وسيم القرشي المتحدث باسم اللجنة التنظيمية لثورة الشباب السلمية في اليمن سابقًا (وسط) (الجزيرة) |
مقدمة
أشعل الشباب الثورة ضد النظام الحاكم في اليمن واستطاع بصموده إزاحة رأس النظام وتصدر المشهد لفترة، ولكنه غاب عن المشهد السياسي فيما بعد، إما بالتهميش أو الإبعاد؛ فالكثير من القوى السياسية حجَّمتهم وقلَّلت مشاركتهم؛ مما أسهم في انحسار دورهم في العملية السياسية، وعادت الوجوه القديمة بشكل جديد وتحكمت في المشهد السياسي مرة أخرى. فاليمن يعيش ظروفًا صعبة ويمر بمنعطف تاريخي خطير قد يتجه نحو التشظي والانقسام والحرب الأهلية؛ فالأوضاع الأمنية مخيفة وتنذر بكارثة بعد سقوط العاصمة صنعاء، وانهيار الأجهزة الأمنية والعسكرية وسقوطها بيد جماعة الحوثي المسلحة والتي أصبحت تسيطر على البلد ومؤسسات الدولة برمتها.
ضبابية المشهد السياسي الحالي والاختلاف بين الفرقاء والأحزاب السياسية يزيد الوضع تعقيدًا؛ فذهاب بلد كاليمن نحو التشظي والفوضى له انعكاسات وتداعيات خطيرة على دول الجوار وعلى المنطقة ككل. ولا يزال بوسع المجتمع الدولي ودول الجوار إنقاذ اليمن من الغرق في مستنقع الفوضى والاتجاه نحو الاحتراب الأهلي.
أين تكمن المشكلة؟ هل في الشباب أم في الظروف المحيطة به؟ أم أن الشباب يتوحدون في الميادين، ويتفرقون في ممارسة العمل السياسي؟ أم أن هناك عوامل خارجية حالت دون تمكين الشباب للعب دور أكثر تأثيرًا؟ وهل من أفق جديد لإعادة الشباب إلى صدارة المشهد السياسي اليمني؟ ومَنِ المسؤول عن تهميش دورهم؟ وما هو موقع شباب الثورة من الصراع الجاري ومن مستقبل اليمن عمومًا؟
وقد استضاف المركز لنقاش هذه القضايا الأستاذ وسيم القرشي، وهو المتحدث باسم اللجنة التنظيمية لثورة الشباب السلمية في اليمن سابقًا.
اليمن بلد التحالفات المؤثرة
لعل الملاحظة الجوهرية تتلخص في أن أكثر مشهد فيه غموض هو المشهد اليمني، كيف لا وقد تم سقوط العاصمة صنعاء بل وسقوط معظم مناطق اليمن في أيدي جماعة الحوثي، في حين ظلت القوى الثورية عاجزة أمام هذه الجماعة! إن فهم ما وقع من تطورات أمنية وعسكرية أخيرة يستدعي الوقوف على اللاعبين المؤثرين في المشهد اليمني في الوقت الراهن.
ينبغي أن نقول في البداية: إنه لا توجد قوة واحدة مسيطرة في اليمن، لكن هناك مجموعة قوى، والقاعدة تقول: إن من يمكنه في اليمن أن يكوِّن تحالفات عديدة وقوية هو الذي سيصبح أبرز اللاعبين في هذا البلد. وهذا ما فعلته القوى الثورية مع الشباب ومع جماعة الحوثي ومع جزء مهم من الجيش عند اندلاع الثورة، فبطبيعة الحال لم تكن الثورة اليمنية قائمة على لاعب واحد بل كانت عبارة عن مجموعة قوى تحالفت فاستطاعت إزاحة الرئيس علي عبد الله صالح، مع أنه كان بين يديه الجيش وخصوصًا الحرس الجمهوري المسلَّح بأحسن تسليح فضلاً عن المال والإدارة والشرعية الانتخابية.
