د. أسامة كعبار الكاتب والنائب الأول للمجلس الأعلى لثوار ليبيا (يسار) ود. زهير حامدي الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (يمين) (الجزيرة) |
ملخص وقد اعتبر المشاركون في الندوة أن مراحل الأزمة في ليبيا وتطوراتها لا يمكن فصلها عما يجري في "مصر ما بعد الانقلاب"؛ حيث انطلق مشروع إجهاض مسار الانتقال الديمقراطي في العالم العربي. ولشدة تعقيدات الحالة الليبية فلن يكون الحسم العسكري لصالح أي طرف ناجعًا، أو مُؤَسِّسًا للاستقرار، في أية مرحلة من مراحل الصراع. |
مقدمة
يتعَمَّق الانقسام السياسي والعسكري في ليبيا باتجاه عمودي عبر إصرار أطراف الصراع على مَأْسَسَتِه تشريعيًا وتنفيذيًا وعسكريًا؛ حيث أصبح هناك جناحان لـ"السلطة" يتنازعان شرعية تمثيل الشعب الليبي وثورته، ولكل جناح مؤسساته ومجال نفوذه وسيادته.
وزادت عملية "كرامة ليبيا"، بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، من تجذير هذا الانقسام العمودي: أيديولوجيًا وقبليًا ومناطقيًا، والحيلولة دون العبور الآمن بالبلاد نحو البناء الديمقراطي. وتحاول الندوة التي عقدها مركز الجزيرة للدراسات، بعنوان "الانقسام السياسي والعسكري في ليبيا وسيناريوهات المستقبل"، مقاربة جوهر الأزمة الليبية انطلاقًا من الحقل الاستفهامي الآتي: ما أسباب وخلفيات الانقسام السياسي والصراع العسكري في ليبيا؟ ما دور البعد القَبَلي والمناطقي في هذا الانقسام والصراع؟ ما تأثير هذا الصراع على مسار عملية الانتقال الديمقراطي ووحدة البلاد؟ ثم ما دور القوى الإقليمية والدولية في الأزمة الليبية؟ ما الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي لإيجاد حل للأزمة؟ هل سيكون الحسم العسكري ناجعًا لحل الأزمة؟ هل لا يزال التوافق السياسي بين أطراف الصراع مُمْكنًا أم ستنتصر "الثورة المضادة" وتفرض مشروعها؟
هذه الأسئلة وغيرها شارك في بحثها ومناقشة فروضها مجموعة من الباحثين والخبراء في الشأن الليبي، منهم الباحث الليبي في مركز الأبحاث التطبيقية القطري ونائب رئيس المجلس الأعلى للثوار سابقًا الدكتور أسامة المهدي كعبار، والباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور زهير حامدي.
أبعاد الصراع داخليًا
لم تستطع الثورة الليبية أن تقضي قضاء مُبْرمًا على نظام العقيد معمر القذافي، بل إن الثورة المضادة بدأت مُبكِّرًا منذ اليوم الأول للثورة بإعلان تحرير البلاد نهائيًا من حكم معمر القذافي، بينما حاول آخرون خلق فراغ سياسي في البلاد؛ لذلك يرى أحد المشاركين أن جوهر الصراع السياسي والعسكري في ليبيا هو صراع بين ثوار 17 فبراير/شباط، وقوى الثورة المضادة التي تتشكل من "الدولة العميقة"، ورجالات النظام السابق الذين يوجدون اليوم في عدد من الدول العربية المؤيدة لـ"عملية الكرامة"، ثم هناك رجالات الصف الثاني في النظام السابق، والقبائل التي كانت تؤيده.
ولا يمكن تفسير جوهر هذا الانقسام العمودي دون استحضار مشروع الفيدراليين في الشرق ومحاولاتهم المستمية لتحقيق حلم التقسيم؛ إذ توافقت مصالح هؤلاء وأطماعهم مع مصالح الثورة المضادة. ويضاف إلى هذه المكونات قطاع واسع من المجتمع الليبي، الذي لا يرى مانعًا في عودة نظام القذافي إلى الحكم.
