(الجزيرة) |
ربما تكون مرو وسمرقند وبخارى وطشقند تعني للقارئ العربي في ذاكرته واهتمامه أكثر من أوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، ويعرف العرب البخاري والنسائي والترمذي والخوارزمي ومسلم النيسابوري والفارابي وابن سينا اليوم أكثر مما يعرفون عن الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة اليوم في هذه الجمهوريات التي أعلنت استقلالها في عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بعدما كانت ضمن منظومته، وقبل ذلك وفي القرن التاسع عشر أصبحت جزءًا من الإمبراطورية الروسية، بعد تاريخ طويل من الدول والصراعات، وما زالت هذه الجمهوريات المسماة إقليميًا "آسيا الوسطى" مضافًا إليها أذربيجان تمثل مساحات غامضة وشبه مجهولة في الوعي العربي والسياسة والمصالح العربية أيضًا، برغم أهميتها النفطية والجيوستراتيجية.
آسيا الوسطى في بيئة وتحديات جديدة
كتاب "آسيا الوسطى تبحث عن هوية جديدة" يناقش المسارات والخيارات والتحديات التي تواجه دول آسيا الوسطى (أوزبكستان، كازاخستان، طاجيكستان، تركمانستان، قيرغيزستان)؛ فهذه الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 وجدت نفسها في بيئة جديدة مليئة بالتحديات، الهويات والإثنيات السائدة وبخاصة القوميتين الرئيسيتين التركية الطورانية والفارسية، وتركة الاتحاد السوفيتي، والعلاقة مع دول الجوار، الصين وروسيا وإيران وأفغانستان، والتحديات الاقتصادية وبناء الدولة، وجدل الديمقراطية والشيوعية الشمولية والتقاليد القروسطية...
ويعرض المؤلف في البحث عن الهوية السياسية المسار التركي، والإسلامي السلطاني/الخلافة، والإقليمي (آسيا الوسطى)، ويناقش أيضًا المسألة الروسية في آسيا الوسطى، والتنوع اللغوي والثقافي، والتأثير الروسي، وتأثير الجيش الروسي على السياسة الجديدة لروسيا، ونهضة الإسلام وسط الآسيوي، وعودة المؤثرات الإسلامية السابقة للشيوعية، ومسائل الشيعة والسنة.
وفي المجالات الاقتصادية يعرض قضايا زراعة القطن وأبعادها الجغرافية والإقليمية والمائية، والمعادلة وسط الآسيوية، والأبعاد الإقليمية لبحر الأورال ومتعلقاتها التاريخية والمائية.
يعمل إيغور ليبوفسكي أستاذًا للدراسات الآسيوية في الجامعات الأميركية، وهو من أصل روسي، وقد أتم دراساته في موسكو ثم هاجر إلى الولايات المتحدة.
لقد أدى الانهيار السريع للاتحاد السوفيتي عام 1991 إلى نشوء أوضاع سياسية جديدة في جمهوريات آسيا الوسطى (طاجيكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان) التي كانت جزءًا من منظومة الاتحاد السوفيتي، وكانت قد دخلت قبل ذلك في مرحلة من التبعية للإمبراطورية الروسية القيصرية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن اللافت أن القيادات الشيوعية في المرحلة السوفيتية هي التي ظلت تقود جمهوريات آسيا الوسطى منشئة نظامًا سياسيًا واقتصاديًا يجمع بين الرأسمالية واستمرار دور الدولة وهيمنتها على الاقتصاد والثقافة، وحالة جديدة من الاستبداد والهيمنة النخبوية على الموارد، فقد تحولت القيادات الشيوعية نفسها إلى قيادات رأسمالية.
وظهرت أيضًا إلى جانب وفي مواجهة القيادات الشيوعية السابقة تيارات سياسية جديد من الإسلاميين والقوميين والديمقراطيين. ويُعتبر القوميون هم المعارضة الأقوى في كازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان، في حين أن الإسلاميين هم المعارضة الرئيسية في طاجيكستان، ولكن ما زال الشيوعيون هم القوة الرئيسية المهيمنة.
