صراع الهويات والمحاصصة الطائفية في العراق

1_837920_1_34.jpg







 



إذا كانت مسألة الدولة في شكلها وأبعادها المتعددة تعد مسألة فكرية وسياسية هامة، فإنها تعد مسألة مضاعفة الأهمية والتعقيد فيما يخص التجربة التاريخية للدولة العراقية الحديثة.

ويعود ذلك لعوامل تتعلق بسياقات تشكيلها ومجموع التحديات التي تواجهها، الخارجية منها المتمثلة بالقوى الاستعمارية القديمة والجديدة، والداخلية التي تتصل بالبنيات المجتمعية والسياسية المؤثرة في صياغة شكلها وشكل السلطة ومن ثم العلاقة بينهما وبين الفرد المواطن.

سنناقش في هذا البحث أبرز التحديات البنيوية التي واجهت قيام الدولة (الأمة) في العراق وأدت إلى فشلها وانهيارها والمحاولات الفاشلة لإعادة بنائها، وبالتحديد التحديات المتمثلة في النزاع الطائفي-السياسي ودور أحزاب الهوية في تشكيل دولة الطوائف، والتعددية المجتمعية وأثرها في التعددية السياسية.

والإخفاق الذي لازم الأطر الاجتماعية في إنتاج ثقافة سياسية حديثة ومجتمع سياسي فعال مما أدى إلى استعصاء الحل الديمقراطي.

 


 


تمر الدولة والمجتمع العراقي بظروف صعبة ومعقدة نتيجة تراكم المشكلات الحادة التي يعود بعضها في حضور نتائجه إلى سياق تشكل الدولة السابقة، والبعض الآخر نتيجة  للدور المؤثر الذي يمارسه الاحتلال وبأشكال مفجعة فاقت كل توقع.




"
أدى استحكام التسلطية السياسية في صميم بنية الدولة العراقية إلى حدوث خلل جوهري فيها، وإلى عجز بنيوي متأصل بها وملازم لها، أعاقها عن القيام بوظائفها وإنجاز مهامها في تحقيق الأمن، وإنجاز التنمية الاقتصادية، ودخول الحداثة السياسية
"
لقد أدى استحكام التسلطية السياسية في صميم بنية الدولة العراقية إلى حدوث خلل جوهري فيها، وإلى عجز بنيوي متأصل بها وملازم لها، أعاقها عن القيام بوظائفها وإنجاز مهامها في تحقيق الأمن، وإنجاز التنمية الاقتصادية، ودخول الحداثة السياسية، أي قيام دولة القانون والمؤسسات، وتشكيل المجتمع الحديث الذي تستمد منه شرعيتها بوصفها تمثل الإرادة  المجتمعية العامة.

تتصف الدولة العراقية عموما -متمثلة هنا بشكل السلطة- بغياب لافت لأي تطور في الفكر السياسي، حيث ينعدم كل تجديد في الحقل السياسي المنعكس مباشرة على شكل النظام والممارسة السياسية، وكذلك بالتناقضات البنيوية للمكونات الاجتماعية، بالإضافة إلى غياب التنمية والضعف الاقتصادي.

فلم تتشكل الدولة بمنطق التعبير عن الوحدة العضوية والمؤسسة الوطنية التي تمثل كل البنى الاجتماعية بداخلها، لقد فشلت هذه الدولة في ضمان الحد الأدنى من تحقيق الوظائف الجوهرية التي لا مبرر لوجودها من دونها، وهي تلك التي تتصل بضمان أمن الفرد وسلامته، وإقامة حد أدنى من حكم القانون والقضاء النزيه والعادل.

فإذا لم تستطع الدولة أن تحمي الفرد والجماعة من اعتداءات خارجية ولا تمكنت من تقديم فرص أفضل لتأمين شروط البقاء المادية، ولا نجحت في وضع قانون ولا تطبيقه، لم تعد دولة وفقدت مبرر وجودها.

