الأزمة العراقية.. أزمة مجتمع أم أزمة دولة؟

1_782383_1_34.jpg








 

لقاء مكي العزاوي


يثير هذا العنوان (السؤال) رؤية أكثر عمقا لقضية العراق الراهنة، فنحن لم نعد نتعامل مع أزمة ذات بعد أمني أو سياسي أو اقتصادي أو أنساني فقط، بل بات الأمر يتعلق بالكيان العراقي بكامله مجتمعا ودولة، وأصبح خطر التقسيم أو التفتت أيا كان شكله قانونيا أم إداريا أم ديموغرافيا امرأ قائما وممكنا مع مخاطر أن تكون الكيانات الجديدة مقدمات لمشكلات أعظم ترتبط بجدران الدم والتعصب وجروح التاريخ المستعادة التي ستفصل بينها.








لقاء مكي
ومع اقتراب احتلال العراق من إتمام عامه الرابع يزداد تعقيد الأزمة في البلاد وتتشابك أشكال واتجاهات القوى التي تشارك فيها، كما تزداد حدة الصراع ودمويته مع سقوط ما بات يصل إلى مليون قتيل (1)، وضعفه من الجرحى والمعوقين ونحو أربعة ملايين مهاجر ونازح إلى جانب تعطيل شامل للحياة وانهيار العجلة الاقتصادية واختلال التوازنات الاجتماعية وتوزيعات السكان التقليدية وانقسام المجتمع بشكل حاد إلى طوائف وأعراق وقوى سياسية ودينية وقبلية.

إزاء هذا كله يتكرر العنوان (التساؤل)، هل أزمة العراق الراهنة تعود بأصولها إلى الدولة التي دمرها الاحتلال من غير أن يجد لها بديلا، أم إلى المجتمع الذي تماهى في تداعيه مع تداعي الدولة لأسباب أصيلة فيه تتعلق بتركيبته وتاريخه الممتد؟


ولقد وجدت إن محاولات الإجابة عن هذا التساؤل تحتاج إلى استخدام منهج تاريخي يتولى مراجعة الجذور ومحاولة اكتشاف الإجابات هناك، فما يحدث اليوم لم ينزل من السماء هكذا دفعة واحدة، كما إن الاحتلال يمكنه أن يستثير كوامن موجودة ونائمة لكنه بالقطع ليس بمقدوره خلق ما بات يمزق العراق والعراقيين طائفيا وعرقيا.


من أجل ذلك عمدت إلى استخدام المنهج التاريخي في تفحص الأزمة العراقية من غير إهمال المنهج الوصفي التحليلي الذي يستقري الحاضر بمجمل تداعياته.


أولا: المجتمع العراقي
ثانيا: الدولة العراقية
خلاصات وأحكام ختامية


أولا: المجتمع العراقي





"
الاحتلال يمكنه أن يستثير كوامن موجودة ونائمة لكنه بالقطع ليس بمقدوره خلق ما بات يمزق العراق والعراقيين طائفيا وعرقيا
"
يعرف المجتمع بأنه "نسق مكون من العرف المنوع والإجراءات المرسومة ومن السلطة والمعرفة المتبادلة ومن كثير من التجمعات والأقسام وشتى وجوه ضبط السلوك الإنساني والحريات، إنه نسيج للعلاقات الاجتماعية، وأخص صفات المجتمع، إنه لا يثبت على حال" (2).

وعلى وفق هذا المفهوم فإن المجتمع العراقي ليس استثنائيا في تعدد طبقاته وأقسامه وفي تنوعه الإثني والطائفي والديني ولا في تحولاته عبر الزمن، لكن الاستثناء فيه -قياسا لمعظم بلدان المشرق العربي- يكمن في التاريخ والجغرافية اللتين رسمتا ملامح قاسية للعراق دولة ومجتمعا.


إن العراق هو نتاج تحولات تاريخية كبرى وبالغة التعقيد، وقد جعله موقعه الجغرافي في التخوم الشمالية الشرقية للحوض العربي ساحة استقبال دائمة للهجرات من المحيط الآسيوي. (3).