يقول ليبوفسكي: لم تغير موجة "الغلاسنوست" و"البيروستريكا" كثيرًا في جمهوريات آسيا الوسطى، أو أن تأثيرها كان سطحيًا، وعندما استقلت كانت في واقع الحال مرتبطة اقتصاديًا بالمركز الروسي ارتباطًا يبدو الفكاك منه صعبًا، وكانت العلاقات البينية في الإقليم لا تزيد على 10% من العلاقة مع روسيا والاتحاد السوفيتي (سابقًا)، وكانت كل دولة تدير علاقات مميزة مع موسكو؛ ما جعل اقتصاد هذه الدول ليس مستقلاً ولا موحّدًا حتى في الحد الأدنى للتنسيق الاقتصادي.
وتحتاج إعادة توجيه اقتصاد المنطقة وعلاقاتها إلى سنوات عدة وسيكون ذلك مكلفًا وصعبًا في ظل وجود صناعات غير تنافسية حتى بالمعايير السوفيتية، وقطاع صناعي متخلف، وزراعة غير مربحة وعديمة الجدوى، ويتطلب بناء الاقتصاد وتحديثه استثمارات وأموالاً هائلة غير متوفرة، حتى لو بيع كل محصول القطن (الإنتاج الرئيسي لهذه الدول) في الأسواق الدولية فلن يعوض الخلل الاقتصادي والاعتماد على موسكو.
كانت إزاحة الحزب الشيوعي من الحكم في روسيا ضربة مؤلمة للقيادات السياسية في آسيا الوسطى ومصالحها، فقد كانت الشيوعية تمنح للقادة السياسيين شرعية سياسية وأيديولوجية تحتاج إليها لاستيعاب الاختلافات والتناقضات الداخلية والإقليمية، وكان الارتباط بموسكو حالة لا بديلا لها، ويشكّل دعمًا اقتصاديًا وأخلاقيًا وسياسيًا للقيادات المحلية، وسوّغت هذه الشرعية الأيديولوجية القمع القاسي الذي كانت القيادات السياسية تمارسه بحق المعارضة الإسلامية والقومية والديمقراطية، وكانت الماركسية غطاء يشبه غلاف السوليفان لتغطية القوة السياسية التقليدية في آسيا الوسطى والقائمة على الإقطاع العائلي والتقليدي؛ ذلك أن السنوات السبعين من الحكم الشيوعي لم تنجح في القضاء على التأثير التقليدي والإقطاعي في مجتمعات آسيا الوسطى.
وزاد في قسوة الصدمة التي أدى اليها انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الحزب الشيوعي من الحكم أن الإدارة اليلتسينية (يلتسين وفريقه) الجديدة في موسكو كانت تنظر إلى آسيا الوسطى باعتبارها تركة ثقيلة تريد التخلص منها، وكان يلتسين يخاف أن يرتبط مصيره بالقادة السياسيين المحافظين والفاسدين، وكان الديمقراطيون الروس يضغطون باتجاه الصداقة مع الغرب وتسريع التحول الاقتصادي إلى الرأسمالية، ولم يكن في وسط هذا الاهتمام مكان لجمهوريات آسيا الوسطى التي كان يُنظر إليها باعتبارها متخلفة تعوق التقدم والاندماج مع الغرب، وصارت قيادات آسيا الوسطى تحت رحمة القدر وفي مواجهة مصير يبدو مظلمًا وخيارات صعبة مرة، هل يتخلّون عن أوضاعهم السابقة ويعلنون إفلاسهم ويستسلمون لمصيرهم أو يتشبثون بالسلطة ويبحثون عن وضع جديد وسياسات وتحالفات ومصادر جديدة؟
ولحسن حظ القادة الشيوعيين فقد كانت المعارضة الإسلامية والقومية والديمقراطية في حالة صدمة وارتباك وشلل، وكان قادتها أضعف من التقاط اللحظة التاريخية النادرة التي تشكّلت في أعقاب فشل الانقلاب العسكري في موسكو عام 1991، في حين أمسكت الأحزاب الشيوعية في آسيا الوسطى بزمام المبادرة، وغيرت أسماءها ورموزها الماركسية اللينينية بأسماء ورموز ومصطلحات إسلامية، ولم يكن ثمة حاجة لتغيير راديكالي في بنية التأثير والسياسة والاقتصاد.
