الندوة الأولى، من اليمين: د.عبد الوهاب الأفندي، وسيم القرشي، نيفين ملك، عوض البرعصي، وعدنان منصّر (الجزيرة) |
ملخص وقد شارك في الندوات الأربع، التي عُقِدت خلال شهر يناير/كانون الثاني 2016، سياسيون ونشطاء وإعلاميون ومفكِّرون وباحثون وأكاديميون؛ ما جعل المقاربة لأبعاد تلك القضايا أكثر تنوُّعًا وعمقًا؛ جمعت بين رؤى النشطاء والفاعلين في الفعل الثوري، وأطروحات الخبراء والباحثين والأكاديميين حول صيرورة حركة التغيير وتحوُّلاتها. وقد أجمع المتحدثون على صعوبة تقييم المراحل التي عرفتها الثورات العربية خلال الأعوام الخمسة الماضية؛ لأن الديناميات التي خلقها الربيع العربي لا تزال تفعل فِعْلَها في مساراته، مدركين أن أمر الثورات سيطول أجَلُه، وأن الصراع بين الثورة والثورة المضادة هو أحد سمات المراحل الانتقالية التي عرفها التاريخ الإنساني. وخَلص المتحدِّثون إلى أن الفاعلين (التقليديين وغير التقليديين) في حركة التغيير لم يستطيعوا بلورة مشروع سياسي مناسب للحظة التاريخية، بل أخذت القوى التقليدية المبادرة؛ فزاد الانقسام والصراع السياسي، ثم انتكست تجربة التحوُّل السياسي، بعد تدخل الدولة العميقة التي سعت منذ اليوم الأول لهندسة المرحلة الانتقالية وتهيئة مشهد الانقلاب (نموذج الحالة المصرية واليمنية)، واتسع نطاق الصراع أفقيًّا وعموديًّا في الحالة الليبية، وتحوَّل بعضها الآخر إلى صراع عابر للحدود الوطنية؛ صراع إقليمي ودولي (التجربة السورية)، بينما تمكَّنت تجارب أخرى من العبور إلى شاطئ الأمان وتأسيس نظام ديمقراطي ناشئ (التجربة التونسية) رغم ما يتهدَّدها من مخاطر أمنية وضغوط اجتماعية واقتصادية تجعلها مفتوحة على سيناريو الانتكاسة، خاصة إذا لم يتم تعميق الإصلاح وكبح جماح إرادة التَّحكُّم (التجربة المغربية). المسار الذي انتهى بانتكاسة بعض التجارب، أو تعثُّرها، لم يكن بمنأى عن الدور الـمُعَطِّل الذي نهجته القوى الإقليمية والدولية بدعم الثورة المضادة سياسيًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا، والسكوت على الجرائم التي ارتكبتها سلطة الانقلاب ضد المعارضين والمواطنين المطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والزَّج بهم في السجون ومصادرة حقهم في حرية الرأي والتعبير، وهو ما سمح باغتيال الاعتدال وبروز التنظيمات المسلحة والجماعات الجهادية المتطرفة. وقد كشفت مسارات التغيير أن القوى الدولية الكبرى لا يعنيها دَمَقْرَطَة المجتمعات العربية، وإنما تحركُّها مصالحها السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية؛ فتخلَّت عن مبادئها وقيمها وسمحت بتحوُّل المنطقة إلى ساحة مفتوحة (النموذج السوري) لمشاريع بعض القوى الإقليمية والدولية؛ حيث يتصارع المشروع الروسي والإيراني والإسرائيلي، ويبدو المجال العربي مكشوفًا أمام هذه المشاريع لا يملك سوى ردود الأفعال. ولهذه العوامل مجتمعة، فإن التحول السياسي في دول الربيع العربي سيأخذ وقتًا طويلًا؛ حيث تتجاذبه عوامل داخلية وخارجية؛ لذلك فإن المستقبل يحتاج إلى مشروع سياسي وقوى مدنية مؤهَّلة لحمل هذا المشروع وقوى سياسية ناضجة تستطيع أن تحقق الوفاق الوطني. |
مقدمة
بعد مرور خمسة أعوام على انطلاق شرارة الربيع العربي، الذي بدأت مَوْجَتُه الثورية الأولى مُطالِبَةً بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ثم الموجة الارتدادية التي قادتها قوى الثورة المضادة، يتبيَّن اليوم أن تعثُّر الثورات لم يكن حتميًّا، وإنما كان نتيجة تضافر عدد من العوامل الداخلية والإقليمية والدولية. وتشير الديناميات التي خلقتها حركة الربيع العربي إلى أن التيار الثوري لا يزال يقاوم الانقلاب في مصر، بينما يُواجه شباب الثورة في اليمن حلف الثورة المضادة، كما لا تزال قوى المعارضة السورية بشقيها السياسي والمسلَّح تُقاوم النظام وتنظيم الدولة معًا للحفاظ على الحلم الثوري. وفي ليبيا تُواجِه قوى الثورة عودة بقايا النظام القديم وتتمسَّك بالاحتكام إلى الخيار الشعبي. وتؤكد هذه الديناميات أن الأعوام الخمسة الماضيةلم تكن سوى بداية لمسار طويل مفتوح النهايات، وأن التغيُّرات السياسية والاجتماعية الكبرى تحتاج إلى وقت طويل لِتُفْرِزَ بدائل حقيقية أكثر استقرارًا واستدامة.
ولئن كانت خمسة أعوام من عُمر حركة التغيير؛ التي انطلقت في العام 2011، لا تسمح بإصدار أحكام مطلقة أو ناجزة بشأن تلك النهايات والتَّغيُّرات السياسية الجارية بسبب الديناميات التي لا تزال تفعل فِعْلَها في هذه الحركة، فإن المسارات المختلفة لتلك الحالات الثورية تقتضي على الأقل الوقوف على إنجازاتها وإخفاقاتها، وأدوار الفاعلين الإقليميين، ومسؤوليات اللاعبين الدوليين في صيرورتها، واستشراف آفاق وسيناريوهات المستقبل. وقد كانت هذه العناوين والقضايا مثار البحث في أربع ندوات حوارية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات، خلال أيام الثلاثاء (5، 12، 19، 26) من شهر يناير/كانون الثاني 2016، بمسرح مركز الجزيرة للتدريب والتطوير الإعلامي؛ شارك فيها 19 ضيفًا من السياسيين والنشطاء الشباب الذين كانوا جزءًا من الفعل الثوري، وقادة الرأي من الإعلاميين والكُتَّاب والباحثين، والأكاديميين والخبراء، وتميَّزت بحضور إعلامي ودبلوماسي وأكاديمي وتغطية مباشرة واسعة في وسائل الإعلام التقليدي وشبكات التواصل الاجتماعي.
