[الجزيرة] |
ينتمي كتاب "لماذا إسرائيل؟ تشريح الأبارتايد الصهيوني من منظور جنوب إفريقي" للمؤلفيْن: صوريا دادو وفيروز عثمان، إلى عينة الكتب التي ترهن نفسها للدفاع عن أطروحة معلنة بصورة مباشرة ودون مواربة، ألا وهي حق الإنسان الفلسطيني في العيش بحرية وكرامة على أرض فلسطين. وقد جرت العادة أن يتم التعاطي مع القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني عمومًا، باعتباره مطلبًا دينيًّا وسياسيًّا لسكان أرض فوجئوا على حين غِرَّة بوجود أجنبي يطالب بحقه في أرضهم فلسطين و"يعتبرها أرض الميعاد وميراث الأجداد". وعلى الرغم من أهمية المكونات التاريخية والدينية في استيعاب ما جرى ويجري على أرض فلسطين، فإن الكتاب يُقرُّ بصعوبة الفصل في قضايا خلافية يتداخل فيها الديني والسياسي والأخلاقي، ويركز على الأسباب الحقيقية القريبة تاريخيًّا والمتمثلة في بداية دولة إسرائيل، وكيف نجح منظِّرو "الحركة الصهيونية العالمية" في صناعة أسطورة "الحق الإسرائيلي في الوجود على أرض فلسطين"، وما مدى صدقية الأساطير التي صنعتها الحركة الصهيونية لإقناع العالم وإسكات الخصوم من العرب والأجانب.
تقوم الأطروحة المركزية للكتاب على البحث والتقصي في الأساطير التي صنعت دولة إسرائيل منذ أربعينات القرن الماضي، والقائمة على إلغاء الحق الفلسطيني. وفي ذات المنحى يكشف الكتاب السياسة الإسرائيلية على الأرض والقائمة على الفصل العنصري تجاه السكان الأصليين. فإذا كان الأبارتايد في جنوب إفريقيا يحيل على "نظام وسياسة الفصل العنصري حيث حكمت الأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية في جنوب إفريقيا قرابة خمس وأربعين سنة( 1948-1993)، فإن الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين وطرق التعامل مع السكان الأصليين جعلت الكاتبين يخلصان إلى وجود حالة من التشابه أو بشكل أدق التطابق والتماهي بين الهوية الصهيونية المؤطرة لطبقات المجتمع السياسي الإسرائيلي، ونظام الأبارتايد الذي كان يوجه سياسة الاوروبيين البيض في جنوب إفريقيا.
والكتاب هو ثمرة عمل مشترك بين صوريا داوود الكاتبة والناشطة الحقوقية المسلمة في جنوب إفريقيا والمعروفة بأبحاثها في مجالات الإعلام وحركات المجتمع المدني وتأثير الصهيونية على الإعلام والحياة الاجتماعية للفلسطينيين تحت الاحتلال، والدكتور فيروز عثمان الطبيب والمحلل سياسي الذي كرس العديد من ابحاثه لتعرية الحقائق المتعلقة بحقيقة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. ولأن الكاتبين يسهمان معًا في "مجلة الشبكة الإعلامية" في جنوب إفريقيا وهي "منبر إعلامي مكوَّن من مجموعة من الباحثين الإعلاميين المختصين في الدفاع عن الحريات المدنية وقضايا العنصرية"، فإن الكتاب أخذ شكل تجربة بحثية تجمع بين عناصر التحقيق الصحفي، وصرامة العمل الأكاديمي الساعي لتقديم معرفة عملية بشأن قضية سياسية خلافية. وهذا ما سعى صاحبا الكتاب إلى إبرازه من خلال النبش في التاريخ القريب لفلسطين، والتحولات السياسة الراهنة لمنطقة الشرق الأوسط، كل هذا بغية الوقوف على حق المواطن الفلسطيني في الوجود عل أرض فلسطين، وتعرية الوجه العنصري للأيديولوجية الصهيونية التي قامت من بدايتها عام 1948 على رفض هذا الحق ومحاولة طمسه بكل الأدوات والوسائل.