وفي الواقع، فإن تحالفًا بين لاعبين عديدين استطاع إزاحة الرئيس صالح لكنه ما إن تمت إزاحته حتى دخل هو الآخر في عملية صنع التحالفات وتشكيل قوى جديدة، بل إنه في مرحلة معينة قال: إن المهم ليس توقيع مبادرة مجلس التعاون الخليجي لحلحلة الأزمة اليمنية بل المهم ما بعد التوقيع على المبادرة الخليجية. إن الرئيس السابق صالح يعرف أكثر من غيره التحالفات السياسية والعسكرية وجدواها وفاعليتها في الساحة اليمنية، بل إنه من أمهر اليمنيين في كيفية إنشاء القوى والقوى المضادة وضربها ببعضها. وفي الوقت الذي كان الرئيس المتنحي يبرم تحالفاته للإطاحة بالثورة، لم يحسن الشباب اليمني، وهو العنصر البارز في جدار الثورة، تحريك أدوات الصراع لصالحه، ولم يكن يعرف سياسة البناء بل إنه لم يقدم أيَّ مشروع بنَّاء.
الجيش اليمني: أحد جبهات الصراع
لعل أبرز حلفاء الرئيس المتنحي علي عبد الله صالح في الوقت الراهن هم جماعة الحوثي التي تكونت أثناء ثورة 1948 ومقتل الإمام يحيى حميد الدين، وكانت هذه الجماعة تدعم ابن عمِّ الإمام الذي كان يسعى إلى إقامة مملكة دستورية في اليمن، لكن تلك الثورة تم إفشالها بعد قليل لأن إخوة الإمام يحيى كانوا مسيطرين على جميع مفاصل الدولة. تولى الإمام أحمد الحكم بعد مصرع الإمام يحيى فشعر الثوار أنه للوصول إلى السلطة لابد من خلخلة القوى التي حول الإمام أحمد، وفعلاً فإن أحد زعماء الثوار وهو المشير عبد الله السلال أقنع الإمام أحمد بضرورة تبني مسألة التوريث في الحكم، وهو مبدأ لم يكن من تقاليد دولة الإمامة في اليمن، بل إن هنالك شروطًا لابد أن تتوفر في الشخص حتى يتم اختياره إمامًا. وقد نجح الثوار في إقناع الإمام أحمد فتحول اليمن من سلطة إمامية إلى المملكة المتوكلية اليمنية سنة 1949.
وفي هذا التاريخ بالذات بدأ الإمام في التخلص من إخوانه ومقربيه ممن لم يكونوا مع فكرة التوريث، ونجح السياسيون الثوريون في تفكيك الحلف القوي الذي كان محيطًا بالإمام أحمد حينما عيَّن نجله البدر وليًا لعهده. وقد نجح السلال في هذه المناورة السياسية وكان يومئذ مستشارَ الإمام.
وقد ظلت السياسة اليمنية متسمة بهذه الصورة القائمة على التحالفات وإعادة صياغتها وضرب بعضها ببعض، وهو ما نجح الرئيس المتنحي في إعادة صياغته حين أعلن في وقت سابق عن فكرة توريث ابنه أحمد معتمدًا على عدة قوى في الجيش. وقد فعل نفس ما فعله الإمام أحمد في السابق، فكما مهَّد الإمام لتوريث ابنه البدر، وبنصيحة من السلال، بإزاحة من هم معه في القصر، فإن الرئيس علي عبد الله صالح حين فكَّر في توريث ابنه أحمد نُصح هو الآخر بالتخلص من القواد الأربعة الذين يتحكمون في الجيش اليمني والذين كانوا من أبرز المشاركين في حرب الوحدة الوطنية سنة 1994. وقد استطاع الرئيس المتنحي صالح أن يتخلص من ثلاثة من بين هؤلاء القواد الأربعة حيث ماتوا في حادث مفاجئ على متن مروحية سنة 1995، ويُتهم نظام عبد الله صالح بأنه وراء تدبير اغتيالهم. وقد بقي على قيد الحياة رابعهم، وهو: اللواء علي محسن الأحمر.
غير أن الرئيس المتنحي قلَّص كثيرًا من دور اللواء على محسن حين أسند قيادة أهم الألوية العسكرية لابنه أحمد، الذي أصبح على رأس الحرس الجمهوري وهو الجيش الأكثر تنظيمًا في اليمن، وقد بادرت الولايات المتحدة إلى تسليحه مُظهرة أنها تريد بذلك مواجهة القاعدة في اليمن، والواقع أنها تريد أساسًا تفكيك الجيش اليمني.
