تونس ما بعد الدستور: كيف ستواجه تحديات الفصل الأخير من المرحلة الانتقالية؟

201446102852392734_20.jpg
جانب من الجلسة الحوارية (الجزيرة)
ملخص
استضاف مركز الجزيرة للدراسات عضوَ المجلس الوطني التأسيسي والمقررَ العام للدستور، الأستاذ: الحبيب خضر في جلسة حوارية، لمناقشة تحديات الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية في تونس وخاصة على مساريْها: التأسيسي والتشريعي. ومما بين الحبيب خضر أن هناك إنجازًا حققه التونسيون وهو أنهم أعطوا الأولوية للتوافق أكثر مما أعطوها للشرعية الانتخابية. كان يمكن منذ انتخاب المجلس التأسيسي أن يعمل هذا المجلس بشكل قانوني واعتمادًا على شرعية الصندوق الانتخابي وخارجًا عن إرادة الفاعلين الموجودين خارجه؛ لكنَّ المجلس اختار، وحتى قبل ارتفاع الأصوات في الخارج ضده، أن يعتمد سياسة التوافق والتشاور؛ فشرعن بذلك منهجية صياغة الدستور معتمدا على المشاركة، وربما تكون هذه القضية من خصوصيات المنهج التونسي. اتبع المجلس التأسيسي مبدأ إشراك الجميع وتجسد ذلك في أكثر من حدث؛ فقد تمت -مثلاً- دعوة من ترشَّح للمجلس ولم يحالفه الحظ في الفوز بمقعد إلى المشاركة في نقاش وإعداد الدستور، بل طالب المجلس الجميع بتقديم مشروع دستور يكون ضمن برنامج النقاش والمداولات.

بعد المصادقة على دستورها الجديد في السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2014، تستعد تونس لطي الفصول الأخيرة من المرحلة الانتقالية بتنظيم انتخاباتها الثانية بعد الثورة. ولئن برزت تونس بالمقارنة مع نظيراتها من دول الربيع العربي باعتبارها النموذج الأقرب إلى النجاح، فإن التحديات التي تواجه هذه التجربة الواعدة بعد إنجاز "دستور الجمهورية الثانية" لا تقل خطورة عما سبقها.

وفي هذا السياق وللحديث عن أبرز تحديات الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية وخاصة على مساريْها: التأسيسي والتشريعي، استضاف مركز الجزيرة للدراسات عضو المجلس الوطني التأسيسي والمقرر العام للدستور، الأستاذ: الحبيب خضر في جلسة حوارية، تحدث خلالها الأستاذ خضر عن ملامح ما بعد المصادقة على الدستور التونسي.

 نعم للتشارك ولا للاستفراد

ركزت ورقة الأستاذ الحبيب خضر على الحديث على بعد المصادقة على الدستور التونسي وكيف ستواجه تونس هذه المرحلة. وقبل الدخول في تفاصيل ملامح هذه المرحلة لابد من الإشارة إلى أن هناك إنجازًا حققه التونسيون لهم وللأمة العربية، وهذا الإنجاز يتمثل في أن التونسيين أعطوا الأولوية للتوافق أكثر مما أعطوها للشرعية الانتخابية.

كان يمكن منذ انتخاب المجلس التأسيسي أن يعمل هذا المجلس بشكل قانوني واعتمادًا على شرعية الصندوق الانتخابي وخارجًا عن إرادة الفاعلين الموجودين خارجه؛ لكنَّ المجلس اختار، وحتى قبل ارتفاع الأصوات في الخارج ضده، أن يعتمد سياسة التوافق والتشاور؛ فشرعن بذلك منهجية صياغة الدستور معتمدا على المشاركة، وربما تكون هذه القضية من خصوصيات المنهج التونسي. اتبع المجلس التأسيسي مبدأ إشراك الجميع وتجسد ذلك في أكثر من حدث؛ فقد تمت -مثلاً- دعوة من ترشَّح للمجلس ولم يحالفه الحظ في الفوز بمقعد إلى المشاركة في نقاش وإعداد الدستور، بل طالب المجلس الجميع بتقديم مشروع دستور يكون ضمن برنامج النقاش والمداولات.

 لم تكن هناك رغبة بالانفراد بصياغة الدستور على الرغم من جسامة هذه المهمة وشرفها. لقد رأى أعضاء المجلس الدستوري -كما بيّنت الورقة- أن صياغة الدستور المرجو وإعداده لن يتما إلا بالانفتاح على عموم الشعب. تم عرض المشروع في جلسات نقاشية عمت جميع مناطق البلاد من 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 إلى 26 فبراير/شباط 2013 فضلاً عن التواصل مع الجالية التونسية وخصوصًا في فرنسا وفي إيطاليا حيث يوجد أغلب التونسيين المقيمين في الخارج، كما تم التواصل مع غيرهم ممن يقيم في مناطق وبلدان أخرى عن بعد.

كانت التجربة مريرة فعلاً عندما طالب البعض بحل المجلس التأسيسي، وكان من الممكن حينها، كما يقول الأستاذ خضر، أن نصادق على الفصول بالأغلبية المطلقة، بل كان يمكن لحركة النهضة بحكم عدد أعضائها في المجلس أن تؤمّن نسبة كافية من الأصوات لتمرير مشروع الدستور دون أخذ رأي الأطياف الأخرى غير الممثلة في المجلس أو التي لها نسبة محدودة. لكن المجلس التأسيسي فضّل أن يصبر على شركائنا في الوطن حتى وهم يطالبون بحل المجلس نفسه. وفعلاً عاد الجميع للمجلس وأفضى التوافق إلى مقبولية عالية لا أحد كان يتوقعها.