الإنجازات والإخفاقات
في ظل تَعثُّر معظم تجارب التحوُّل السياسي في دول الربيع العربي منذ العام 2011 ووصول قوى الثورة المضادة ورموزها إلى السلطة، يبرز النموذج التونسي الذي استطاع العبور نسبيًّا إلى شاطئ الأمان رغم التحديات المختلفة التي تُواجِه البلاد. وهنا، يُلاحظ المتابع لمسار الثورة، حسب الدكتور عدنان منصَّر مدير الديوان الرئاسي والناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية التونسية، أن التجربة التونسية تحاول تأسيس نظام ديمقراطي تعدُّدي؛ يُمثِّل الدستور أحد أهم مرتكزاته؛ إذ تُقنِّنُ هَنْدَسَتُهُ ممارسةَ الحكمِ والسلطةِ وتُقوِّمُ اعوجاجها ومَيْلَها إلى الاستبداد وتُرسِّخ التعدُّدية، وهو ما يعني إحداث قطيعة مع الماضي الديكتاتوري؛ حيث لا يمكن العودة إلى الوراء "وهذا مكسب كبير للثورة التونسية". لكن هناك مخاوف من انتكاس التجربة أيضًا؛ يُثيرها الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية تستغلُّها بعض الحركات المتطرفة. ويضيف المتحدث أن تونس تُواجِه مشكلة أخرى لا تقلُّ خطورة عن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي ممثَّلةً في الفساد؛ الذي يستنزف موارد الدولة، ويرى أن محاربة هذه الظاهرة مسألة حيوية بالنسبة للتجربة الديمقراطية التونسية؛ إذ لا يمكن بناء نظام ديمقراطي يَنْخرُهُ الفسادُ من الداخل. وبالموازاة مع هذه التحديات والصعوبات، كشف منصَّر عن الألغام التي حاول بعض القوى الإقليمية والدولية وضعها في طريق الديمقراطية التونسية، والسيطرة على المجتمع المدني؛ حيث تُسْتَثْمَرُ الأموال في كل شيء إلا التنمية والاستقرار الاقتصادي، فضلًا عن نفاق الغرب الذي كان يساوم ويضع شروطًا أكثر قسوة بشأن جدولة الديون.
جانب من الحضور (الجزيرة) |
ومن المؤشرات السلبية؛ التي رصدها المتحدث في هذه التجربة؛ خيبة أمل القوى الشبابية؛ التي حَمَلَتْ أحلامها إلى ساحات التغيير مُطَالِبَةً بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتجلَّى ذلك وتكرَّس في نتائج الانتخابات التشريعية؛ التي جرت في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014؛ حيث تراجع معدل المشاركة السياسية وانخفضت نسبة المصوِّتين؛ الذين فقدوا الثقة في القوى والأحزاب السياسية، بالإضافة إلى غياب تيار قادر على التعبير عن مطالب الثورة، وهو ما شجَّع ربما المتطرفين على الانتشار.
وإذا كان التحوُّل السياسي في تونس قد عَبَرَ إلى شاطئ الأمان، فإن تجربة الانتقال السياسي في الجوار الليبي لا تزال تبحث عن خارطة طريق تُنْهِي الانقسام السياسي والعسكري؛ الذي يعصف بالبلاد منذ سقوط نظام القذافي؛ حيث ظلَّت ليبيا تعيش فراغًا مُؤَسَّساتِيًّا؛ جُرِّفَ فيها جميع مقومات الدولة خلال أربعين عامًا. لذلك لم يُشكَّل سقوط القذافي نجاحًا للثورة، في نظر عوض البرعصي، رئيس المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات ونائب رئيس الوزراء الليبي الأسبق، بل كان عبئًا ثقيلًا؛ إذ واجهت أوَّلُ حكومة بعد الثورة فراغًا مُؤَسَّساتيًا مخيفًا، ولم تكن تتوفر الخدمات الاجتماعية والتنموية في المدن الليبية؛ فضلًا عن اتساع حزام المناطق التي عانت من التهميش. ورغم ذلك فإن أول نجاحات الثورة -حسب المتحدث- هو تعيين المجلس الوطني الانتقالي، الذي تولَّى في المرحلة الأولى إيصال الخدمات للمواطنين من خلال إنشاء بنيات مُؤَسَّسِية، ثم إجراء انتخابات متعددة نجحت بشكل أو بآخر. وكان آخر مكاسب ثورة 17 فبراير/شباط هو التوقيع على وثيقة الصخيرات، التي تفتح بابًا للمصالحة بين مكوِّنات المشهد السياسي والاجتماعي الليبي.
