مرجعيات العيش المشترك في العراق

1_724000_1_34.jpg








 
ميثم الجنابي


إن تأمل تجارب التاريخ فيما يتعلق بمقدمات الاحتلال الخارجي للدول والأمم، يكشف عن أن الاحتلال الخارجي هو استمرار للاحتلال الداخلي، أو الوجه الآخر له ولكن بقوة خارجية. ولكل مرحلة تاريخية نمطها الخاص في الاحتلال وتبريره.


بعبارة أخرى، إن الاحتلال الخارجي محكوم على الدوام بتلازم قوة الخارج وضعف الداخل. ولكل منهما مقدماته وشروطه. وعندما نطبق ذلك على حالة الاحتلال الأميركي للعراق، فإننا نقف أمام واقع يشير إلى أن الاحتلال كان نتاجا لصعود النزعة الإمبراطورية الأميركية وانهيار العراق الداخلي.


فقد كانت خطة احتلال العراق تعكس الاتجاهية المتناقضة لصعود الإمبراطورية الأميركية وسقوطها. وخصوصيتها بهذا الصدد تقوم على كونها نتاجا للإيديولوجية الراديكالية في صعودها إلى السلطة.


فمن الناحية الزمنية هي جزء من الاستفراد الأميركي المفاجئ بسبب انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي بالأخص. وهو سر صعود الراديكالية المحافظة.





"
الاحتلال الأميركي للعراق كان نتاجا لصعود النزعة الإمبراطورية الأميركية وانهيار العراق الداخلي
"
وشأن كل فكرة خاطئة من حيث المنطق وقابلة للتنفيذ بحكم القوة، فإنها عادة ما تصنع زوبعة العجاج العنيف التي عادة ما يختنق فيها الكبار ويبقى الصغار يتلاعبون بذراته المدهشة والمثيرة لحب الاختباء فيها. عندها أصبحت مهمة مهاجمة المثلث العراقي/السوري/الإيراني قابلة للتنفيذ. وأولويتها كانت تكمن في عدائها التاريخي والعميق "لإسرائيل". وهو ترابط محكوم بأصول المحافظين الجدد أكثر مما هو محكوم بفكرة المحافظين الجدد كما هي. مع أن الارتباط بينهما له أصوله وجذوره الخاصة.

فمن الناحية المجردة، يمكننا القول إن كل تقدم في منظومة الحقوق بين الدول يجعل الاحتلال أشد تعقيدا وصعوبة. وذلك لأن تكامل منظومة الحقوق يجعل من انتهاكها عملية وخيمة النتائج وأكثر تكلفة وأشد صعوبة. لكن الواقع يبرهن لحد الآن على أن نفسية وذهنية وفكرة الاحتلال لم تلفظ أنفاسها الأخيرة.


بمعنى أنها لم تتحول بعد إلى قطعة أثرية في متحف التاريخ السياسي والحقوقي الدولي. والسبب مقرون بثقل نفسية المصالح، وتقاليد القوة الغضبية، وجزئية الحقوق العامة، واختلاف القوانين الوطنية، وضعف تجانسها العالمي، وتباين التقاليد الثقافية. وهي مكونات هائلة التأثير لها تاريخها العريق في ميدان الروح والجسد الفردي الاجتماعي والقومي والدولي.


من هنا تباين تأثيرها في سلوك الدول، لكنها تتأزم في الأغلب مع صعود النفسية الراديكالية. وليس مصادفة أن يكون الاحتلال الأميركي للعراق ملازما لذروة الصعود الراديكالي لفكرة المحافظين الجدد وذروة الانحطاط المعنوي لراديكالية التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.


وفي كلتا الحالتين نقف أمام هوية خروجهما على الحق. فإذا كان الاحتلال الداخلي هو نتاج للانحطاط المادي والمعنوي في منظومة الحق، فإن الاحتلال الخارجي هو انتهاك لها وخرق لمبادئها.


