتتمثل بهجوم جموع من المواطنين على أقسام الشرطة بسبب احتجاز وتعذيب قريب أو صديق من المواطنين غير المسيّسين، وقد يصل التعذيب إلى الوفاة. وأشارت دراسات تلك الحوادث لحالة الترقب وتحين الفرصة تنم عن غضب مخزون.

بلطجة وحملات أمنية وعنف همجي

يرصد فصل بعنوان «العنف الأمني وتحولاته منذ 1981» آخر بدايات موجات العنف الأمني وتطوره والعنف الظرفي العشوائي. فقد افتتح نظام مبارك عهده بحملة اعتقالات واسعة على خلفية اغتيال السادات. ورغم خروج المعتقلين بعد بشهور دون تعذيب، إلا أن عنفا بالغا نشأ لاحقا. فقد تغير استخدام العنف ليصبح قاعدة التعامل دائما وليس حوادث فردية. وتشهد حيثيات الحكم الشهير— ببراءة 190 متهما في قضية الجهاد الكبرى وتخفيف أحكام أخرى— بتعرّض المتهمين للتعذيب أثناء التحقيقات. ويشهد بذلك أيضا إحالة عشرات من ضباط الشرطة للمحاكمة، لاتهامهم بتعذيب المتهمين في ثلاث قضايا لتنظيم الجهاد. وبعد محاولة اغتيال اثنين من وزراء الداخلية، ظهر لأول مرة متهمون يعترفون بالجرائم تحت التعذيب، وبعد إذاعة ذلك مدعوما بشهود عيان وبمجموعة من الأدلة المادية، كبصمات الأصابع وإعادة تمثيل الجريمة بواسطة المتهمين المعترفين، يظهر الجناة الحقيقيون، ويتم الإفراج عن «المعترفين» دون سؤال عن كيفية إعادة تمثيلهم للجريمة، ولا شهادة «شهود العيان» ولا «الأدلة المادية الملفقة».

ثم بدأ تدشين الحملات الأمنية، فتحاصر قوات الأمن قرية أو منطقة أو شارعا، مع إذلال الأهالي والاعتداء عليهم هناك دون استهداف شخص بعينه، والهدف تأديب الأهالي أو ردعهم لأي سبب. استدعت الحملات تحذيرات من هذا المسار الجديد لأداء الشرطة، بينما استنكر وزراء الداخلية جهارا نهارا أنشطة منظمات حقوقية ضد ممارسات قمع وتعذيب المحتجزين. وتواتر «العنف المنهجي» بآليات مشتركة وروتينات محددة، مما يعني اتفاقا ضمنيا بين الفاعلين والسلطات. تصاعدت حدة وكمية العنف بهذه المرحلة، يؤكدها تصاعد بلاغات التعذيب داخل أقسام الشرطة من 38 (2002) إلى 88 بلاغا (2006)، وتضاعف القتل بالتعذيب ثلاث أضعاف بنفس الفترة، ورصدت الباحثة تطورا كيفيا وكميا للعنف، وانتقل خارج أقسام الشرطة إلى البيوت والأعمال والشوارع، كما اتسعت دائرة العنف لتشمل المحيطين بالمطلوبين وإتلاف ممتلكاتهم أو نهبها.

تصاعدت شراسة الحملات الأمنية، وتعرضت لها قرى كالنزلة والكشح (1998)، وسراندو (2005)، والبرلس (2008)، وبدأت الاستعانة بالبلطجية للاعتداء على معارضي النظام وتفريق المظاهرات، وتفاقم الأمر لدرجة استعانة ضباط شرطة بالبلطجية لمهام شخصية، وتحرشت مجموعات البلطجية جنسيا بالنساء المتظاهرات، كما حدث يوم «الأربعاء الأسود» 25 مايو/ أيار 2005، بل وتواصل حتى جرى تصوير التعذيب بأقسام الشرطة تفاخرا أو تبجحا بين رجال الشرطة، لردع وابتزاز الضحايا. ووصل أحد التسجيلات للإعلام، وانتهى بحبس الضابط المسؤول 3 سنوات.