استطاع القادة الشيوعيون (سابقًا) استئناف ديكتاتوريات جديدة أكثر صلابة وتماسكًا من الحقبة الشيوعية السوفيتية؛ ففي تركمانستان أنشأ صابر مراد نيازوف (1985 – 2006) حكمًا فرديًا جمع بيده كل السلطات والموارد، وانتُخب في عام 1999 في المؤتمر السنوي لمجلس الشعب التركستاني رئيسًا دائمًا لجمهورية تركمانستان، وكان ابنه مراد أشد فظاعة منه؛ فقد هيمن على شركات النفط والغاز في تركمانستان ليدير من عوائدها حياة باذخة متهورة، وفي كازاخستان أعاد الرئيس نزارباييف بناء دولة مركزية جديدة وظّفت الغاز والنفط في بناء ديكتاتورية تجمع بين الرأسمالية الاقتصادية والتسلط الشمولي الشيوعي، وفي أذربيحان انفرد حيدر علييف بالحكم ثم خلفه ابنه إلهام علييف، واستمر في أوزبكستان نظام الحاكم الفرد الذي يديره الرئيس كريموف وهو أيضًا من أركان النظام السوفيتي السابق. وفي طاجيكستان تمكن الرئيس رحمنوف من البقاء في الحكم بعدما اجتاز الحرب الأهلية.
يقول ليبوفنسكي: إن النخب الحاكمة في آسيا الوسطى أنشأت أنظمة سياسية علمانية سلطوية مستقرة، ولكنها ضحت لأجل ذلك بالديمقراطية، واعتمدت على أجهزتها القمعية، وحاولت القيادات السياسية أن تدير توازنًا صعبًا في علاقاتها الخارجية بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وكانت أوزبكستان أكثر ميلاً إلى الولايات المتحدة؛ في حين كانت كازاخستان أكثر ميلاً إلى روسيا.
وبالنسبة للاعبين الآخرين المؤثرين في السياسة الآسيوية الوسطى، تركيا وإيران والصين وأوروبا؛ فقد كانت العلاقات الاقتصادية محدودة، وإن أقامت تركيا علاقات ثقافية مهمة مع الدول ذات القومية التركية (أوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان)، وطورت إيران علاقات ثقافية مع طاجيكستان الناطقة بالفارسية، ولكن الدول الآسيوية تبدي حذرًا من الطابع الإسلامي الذي تتجه إليه تركيا، وحذرًا عدائيًا تجاه إيران.
لقد أدت الحرب الأميركية في أفغانستان عام 2001 إلى نمو العلاقات الأميركية مع دول آسيا الوسطى، ولكن الانسحاب المتوقع للولايات المتحدة والناتو من أفغانستان في 2014 يدفع هذه العلاقات إلى المجهول وربما النسيان.
وواصلت روسيا انسحابها وتخفيف حضورها في آسيا الوسطى خلال السنوات العشرين الماضية، وقد غادر الدول الآسيوية أكثر من 11 مليون روسي كانوا يعيشون فيها في الحقبة الشيوعية، وعدد الروس اليوم (2012) يقل عن نصف ما كان عليه في 1992، ومعظمهم يعيشون في كازاخستان وقيرغيزستان؛ حيث ما زالت روسيا تؤدي دورًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا في هاتين الدولتين، في حين أدت الحروب الأهلية في طاجيكستان والتحولات السياسية في تركمانستان إلى هجرة أعداد كبيرة من الروس.
واكتسب ثلاثة من دول آسيا الوسطى (أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان) مصادر جديدة للدخل متأتية من استخراج النفط والغاز؛ ما أدى إلى نمو اقتصادي كبير في هذه الدول، ولكن نشأت صراعات وتعقيدات كبيرة بسبب الاختلاف على خطوط الإمداد بالنفط والغاز؛ حيث تصر روسيا على أن تمر بأراضيها.
ولم تتمكن دول آسيا الوسطى من أن تحل مشكلتها البيئية، بل إنها اتجهت إلى الأسوأ؛ ما يهدد بحر أورال بالزوال بسبب أسلوب الري المتبع، ونشأت أزمة مائية كبرى يفاقمها النمو السكاني، وأصبح الماء سببًا في النزاع الداخلي والإقليمي وبخاصة في وادي فرغانة المشترك بين أوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، وعلى سبيل المثال فقد أدى إنشاء سد روغان إلى نزاع جدي بين أوزبكستان وطاجيكستان، التي تحتاج إلى السد للوفاء باحتياجاتها المائية وإلى الطاقة الكهربائية.
عودة الإقطاع وحالة ما قبل الشيوعية
كانت المفاجأة الكبرى في آسيا الوسطى هي ابتعاث وحيوية القيادات الإقطاعية التي كانت مهيمنة قبل المرحلة الشيوعية؛ ما يعني أن الطابع التقليدي لمجتمعات آسيا الوسطى لم يتأثر بسبعين سنة من الحكم الشيوعي.
