أكد الرئيس التونسي د. المنصف المرزوقي أن الدكتاتورية تعبد الطريق للديمقراطية بجرائمها وأن الديمقراطية تمهّد الطريق للدكتاتورية بنواقصها (الجزيرة) |
قدم الدكتور المنصف المرزوقي، رئيس الجمهورية التونسية، محاضرة بعنوان أي ديمقراطية لوطننا العربي؟ في إطار فعاليات مركز الجزيرة للدراسات لسنة 2013.
ومن المنطقي أن يتحدث المرزوقي عن الديمقراطية وهو صاحب تجربة سياسية ذات بعدين: فهو مثقف مفكر من جهة وهو سياسي ورئيس دولة، لذك جاء حديثه عن الديمقراطية متأسسا على خلفية نظرية أصيلة ومنغرس في تجربة عملية رائدة.
تسكن الديمقراطية مفهوما وممارسة المرزوقي الذي أسس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية المتأسس سنة 2001 وخاض استحقاق انتخابات المجلس التأسيسي بتونس ليفوز بـ29 مقعدا بعد حركة النهضة، ولينتخب سنة 2012 رابع رئيس للجمهورية التونسية.
الديمقراطية بين إغراءات المفهوم وتشوهات التطبيق
سبق للدكتور المرزوقي أن شرح مفهوم الديمقراطية وتطبيقاتها في كتابه أية ديمقراطية تتحدّثون؟ الصادر سنة 2004 حين كان سياسيا ومناضلا حقوقيا واليوم يطرح تلك الإشكالية لا من وجهة نظر مثقف حقوقي مناضل بل من وجهة نظر مسؤولية يترأس دولة في حالة مخاض دستورها يكتب.
مشروع الديمقراطية جُرّب أكثر من غيره وانتهى دوما بنفس خيبة الأمل. استفاد مشروع الديمقراطية من الاستبداد وهو ما جعل المرزوقي يخلص إلى نتيجة وهي أن التاريخ يؤكد على أن "الدكتاتورية تعبد الطريق للديمقراطية بجرائمها وأن الديمقراطية تمهّد الطريق للدكتاتورية بنواقصها". ومع ذلك تبقى مقولة رئيس الوزراء البريطاني السابق تشرشل مقولته الشهيرة مقولة واردة وهي أن: ''النظام الديمقراطي أسوأ نظام باستثناء كل نظام آخر'' وهو ما يترجم له مثالنا الشعبي ''الهمّ فيه ما تختار''.
ونجد مصداق مقولة تشرشل في أن النظام الديمقراطي يظل بطبيعته في الحكم والتطبيقات يتجافى عن ظلم الشعب ومحاربته فهو في الأساس نظاما أريد له أن يكون من الشعب وللشعب. وأمثلة التاريخ التي تبين كيف أن بعض الدكتاتوريات تحارب شعوبها: روسيا الستالينية مثلا أو الأرجنتين في السبعينات وألمانيا النازية وسوريا الأسد اليوم. وهنالك سبب آخر يصدق مقولة تشرشل وهي أن الاستبداد غير قابل للإصلاح نتيجة الحكم بالأهواء ورفض النقد وإزاحة الأكفاء وكثرة المتزلفين حول المستبدّ. كل هذا يجعل منه سيارة دون فرامل وحتى دون مقود والمصير معروف إلا للركاب السكارى.
ويبقى النظام الديمقراطي مفهوما وتطبيقا على آليات تعديل تعمل باستمرار –كما بين المحاضر- مما يقلل من الأخطاء أو يصححها. ذاك أن حرية الرأي التي يضمنها النظام الديمقراطية تقوم بترصد التجاوزات من جهة كما أن حرية التظاهر آلية تظل تمارس الضغط على السلطة حتى لا تمعن في غيها، ثم إن استقلال القضاء سيضمن تتبع المفسدين والفساد وأخير فالانتخابات موعد يجعل منه الشعب فرصة للإطاحة بمن لم يرضوا تطلعاته.
ويؤكد المرزوقي في هذا التأصيل المفهومي أنه لا يوجد حتى الساعة نظام أثبت تفوقه على الديمقراطية إلا في مخيلة الذين تتشكل ثقافتهم من الأساطير لا من حقائق التاريخ. إلا أن هذه القناعة لا يجب أن تحجب عنا أننا أمام نظام فيه كثير من النواقض وهو لا زال في طور التجريب ويمكن لنا نحن العرب المساهمة فيه والربيع العربي يعطينا فرصة تاريخية لا تعوض لكي نكون مجدّين لا ناقلين.