تماهي الشرطة والسلطة والقانون

بدأ استخدام أفراد الشرطة لسلاحهم الرسمي في الاعتداء على المواطن في مشاجرة اعتيادية خارج السياق الأمني بأواخر 2008. وأوردت المؤلفة ثلاثة حوادث انتهى اثنان منها بالقتل. ورغم محاكمة الجناة الثلاثة وصدور أحكام مشددة بحقهم، اعتبرت الحدث ظاهرة جديرة بالبحث، وعقدت مقارنة بينه وبين العنف الممنهج السابق عليها، فوجدت أن آليات الأول نتاج لآليات الثاني. فالإطار النفسي والاجتماعي لممارسة العنف الممنهج وطريقة تدريب الضباط الجدد لشرعنة وتقدير العنف يؤدي للإطار النفسي والاجتماعي لممارسة العنف «الظرفي- العشوائي» بسبب تماهي رجل الشرطة والسلطة والقانون، وهكذا يصبح الضابط بنظر نفسه هو القانون، والتعدي على شخصه اعتداء على القانون، يستوجب أشد العقاب.

تخلص المؤلفة من تحليلها إلى عدة مؤشرات:

  • استخدام السلاح الرسمي يدل على عدم التمييز بين النطاق الوظيفي وما هو خارجه
  • وقوع درجات عنف عالية بسبب استفزازات اعتيادية، يدل على سهولة الاستثارة وضعف القدرة على ضبط النفس، ويلقى ظلالا حول كيفية التعامل مع المحتجزين
  • رد الفعل المفاجئ باستخدام السلاح الرسمي يظهر ميلا كبيرا للسيطرة بالقوة، وقصور بتقدير حجم المشكلة، فرد الفعل يفوق كثيرا نطاق الموقف
  • وصف سياق الحوادث يكشف شعورا بالتفوق، والتماهي مع السلطة والنظام، وانعدام الاعتدال والإدراك الموضوعي لصورة الذات.

صورة الشرطي: عنف وخطوط حمراء

في بحثها عن نظرة المواطن إلى الشرطي، وجدت المؤلفة أن الصورة الحالية للشرطة في وعي الناس تشوبها سلبيات كثيرة ليس فقط بسبب عنف الشرطة، لكن هناك عوامل أخرى:

  • فالمظهر العام خاصة لشرائح الشرطة الأدنى كعساكر الحراسات والمرور حيث يبدو عليهم الفقر الشديد والملابس الرثة ويقبلون الصدقات من المارة، وإن أكسبهم هذا تعاطف المواطنين، إلا أنه يقضى على الشعور بالثقة والاحترام
  • استغلال موارد العمل في المصالح الشخصية، كتوصيل الأسرة داخل مركبة الدورية، أعطت انطباعا للمواطن أن الشرطي مجرد خادم للنظام يستفيد من سلطاته
  • الانتهاك المتكرر للقانون من شرائح ضباط الشرطة الأعلى وقبول الرشاوى مقابل اختراق القانون، عزز رؤية أن «حاميها حراميها»
  • الاحتفاظ بالصفة الوظيفية باستمرار، واستخدام السلطة الوظيفية والعنف في المعاملات اليومية، أصاب المواطن بالتشوش تجاه من يحميه ومن يهدده
  • انتزاع اعترافات مكذوبة تحت التعذيب بارتكب جرائم رسخ الانطباع بافتقار الشرطة للمهارة، وأفقد المواطن الثقة بنتائج أي تحقيقات حتى لو كانت سليمة
  • تصاعد أعمال البلطجة والعنف بسبب إهمال الشرطة للأمن الجنائي لصالح الاهتمام بالأمن السياسي، أفقد المواطن الشعور بالأمان وأصبح يلوم تقصير الأجهزة الأمنية.

هكذا أصبحت صورة الشرطي في وعي المواطن: إطار عريض من العنف وخطوط حمراء كثيرة.

الاقتصاد السياسي- الاجتماعي للعنف الأمني

هناك عوامل كالاعتماد المتبادل بين رأس المال والنظام الحاكم، وانهيار الخدمات الأساسية، واضمحلال سوق العمل، وولاء أجهزة الأمن المطلق للنظام الحاكم، أدارت العنف بشكل هائل لحاجة النظام لإحكام السيطرة على الجماهير المسحوقة بمشكلات عديدة. تظهر دراسة المؤشرات الاقتصادية صحة الفرضية السابقة، فهناك نمو واضح بالمؤشرات الاقتصادية العامة، كتضاعف الناتج القومي من 92.4 مليار دولار في 2000 إلى 187.3 مليار دولار في 2009، وارتفاع مستوى النمو السنوي من 3.2% إلى 5% خلال تلك الفترة. بمقارنة هذه الزيادات بالزيادة السكانية، يفترض نظريا ارتفاع متوسط نصيب الفرد يوميا من 1.4 إلى 1.9 دولار بتلك الفترة، لكن الواقع يظهر العكس.

