انهيار السلم المدني وتفتيت الدولة العراقية


هيثم غالب الناهي


منذ احتلال العراق من قبل الدولة العثمانية منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، كان للعراق خصوصية تختلف عن الأقاليم العربية الأخرى.


فعلى الرغم من أن تلك الأقاليم التي كانت تابعة للدولة العباسية العربية الإسلامية كانت لها خصوصية معينة في إدارة الدولة؛ فإنّ الباب العالي في الآستانة كان يتعامل معها بتوابع مباشرة عن طريق والٍ للإقليم يتبع السياسة الموجهة مباشرة.





"
الدولة العراقية ضمن الاحتلال العثماني كان لها كيان خاص يختلف في مسلة قوانينه عن مسلة القوانين التي كانت تتمتع بها الأقاليم الأخرى
"
في حين كان العراق منذ بدأ الاحتلال العثماني يتم التعامل معه على أساس دولة قائمة بذاتها، ولها قوانينها الذاتية التي يرسمها الوالي المعين من الآستانة ضمن الأُسس الاجتماعية والاقتصادية والتربوية الخاصة بالعراق.

ولكون حدود العراق كانت شاسعة؛ تمتد إلى أعماق الجزيرة العربية؛ عكفت الدولة العثمانية على تقسيم العراق إلى ولايات متعددة بدءا من القرن السابع عشر الميلادي؛ حتى أصبح في أتون منتصف القرن الثامن عشر الميلادي للعراق ثلاث ولايات هي البصرة وبغداد والموصل (1).


ولو تتبعنا الخارطة السياسية لهذه الأقاليم لوجدنا أن كلا منها كان يتمتع بأداء دولة قائمة بذلتها على الرغم من تبعية ولايتي البصرة والموصل لولاية بغداد. والسبب في ذلك كان يعود لامتدادات كلّ من تلك الولايات إلى أعماق جغرافية؛ أصل كل منها تبلغ مساحتها أكبر من مساحة العراق الحالي (2).


ولقد استمر حال التعامل مع العراق بهذا الأسلوب حتى سقوط الدولة العثمانية عام 1918م بعد الحرب العالمية الأولى (3).


لعله مما تقدّم يمكننا أنْ نستنتج أنَّ الدولة العراقية ضمن الاحتلال العثماني كان لها كيان خاص يختلف في مسلة قوانينه عن مسلة القوانين التي كان تتمتع بها الأقاليم الأخرى؛ كنتيجة لوضعه الجغرافي والديمغرافي والاقتصادي والإستراتيجي والديني الذي كان يتصارع عليه الأقوياء؛ وصولا إلى المنابع الدافئة كما وصفها قيصر روسيا آنذالك (1).


هذه المسلة القانونية التي لا نود أنْ ندخل في هواجسها العميقة كي لا نخرج عن صلب موضوعنا؛ أحدثت شرخا كبيرا حول العراق ما بين الحلفاء في الحرب العالمية الأولى؛ قبل أنْ يحدث هذا الشرخ مع الدولة التركية الحديثة المبنية على أنقاض الدولة العثمانية (5،4).


الدولة العراقية ما بين احتلالين
العوامل الدولية ودورها في انهيار الدولة العراقية
حقيقة ما يسمى العراق الجديد في السلم والاستقرار الدولي
نتائج البحث


الدولة العراقية ما بين احتلالين


قبل البدء في أتون الحديث لا بدّ أنْ نذكر أنّ المقصود بالدولة العراقية ما بين احتلالين؛ هو الأُسس التي وجدت على أساسها الدولة وتطبيقاتها القانونية والدستورية والمؤسساتية منذ بدء قيام الدولة العراقية الحديثة الأولى خلال الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918م حتى سقوطها يوم 9 أبريل/ نيسان 2003م.


وعليه في موضعنا هذا نود أنْ نضع أطر بناء الدولة العراقية ضمن تسلسلها التاريخي، ولكن باختصار شديد جدا لندخل في صلب موضوعنا الذي يركز على ما بعد الاحتلال الثاني.