الديمقراطية والعيوب الهيكلية
يرى المرزوقي أن الديمقراطية رغم قدرتها على تقديم حليل للكثير من إشكالات الحكم تبقى عرضة لتشوهات سبعة هيكلية هي:
-
أن الديمقراطية لا تعني دائما سيادة الشعب وإنما سيادة الأحزاب والأشخاص ومجموعات الضغط؛
-
الديمقراطية لا تنهي حكم الارستقراطيات المخفية؛ بل تلك الأنظمة المقنعة تعمل في الخفاء (الشرطة، الفساد المالي، الإعلام غير المسؤول..)
-
الديمقراطية لا تحقق العدالة الاجتماعية؛
-
كل قواعد الديمقراطية قابلة للغش أو لسوء الاستعمال وكل مؤسساتها قابلة للتفويض وتحويل الوجهة؛
-
الديمقراطية تفتيت للقرار وتصعيب له وحتى توزيع الدكتاتورية؛
-
المواطن الذي يدلي بصوته لا يأخذ دوما أصوب قرار له وللمجموعة؛
-
المسؤول ليس دائما على القدر المطلوب من المسؤولية.
ومع وجود هذه العيوب السبعة فإن الديمقراطية عندما يراد لها أن تتطبق في العالم العربي نجد انها –كما يبين الدكتور المرزوقي- تصبح نبتة معرضة للموت السريع خاصة والتربة الثقافية ليست التي تتقبل بسهولة مثل هذه النبتة.
شهدت المحاضرة عددا كبيرا من المشاركات من قبل الحضور(الجزيرة) |
إن سلم القيم المترسخ في الثقافة العربية لا يجعل من الحرية رأس هرم القيم عند العرب، بل إن قيمتنا الأولى حيث وضعنا العدل دوما على رأس كل القيم. وهنالك أكثر دليل على فالعدل قيمية دينية: ''إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى'' وقيمة سياسية: كما يظهر ذلك في خطبة الصديق رضي الله عنه عند قبول البيعة. وقيمة اقتصادية – اجتماعية: كما فسر ذلك ابن خلدون الذي جعل العدل عنوان العمران والظلم خرابه.
تجاهل العرب قديما وحدثيا دور الحريات في بناء العدل كحرية نقد السلطة وحرية التظاهر ضد تجاوزاتها وحرية استبدالها سلميا. وها هو النموذج الغربي للديمقراطية يعرض علينا في شكله الليبرالي حرية دون عدل كما أوضح الدكتور المرزوقي. وهذا ما لن يفيد العالم العربي المتعطش للعدل وكم يستحيل تحقيق أي سلم اجتماعي في غيابه توفرت الحريات أم لم تتوفّر. ما يعني أن علينا تجاوز المشروع القديم متكرر الفشل الذي لا زالت تروج له بعض الجماعات الإسلامية المتشددة - العدل دون حرية - كما يجب أن نتجاوز مشروع الديمقراطية الغربية- الحرية دون عدل لنبني نظاما سياسيا يجعل الحرية في خدمة العدل والعدل دعامة الحرية.
وهذا التصور للديمقراطية الذي يجمع بين ركيزتي العدل والحرية يجعل من الضروري على الديمقراطيين العرب التمسّك بهذه القاعدة: لست ديمقراطيا أن لم تجعل الحرية في خدمة العدل والعدل في خدمة الحرية.
تبيئة الديمقراطية في العالم العربي
لو أخذنا النموذج التونسي كما يقول الدكتور المرزوقي فعلميا ينبغي لكي يتم التمكن من "توطين" الديمقراطية وجعلها نظاما يلبي طموحات الشعب التونسي وبالتالي الشعوب العربية وينظم عمل النخب السياسية ويخلق مناخا سياسيا صحيا فلا بد من:
-
سنّ قوانين الشفافية: التي تجبر وسائل الإعلام أهل السياسة وكبار المسؤولين عن القطاع الاقتصادي العام على الكشف عن أملاكهم سنويا والتثبت من صحتها. فضلا عن قوانين تعيد صياغة اللعبة الانتخابية.
-
إنشاء مجلس الأعلى لمحاربة الفساد: ويكون هيئة لها سلطات واسعة تعطى لها بالقانون الذي يؤسسها، منها سلطة المراقبة والتتبع الجزائي والإحالة أمام قضاء مختصّ. ويهتم بالصفقات العمومية والتهرب الجبائي وفساد مسالك التوزيع والجريمة المنظمة وتمويل الصحافة والأحزاب وأملاك الساهرين على مفاصل الدولة والشركات الوطنية والخاصة الكبرى. ويكون مستقلا عن كل السلط وله كل الإمكانيات البشرية والمالية المطلوبة لتأدية مهامه. فهو إذن سلطة خامسة تكمل السلطات الأربع الأخرى.
-
إنشاء مرصد وطني للديمقراطية: تساهم فيه الجامعات ومراكز البحث والإحصاء يمدّ المجتمع والفاعلين السياسيين بالحالة الصحية للديمقراطية حتى يأتي العلاج قبل فوات الأوان أو حتى تتبين ملامح السياسية الوقائية القادرة على إطالة عمر نظام سياسي لا أكثر منه متانة ولا أكثر منه هشاشة.