فقد ارتفعت نسبة المواطنين تحت خط الفقر من 20% إلى 25% بنفس الفترة، وارتفعت معدلات البطالة من7.3% إلى10%، وارتفع عجز الموازنة العامة 3.8%، وارتفعت نسبة إجمالي الدين الداخلي من 50% إلى 80% من الناتج العام، وتراجعت إسهامات القطاع الزراعي من 16% إلى 13.8%، وارتفعت معدلات التضخم السنوي 11.8%. هذه المفارقة بالمؤشرات بين النمو العام وتدهور الأوضاع يصاحبه مؤشر آخر لكيفية توزيع الثروة.

كان هناك 10% من السكان يحصلون على25% من إجمالي الناتج المحلي في 2000، وبلغت حصتهم 28% في 2010، مما يظهر أن التحسن الاقتصادي يصب في جيوب طبقة معينة بينما يزداد الفقراء فقرا، وتزداد الخدمات سوءا، وترتفع الأسعار، ويتقلص دعم السلع الأساسية في 2010 بنسبة 20% بزعم النظام الحاكم بأن زيادة السكان وقلة الموارد تفاقم المشكلات. تمظهر الناتج المباشر للسياسات المالية في ظواهر اجتماعية غير معهودة، كنبش القمامة بحثا عن الطعام، وازدياد انتحار الشباب، وبيع الأطفال للتبني والفتيات القصر للزواج.

الشرطي قاهرا ومقهورا

هذا الفقر والحرمان المتزايد، مع انتشار الأمية والبطالة، مقارنة بمظاهر الغنى الفادح لدى البعض زاد تراكم عداء المواطن البسيط تجاه الطبقات العليا والنظام الحاكم، وأصبح استخدام المواطن للعنف أحد وسائل الحصول على الحق، وليس وسيلة للاعتداء على الآخرين. رجال الشرطة يعانون أيضا شظف العيش كجموع المواطنين من الطبقات المتوسطة والدنيا، لكنهم أيضا يُستخدمون كأدوات لقهر المواطنين المحتجين على الأوضاع. في ظل احتقان الأوضاع، يصبح عنف الشرطة أداة وحيدة للسيطرة على الموقف، أي أصبح رجل الشرطة قاهر ومقهور معا.

ناقشت المؤلفة طريقة توجيه بوصلة العنف في الأنظمة المستبدة للمعارضين السياسيين، لكن معظم أفراد المجتمع غير المسيَّسين يتعايشون مع الأوضاع وتنصب اهتماماتهم على تأمين معيشتهم. فبرغم بطش النظام في عهدي عبد الناصر والسادات بالخصوم السياسيين إلا أن الشعب المتعايش كان بعيدا عن ذلك. أما في عصر مبارك، فقد أفقد الفقر المتزايد المتعايشين القدرة على التواؤم أو التحايل لتحقيق التعايش، فانتقلت جموع الشعب لخانة الأعداء. وهكذا فإن ترهل النظام وشيخوخته والركود السياسي وانعدام التغيير وغياب الحقوق الأساسية البسيطة لجمهور الناس، ونزح الثروة لطبقة ضيقة، وشيخوخة المعارضة وغياب مجتمع مدني فاعل عن المشهد، وجّه بوصلة العنف إلى جموع المواطنين العاديين بعدما أصبحوا مرشحين لرفض النظام الحاكم.

تلفت المؤلفة إلى ميل الثقافة الأصلية للمصريين لقبول القهر والابتعاد عن جهة الإيذاء والسلطة، وأن التركيب الأبوي للمجتمع يقبل التقويم من الأب والسلطة كنظير للأب، ولو ببعض العنف. لكن طريقة التفكير الدفاعية هذه بدأت تتهاوى مقابل بشاعة التعذيب الذي وصل لهتك الأعراض والقتل واستخلاص اعترافات بجرائم كبرى مكذوبة بالتعذيب.