ومثل سائر المجتمعات التقليدية، فإن العناصر الأساسية المكونة للمجتمع العراقي تتمركز في كل من السلطة الدينية والسلطة القبلية، وبطبيعة الحال فقد تفاوت تأثير كل من هاتين السلطتين وعلاقتهما ببعضهما تبعا للتطورات والأحداث والمتغيرات الإنسانية.


وإذا ما تخطينا ملامح المراحل التاريخية المختلفة فإنه مع حلول القرن العشرين بدا المجتمع العراقي -الذي تعرض لضربات عنيفة مستمرة دامت نحو ألف عام- مقسما بطريقة حادة إلى عدد كبير من الجماعات القائمة على أساس القومية أو الدين أو الطائفة أو القبيلة، وكانت هناك هوة واسعة تفصل المدن عن المناطق العشائرية، وكان العرب الحضريون وعرب العشائر ينتمون إلى عالمين يكادان يكونان منفصلين باستثناء سكان المدن الواقعة في عمق المناطق العشائرية، أو رجال العشائر الذين يقطنون قرب المدن (4).


القبلية وبناء السياق الاجتماعي في العراق
تمثل القبائل العربية التي هاجرت من الجزيرة إلى العراق بعد الفتح الإسلامي في عام 15 للهجرة فضلا عن تلك التي كانت استوطنت فيه قبل الفتح بقرون جوهر بنيته السكانية (باستثناء مناطق الأغلبية الكردية)، وقد توزعت هذه القبائل على غالبية أنحاء ما يشكل اليوم حدود العراق، وهذه القبائل تعرضت بدورها إلى تغييرات مختلفة بالتحالفات والانشطارات.


وبرغم أن العراق سواء بسبب موقعه الجغرافي أو جاذبيته الدينية أو الحضارية أو موقعه كمركز اقتصادي أو عاصمة للعالم الإسلامي لأكثر من خمسة قرون، بسبب ذلك كله سكنته أقوام عديدة وذابت في كيانه الاجتماعي والسكاني ومنهم الأفغان والهنود والفرس والبلوش والشيشان والأتراك وسواهم.


لكن وجود هذه الأقوام إضافة للأقوام الأصلية القاطنة في العراق قبل الفتح الاسلامي مثل الآثوريين والأرمن والكلدانيين ناهيك عن الأكراد، برغم وجود كل هذه الأقوام فإن الطابع العربي للعراق لم يتغير سواء بسبب أن الغالبية العظمى من سكانه هم عرب أو لدور العرب ومكانتهم في بناء العراق والحفاظ على وجوده على مر التاريخ.


وقد مر النظام القبلي العربي في العراق باختبارات صعبة عديدة، وتعرض لاختراقات السلطات الحاكمة المختلفة، حتى وصل مع نهاية العهد العثماني إلى حالة واضحة من الضعف وصار في العديد من المناطق -ولاسيما بجوار المدن- في حالة متقدمة من التحلل، ولم يكن لأحد أن يخطئ في تلمس تراجع السلطة السياسية والعسكرية للمشايخ والأغوات (الأكراد) والبكوات، فقد دمرت الأحلاف والإمارات العسكرية وظهر محلها الكثير من العشائر والفروع العشائرية المتنازعة فيما بينها، وفي ولاية بغداد وحدها –وكانت واحدة من ثلاث ولايات يتألف منها العراق إداريا– كان هناك 110 عشائر مستقلة تضم 1186 فرعا عشائريا، وكان الكثير من هذه الفروع متحررا عمليا من سلطة العشيرة الأم (5).


ولم يكن مثل هذا الواقع مؤشرا على تراجع دور القبيلة لصالح المدينة كمظهر طبيعي للتمدن، لكنه كان تكريسا لهيمنة القبيلة بمعناها السلبي، حيث تراجعت سلطة وهيبة المدن وطغى دور القبيلة التي استحالت بسبب من هذا التغول إلى قبائل وفروع.


وحتى في مرحلة ما بعد تأسيس الدولة العراقية المعاصرة في عام 1921، فإن البريطانيين الذين حكموا البلاد فعليا حتى قيام الجمهورية في العام 1958، كانوا سببا في تعزيز سلطة شيوخ القبائل لحسابهم -ولاسي