جاء الكتاب عبر فصوله الثلاثة عشر، موزعًا على ثلاثة محاور أساسية: الأول منها يضم أهم المقولات السياسية التي اعتمدها منظِّرو الحركة الصهيونية العالمية لخلق مفهوم "الشعب الإسرائيلي"، أما الثاني فيتناول طبيعة ووظيفة سياسة الفصل العنصري التي اعتمدتها إسرائيل في التعاطي مع السكان الفلسطينيين، أما الأخير فقد خصصه المؤلفان لعرض ومناقشة الحلول القائمة لتسوية الخلاف الفلسطيني-الإسرائيلي.
أساطير الأيديولوجية الصهيونية
يؤكد صاحبا الكتاب، ومنذ فصوله الأولى، على أن قيام دولة إسرائيل عام 1948 لم يكن ليتم لولا الأيديولوجية الصهيونية التي أرسى دعائمها الأولى تيودور هيرتزل عام 1897، والتي حددها حينذاك في "قيام دولة على أساس عرقي وإثني لليهود الأوروبيين". ونجحت الحركة الصهيونية العالمية في صناعة تاريخ قديم وحديث لليهود، وعملت على تنفيذه على الأرض من خلال نظام سياسي يقوم على أكاذيب مصنوعة ومختلقة من رحم التاريخ وتتلخص في "ردِّ مظلمة بني إسرائيل" الذين طُردوا وشُرِّدوا من أرض الأنبياء، حتى بداية الهجرة اليهودية لأرض فلسطين عام 1880، وبعد الإعلان عن دولة إسرائيل تم تبني مفهوم الهيمنة العسكرية على المستوى الداخلي والإقليمي والقبضة الأمنية على أرض فلسطين والفلسطينيين، وسياسة الفصل العنصري كآليات لازمة لاستمرار سياسة دولة بني إسرائيل.
وحسب الكتاب، فإن النظرية الصهيونية المؤسِّسة لدولة إسرائيل والموجِّهة لساسته منذ القرن الماضي قامت -ولا تزال تقوم- على ثلاث أساطير مركزية، هي:
• أسطورة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض
وتتمثل محددات الأسطورة الأولى في قراءة منظِّري الصهيونية لتاريخ اليهودية؛ حيث أكدوا أن "الرب وعد بني إسرائيل بأرض الميعاد التي تمتد من النهر إلى النهر"، وأن هذه الأرض ستُعطى لجميع بني إسرائيل "الهائمين في الأرض مؤمنين كانوا أم ملحدين!". وحسب المؤلفيْن دائمًا، فإن هذا الزعم لا يصمد كثيرًا أمام الحقائق الواقعية؛ حيث الإحصائيات تفيد بأن نسبة التدين اليوم في إسرائيل ليست كما يقدمه مناصرو الصهيونية. والحقيقة التي تفقأ العيون هي أن الإسرائيليين، حسب الأيديولوجية الصهيونية "لم يعودوا لطرد الوجود الفلسطيني من على خارطة فلسطين، بل إن الفلسطينيين لا وجود لهم أصلاً". وبالتالي، فالأساس الأول للنظرية الصهيونية يقوم على رفض الآخر الفلسطيني، بل أكثر من ذلك أنها لا تعترف حتى بوجوده المادي والقبلي كإنسان، ليوجد في ما بعد على أرض فلسطين. وبالتالي، فالنفي المزدوج للإنسان الفلسطيني يفضح بصورة كاشفة الوجه العنصري الصهيونية، وهذا النمط من التفكير إلى جانب كونه تمركزًا حول الذات الإسرائيلية، يرتبط أيضًا بأسطورة أخرى لا تقلُّ عنه خطورة، وتتمظهر في أن بني إسرائيل يعتبرون أنفسهم "شعب الله المختار". وبهذا تكتمل أضلاع المعادلة: شعب الله المختار عاد إلى أرض الميعاد ووجد بها شعبًا فلسطينيًّا، لكنه رفض الاعتراف بوجوده وسعى عبر تزييف الحقائق إلى إقناع نفسه وإقناع الآخرين بأن فلسطين كانت أرضًا بلا شعب.