ولكن المفاجأة الأكبر لهذه الدول وقياداتها أن المنطقة تحولت إلى مركز جذب دولي سياسي واقتصادي بسبب وعود النفط والغاز في المنطقة، وتذكر وزارة الطاقة الأميركية أن حوض بحر قزوين الذي يشمل أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان وأجزاء من روسيا وإيران يختزن 270 بليون برميل من النفط؛ وهو ما يساوي 20% من احتياطيات العالم الإجمالية. وتحتوي المنطقة أيضًا على حوالي 665 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي أي 13.5% من احتياطيات الغاز في العالم، وفي تقرير لوزارة الخارجية الأميركية قُدم إلى الكونغرس في عام 1997 فإن واشنطن تأمل أن تستثمر في المنطقة وتحولها إلى مصدر بديل للطاقة يمكنه أن يسد الحاجات الغربية إذا جُمّد أو عُلّق شحن النفط من الخليج العربي.
وتواصلت التدريبات والخطط العسكرية والأمنية لمنطقة آسيا الوسطى، وشمل ذلك إقامة قواعد عسكرية وحماية حقول النفط وخطوط التجارة البحرية والمظاهر الأخرى لأمن الموارد، وقد راجعت دول أخرى غير الولايات المتحدة سياساتها الدفاعية القومية وفقًا للأولويات الاقتصادية الجديدة مثل الصين واليابان.
ولكن صراعات وأزمات جديدة أصبحت مرشحة وأطلت على المنطقة، وتبيّن أن حوض بحر قزوين على درجة من التعقيد والتناقضات الاقتصادية والعرقية والدينية لا يفوقه في ذلك إلا الشرق الأوسط، ودخلت الولايات المتحدة في صراع إقليمي جديد حول المنطقة.
ولاحظت البروفيسورة مارثا أبريل أولكوت من جامعة كولغيت (1998) أن المسعى المحموم وراء طاقة بحر قزوين فاقم التوترات المحلية، وخلق منطقة عدم استقرار وأزمة يمكن أن تمتد من البحر الأسود إلى المحيط الهندي ومن جبال الأورال إلى حوض تاريم في الصين.
تسعى واشنطن لتحقيق هدفين رئيسيين، هما: استثمار طاقة حوض بحر قزوين واستخدامها كبديل لإمدادات الخليج العربي، وضمان وصول النفط والغاز إلى أسواق الغرب بدون المرور عبر روسيا وإيران.
ومارست روسيا ضغطًا على أذربيجان وكازاخستان لكي ترسلا حصة كبيرة من صادراتهما النفطية عبر جنوب روسيا على البحر الأسود، وربما للسبب نفسه فإن روسيا شجعت حالة عدم الاستقرار في جورجيا لمنع مد خط أنابيب يمر عبرها إلى تركيا.
وانخرطت روسيا والولايات المتحدة في جهود منظمة لتقوية موقعهما العسكري في حوض بحر قزوين دون أن تلفتا كثيرًا من الانتباه (قبل 11 سبتمبر/أيلول 2001) من العالم الخارجي، وقد نجحتا معًا في تأسيس وجود مهم في المنطقة. وكان لروسيا عام 1999 أكثر من ثلاثة آلاف جندي في أرمينيا تغطيهم 22 طائرة ميغ 29، وسرب دفاع جوي وبطاريات صواريخ دفاع جوي. ويشغل الروس محطة رادار مضاد للصواريخ البالستية في أذربيجان. كما يتمركز 3000 جندي في جورجيا مع فوج جوي وطائرات شحن وطائرات مروحية، ويشغل الروس محطة رادار مضاد للصواريخ البالستية وميدان اختبار لصواريخ الدفاع الجوي في كازاخستان، ويقود الضباط الروس قوات حرس الحدود في قرغيزستان، ويوجد 8200 جندي في طاجيكستان، كما يقود الضباط الروس قوات الحدود الطاجيكية البالغ عددها 14500 جندي.