ويوضح مسار التحول في ليبيا أن الطبقة السياسية أخفقت -حسب البرعصي- في ترسيخ نظام سياسي إثر سقوط نظام القذافي؛ إذ تفاجَأَ الثوار بعودة اللجنة الشعبية القديمة كما لم تستطع الثورة أن تُقدِّم مشروعًا جامعًا؛ فضلًا عن التنكُّر لهؤلاء الثوار وعدم استيعابهم في المؤسسات المختلفة؛ بل إن البعض اعتبرهم إرهابيين، وهذا يؤكد أن حقيقة الصراع في ليبيا هو صراع على السلطة والمال وامتلاك القوة. لذلك، فإن الحوار هو السبيل للخروج من الأزمة ما دام تاريخ 17 فبراير/شباط محل الاحترام، والثورة تمثِّل المرجعية.
غياب المشروع الجامع الذي واجه التجربة الليبية، كان أحد تحديات الثورة المصرية؛ فقد لاحظت نيفين ملك، الناشطة الحقوقية وعضو الهيئة العليا لحزب الوسط المصري سابقًا، أن الشعارات التي رفعها الثوار في الساحات والميادين كان يُراد لها أن تُحَوَّلَ إلى برامج سياسية، وهي إشكالية حقيقية لابد من الوقوف عندها، كما أن الثورة لم تُفْرِزْ قيادات كاريزمية قادرة على أن تكون مُحَرِّكًا للفعل الثوري. وتُقدِّم المتحدثة مؤشرات على الوضع الراهن التي تكشف عن تأميم الحياة السياسية بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، الذي تسبب في انتكاسة للبلاد وانقسام مجتمعي تلعب فيه أجهزة الإعلام الرسمية دورًا تحريضيًّا على القتل والكراهية، واستباحة دماء الآخر وشَيْطَنَتِهِ وإقصائه؛ بعد أن أصبحت العملية السياسية تُدار من أقبية المخابرات.
وفي اليمن، حيث كانت القوة الشبابية المحرِّك والفاعل في الثورة؛ يُحمِّل وسيم القرشي، وهو المتحدث الرسمي للجنة التنظيمية لشباب الثورة اليمنية 2011، مسؤولية التفريط في الثورة إلى الشباب الذين لم يستطيعوا الحفاظ عليها، وليس دقيقًا القول: إن الثورة سُرقت منهم؛ لأن هؤلاء جاؤوا بأمراض حزبية؛ ولذلك حتى إذا أراد الشباب صناعة الغد فلا يمكن أن يكون ذلك بأفكار قديمة. ولم يُخْفِ القرشي الدور الذي لعبه بعض الدول الإقليمية في محاربة الثورة؛ لأن هناك مصالح محلية وخارجية، موضحًا أن كل ما يحدث اليوم هو تداعيات لابد منها، وعلى الرغم من الدماء التي تنزف يعتقد المتحدث أن الحالة اليمنية إيجابية بعد مرور خمسة أعوام على الثورة؛ إذ عاد بعض دول الإقليم ليعترف بالثورة ويحتضنها. وهنا يميز بين منطق الثورة ومنطق الحركات التصحيحية، لأن "الحالة" لا تقاس بالنجاح أو الإخفاق وإنما باستمرارية الثورة؛ التي يعتبر منطقها إيجابيًّا، لكن ذلك يتطلب الأخذ بزمام المبادرة وعدم عودة الرموز القديمة للانخراط في الفعل الثوري.