بهذا المعنى يتبدى الشق الأول من زيف النظرية الصهيونية القائمة على تعمية الحقائق، و"الانتصار لقومية واحدة وعِرق واحد"؛ فالقول بأن فلسطين أرض بلا شعب إلى حين بداية الهجرة اليهودية لأرض فلسطين هو انتقاص من قيمة الذاكرة الإنسانية أولاً وذاكرة شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ثانيًا. وبذلك تكون الصهيونية -حسب صاحبي الكتاب- هي الوجه الأيديولوجي لإسرائيل ولقادتها الأوائل بدءًا من بن غوريون وانتهاء بنتنياهو.
• أسطورة التطهير العرقي لأرض إسرائيل
تتمثل معالم الأسطورة الثانية في ذات السياق مع سابقتها؛ حيث "أرض الميعاد أرض بني إسرائيل فقط ولا مكان للعرب فيها"، وهنا المكمن الحقيقي للصراع؛ فالصراع على الأرض المقدسة يستتبعه صراع بين شعب مختار وآخر لا حق له في البقاء على أرض فلسطين، وبالتالي فشعب فلسطين منذور للطرد أو التهجير أو يوضع داخل كانتونات في أحسن الأحوال؛ فتطهير أرض الميعاد -حسب بني يهود- واجب ديني يُستمد من "تعاليم التوراة". وهنا يأتي دور "الهاغانا" في تحقيق إلزامية فعل التطهير؛ حيث يؤكد الكتاب أن "هذه الميليشيات العسكرية اضطلعت منذ تأسيس الدولة اليهودية بالدفاع عن "أرواح وممتلكات المستوطنات اليهودية في فلسطين خارج نطاق الانتداب البريطاني"، وتمكنت من القيام بالأعمال القذرة من خلال الإشراف على عملية تهجير وترحيل آلاف الفلسطينيين عام النكبة ليتم اعتمادها في ما بعد لتشكيل وحدات الجيش الإسرائيلي.
ويؤكد الكتاب أن النتائج الآنية والمستقبلية لعمليات التطهير العرقي في فلسطين غير قابلة للنجاح، وأن مآلات "الحرب الديمغرافية" في فلسطين ستؤول لصالح الفلسطينيين ما دامت كل الفصائل السياسية الفلسطينية تنظر لمسألة الإنجاب باعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة السياسية أو العمل الجهادي. وهنا يستدعي الكاتبان التجربة جنوب الإفريقية مرة أخرى للاستدلال والمقارنة؛ فقادة نظام الفصل العنصري كلهم من "الأوروبيين البيض" الذين جاؤوا لجنوب إفريقيا خلال الحملة الكولونيالية، وعبر قوة السلاح تمكنوا من السيطرة على مقدرات البلاد واستعباد الناس، لكن الكثرة العددية للأفارقة كانت عنصرًا حاسمًا في لجم التفوق العسكري لهذا النظام، فرغم القتل والتهجير والاعتقالات، اقتنع ساسة نظام الأبارتايد، في آخر المطاف، بأن لا جدوى من سياسة الفصل والتمييز العنصري ما دامت نسبة التكاثر تفوق جبروت القبضة العسكرية، وانتهى الأمر للصالح السكان الأصليين لجنوب إفريقيا.
• أسطورة الأحزاب السياسية الإسرائيلية
وفي ذات المسار التحليلي يقف الكاتبان عند الوجه الآني المتحكم في السياسة الإسرائيلية؛ حيث يقدمان جملة من الأرقام والمعطيات عن الأحزاب السياسية في إسرائيل ومدى تغلغل الأيديولوجية الصهيونية في الجسم السياسي الإسرائيلي؛ فكل الأحزاب الإسرائيلية تتحرك وفق نواميس الأيديولوجية الصهيونية بل هي الإطار الناظم لسياستها الداخلية والخارجية. وهنا الجانب الأسطوري الذي يستوقف صاحبي الكتاب, فالجانب الأسطوري في المؤسسات الحزبية الإسرائيلية، التي تزعم أنها صانعة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، أنها تعيش على أفكار تقليدانية وجامدة وعنصرية.
