مثلما قامت الديمقراطية بصيغتها التحريرية (الليبرالية) في البلدان المتمدنة على مجموعة حوامل سياسية وفكرية، فإنها قامت ثالثا على حامل اجتماعي يتمثل في الطبقة الوسطى الميسورة اقتصادياً والمستنيرة عقليا.
إن تلك الحوامل جميعاً هي عبارة عن مقدمات ولوازم ومتطلبات تؤدي في حال حضورها إلى تأسيس أرضية خصبة ومناخات ملائمة للبناء الديمقراطي، بينما يؤدي غيابها أو ضعفها -كلها أو بعضها- إلى شقاء الديمقراطية تحولاً وبناء.
وإذا كان الحامل الاجتماعي معلوماً حسب ما جاء آنفاً فإن الحامل السياسي للبناء الديمقراطي يتمثل في وجود نظام سياسي يعتمد مؤسسات البرلمان والأحزاب والمجتمع المدني ويقوم على مبادئ التعددية السياسية بشقيها التعددية الحزبية وتعددية الرأي، مع وجود دستور يقر مجموعة أخرى من الآليات والقيم أهمها التداول السلمي للسلطة والانتخابات والفصل ما بين السلطات واستقلال القضاء واحترام حقوق الإنسان.
أما الحامل الفكري للبناء الديمقراطي فإنه يتمثل بمناخات فكرية تعكس سيادة النزعات الفردية والطبيعية والعقلانية في الحياة المجتمعية.
وهذه الورقة ستهتم بالمقدمات الاجتماعية للبناء الديمقراطي والمتمثلة في الطبقة الوسطى بوصفها الحامل الاجتماعي للديمقراطية بصيغتها التحررية، فماذا نعني بالطبقة الوسطى؟ وما حدود علاقتها بالتحولات الديمقراطية في العراق الحديث والمعاصر؟
إن تلك الحوامل جميعاً هي عبارة عن مقدمات ولوازم ومتطلبات تؤدي في حال حضورها إلى تأسيس أرضية خصبة ومناخات ملائمة للبناء الديمقراطي، بينما يؤدي غيابها أو ضعفها -كلها أو بعضها- إلى شقاء الديمقراطية تحولاً وبناء.
وإذا كان الحامل الاجتماعي معلوماً حسب ما جاء آنفاً فإن الحامل السياسي للبناء الديمقراطي يتمثل في وجود نظام سياسي يعتمد مؤسسات البرلمان والأحزاب والمجتمع المدني ويقوم على مبادئ التعددية السياسية بشقيها التعددية الحزبية وتعددية الرأي، مع وجود دستور يقر مجموعة أخرى من الآليات والقيم أهمها التداول السلمي للسلطة والانتخابات والفصل ما بين السلطات واستقلال القضاء واحترام حقوق الإنسان.
أما الحامل الفكري للبناء الديمقراطي فإنه يتمثل بمناخات فكرية تعكس سيادة النزعات الفردية والطبيعية والعقلانية في الحياة المجتمعية.
وهذه الورقة ستهتم بالمقدمات الاجتماعية للبناء الديمقراطي والمتمثلة في الطبقة الوسطى بوصفها الحامل الاجتماعي للديمقراطية بصيغتها التحررية، فماذا نعني بالطبقة الوسطى؟ وما حدود علاقتها بالتحولات الديمقراطية في العراق الحديث والمعاصر؟
تفترض هذه الورقة أن العلاقة بين الطبقة الوسطى والديمقراطية تتحدد طبيعتها السلبية عند ضعف أو غياب الطبقة الوسطى، وعندها ستكون الديمقراطية في حالة شقاء حتى لو كانت الحوامل السياسية والفكرية للديمقراطية الليبرالية حاضرة.
وسنحاول تأكيد صحة هذه الفرضية من خلال المحاور الاتية:
وسنحاول تأكيد صحة هذه الفرضية من خلال المحاور الاتية:
- ماهية الطبقة الوسطى وعلاقتها بالتحول الديمقراطي.
- اللحظات الديمقراطية الليبرالية في العراق الملكي.
- جمهوريات "أهلا ووداعاً معاً" للطبقة الوسطى في العراق.
ماهية الطبقة الوسطى وعلاقتها بالتحول الديمقراطي
اللحظات الديمقراطية الليبرالية في العراق الملكي
جمهوريات أهلا ووداعا معا للطبقة الوسطى
خلاصة
إشكاليات
اللحظات الديمقراطية الليبرالية في العراق الملكي
جمهوريات أهلا ووداعا معا للطبقة الوسطى
خلاصة
إشكاليات
من الوجهة التاريخية مثلت فكرة الديمقراطية الليبرالية -على حد تعبير هارولد لاسكي- الثمن الذي اضطرت إلى دفعه الطبقة الوسطى لضمان مؤازرة الجماهير لها في كفاحها ضد الأرستقراطية الإقطاعية من أجل السلطان(1).