هذه التركيبة من المؤيدين للثورة المضادة، والمتعاطفين السلبيين معها، كان لها تأثير في مُخْرَجات العملية السياسية عبر اختيار مرشحين محسوبين على النظام السابق، والذين تصدَّروا المشهد بقوة في المؤتمر الوطني العام، وقبله المجلس الوطني الانتقالي، ثم بعد ذلك البرلمان المنتخب؛ وهو ما تسبَّب في ما آل إليه المشهد السياسي المتأزم. ولا يمكن إغفال العامل الخارجي في تحليل جوهر الصراع؛ إذ تتدخل دول إقليمية وقوى غربية في الشأن الليبي، وتلعب دورًا كبيرًا وقذرًا، لإجهاض عملية الانتقال الديمقراطي، ولولا سلاح الثوار لتمكَّنت الثورة المضادة من الإجهاز على الثورة.
وفي الوقت الذي حمَّل فيه أحد المتدخلين الدول الإقليمية المحورية والقوى العظمى مسؤولية كبيرة في تعطيل المسار الانتقالي بليبيا، عزا أحد الباحثين جذور الأزمة الليبية إلى عوامل داخلية، وركز على تداعيات قانون العزل السياسي، الذي عمَّق الشرخ المجتمعي والسياسي في البلاد؛ معتبرًا أن التدخل الخارجي ليس سوى محاولة لاستغلال هذه الانقسامات الداخلية في إطار الثورة المضادة، التي تقودها "مصر ما بعد الانقلاب".
أبعاد الصراع إقليميًا ودوليًا
لا يمكن تفسير جوهر الصراع السياسي والعسكري في ليبيا خارج سياق متغيرات حركة الثورة في العالم العربي، وهنا يوضح أحد المشاركين أن السعودية والإمارات تعطِّلان مسار التحول الديمقراطي في العالم العربي؛ إذ تلعب الإمارات دورًا فعَّالاً وعلنيًا في محاربتها لدول الربيع العربي بإيوائها لفلول نظام القذافي، ودعمها لتحالف القوى الوطنية، بينما تقوم الحكومة المصرية بدور قذر في دعم الثورة المضادة؛ إذ أصبحت ساحة لإدارة الحرب على الثورة الليبية من خلال الحملات الإعلامية المُوجَّهة، والدعم اللوجيستي والعسكري للواء المتقاعد خليفة حفتر.
وخلافًا لدور هذه الدول، يرى أحد المشاركين، أن الجزائر اتخذت موقفًا ثابتًا من الصراع بعدم التدخل والانحياز لأي طرف. أما دول الجوار الأخرى، مثل تونس والسودان، فإنها تدعم الثورة الليبية. ويلاحظ، باحث متخصص في الشأن المغاربي، أن مصر حاولت باستمرار أن تربط الجزائر بعمليات عسكرية محدودة أو تنسيق عسكري في ليبيا، لكن الجزائر كانت ترفض التدخل العسكري لحسم الصراع بين أطراف الأزمة.
ويرى أن التدخل الخارجي في ليبيا تزامن مع المرحلة الانتقالية؛ حيث بدأت محاولات الانقلاب على عملية التحول الديمقراطي في إطار الثورة المضادة الشاملة التي تقودها "مصر ما بعد الانقلاب" بالتحالف مع السعودية والإمارات. وهنا، يشير إلى المحاولة الانقلابية الفاشلة الأولى بتاريخ 14 فبراير/شباط 2014، والتي سُمِّيت آنذاك بالانقلاب التليفزيوني؛ حيث ظهر اللواء المتقاعد خلفية حفتر في شريط مصور يعلن فيه تجميد عمل المؤتمر الوطني العام والحكومة والإعلان الدستوري الصادر في أغسطس/آب 2011، ثم عاد مرة أخرى إلى الواجهة في محاولة انقلابية ثانية بتاريخ 16 يونيو/حزيران 2014 عندما قاد تحالفًا يضم عددًا من وحدات الجيش الرسمي وكتائب مسلحة بزعامة إبراهيم الجضران تحت مسمى "عملية الكرامة".