ومع ذلك تبقى الديمقراطية كما يقول الدكتور المرزوقي مسارا يكون فيه التوقف والتراجع عند التقاطعات خشية اتباع الطريق الخاطئ لأن القاعدة كانت وستبقى: مهما وضعت من قوانين ومن آليات فهناك دوما غش وغشاشون يمكنهم القضاء على اللعبة وسلب المتفرجين.
-
إنشاء نظام تربوي يكرس مفهوم المواطنة: لا بد للعرب –من التربية على الديمقراطية، فالعربي لا ينشأ على الديمقراطية؛ والعلاقات الهرمية القاسية ما زالت سائدة والنزعة الغريزية للاستبداد راسخة. والتربية السياسية بصفة عامة لا بد أن تحقق ثلاثة أهداف: ثقافة عامة وتخصص تقاني والتربية على المواطنة. فبالثقافة العامة تتوسع المدارك وبالتخصص يحصل التقدم وبالتربية على المواطنة يتمكن حب الوطن ووحدته. لا بد أن يكون ضمن المناهج المدرسية في العالم العربي درس يتناول التعذيب ومعنى المخابرات ومعنى البوليس السياسي ومعنى الإعلام الفاسد. وكل ما من شأنه أن يغرس معنى المواطنة. فهذا من معاني تربية النشء على الديمقراطية.
مستقبل الديمقراطية التونسية.. جديد لم يتبلور وقديم لم يمت
يبقى تشخيص حالة الديمقراطية في العالم العربي عصيا، خصوصا وأن عملية تبيئة الديمقراطية في هذا الفضاء الثقافي والاجتماعي تعني غرس مفهوم في بيئة غير مواتية.
د. المرزوقي (يمين) يتسلم درع الجزيرة من مدير مركز الجزيرة للدراسات د. صلاح الدين الزين (الجزيرة) |
ومع ذلك فإن التجربة التونسية الراهنة تدعو إلى التفاؤل؛ فقد تمت انتخابات حرة ونزيهة، وتوجد حرية رأي وحرية تعبير ربما كان أول ضحاياها الحكومة القائمة، كما لم تعد بتونس خشية من البوليس السياسي، وقد تحول المواطنون –حسب المرزوقي- من رعايا ليصبحوا مواطنين.. وعلى الصعيد الاقتصادي توقف نزيف الفساد؛ غير أن الناس تريد حلولا سحرية مستعجلة وهو أمر لا يتأتى لحكومة تعيش وضعا انتقاليا.
ومهما قصرت الحكومة التونسية الراهنة، ومهما وصفها الإعلام بأن تجربتها غير مضمونة النتائج فإن الضامن هو الإصرار والعمل وهو ما ينبغي أن يدعمَ ويجذر، مع الوقوف في وجه القوى المضادة للثورة وهي قوى كثيرة وقوية..
ويبقى التأكيد على أن حرية بدون عدالة وهو ما تسعى إليه الديمقراطية في وجهها الليبرالي البشع لا يحقق ديمقراطية، كما أن عدالة بدون حرية حتى ولو كانت هدفا لبعض الجماعات الاصولية فهو لا يحقق إلا الاستبداد. فالحل الوحيد ان تكون الديمقراطية اجتماعية لا ليبرالية، لا تحقيقا لمناداة البعض ودعوته لإيجاد المستبد العادل.
وما نشاهده اليوم في أمريكا اللاتينية من ربط بين العالة الاجتماعية والديمقراطية يؤكد إمكانية تحقيقة هذا النموذج من الديمقراطية الاجتماعية في العالم العربي، أي ديمقراطية تخدم التنمية الاجتماعية. وهو أمر لا بد أن يشد أزره قضاء مستقل وبرلمان تمثيلي ومحاربة الفساد.
وتبقى المرحلة الانتقالية في تونس تعبيرا عن مخاض وفوضى: فوضي في الاعلام وفي القضاء، وهذا من لوازم أعادة التشكل. فتونس كما يؤكد المرزوقي تعيش جديدا لم يتبلور وقديما لم يمت.
إن إعادة التشكل التي هي سمة الحكومات الانتقالية تعني فيما تعنيه أن الحكومة وهي تمارس السلطة تتعلم من تجربتها ومن أخطائها، وأن المعارضة في طور البناء الحكومة والجميع مطالب بالتفاعل الإيجابي. لا أن تظل المعاضة لا تقول لا، والحكومة تعتمد على أن لها أغلبية وتنكفئ على نفسها، فالتفاعل الإيجابي يخلق سلما اجتماعيا ومناخا سياسيا صحيا.
____________________________
سيدي أحمد ولد أحمد سالم - باحث بمركز الجزيرة للدراسات