ويعتبر الدكتور عبد الوهاب الأفندي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية في معهد الدوحة، أن الثورة كانت مصدر إلهام للعالم بتوحُّد جميع القوى الفاعلة فيها؛ ومثَّلت ثورات مجتمعية فيها الكثير من الكرامة والشجاعة والعفوية في مواجهة أنظمة لا تتورَّع عن القيام بأي شيء للحفاظ على السلطة، سواء في ليبيا وسوريا ومصر وتونس واليمن، لكن في الوقت نفسه لم تَخْلُ الثورات العربية من أخطاء. ففي ليبيا مثلًا، يقول المتحدث، كان للثورة قيادة عسكرية وسياسية قادت الشعب بقدرة واقتدار بيد أن بعض الأطراف والميليشيات كانوا يزايدون عندما طالبوا بوضع خاص للثوار، بينما إذا انتهت الثورة ينبغي أن يرجع الجميع لوظائفه، كما أن الإسلاميين في مصر كانت أمامهم فرص للتعاون مع الفرقاء الآخرين، لكن الرئيس محمد مرسي رفض عروض المعارضة؛ لذلك فالتمسك بالشرعية الانتخابية ليس موقفًا صحيحًا. وهنا، يلاحظ الأفندي أن الثورات لم تنجح إلا عندما توحَّدت الشعوب؛ وهي وحدة سبقت في الأصل الثورة؛ مما يجعل روح الطمأنينة ضرورية بين الناس؛ لأن البديل الدكتاتوري ليس حلًّا.
أدوار ومسؤوليات الفاعلين المحليين
لا شك أن المآلات التي انتهت إليها ثورات الربيع العربي في الوقت الراهن تعدُّ نتيجة طبيعية للطريقة التي أُديرت بها المرحلة الانتقالية، فقد لعبت أطراف الصراع بأجندتها المتنافسة أدوارًا مختلفة حدَّدت من خلالها طبيعة تلك المرحلة ورسمت وجهة التغيير. ولعلَّ النموذج الأبرز في هذا السياق هو التجربة المصرية، حيث يُشخِّص الدكتور أيمن نور، زعيم حزب غد الثورة المصري والمرشح الرئاسي سابقًا، دور القوى الثورية والمدنية في علاقتها بالمجلس العسكري خلال المرحلة الانتقالية؛ معتبرًا أن هذه القوى ارتكبت خطيئة باستسلامها لواقع أن الجيش هو القوة الجاهزة والحاضرة لإدارة المرحلة الانتقالية بعد أن أخذ شرعيته من جميع الأطراف (قرار استقالة مبارك، وشرعية الميدان)، بينما كان في الوقع يُخَطِّط لتقسيم الحياة السياسية إلى خنادق بدل أن يُمَهِّد المشهد لفعل سياسي ديمقراطي. وقد أسهم في ذلك أن الثوار كانوا رومانسيين أكثر مما ينبغي، كما أن حجم المؤامرة والمخاطرة كان أكبر من حجم الاستعداد الحقيقي لمواجهتهما؛ إذ لم يُفكِّر أحد: وماذا بعد رحيل مبارك؟
الندوة الثانية: من اليمين: نزهة الوفي، خليل العناني، محمد العمراني، وأيمن نور (الجزيرة) |
ومن الأخطاء أيضًا أن القوى التي فازت بانتخابات 2012 أخذت أكبر من حجم تأثيرها وفعلها في الثورة، بينما كان يجب على القوى السياسية العاقلة أن تنظر في إعادة تكوين الحياة السياسية بالصورة التي تستوعب فيها أقلية مُؤَثِّرة، ثم اتسع الخطأ مع انتخاب محمد مرسي الذي كان ينبغي أن يسعى إلى شراكة وطنية واسعة؛ إذ كان الاهتمام مُنصبًّا في الشهور الستة الأولى على التحالف مع القوى السلفية والإسلامية والتعامل مع القوى المدنية بطرق لطيفة، وهو ما لم يكن مُسْتَسَاغًا من قِبلها. وفي الشهور الستة الأخرى حاول مرسي فتح باب الشراكة؛ حيث ألغى الإعلان الدستوري، لكن جبهة الإنقاذ لم تعترف بتلك الخطوة، كما لم تقبل بفكرة الحكومة الائتلافية التي اقترحها مرسي. وعزا نور ما سمَّاهُ بالصلف والعناد اللذين واجهت بهما المعارضة قرارات واقتراحات الرئيس محمد مرسي إلى الارتباطات الإقليمية والعلاقة مع الدولة العميقة؛ إذ كان يتوهم هؤلاء أن الجواد القادم يمكن أن يحملهم إلى السُّلطة.