- حزب الليكود: حزب يميني صهيوني، يرفض قيام دولة فلسطينية، ويعتبر القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ويدعو لتقليص عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، كما يطالب بسيطرة إسرائيل على المستوطنات والمياه والمقدرات الطبيعية في الضفة والجولان.
- حزب العمال: ليبرالي صهيوني، لا يمانع في قيام دولة فلسطينية بسيادة محددة ومرسومة سلفًا، لكنه لا يعترف بحق العودة إلا في حالات مخصوصة، وداخل أراض تابعة للفلسطينيين فقط، في حين أن القدس تبقى تحت إمرة السلطة الإسرائيلية، وهي عاصمة إسرائيل، مع إمكانية منح الفلسطينيين المقيمين فيها كافة الحقوق المدنية فقط.
- حزب كاديما: يميني صهيوني، لا يمانع حزب كاديما في قيام دولة فلسطينية، لكن بسيادة أمنية محددة على أراضي هذه الدولة، وإخلاء عدد معين من المستوطنات في الأراضي التابعة للدولة الفلسطينية، في حين يؤكد قادة الحزب أن القدس هي عاصمة إسرائيل غير القابلة للتقسيم أو التصرف.
- حزب إسرائيل بيتنا: يميني صهيوني، يقوم برنامجه على الإقرار بأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل وهي غير قابلة للتقسيم، وأن الاعتراف بدولة فلسطينية أمر ممكن مع ضرورة استبدال أراضٍ ذات أغلبية فلسطينية بأخرى ذات أغلبية إسرائيلية.
فهذه الأحزاب الأربعة عيِّنة من الأحزاب الإسرائيلية، وتكشف عن الآلية التي تتحكم بتدبير السياسة الداخلية لإسرائيل؛ حيث الخضوع الكلي لإطار أيديولوجي تمت صناعته واختراعه في القرن الماضي والقائم على الأفكار الصهيونية، واعتماد السلوكيات العنصرية كإطار للتعامل مع الفلسطينيين. ولأن الديمقراطية تقوم على الاعتراف بحقوق الآخر، أيًّا كانت هذه الحقوق فإن إقصاء الآخر الفلسطيني وعدم الاعتراف بوجوده بالرغم من حضوره المادي والسياسي يجعل الظاهرة الحزبية الإسرائيلية أيديولوجية عنصرية لا تخلو من عمق أسطوري.
ويقدِّم الكتاب نقيضًا واقعيًّا لهذه الأطروحة، والمتمثل في التجربة جنوب الإفريقية؛ حيث سبق أن استعمل نظام الأبارتايد ذات الوسائل التي تستعملها إسرائيل اليوم والنتيجة كانت الفشل، بل إن السكان الأصليين هم من أصبحوا يديرون البلاد. ويقول الكتاب هنا إن دولة إسرائيل بين اثنين: إما الدخول في تسوية سياسية وديمقراطية مع الفلسطينيين قد تكون مُرَّة وغير مُرضِية للطرفين لكنها حتمية، أو الدخول في حالة من التدمير الذاتي لليهود على أرض فلسطين. ويقدم الكاتبان التجربة السياسية لدولة جنوب إفريقيا باعتبارها "درسًا عمليًّا يجنِّب منطقة الشرق الأوسط عملية الاستنزاف اليومية التي يعيشها بعض دوله، ويخاطب الجميع بأن لا مناص من الحل، والحل يقتضي من جميع الأطراف نوعًا من التنازل بهدف تحقيق فضاء مشترك للتعايش بين الشعوب.