ولكل مرحلة تاريخية نمطها الخاص في انتهاك الحقوق ومستوى خاص في تجسيدها وتبريرها. لكنها تبقى في نهاية المطاف جزءا من الانحطاط الروحي والأخلاقي للدول والأمم والفكر. فالاحتلال بحد ذاته انحطاط. أما طبيعته ونوعيته وتأثيره فعلى قدر طبيعة ونوعية الانحطاط الذاتي.


وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول إن الاحتلال الأميركي للعراق هو استمرار للاحتلال الدكتاتوري، بمعنى أن كلا منهما يكمل الآخر في انتهاك فكرة الحق وسيادة الفرد والمجتمع والدولة. وليس مصادفة أن تكون شعاراتهما الداعمة لمواقفهما العملية متشابهة.


التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية حللت المجتمع باسم شعار الوحدة والحرية، والغزو الأميركي عمق التحلل تحت شعار التحرير (الحرية) والديمقراطية. مما جعل كل منهما يكمل الآخر فيما يتعلق بتفكيك الهوية الوطنية العراقية.


مما لا شك فيه، أن تفكيك الهوية الوطنية هو أولا وقبل كل شيء فعل ذاتي. وهو تفكيك يجعل من الممكن إمكانية التدخل الأجنبي وفعالية أساليبه في تعميق أو تحويله إلى "منظومة". وقد كان الغزو الأميركي للعراق واحتلاله "الشرعي" مبنيا من الناحية الإيديولوجية والسياسية على وقائع جعل منها حقائق.


بمعنى استغلاله واقع التجزئة والتفكك الفعلي في الهوية الوطنية العراقية عبر تحويله إلى "حقيقة" جرى رفعها إلى مصاف الأسلوب "الواقعي" و"العقلاني" للتحكم في الدولة ومؤسساتها الجديدة.


وهي نتيجة لا يمكن توقع حدوثها في ظل بنية وطنية متكاملة. وهي الإشكالية الكبرى التي جعلت من الغزو أمرا "مقبولا" لأغلبية المعارضة "الديمقراطية" و"الثورية" و"الوطنية" و"القومية" و"الإسلامية" وغيرها، كما جعلت الاحتلال "تحريرا" لأغلبية المجتمع في بداية الغزو.





"
إننا نقف أمام اغتراب شبه شامل وتجزئة فعلية بين الدولة والسلطة، والمجتمع والسلطة، والعراق ومكوناته، أي نقف أمام عراق بلا دولة فعلية ولا أمة تناسبها
"
بمعنى أننا نقف أمام اغتراب شبه شامل وتجزئة فعلية بين الدولة والسلطة، والمجتمع والسلطة، والعراق ومكوناته، أي نقف أمام عراق بلا دولة فعلية ولا أمة تناسبها. وهو الأمر الذي جعل من رذيلة التجزئة "حقيقة سياسية".

وحالما تصبح الرذيلة "حقيقة" وليست مجرد واقع، فإن ذلك يعني بلوغ التجزئة حالة "المنظومة" الفاعلة في كافة نواحي الحياة وعلى مختلف مستوياتها. وهي حالة حالما تستقل بفاعليتها الخاصة في بلورة المواقف والقيم (السياسية والأخلاقية) عند الأفراد والجماعات والمجتمع، فإنها تفرض بظلالها على الجميع وتجعل من الضلال دليلا على الواقع.


وهي حالة لها تاريخها الخاص في عراق القرن العشرين بشكل عام ومع صعود الراديكالية السياسية بشكل خاص، كما وجدت تعبيرها النموذجي في التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. فقد صنعت الأخيرة منظومة التحلل والتفكك الاجتماعي والوطني على كافة المستويات وفي كافة نواحي الحياة.


وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول إن تفكيك الكلّ الوطني في العراق هو نتاج الزمن التوتاليتاري والراديكالي. وفيهما ينبغي البحث أولا وقبل كل شيء عن مقدمات الاحتلال وقدرته على تفعيل منظومة التفكك الوطني.


فقد كشف تاريخ البعث والصدامية عن ظاهرة معقدة. لعل مفارقتها الكبرى تقوم على أنها استطاعت أن تعزل الزمن عن التاريخ، وأن تجرد زمن وجود الأشياء والناس والأفعال من تاريخها. وهو الواقع