لقد تم بهذا الإجراء إضعاف جناح الجيش اليمني التابع للواء محسن وتقوية الجناح التابع لأحمد ابن الرئيس علي عبد الله صالح. وفضلاً عن هذا التهميش على مستوى مؤسسة الجيش فقد تعرض اللواء علي محسن لأكثر من محاولة اغتيال وأكثر من مضايقة.
دخل اليمن في حروب داخلية كان من أبرزها الحروب الست التي خاضها الجيش اليمني بقيادة اللواء علي محسن ضد جماعة الحوثيين، وكلما اقترب الجيش اليمني من القضاء على الحركة سارع الرئيس المتنحي إلى إيقاف الحرب وإبرام اتفاق معها، وكان واضحًا أن هنالك نية مبيَّتة لعدم انتصار الجيش بقيادة علي محسن؛ ولذلك لم يتردد اللواء محسن في الانضمام إلى الثورة حينما اندلعت سنة 2011. وقفت ألوية الجيش الوطني مع الثورة في حين وقفت ألوية الحرس الجمهوري ضد الثورة، وقد ازداد الدعم الأميركي للحرس الجمهوري؛ فقد أزعجت الثورة أميركا خصوصًا وأن الجيش الوطني كان مساندًا لها، وأميركا تريد بناء الجيش اليمني حسب رغباتها، وتصريحات مبعوث الأمم المتحدة في اليمن جمال بن عمر بأن المؤسسة العسكرية اليمنية قد انهارت من بين الأهداف التي تريدها أميركا؛ فهي تريد انهيار الجيش الوطني وتشكيل مؤسسة عسكرية تتماشى مع الرؤية الأميركية.
الجهات المؤثرة في اليمن
من أبرز القوى الفاعلة في اليمن: حزب المؤتمر الشعبي العام وهو مقسم إلى ثلاث قوى: قوة مناطقية وخصوصًا من أبناء منطقة سنحان فهم ينتمون إلى المؤتمر الشعبي باعتبار أنهم من منطقة الرئيس المتنحي عبدالله صالح. وجماعة سنحان أو أبناء شمال الشمال هم أبرز المؤثرين في القرار السياسي والعسكري في اليمن منذ عهد الرئيس المتنحي.
القوة الثانية: هم أصحاب المصالح وأغلبهم من المناطق الوسطى والجنوبية، وقد ظل ارتباطهم بحزب المؤتمر الشعبي ناتجًا عمَّا أحرزوه من مكاسب منحها إياهم الرئيس صالح، وهي مصالح مادية.
أمَّا القوة الثالثة فمن اليمنيين الذين ليس لهم توجه سياسي معين ولم يجدوا لهم مكانًا في الأحزاب الأيديولوجية، فوجدوا في حزب المؤتمر الشعبي ملاذًا حيث كان المؤتمر حزب من لا حزب له؛ فجزء كبير من الشعب غير مؤدلج، أي: ليس قوميًّا ولا إسلاميًّا، وبالتالي يجد في حزب الدولة تشكيلة سياسية تعبِّر عن طموحه.
وقد ظل البعد المناطقي حاضرًا في اللعبة السياسية اليمنية؛ حيث إن زعماء حرب الإصلاح من أسرة الأحمر من نفس منطقة اللواء علي محسن، وقد استغل الرئيس المتنحي علي عبد الله صالح هذه التفاصيل فأعاد تحالفه مع جماعة الحوثيين "أعدائه" بالأمس؛ حيث إن كل اللاعبين يهتمون بأبناء مناطقهم وبقبائل مناطقهم؛ لذلك كان في تحالف الرئيس المتنحي مع جماعة الحوثي نوع من ضمان مصالح الشماليين؛ فكانوا يلوِّحون في أدبياتهم بأن السلطة إذا انتُزعت من أيدي أهل الشمال فلن تعود لهم. ولذلك نجد أن الحوثيين في سيطرتهم على صنعاء وغيرها قد حققوا انتصاراتهم بأيادي بعض أبناء السُّنَّة ممن هم في القوى المتحالفة مع الرئيس المتنحي؛ حيث إن من أسقط صنعاء وغيرها من المدن ليس الحوثيين بل أنصار علي عبد الله صالح من المؤتمر الشعبي ومن حلفائه في القبائل.