إسرائيل وسياسة الفصل العنصري
تطبيقًا لمقولة المؤرخ البريطاني إيريك هوبزباوم الذي يؤكد "أن مهمة الباحثين في التاريخ هي تذكير الناس بما أغفله الآخرون"، يمضي الباحثان في تفكيك الأسس البانية أي المولدة لعنصرية الدولة الإسرائيلية من خلال النبش في المقولات المؤطرة لهيكل هذه الدولة وصورة هذه الدولة عن نفسها وعلاقتها مع الفلسطينيين وكذا دول الجوار. وكأنهما بذلك يكشفان أن الإيديولوجية الصهيونية التي تعتمد الانتصار المطلق والأعمى للقومية اليهودية وحدها، تتحول من حيث لا تدري إلى "عصاب جماعي" همه الأساس تصريف مواقف عدائية في المقام الأول بهدف حماية "القومية اليهودية النقية" من التلاشي.
معاداة السامية
تمثل مقولة: "معاداة السامية" اختراعًا إسرائيليًّا خالصًا سعى منظِّرو الدولة الصهيونية إلى اعتماده كأداة للدفاع عن اليهود واليهودية من خلال تجريم "كل فعل أو قول معاد لليهود لأسباب متعلقة بتاريخهم وإرثهم اليهودي"، وينبِّه الكاتبان إلى أن التمترس وراء هذه المقولة يكون في حالتين مخصوصتين: الأولى: عندما تريد إسرائيل القيام بحملة دعائية لتلميع صورتها في المنتديات الدولية. والثانية: عندما تواجَه بحملات إعلامية من قِبل خصومها, ويستدل الكاتبان بعامي 2002 و2003 اللذين شهدا أكبر المجازر ضد الفلسطينيين خلال فترة حكم أرييل شارون؛. فمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وما واكبها من استنكار دولي لسياسة إسرائيل العنصرية، لجأ قادتها لحملة "إعلامية شاملة سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، وفي كل قارات العالم" معتبرين أن فكرة معاداة السامية دخلت مرحلة عصيبة. وبذلك تتكشف ملامح الزيف في مقولة معاداة السامية؛ حيث تصبح مجرد غطاء سياسي يتم اللجوء إليه لوقف الضغوطات الخارجية المطالِبة بالجلاء عن الضفة الغربية أو لحماية مصالح إسرائيل الخارجية من الضرر.
الإسلاموفوبيا
إن فكرة الخوف من الإسلام ومعاداة المسلمين متجذرة في الوعي اليومي الإسرائيلي لأسباب مرتبطة بالثقافة الدينية السائدة في إسرائيل اليوم. يؤكد صاحبا الكتاب أن مصطلحات "الخوف والكره والعداء" تأخذ هنا نفس الدلالة داخل إسرائيل، ما دام الدين الإسلامي من منظور الأيديولوجية الصهيونية "لا يمتلك مقومات الدين بل هو مجموعة من الأساطير البشرية". وغير خاف أن المخيال السياسي الإسرائيلي يرتع في ذات الحقل السياسي الغربي الذي يروج للإسلام باعتباره مصدر الإرهاب العالمي. وقد نجحت هذا السياسة في الداخل الإسرائيلي؛ حيث أضحى المواطن الإسرائيلي ينظر للدين الإسلامي على أنه ليست له "قيمة تجمعه بالثقافات الأخرى، وأنه أقل درجة من الغرب وأنه كَمٌّ من الأيديولوجيات العنيفة"، في حين تحول المواطن الفلسطيني إلى مصدر لكل الشرور أو على أقل تقدير هو إرهابي أو قنبلة بشرية قابلة للانفجار في أية لحظة. ويؤكد الكتاب أن درجات الخوف الإسرائيلي من الإسلام ارتفعت بشكل واضح منذ الإعلان عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتقوَّى هذه الإحساس مع الحروب في غزة التي كشفت زيف التفوق العسكري الإسرائيلي وصمود المقاومة الإسلامية. وقد ذكر الكتاب عددًا كبيرًا من المؤسسات المالية الأميركية والأوروبية التي تموِّل الحملات الإسرائيلية التي تشتغل في ما أسماه الكتاب "مواجهة الخطر الإسلامي الذي يتهدد الهوية الإسرائيلية" .