العنف الأمني: التدريب والممارسة

يؤكد تماثل أشكال العنف وأدوات التعذيب على منهجيته ودور إعداد ضابط الشرطة لهذا الأداء. تبدأ الخطوة الأولى داخل كلية الشرطة. فقد أفاد ضباط كثيرون بأن القبول بالكلية بالوساطة أو الرشوة، لكن ما يحدث بعد ذلك أسوأ بكثير. تسير الأمور داخل الكلية في خطين متوازيين: إقناع الطالب أنه فوق الجميع لأنه ينتمي للشرطة؛ وإهانة الطلبة وإذلالهم من أعلى لأسفل. فيتحقق بذلك القهر الهرمي، ويكون الشخص مقهورا من أعلاه وقاهرا لمن دونه. ويتم حل خلافات الطلاب بالاقتتال، مما يرسي قاعدة استخدام العنف والانتصار الجسدي كوسيلة مباشرة لحل العقبات. يكتمل تلقين العنف (بعد التخرج) من الضباط الأقدم إلى الأحدث. فأول تدريب عند وصول ضابط حديث إلى قسم الشرطة، أن يأخذه الضابط الأقدم إلى الحجز ويبدأ بضرب المحتجزين، ويطلب منه المشاركة الفورية. ويكون أمام الضابط الصغير إما عدم المشاركة فيصبح سخرية ومتهما بالضعف والخور، أو يشارك لينال احترام وقبول المحيطين. هناك مقرر دراسي هزيل عن حقوق الإنسان بمناهج كلية الشرطة. لكن هزاله وظروف تدريسه ومناهج التدريب الأخرى المحيطة به، تجعله عبثا. بعد التخرج، يوضع الضابط المسؤول تحت ضغوط كبـيرة، فيطالب بتسليم قضايا مكتملة الأركان، وإلا أصبح مهملا ومعرضا للنقل لأماكن بعيدة.

ونتيجة ضعف البرامج الدراسية، وبدائية وسائل التحري وافتقاد أدوات الاستدلال والبحث، مقابل عدم محاسبة رجال الشرطة على العنف، سيكون حل هذه الضغوط بتعذيب المشتبه بهم لتحصيل اعترافات وتسليم القضايا المطلوبة والتخلص من الضغوط. لا يهم بعد ذلك حفظ النيابة للقضايا، ولا براءة المتهمين، ولا تضييع حقوق الضحايا. فلا يحاسب أحد عن اعترافات الأبرياء. تظل قرارات النيابة العامة بحفظ التحقيق أهم الضمانات لحماية المواطن، وتشير لفشل الجهاز الأمني في عمله. ما يخشى هو انخفاض حالات الحفظ، فذلك يعني انزلاق النيابة لمنظومة القهر وتلفيق القضايا بدلا من تحسين الأداء الأمني، مما يتطلب إصلاح المنظومة كلها وعدم الاكتفاء بمعيار واحد.

رصدت المؤلفة ارتباط الشرطة بالنظام السياسي، وتدليل السلطة الحاكمة للجهاز الأمني ووضعه فوق الجميع، مما يجعل هذا الجهاز ابنا شرعيا للنظام وولاؤه الأول والمطلق للحاكم، وليس للدستور والقانون وحماية المجتمع. هكذا، لا يعود هناك غضاضة من التدخل بالعنف في أي عملية انتخابية، وتضييع الحيادية، واعتماد القوة الغاشمة.

سقوط الهيبة

بعد دراسة الطرف الأول «رجل الشرطة»، خصصت المؤلفة فصلا لدراسة الطرف الثاني «المواطن» في العلاقة. وقارنت بين الهيبة التي تعني الإجلال والاحترام مع الخشية والحذر بالخوف وهو لا يعنى بالضرورة الاحترام. فالإنسان الحقيقي لا يقبل الإهانة. واضطرار المواطن أحيانا لقبولها، راكم خوفا وقهرا فتحولا إلى كراهية وعدوانية مكبوتة، تنفجر بأقرب الفرصة. فلم يتسبب غياب العدالة والقانون وتوغل الفساد بجهاز الشرطة فقط في سقوط هيبتها، بل شجع البعض لاستخدام العنف سبيلا لاسترجاع بعض الحقوق.

وإن كان الشرطي أول من يكسر القانون فسيتلاشى التزام المواطنين به. للتدليل على ذلك، ساقت المؤلفة مثالين:

  • كسر الشرطة للمحاذير والاستعانة بالبلطجية والمجرمين في مهامها، أعطى مشروعية لهذا السلوك لدى العامة
  • استخدام الشرطة للبلطجية في التحرش الجنسي الجماعي للمتظاهرات سياسيا بدءا من 2005 أعطى مبررا لارتكاب جرائم التحرش الجنسي الجماعي منذ أعياد 2008-2009.