أما المكونات الاجتماعية فهي عبارة عن مجموعات بشرية لا تربطها بالدولة أطر وهياكل قانونية تتم ممارستها بالفعل رغم كل التشريعات وصيغها الصورية. أي غياب ذلك المجتمع ذي العلاقات المنظمة قانونيا والقادر على إدارة نفسه وفقا لصيغها.

ويعود ذلك في جذوره إلى مجموعة مترابطة من الأسباب تتعلق بغياب التجربة التاريخية للدولة كمؤسسة مستقرة ودائمة، وكذلك إلى الفشل في تأسيس الدولة تلك التي عرفها هيغل بوصفها تجسيدا للإرادة العامة، أو تلك التي يعطيها "فخته" دور رعاية تنظيم الحقوق والحريات المشتركة، بالإضافة إلى ما يسميه القانون الأساس للحماية والقانون الأساس للوحدة.

فظلت دولة القبيلة التي لا يتميز بها المجال السياسي، أي غياب الفصل بين المجتمع الأهلي والمجتمع السياسي والدولة، ولا تفرق المساحة السياسية المؤسسة على نوعية وظائف الدولة وعلى وجودها كموضع للتسليم، وإفراد العلاقات الاجتماعية القائم على الطابع الفردي العقلاني لهذا التسليم، وأولوية الانتماء للمواطنة المكفولة بوجود خدمات متبادلة بين الفرد والدولة.

لقد واجهت قضية قيام الدولة في العراق ولا تزال مجموعة من التحديات التي شكلت عوامل عجزها عن إنجاز دورها، ولو في حده الأدنى الذي يقوم على توفير الأمن وضمان القانون والنظام، وإقامة تشريع اقتصادي حديث، وتنمية اقتصادية مستدامة. ومعروف أن هذا ما لا يمكن أن يتحقق بدون التهيئة المسبقة لبعض الشروط الأساسية التي لا بد أن تبدأ أولا من توفير الأطر القانونية الملائمة والأطر السياسية الفاعلة.

إن من هذه التحديات ما يعود إلى شكل الدولة التي قامت على بنية شديدة المركزية هيمنت على كل القطاعات ال
#1575;جتماعية والسياسية والإدارية. فالدولة العراقية كانت قائمة على جهاز بيروقراطي ضخم غير منتج، وتم إفساده لعوامل عديدة تتعلق بشكل وسياسات نظام الحكم، وكذلك على جهاز أمني ضارب للحفاظ على مركزية السلطة ونظام الحكم القائم.

وما نتج عن هذا هو توحد كامل بين الدولة والسلطة، أي عدم التمييز بين الحكومة والدولة. في حين من المفترض أن الدولة غير الحكومة، فالدولة هي النظام المدني الذي يحدد العلاقات المدنية بروابطها القانونية، وتكون بذلك عبارة عن المجتمع السياسي المنظّم، الدولة هي جميع أفراد وهيئات المجتمع المعرّفة قانونا، أما الحكومة فهي الجهاز الآمر الذي يقوم بالإدارة العامة وينفذ الشرع الذي يقوم عليه المجتمع المنظّم سياسيا.

تترابط مجموع هذه التحديات بشكل وثيق، فمسألة الجهاز البيروقراطي المتضخم والأمني في وظيفته القمعية مرتبط بالمسألة الاقتصادية، حيث الدولة تمتلك وسائل الإنتاج واحتكار الثروات وعوائدها بوصفها دولة ذات نمط اقتصادي ريعي.

والدولة العراقية  يمكن أن تعد دولة ريعية أو شبه ريعية، ولأنها كذلك فقد تقوت وتضخمت على حساب المجتمع الذي أصبح مختزلا وضعيفا، فكانت السلطة هي التي تحدد سياسة التوزيع والتخصيص، ولأن الحكم فردي تسلطي فصار بالتالي هو الذي يمنح ويعطي أو يمنع ويقطع. لقد ارتبطت الثروة والجاه بالدولة، وارتبطت المكانة الاجتماعية بالحصول على وظيفة داخل الدولة فالدولة هي كل شيء.

لقد أحدث هذا النمط من الاقتصاد هشاشة جوهرية في البنية العميقة للدولة من ناحية، وأعطاها من ناح