وقدمت الولايات المتحدة في السنوات (1998-2000) أكثر من مليار دولار مساعدات لدول المنطقة، وبعد 11 سبتمبر/أيلول تغير الوضع تمامًا حيث حشدت واشنطن قوات ضخمة جدًا في أفغانستان وأوزبكستان وباكستان والخليج والمحيط الهندي، وكانت قوات تفوق كثيرًا مهماتها المعلنة في أفغانستان بل إنها تكفي لتغطية جميع دول المنطقة وتهديد ومواجهة روسيا والصين.
وحتى بدون تورط مباشر لروسيا والولايات المتحدة في الصراع فإن حوض بحر قزوين مرشح ليكون ميدانًا لصراعات بالوكالة، ومن الواضح أن كلاً من واشنطن وموسكو لا تستطيع التحكم بالتطورات الاجتماعية والسياسية، وقد تجدان نفسيهما في وضع تبدو فيه مصالحهما الحيوية في خطر.(1)
تركيا الحاضرة الغائبة
تمثل آسيا الوسطى عمقًا جغرافيًا وتاريخيًا لتركيا؛ فالأمة التركية هي العرق السائد في هذه الجمهوريات (عدا طاجيكستان الفارسية)، ولم توقف تركيا علاقتها وارتباطها بآسيا الوسطى، ورغم أن تركيا كانت تخضع للفكر العلماني وقت مصطفى كمال أتاتورك إلا أنها كانت تقوم بدور كبير في تجديد الإسلام فى دول آسيا الوسطى من خلال بناء المساجد، وإرسال الوعاظ، والعمل الإغاثي، وواصلت الحكومة بعد وفاة أتاتورك مسؤوليتها عن المساجد، وتدريب الأئمة والتعليم الديني، وتراود تركيا أحلام العالم التركي الطوراني، أو الجامعة التركية على غرار الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي؛ فأنشأت في 1992 مؤسسة تيكا، ومؤسسة تورك صوي، والاتحاد الاقتصادي للبحر الأسود عام 1992. وعقدت في العام نفسه قمة الدول الناطقة بالتركية، وأطلق مشروع (عشرة آلاف طالب) الذي لا يزال مستمرًا حتى الآن دعمًا للتعليم في تلك الدول، وأُنشئت جامعة خوجه أحمد التركية-الكازاخية الدولية، ولكنها مشروعات لم تُوفَّر لها الموارد المالية الكافية، كما أنها سياسات زادت من قلق روسيا وريبتها، ثم زاد النفط من تعقيدات هذه العلاقات وأدخلها في لعبة دولية معقدة.
ولكن الاتجاهات الجديدة لتركيا في ظل حزب العدالة والتنمية والقائمة على تصفير المشاكل والتعاون الدولي والإقليمي، جعلت تركيا تطور علاقاتها الاقتصادية والثقافية، واستأنفت تركيا المساعدات في مجالات مختلفة مثل البنية التحتية والمساعدات المالية والمواصلات والتعليم، بعدما تراجعت، ثم توقفت بين عامي 2000 - 2003.
وفي المقابل، فإن قادة دول آسيا الوسطى وبخاصة نزار باييف رئيس كازاخستان يبدون تخوفًا وحذرًا من أن تركيا تريد العودة إلى النموذج السوفيتي وقاعدة الأخ الكبير.
وتسعى إيران إلى إقامة سوق مشتركة مع هذه الجمهوريات، وإلى تنشيط دورها في منطقة بحر قزوين التي تضم بالإضافة إليها كلاً من روسيا وأذربيجان وتركمانستان وكازاخستان، وقد افتتحت في 1996 خطًّا للسكك الحديدية يربطها بآسيا الوسطى (خط الحرير) يهدف إلى تسهيل نقل البضائع والتجارة، وأنشأت منظومة تعاون ثقافية مع طاجيكستان، وتخشى إيران من التأثير التركي على مواطنيها الأذريين الذين يقدر عددهم بـ 12 مليونًا.
ورغم هذه العوامل المحددة للتنافس الإيراني-التركي في آسيا الوسطى؛ فإن مسار التنافس بينهما بدأ يأخذ في السنوات الأخيرة طابع التعاون في مجال إقامة مشاريع البنية التحتية، لاسيما في مجال النفط والغاز والاتصالات والمواصلات؛ فالمصلحة المشتركة تقتضي التعاون وليس المجابهة.(2)
ملحمة القطن
تعود زراعة القطن في آسيا الوسطى إلى آلاف السنين، وبدأت تلعب دورًا اقتصاديًا مهمًا للإمبراطورية الروسية، وكان ذلك أحد أسباب احتلالها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما كان القطن ضروريًا لصناعة الملابس في روسيا، وتحول القطن إلى خاصية آسيوية، توصف أحيانًا باللعنة؛ فقد تحول الاقتصاد الزراعي إلى اقتصاد أحادي، كما أن أساليب الري التي تحتاجها زراعة القطن أدت إلى نزف مائي وتدهور بيئي وصحي ونزاعات داخلية وخارجية.