واعتبر الباحث أن هذه المحاولات الانقلابية وجدت دعمًا كبيرًا من قبل مصر والإمارات لتعطيل مسار الثورة الليبية، لكن أول إشارة رسمية بشأن الجهد الذي تبذله هاتان الدولتان لإجهاض الثورة هو العملية العسكرية التي شُنَّت ضد قوات غرفة عمليات ثوار ليبيا. ويرى أن التدخل المصري-الإماراتي يُكرِّس الانقسام الحاد في العالم العربي بين قوى التغيير الثوري التي تسعى إلى بناء أنظمة ديمقراطية، والقوى التي تعارض التغيير.
وفي إطار الدعم الخارجي لقوى الثورة المضادة، يرى أحد المشاركين أن أميركا وفرنسا وبريطانيا تلعب دورًا فاعلاً في الشأن الليبي، وتُبقي على تواصلها مع جميع الأطراف، لكنها لا تُخفي انحيازها لقوى الثورة المضادة لتقديرها الخاطئ بامتلاك هذه القوى لأدوات الحسم. بينما يلاحظ مشارك آخر أن الموقف الأوروبي ضعيف وليس له دور قوي في الأزمة رغم الأهمية الاستراتيجية لليبيا في علاقتها بهذه الدول.
مآل الصراع ومخاطره
إن استمرار الصراع العسكري بين أطراف الأزمة الليبية يؤشر على الاستعصاء السياسي لإيجاد مداخل توافقية تنقل البلاد عبر عملية تحول ديمقراطي إلى بر الأمان، ولعل هذا ما جعل أحد المتدخلين يعتقد أن الصراع العسكري في ليبيا سيكون هو الأساس في المنظور القريب على الأقل، ويرى أن الثوار قادرون على الحسم العسكري لو توقف الدعم الخارجي للثورة المضادة. أما قوى الثورة المضادة فلن تستطيع تنفيذ سياستها على الأرض؛ لذلك يجب على الثوار البحث عن آلية تضمن حماية الثورة ومسارها؛ وهذا لن يتم إلا بموافقة القوى الدولية على مشروع واضح من قِبل الثوار.
ولا تختلف هذه المقاربة عما طرحه أحد المشاركين بشأن حل الصراع في ليبيا؛ إذ يرى أن الوضع الليبي يحتاج إلى حل داخلي، والذي سيكون أكثر نجاعة إذا كان مسنودًا بمبادرة أممية من أجل فتح حوار بين أطراف الأزمة. ويرى أن هناك خيارين أمام أطراف الصراع في ليبيا: إما النموذج التونسي، أو النموذج السوري، والحل الوحيد الذي يستطيع أن يضمن الوصول بليبيا إلى بَرّ الأمان هو التوصل إلى حل سياسي توافقي.
استنتاج
تتداخل عوامل كثيرة في تعقيد الصراع السياسي والعسكري بليبيا؛ ما يجعل إيجاد حل للأزمة أكثر تعقيدًا في ظل مشروع الثورة المضادة الذي ترعاه دول إقليمية بمساندة بعض القوى العظمى لإجهاض الربيع العربي؛ لذلك فإن مسار الأزمة في ليبيا لا يمكن فصله عما يجري في "مصر ما بعد الانقلاب". ولشدة هذا التعقيد لن يكون الحسم العسكري لصالح أي طرف ناجعًا، أو مُؤَسِّسًا للاستقرار، في أية مرحلة من مراحل الصراع، وقد بيَّنت تطورات الصراع العسكري صعوبة هذا الحسم؛ إذ ليس أمام أطراف الأزمة سوى الحل السياسي التوافقي الذي يضمن مصالح جميع القوى السياسية المتصارعة.
_________________________________
محمد الراجي - باحث في مركز الجزيرة للدراسات