بعد سقوط هيبة الشرطة وانتهاك المحاذير وتفاقم الاحتقان والغضب، ظهرت مرحلة استباحة المواطن للشرطة، (فما سمي بـ«الحوادث المؤسفة» في السبعينات) عاود الظهور بالعقد الماضي، وتفاقم بالعامين الأخيرين. رصدت المؤلفة 8 حوادث خلال الفترة من آب/أغسطس إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2009. وهو عدد كبير في زمن قصير. لاحظت الكاتبة انتشار الحوادث بمختلف المناطق كالفيوم، ورفح، والسويس، والمنصورة، وسيناء، وقنا، والعريش، وكفر الشيخ. وأحيانا يكون الهجوم مسلحا أو بدون سلاح. الثابت أن الهجوم يستهدف دائما شرطة بكامل سلاحها وداخل تشكيلاتها الرسمية كأقسام وكمائن شرطة مسلحة. كما فقد الشرطة سيطرتها على الموقف واضطر الجهاز الأمني للتفاوض مع المواطنين، لتهدئتهم واستعادة عتاد سبق الاستيلاء عليه (بما فيها مدرعات) واسترجاع أفراد شرطة مختطفين وإخلاء قسم شرطة استولي عليه بعد اقتحامه وهروب طواقمه.

انفراط العقد الاجتماعي

برغم استفزاز المواطنين بكل حادثة، إلا أن رد فعلهم يفوق نطاق الاستفزاز، ويتجاوز طبيعة الشخصية المصرية. ويمثل انعكاسا لسقوط هيبة الدولة أيضا. يقودنا هذا للحديث عن انفراط العقد الاجتماعي وغياب الدولة. فانهيار الدولة في أداء واجباتها الأساسية إخلال بشروط العقد بين المواطنين والدولة، ويفقدها الحق في فرض النظام بالقوة، لأنه لا يعقل أن ينسحب طرف من العقد بينما يبقى الطرف الآخر، بل سينسحب تدريجيا حتى يصبح العقد لاغيا.
قدمت المؤلفة أمثلة يومية عديدة لانسحاب الدولة من التزاماتها، وتخليها عن الناس لدى حدوث كوارث، بل وتوبيخ الناس وعقابهم للتغطية على فشلها في حل المشكلة الأصلية قبل وقوع للكارثة. فعندما تحدث انهيارات أو حرائق بالمساكن العشوائية مع فقدان للأرواح، تخرج أجهزة الدولة لتعلن أن الضحايا مخالفون للقانون ومساكنهم بدون ترخيص، وتجبر الأهالي على إخلائها للتغطية على الخسارة في الأرواح دون تقديم حل للمشكلة الأصلية: الفقر وعدم توفر مأوى. ظل تجاهل هذه المساكن المخالفة للقانون تحت سمع وبصر الدولة سنينا دون محاولة لإخلائها وتوفير بديل. الأمثلة عديدة: حرائق القطارات، غرق الشباب في مراكب هجرة غير شرعية، حريق مسرح بني سويف، غرق عبارة السلام 98، وغيرها.

لذلك، تخلص المؤلفة إلى حتمية قيام عقد اجتماعي جديد بين المواطن والدولة، يقوم على أسس عادلة ومتوازنة، يفصل بين الأدوار والسلطات، ويحيّد الأجهزة التنفيذية ويرسي ولاءها للوطن والدستور والقانون، بعيدا عن مصالح النخبة الحاكمة. وتحذر من غياب العقد الاجتماعي، فالأوضاع التي رصدتها مرشحة لتصدع وانهيار أكثر.

إلى أين؟

ختمت المؤلفة بالتعليق على حوادث عنف 2010، لأن مساحة أو نطاق العمل البحثي الأصلي ينتهي زمنيا بنهاية 2009، لكن تدافع وتسارع أحداث 2010 دفعها للتعليق على ثلاثة حوادث عنف رئيسة.
أولها: شهد 2010 عددا هائلا من الاحتجاجات أمام مجلس الشعب ومؤسسات الدولة، غطت جغرافيا عدة محافظات، واتخذ معظمها صفة مطلبية.
ثانيها: مقتل الشاب السكندرى خالد سعيد ضربا وتعذيبا بقارعة الطريق بأيدي مخبرين من الأمن. دفع ذلك بحركة احتجاج واسعة على الإنترنت، انتقلت لاحقا للشارع، ونجحت في توليد تعاطف وسخط وزيادة الوعي بمشكلات القمع والتعذيب.
ثالثها: استمرار التعديات على الشرطة واقتحام أقسام البوليس خلال 2010. تقارن الباحثة هذه الأمثلة بـ«الحوادث المؤسفة» في السبعينات، وانتهت بانتفاضة 17 و18 يناير/كانون الثاني1977. ثم تطرح سؤالها: إلى أيـن يؤدي هـذا المسار؟!
باختصار يمثل هذا العمل مادة مناسبة كمقرر لحقوق الإنسان بكليات الشرطة والإدارة العامة والعلوم الاجتماعية.

نبذة عن الكاتب