ويشير تقرير لجنة الأزمات الدولية (2005) إلى أن صناعة القطن في آسيا الوسطى تسهم في القمع السياسي والركود الاقتصادي والفقر المنتشر بشكل واسع والانحطاط البيئي. وبدون القيام بإصلاح هيكلي في الصناعة، فإنه من الصعب جدًا تحسين التنمية الاقتصادية ومعالجة الفقر والحرمان الاجتماعي وتعزيز الحرية السياسية في المنطقة.
ويقول التقرير: إن اقتصاد القطن في آسيا الوسطى بسيط واستغلالي؛ فملايين الفقراء القرويين يعملون لقاء أجر ضئيل أو بلا مقابل في زراعة وجني المحصول، وهناك حافز ضعيف بالنسبة للمصالح الخاصة النافذة للانخراط في إصلاح اقتصادي هيكلي جدي يمكن أن يقوض عملهم المربح ويهدد قوتهم السياسية بالمحصلة.
إن هذا النظام قابل للاستمرارية فقط في ظروف القمع السياسي، التي يمكن أن تُستخدم لحشد العمال بسعر أقل من سعر السوق، كما أن عدم وجود وسائل إعلامية حرة يؤدي إلى عدم الإبلاغ عن العديد من الإساءات. وتشترك الحكومات المحلية غير المنتخبة في هذه الإساءات عادة، نظرًا للمسؤولية الضعيفة أو لانعدام المسؤولية اتجاه السكان. ولمنتجي القطن مصلحة في استمرار هذا الفساد وهذه النظم غير الديمقراطية، وأدى ذلك أيضًا إلى أزمة مائية وبيئية وصحية كبرى، كما أن النزاع على استخدام الماء تسبب في توتر العلاقة بين دول المنطقة.(3)
هل كانت مصادفة أن الدول الإسلامية ظل يحكمها رؤساء الجمهوريات في أثناء الفترة الشيوعية بطريقة استبدادية وفردية مطلقة؟ بطبيعة الحال لا يمكن أن يستمر حكم هؤلاء إلى الأبد؛ فالزمن أقوى من جبروت أي إنسان مهما كانت قوته وثروته ونفوذه، وها هو الحاكم الأوتوقراطي التركماني نيازوف رحل عن الحياة تاركًا وراءه تماثيله التي تُعد بالآلاف ومن بينها تماثيل صُنعت من الذهب الخالص وصوره وأمواله التي تقدر بالمليارات، كما أن الربيع العربي -كما يقول المؤلف ليبوفسكي- جعل هذه الأنظمة السياسية في أضعف حالاتها، ولن تستطيع الاعتماد إلى الأبد في معركتها مع معارضيها على أجهزتها القمعية، ولا مفر من إصلاحات اقتصادية سياسية اجتماعية.
جدول ببعض المعلومات ومؤشرات التنمية في آسيا الوسطى (مستمد من تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2013 وموقع ويكيبيديا) |
معلومات الكتاب
العنوان: آسيا الوسطى تبحث عن هوية جديدة - Central Asia: In Search of A new Identity
المؤلف: إيغور ب. ليبوفسكي - Igor P. Lipovosky
عرض: إبراهيم غرايبة - باحث متخصص في العلوم الاجتماعية
الناشر: CreateSpace Independent Publishing Platform
تاريخ النشر: 2012
عدد الصفحات: 178
____________________________
إبراهيم غرايبة - باحث متخصص في العلوم الاجتماعية
الهوامش
1- مايكل كلير: الحروب على الموارد، ص94-123.
2- عبد المعطي زكي، الدور التركي في آسيا الوسطى، 28/12/2010:
http://www.asiaalwsta.com/CountryInfoDetails.asp?Id=245
3- كيستر كين كلوميغاه، أوزبكستان :استعباد الأطفال، بأمر من الحكومة، وكالة الأنباء العالمية انتر بريس سرفيس(آي بي إس):
http://ipsinternational.org/arabic/print.asp?idnews=1089