لقد بدأ تكوين الطبقة الوسطى مع الثورة التجارية التي ظهرت بوادرها في أوروبا عصر النهضة، وأسهمت في تغيير النظام الاجتماعي الذي كان قائماً على وجود طبقتين أساسيتين هما الطبقة الأرستقراطية وطبقة العوام(2).
وقد تشكلت طلائع هذه الطبقة من التجار الجوالين الذين ينتقلون من مكان إلى مكان يحملون بضاعتهم على أكتافهم أو على الدواب ويتجولون على أقدامهم، فأطلق عليهم لقب "المعفرة أقدامهم"(3).
ولما كانت التجارة بحاجة إلى أماكن أمينة تختزن فيها البضائع وتكون مراكز للتوزيع في أركان المدن أو عند مفترقات الطرق البرية أو على الأنهار، فقد حصل التجار في مقابل ثمن على حق إنشاء محطات تجارية وتحصينها والدفاع عنها عرفت باسم "بُرج" (Bourg) وأخذ منها تسمية "برجوازية" (4) الذي أطلق كصفة على التجار الذين يجتمعون فيها.
ولما لم يكن التجار طبقة منتجة وليسوا طرفا في علاقة الإنتاج السائدة بين الإقطاعيين والفلاحين فقد سميت طبقتهم باسم "الطبقة الوسطى(5).
وقد جذبت هذه المراكز التجارية الحرفيين الذين يقومون بالصناعات من أجل الاستهلاك فانتقلوا إليها، وبدأت الصناعة من أجل البيع تجارة، وحين ازداد عدد المقيمين في تلك المراكز كان على الفلاحين في الإقطاعيات أن يزيدوا في إنتاجهم الزراعي لمواجهة احتياجات أفراد الطبقة الجديدة، فأصبحت الزراعة هي الأخرى من أجل البيع تجارة لا من أجل الاستهلاك فقط.
المهم في هذه التطورات الاجتماعية أن التجارة كانت بحاجة إلى قواعد تعامل واضحة ومحددة، وإلى قضاة يفصلون في المنازعات ويقطنون مواقع قريبة من هذه المراكز التجارية أو داخلها. كما كانت بحاجة إلى رجال يعرفون كيف تصاغ العقود وكيف تتم إجراءات المطالبة بالديون واستيفائها.
ولم تكن قواعد العرف السائدة أو نظام الاحتكام إلى السيد الإقطاعي تصلح لكل هذه المعاملات، ما اضطر الطبقة الجديدة إلى الاستعانة بالقانون الروماني العتيق، وأنشئت الجامعات لتدريسه والمحاكم لتطبيقه والقضاء للفصل بموجبه، والفقهاء لشرحه والمحامين ليدافعوا به عن أفرادها.
كما أصبح رجال القانون بجوار أمراء المال الجدد مثل الفرسان بجوار الأمير الإقطاعي، فاشترى لهم التجار من الملوك ألقاباً، وأصبح من بينهم من يوسم بألقاب خاصة "فارس القانون".
أما الثمن فكان تمويلهم صراع الملوك، وعلى أثر استقراض الملوك للأموال من أفراد هذه الطبقة الجديدة الغنية، أخذ الملوك يتنازلون لأفراد هذه الطبقة عن بعض الامتيازات ويمنحونهم بعض الحقوق(6).
بيد أن ما كانت تحتاجه البرجوازية أكثر من أي شيء آخر هو الحرية الفردية، أي حرية الإرادة والتعاقد والتملك والربح والتنافس بعيداً عن أي تدخل من أي سلطة، وإذا كان لا بد من سلطة فلتكن في أضيق الحدود، أو فلتكن وظيفتها على وجه الدقة المحافظة على الحرية الفردية وممارستها، أي أن تكون بمثابة "الشرطة" الحامية لتحفظ الأمن من الخارج وفي الداخل، ثم تترك لكل واحد أن ينتقل حيث يريد وأن يفعل ما يريد، وأن يكون كل ذلك بأقل تكلفة(7).
وهكذا شيئا فشيئا بدأت الطبقة الجديدة تتململ بعدما أدركت ضعة شأنها أمام الساسة النبلاء اجتماعياً وسياسياً، وللتخلص من ذلك الحال شرعت تنافس أولئك الذين ورثوا جاههم عن أسلافهم فأصبحوا حكاماً من دون مزية عقلية أو بدنية يمتازون بها عن سواهم، وأخذت هذه الطبقة تطالب بالحرية وبحق المساواة. ولم تقتصر مطالبتها بالمساواة على نفسها فحسب، بل عممتها على سائر المواطنين لكسب عطف الفئات الواسعة وتأييدها لها(8).