 تحديات قديمة وأخر مستجدة

تحديات ما بعد المصادقة على الدستور مختلفة، بل إن بعضها ظل موجودًا لكنه تغير عما كان قبل المصادقة على الدستور. من التحديات المستمرة: ارتفاع الأسعار، وتفشي البطالة، وتزايد المديونية، فضلاً عن صندوق التعويض، وهذه التحديات كانت قائمة ولم تتأثر بمرحلة المصادقة على الدستور.

لكن ثمة تحديات تغيرت بل وتحسنت، أولها وأهمها: التحدي النفسي بما فيه الخوف من المستقبل، وهذا الخوف تأثر كثيرًا بالمصادقة على الدستور. قبل المصادقة على الدستور كانت كل لحظة تمر وكل تقدم يحصل يمكن أن تعترضه تطورات قد تنسف المسار، وبعد المصادقة على الدستور تضاءل التخوف من المستقبل.

عضو المجلس الوطني التأسيسي والمقرر العام للدستور الحبيب خضر (الجزيرة) 

وهناك تحدٍّ نفسي آخر تضاءل، وهو منسوب الأمل الذي شهد انفجارًا وتمددًا أفقيًا غير واقعي بسبب الثورة؛ فقد غدا صاحب كل مطلب يرى أن من حقه تحقيق مطلبه وبسرعة، حتى ولو كان مطلبه متقادمًا؛ فهو يعتقد أن عليه تحقيق مطلبه وأنّ صبره قد نفد. ظل منسوب الأمل عاليًا جدًا قبل المصادقة على الدستور لكنه في هذه المرحلة بدأ يعود شيئًا فشيئًا إلى الواقعية. كان البعض يعتقد أن الدستور سيتضمن الحل السحري للمطالبة بحل البطالة وغير ذلك من التحديات المطروحة بحدة على تونس.

غير أن المصادقة أتت بتحديات جديدة، منها: الإيفاء بالواجبات الدستورية مضامين وآجالاً؛ علمًا بأن المضامين اجتهادية لكنَّ الآجال واجبة؛ فمن تلك الآجال: أجل الانتخابات التي لابد أن تُنظّم في موفي سنة 2014.

ومن التحديات التي انضافت إلى التجربة التونسية، وهو غير مرتبط تمامًا بالمصادقة على الدستور، أن التونسيين وهم في ظل المتغيرات الحاصلة في المنطقة، صاروا يتحملون تداعيات التجارب المحيطة بهم بعد الانتكاسة التي حصلت في مصر ومع معاناة تجربة ليبيا وتجربة سوريا؛ ففي ظل هذا الواقع الذي كثُر فيه العنف أصبحت التجربة التونسية تتحمل مسؤولية التبشير بمسؤولية مختلفة وهو تحدٍّ كبير؛ فلابد من مواصلة الإقناع العام حتى لا تصبح التجربة التونسية محفزًا للذهاب نحو العنف فلابد من ترسيخ القواعد الديمقراطية.

يحتاج التونسيون توافقًا أوسع وأصدق لمواجهة هذه التحديات وفي مناخ يغلّب المصلحة الوطنية، بل لا يكفي التوافق الذي حصل للمصادقة على الدستور فالبلاد لا يمكن أن تعيش تحت ظل تهديد اجتماعي واقتصادي. فضلاً عن أن البلاد أيضًا بحاجة إلى تعاون مع أصدقاء تونس؛ ليس من أجل الحصول على هبات بل على استثمار في تجربة ديمقراطية يعني نجاحها رفعًا لتحديات تطول الجميع وتحقيقًا لقيم يحتاجها الجميع؛ ففي نجاح التجربة التونسية تحقيق لمصالح التونسيين ومصالح غيرهم.

ومن التحديات المتجددة عدم الوقوع في خرق الدستور؛ فالدستور هو أهم أداة بالنسبة للجميع؛ فالنجاح في المصادقة على الدستور يفترض التفاف الجميع من أجل التوصل إلى تحقيق مزيد من النجاحات القادمة، ولو وقع إخلال في الدستور وخرق له فما فائدة أن نتوافق على نص نقوم بخرقه!

وهنالك مسألة تربوية في غاية الأهمية وهي التي ستعطي للتجربة التونسية ما بعد المصادقة على الدستور سياقها الصحيح وبيئتها الصحية، بل لن تؤتي التجربة التونسية ثمرتها إلا بإيلاء العمل والعلم مكانتهما الصحيحة؛ فالعمل والعلم والإبداع محاور ينبغي أن تركز التجربة التونسية على تشجيعها أفقيًا وعموديًا، وعلى الإعلام أن يبشر بهذا المشروع العلمي العملي؛ فينبغي أن يشعر الجميع أن تشجيع العلم في هذه الفترة جزء من التجربة.

ويبقى الأمل والتطلع نحو الوصول إلى بر الأمان هاجس التونسيين بجميع أطيافهم، وتبقى التجربة التونسية، وهي تسعى لتحقيق تطلعاتها، محاطة بتحديات ومعوقات قد تطيح بها في أية لحظة، وهو ما يجعل التركيز على التوافق والاعتماد على شرعية الإجماع لا شرعية الانتخاب هي القيمة الأبرز والأهم في هذه التجربة التونسية.
__________________________________
د. سيدي أحمد ولد أحمد سالم – باحث بمركز الجزيرة للدراسات