التهديد العربي
عملت السياسة الإسرائيلية دومًا على تكرار نغمة "التهديد العربي" إلى الحد الذي جعل الرئيس باراك أوباما يُقرُّ في خطاب رسمي عام 2012 بأن "إسرائيل دولة صغيرة داخل جوار إقليمي صعب"؛ فهذا التصريح، وبالرغم من نعومته اللغوية، يكشف درجة متقدمة من تنميط العقلية السياسية الغربية في فهم واستيعاب عمق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ فإسرائيل تسوِّق صورة عن نفسها بأنها مستهدفة ليس من الفلسطينيين فحسب، بل من جميع دول الجوار، في حين أن دول الجوار خاصة، مصر والأردن وسوريا ولبنان هي من يتعرض لانتهاكات حدودية مستمرة. وحين نعرف أن أغلب هذه الدول يربطها معاهدات سلام أو اتفاقات أمنية مشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية ندرك حينها أن كلام أوباما مجانب للحقيقة.
فعلى المستوى النظري يقول صاحبا الكتاب: إن إمكانية تصوُّر أن تشنَّ إحدى دول الجوار حربًا على إسرائيل هي صفر في المائة؛ فكل الدول المعنية باستثناء سوريا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة الأميركية، في حين أن إسرائيل هي القوة العسكرية الأولى في المنطقة، بل "إنها قوة نووية ولو أنها ما زالت مصرَّة على الإنكار". فرغم أن التقارير العسكرية تؤكد وجود مواقع نووية في منطقة ديمونة قرب حيفا، فإن جميع الحكومات تؤكد صراحة خلوَّ أراضيها من السلاح النووي، كما أنها ظلت تصم آذانها تجاه القرارات الدولية الداعية لفتح المواقع النووية الإسرائيلية أمام لجان التفتيش.
بهذا المعنى نخلُص -مع الكتاب- إلى أن فكرة معاداة السامية والإسلاموفوبيا والتهديد العربي تمثل في واقع الأمر الوجه العنصري لإسرائيل تجاه الفلسطينيين والعرب جميعًا، لكنها ليست بتلك العنصرية التي تقوم على الرفض المبرر، إنها عنصرية خائفة من الوجود الفلسطيني والعربي ودرجات صموده أمام الآليات المادية المعتمدة لتنفيذ هذه العنصرية. ومن هنا، تتحول مقولات معاداة السامية والإسلاموفوبيا والتهديد العربي إلى "فزَّاعات إسرائيلية" تسعى من خلالها لإقناع العالم الغربي بأنها مستهدفة من العرب والمسلمين. في حين أن هذه الفزاعات تحولت مع الزمن إلى صكوك اتهام ضد الإسرائيليين؛ حيث نلاحظ دعوات داخل إسرائيل وخارجها تطالب بنبذ سياسة التفرقة العنصرية، وأوهام "التهديد العربي"، والبحث عن تسويات سياسية مع العرب على أساس من الديمقراطية واحترام الشعوب والمصلحة الإقليمية.
حل الدولة أم حل الدولتين
بعد ستة عقود من الاحتقان في منطقة الشرق الأوسط تتوالى المطالب الدولية والمحلية بحتمية التوصل لحل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لكن الكتاب، وعبر استقراء لعينة من الفلسطينيين والإسرائيليين، يبيِّن صعوبة التوصل إلى تسوية عبر حل الدولتين، أي: دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، وذلك لأسباب خمسة يعرضها الكاتبان على الشكل التالي:
- صعوبة تعيين حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية.
- معضلة استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
- حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
- الوضع النهائي للقدس وحدودها.
- سيادة الدولة الفلسطينية.