نشأة العراق كدولة
لعل اعتبار قيام الدولة العراقية الحديثة مع الاحتلال البريطاني قد جاء نتيجة محصلة لانتقال العراق من احتلال عثماني لاحتلال بريطاني، علاوة على أنّ الاحتلال البريطاني كان ناتج حرب كونية أعيد من خلالها ديموغرافية العالم أجمع وضمن متطلبات ما بعد الحرب لإقرار السلم المدني بين دول العالم.


ناهيك عن القرارات التي اتخذتها الدول الخارجة من الحرب والتي تنص على ضرورة عدم الخوض في حروب كونية لمدّة عقدين حّى ولو كانت مجبرة؛ لتتفرغ لإعادة بناء دولها نتيجة ما لحق بها من دمار اقتصادي وعلمي واجتماعي وتربوي خلال الحرب العالمية الأولى.


نستخلص مما تقدّم أن هناك عوامل دولية عديدة قد تخللتها المرحلة لإعادة بناء السلم المدني في العراق وهيكلة الدولة العراقية. ولعل ثورة العشرين وما نتج عنها قد وضع دولة الاحتلال البريطاني أمام معضلة حقيقية تلخصت بضرورة إيجاد حلّ جوهري لمسألة العراق كدولة؛ فتم الإعلان عن اعتبارها دولة ملكية لها دستور وكيان قانوني، مع النظر في استقلاليتها وفكها من الانتداب في حال استكملت الجوانب الأساسية لاعتبارها كدولة.


ولعل الدول الأوروبية التي كانت عضوا بعصبة الأمم لعبت الدور الكبير في إرساء ذلك؛ عندما ألزمت بريطانيا بمعاهدات السلم والحرب التي تتضمن ضررورة إعادة هيكلة الدولة الواقعة تحت الانتداب ضمن القوانين والأطر الدستورية المناسبة لوضعها الإثني والجغرافي (7،6).





"
الدولة العراقية الحديثة بدأت أولى لبنات بنائها بسن قانون من صلب رغبات ومنافع الشعب العراقي وبضمان دولي لإعادة بناء السلم المدني بعد أنْ أفسدته الحرب العالمية الأولى والاحتلال العثماني من قبلها
"
لقد وفر هذا المنحى الكثير على دولة الاحتلال البريطاني على الرغم من ظهور تيارات داعمة لبناء الدولة بعيدا عن الاحتلال، وأخرى ارتأت أنْ تكون تجربة جمهورية لا ملكية؛ ولكن كان لعصبة الأمم وقرار الانتداب دور كبير في وضع صورة وشكل الدولة العراقية غير المستقرة ضمن المحددات الدولية لها. ونتيجة لتلك الصراعات وإصرار الاحتلال البريطاني على إبراز معالم الدولة العراقية ضمن الالتزامات المبرمة في عصبة الأمم ليتحول العراق من دولة منتدبة لدولة مستقلة عضوة بالمجتمع الدولي ومنظماته، كانت هناك عدة مسلمات أقدمت عليها بريطانيا، وذلك لإعطاء طابع الدولة والسيادة للحكم المقترح في العراق والذي كان في وقته ملكيا على الرغم من ظهور مناداة قوية لإعلانه دولة جمهورية (8).

لقد جاء في صك الانتداب البريطاني للعراق بقرار عصبة الأمم في يناير عام 1921م؛ كيفية تنظيم العلاقة بين العراق والدولة المنتدبة؛ إذ نصت المادة الأولى على ما يلي "للمنتدب أنْ يضع في أي وقت (على ألا يتجاوز ثلاث سنوات من تاريخ تنفيذ الانتداب) قانونا أساسيا للعراق يعرض على مجلس عصبة الأمم للمصادقة عليه. وهذا القانون يسن بمشورة الحكومة الوطنية ويبين حقوق الأهالي الساكنين ضمن البلاد ومنافعهم ورغائبهم. ويحتوي على مواد تسهل تدرج العراق وتقدّمه كدولة مستقلة. وتجري الإدارة في العراق طبقا لروح الانتداب قبل تنفيذ القانون الأساسي".


واستنادا للفقرة الأولى المذكورة أعلاه في صك الانتداب البريطاني، نرى ما يلي (10،9):




  1. إنَّ عصبة الأم