وعلى امتداد أكثر من قرن ابتداء من القرن السادس عشر ح&
لقد بدأ تكوين الطبقة الوسطى مع الثورة التجارية التي ظهرت بوادرها في أوروبا عصر النهضة، وأسهمت في تغيير النظام الاجتماعي الذي كان قائماً على وجود طبقتين أساسيتين هما الطبقة الأرستقراطية وطبقة العوام(2).
وقد تشكلت طلائع هذه الطبقة من التجار الجوالين الذين ينتقلون من مكان إلى مكان يحملون بضاعتهم على أكتافهم أو على الدواب ويتجولون على أقدامهم، فأطلق عليهم لقب "المعفرة أقدامهم"(3).
ولما كانت التجارة بحاجة إلى أماكن أمينة تختزن فيها البضائع وتكون مراكز للتوزيع في أركان المدن أو عند مفترقات الطرق البرية أو على الأنهار، فقد حصل التجار في مقابل ثمن على حق إنشاء محطات تجارية وتحصينها والدفاع عنها عرفت باسم "بُرج" (Bourg) وأخذ منها تسمية "برجوازية" (4) الذي أطلق كصفة على التجار الذين يجتمعون فيها.
ولما لم يكن التجار طبقة منتجة وليسوا طرفا في علاقة الإنتاج السائدة بين الإقطاعيين والفلاحين فقد سميت طبقتهم باسم "الطبقة الوسطى(5).
وقد جذبت هذه المراكز التجارية الحرفيين الذين يقومون بالصناعات من أجل الاستهلاك فانتقلوا إليها، وبدأت الصناعة من أجل البيع تجارة، وحين ازداد عدد المقيمين في تلك المراكز كان على الفلاحين في الإقطاعيات أن يزيدوا في إنتاجهم الزراعي لمواجهة احتياجات أفراد الطبقة الجديدة، فأصبحت الزراعة هي الأخرى من أجل البيع تجارة لا من أجل الاستهلاك فقط.
" بدأ تكوين الطبقة الوسطى مع الثورة التجارية التي ظهرت بوادرها في أوروبا عصر النهضة، وأسهمت في تغيير النظام الاجتماعي الذي كان قائماً على وجود طبقتين أساسيتين هما الطبقة الأرستقراطية وطبقة العوام " |
ولم تكن قواعد العرف السائدة أو نظام الاحتكام إلى السيد الإقطاعي تصلح لكل هذه المعاملات، ما اضطر الطبقة الجديدة إلى الاستعانة بالقانون الروماني العتيق، وأنشئت الجامعات لتدريسه والمحاكم لتطبيقه والقضاء للفصل بموجبه، والفقهاء لشرحه والمحامين ليدافعوا به عن أفرادها.
كما أصبح رجال القانون بجوار أمراء المال الجدد مثل الفرسان بجوار الأمير الإقطاعي، فاشترى لهم التجار من الملوك ألقاباً، وأصبح من بينهم من يوسم بألقاب خاصة "فارس القانون".
أما الثمن فكان تمويلهم صراع الملوك، وعلى أثر استقراض الملوك للأموال من أفراد هذه الطبقة الجديدة الغنية، أخذ الملوك يتنازلون لأفراد هذه الطبقة عن بعض الامتيازات ويمنحونهم بعض الحقوق(6).
بيد أن ما كانت تحتاجه البرجوازية أكثر من أي شيء آخر هو الحرية الفردية، أي حرية الإرادة والتعاقد والتملك والربح والتنافس بعيداً عن أي تدخل من أي سلطة، وإذا كان لا بد من سلطة فلتكن في أضيق الحدود، أو فلتكن وظيفتها على وجه الدقة المحافظة على الحرية الفردية وممارستها، أي أن تكون بمثابة "الشرطة" الحامية لتحفظ الأمن من الخارج وفي الداخل، ثم تترك لكل واحد أن ينتقل حيث يريد وأن يفعل ما يريد، وأن يكون كل ذلك بأقل تكلفة(7).
وهكذا شيئا فشيئا بدأت الطبقة الجديدة تتململ بعدما أدركت ضعة شأنها أمام الساسة النبلاء اجتماعياً وسياسياً، وللتخلص من ذلك الحال شرعت تنافس أولئك الذين ورثوا جاههم عن أسلافهم فأصبحوا حكاماً من دون مزية عقلية أو بدنية يمتازون بها عن سواهم، وأخذت هذه الطبقة تطالب بالحرية وبحق المساواة. ولم تقتصر مطالبتها بالمساواة على نفسها فحسب، بل عممتها على سائر المواطنين لكسب عطف الفئات الواسعة وتأييدها لها(8).
وعلى امتداد أكثر من قرن ابتداء من القرن السادس عشر ح&