وبالنسبة للحراك الجنوبي، فإنه تندرج تحته ثلاثة تقسيمات؛ فهناك المدعوم سياسيًّا من بريطانيا، وهنالك الحراك المدعوم من إيران مثل جماعة الرئيس الأسبق علي سالم البيض، وهناك الحراك المدعوم سعوديًّا.
ويأتي اللقاء المشترك كقوة دعمت الثورة، وهي منقسمة إلى حزب الإصلاح ذي التوجه الإسلامي والحزب الاشتراكي فضلاً عن الناصريين وكذلك القوى الشيوعية، وقد ظلت متحالفة مع الشباب ومع جماعة الحوثي التي أدارت ظهرها للقوى الداعمة للثورة اليمنية. ومنذ 2013 و2014 بدأ تصدع في جدار اللقاء المشترك وخصوصًا بين الاشتراكي والإصلاح.
وتُشكِّل القبائل اليمينة مكوِّنًا أساسيًّا من مكونات المشهد السياسي والأمني في اليمن، وقد استطاع الرئيس المتنحي أن يركز في بناء تحالفه الجديد على هذا المكوِّن الاجتماعي.
ويشكِّل تنظيم القاعدة جزءًا أساسيًّا من هذا المشهد، وهي منقسمة إلى قاعدة قريبة من الرئيس المتنحي علي عبد الله صالح وقاعدة مرتبطة بالتنظيم الدولي. ومنذ نهاية 2012 وبداية 2013 بدأ التحول في التحالفات لصالح القوى المضادة للثورة بحكم شبكة العلاقات التي عمل علي عبد الله صالح على بنائها.
ما فتئ علي عبد الله صالح يطمئن السعوديين والأميركيين بأن الحوثيين ليسوا خطرًا رغم تحالفهم مع إيران، فهو قادر في أي وقت أن يضع حدًّا لهذه الجماعة.
وقد استطاع الرئيس المتنحي أن يحجِّم دور القبائل التي انضمت إلى الثورة وذلك بتحجيمه لدور علي محسن فعادوا في أغلبهم إلى حضن عبد الله صالح ومعهم القيادات العسكرية ذات البعد المناطقي والمصالحي، وكل هذا قد تم بتمويل من دولة الإمارات التي يتولى أحمد ابن الرئيس المتنحي وظيفة سفير اليمن بها.
وتعتبر إيران الحليف الأساسي لجماعة الحوثي التي هي أحد أبرز عناصر المكوِّن الشيعي في اليمن في الوقت الراهن. أما السعودية فلها مخاوف من الحوثيين ومن الإسلاميين في نفس الوقت، ولدولة الإمارات هي الأخرى مخاوف من الإسلاميين. وأما أميركا فموقفها يتلخص في إعادة تشكيل وبناء الجيش اليمني وفق ضوابط تتماشى مع الرؤية الأميركية. أما بريطانيا فلها مصالح تاريخية في جنوب اليمن، والاتحاد الأوروبي له بشكل عام مصالح عامة في اليمن.
دور الشباب اليمني
ظل الشباب اليمني القوة الأبرز في حماية الثورة، ورغم ذلك لم ينجُ بعضهم من التخلي عن الشرعية الثورية لصالح التحالفات السياسية.
ولا شك في أن على الشباب اليمني التفكير في تغيير طريقة تحركه وفي اعتماد سياسة بناء التحالفات، سواء الداخلية منها أو الخارجية بحسب المصلحة التي تقتضيها الثورة اليمنية؛ فلابد من التفكير في حراك شعبي مبني على تحالفات قوية وعقلانية وليس حراكًا تلقائيًّا. إن هنالك أكثر من جبهة يمكن للشباب أن يعمل عليها سواء في الداخل أو في الخارج.
وعلى العموم، فإن المعركة في اليمن معركة سياسية قائمة على التحالفات، وباستطاعة التحالفات وإعادة تشكيلها وإعادة صياغتها أن تغيِّر في أي وقت الواجهة السياسية للبلد.
_______________________________________
د. سيدي أحمد ولد أحمد سالم - مركز الجزيرة للدراسات