فهذه النقاط الخلافية -حسب فصول الكتاب- تمثل عوائق حقيقية يصعب تجاوزها؛ فالطرفان معًا يتحدثان عن حل الدولتين لكن كل من زاويته الخاصة، ووفق أجندة فيها ما هو معلن والكثير منها مسكوت عنه. ولعل هذا ما جعل الكاتبين يتحدثان عن موت حل الدولتين على المستوى النظري. وبالمقابل، فإن حل "دولة واحدة لشعبين" قد يكون بديلاً عمليًّا؛ فحلُّ "الدولة الواحدة التي تمتد حدودها من البحر المتوسط إلى نهر الأردن وكل من يعيشون على هذه الأرض يعتبرونها دولتهم التي يجب بناؤها وفق أسس ديمقراطية ويعيشون عليها وفق مبدأ المواطنة والحرية والكرامة" ليس بالفكرة الجديدة بل هو الوضع الاعتباري الأوَّليُّ لهذه الأرض قبل الوجود الإسرائيلي. ويقف الكتاب كثيرًا عند موقف حركة حماس من حل الدولة الواحدة وتشبثها بدولة فلسطينية من البحر إلى النهر والرافض كليًّا لإسرائيل، لكن الردود التي يقدمها الكتاب هي أن هذا الموقف المبدئي القائم على المقاومة يخدم الأيديولوجية الصهيونية؛ فرغم شرعية ومشروعية الموقف، فإن التفوق العسكري الإسرائيلي يشرعن السيطرة الإسرائيلية على أرض فلسطين. وشدَّد الكاتبان على أن تمسك حركة حماس في ظل هيمنة إسرائيل على الأرض وغياب الحل السياسي يخدم المنظور الإسرائيلي الذي يراهن على إبقاء الوضع على ما هو عليه.
وبالتالي، فإن الدرس الإفريقي الذي يقدمه الكتاب هو أن انتقال دولة جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية هو النموذج الأمثل لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فنجاح جنوب إفريقيا كان في تخلصها من سلطة دولة بوتسوانا التي كانت تمثل امتدادًا جغرافيًّا وسياسيًّا ووطنًا بديلاً للسود في ظل نظام الفصل العنصري. وبالمقابل، فإن إجماع السود والبيض معًا على تسوية ديمقراطية وعادلة من خلال دولة واحدة لكل المواطنين بصرف النظر عن عِرقهم أو لونهم شكَّل بنظر الكاتبين حلاًّ عادلاً لجميع المواطنين فلسطينيين كانوا أم إسرائيليين؛ وهو حلٌّ يمكِّنهم من التعايش على أرض فلسطين بصورة ديمقراطية، قد تكون هناك صعوبة في تقبل مستوطن مساوٍ لفلسطيني لكن الأمر سيجنِّب المنطقة مزيدًا من المواجهات المسلحة، ويطوي صفحة طويلة من الحروب.
خاتمة
قد يكون كتاب "لماذا إسرائيل؟ تشريح نظام الفصل العنصري الصهيوني من منظور جنوب إفريقي" قد نجح إلى حد بعيد في تفكيك الأيديولوجية الصهيونية ودورها في تغذية الرأي العام الإسرائيلي بسلوكيات عنصرية يتم تصريفها ضد المواطنين الفلسطينيين أصحاب الدار الأصليين، وقد يكون أيضًا نجح في كشف تناقضات السياسة الإسرائيلية تجاه العرب ودول الجوار، لكن المؤكد حسب منظور صاحبي الكتاب هو أنه قدَّم مقترحًا عمليًّا لتسوية النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين من منظور تشاركي يحفظ ماء وجه كل الأطراف. وعلى الرغم من أن هذا الحل بقي مثار نقاش بين عدد كبير من الأطراف فإنه كان حلاًّ مطروحًا على طاولة المفوضات منذ بداية الصراع، والأكثر تأكيدًا هو أن الكتاب جاء بتجربة مشخَّصة يمكن القياس عليها وهي تجربة جنوب إفريقيا، وفي ذلك إشارة واضحة للفلسطينيين والإسرائيليين... فمتى يكون الحل؟
____________________
* عبد السلام رزاق، باحث وإعلامي بشبكة الجزيرة.
الكتاب: لماذا إسرائيل؟ تشريح الأبارتايد الصهيوني من منظور جنوب إفريقي
Why Israel? The Anatomy of Zionist Aparthied –
A South African Perspective
الكاتب: صوريا دادو وفيروز عثمان
Suraya Dadoo –FIROZ OSMAN
عرض: عبد السلام رزاق
الناشر: South Africa - Media Review network
سنة النشر: 2013
عدد الصفحات: 660 صفحة