وفي اليمن برز الدور الكبير للجيش في مسارات الثورة، خاصة أن تركيبته تعتمد، كما يلاحظ محمد العمراني، نائب رئيس المركز الوطني للمعلومات برئاسة الجمهورية اليمنية، على العصبيات؛ إذ بعد الثورة انقسم الجيش إلى قسمين: الجيش الأول وهو الجيش الشرعي الذي انضم للشرعية، والجيش الثاني هو جيش أحمد علي عبد الله صالح؛ أي الحرس الجمهوري، الذي يخضع للعائلة الحاكمة وهو في الغالب من مناطق محددة؛ فأكثر من 70% من ضباطه من محافظة واحدة (حوالي 17 ألف ضابط فقط من منطقة ذمار، وهناك ثلاث محافظات أخرى، وهي: الجوف وشبوة ومأرب ينحدَّر منها 800 ضابط). لذلك كانت الثورة فرصة لجميع المكونات السياسية والمدنية، بل وفرصة أيضًا للجيش الذي تمت مصادرته، والحوثيين كذلك الذين خاضوا حروبًا مع النظام لأكثر من 6 أعوام، كما كانت فرصة للحراك الجنوبي الذي تحرَّك بفاعلية بعد أن وصل إلى أفق مسدود. كما شاركت أحزاب اللقاء المشترك في الثورة، لكن هذه الهيئات بَنَتْ كينونتها على وجود علي عبد الله صالح؛ لذلك عندما انهارت سلطته عادت الإشكاليات التي كانت موجودة من قبل، مثل: الأيديولوجيا والخلافات الحزبية، ولم يستطع هؤلاء الفرقاء صياغة برنامج مُوحَّد عندما تم الاتفاق على مؤتمر الحوار الوطني؛ إذ جاؤوا بمسوَّداتهم الحزبية؛ وهو خطأ كبير قد يكون من أهم الأسباب في الانتكاسة التي حدثت بعد ذلك.
ويلاحظ الدكتور خليل العناني، أستاذ مشارك في برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، أن الثورات العربية قام بها لاعبون محليُّون غير تقليديين؛ كانت لهم اليد الطولى خلال الشهور الأولى في تحريك الشارع وقيادة عملية التغيير، لكن بعد مرور حوالي 7 أشهر تم الرجوع إلى اللعبة القديمة نتيجة عدم وجود قوى تنظيمية وموارد مالية وخبرة سياسية لدى الحركات التي اعتقدت أن الشارع سيحسم المعركة سياسيًّا وليس عبر التفاوض أو الحوارات، وفي تلك اللحظة حصل الانقسام والاستقطاب في الشارع بشكل غير مسبوق. وبعد مرور عام عاد المشهد السياسي للعمل من خلال القواعد والأُطُر القديمة عبر إبرام صفقات وتفاهمات؛ لأن هناك مراكز قوى لم يتم التخلص منها أثناء الثورات سواء في اليمن أو في مصر وإلى حدٍّ ما في تونس.
ورصد المتحدث مسارات التفاعل بين الفاعلين الإسلاميين والأنظمة والقوى التقليدية، وقسَّمها إلى أربعة مسارات مختلفة؛ ففي مصر كانت علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالدولة العميقة علاقة احتواء بالأساس؛ فقد حاولت استرضاء المؤسسة العسكرية لِتَأْمَنَ جانبها، فعندما كان النقاش حول وضع الجيش في دستور 2012، أُعْطِيَ للمؤسسة العسكرية نوع من الحصانة وتم النص على محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وهو ما اعتبره العناني خطيئة تم تكريسها في دستور 2014، وأصبحت دسترة محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية سابقة، لكن الذي حدث أن القوى التقليدية قامت بابتلاع جماعة الإخوان المسلمين ومن ثم الثورة المصرية.
وفي الحالة التونسية، استطاعت النهضة الدخول في شراكة سياسية مع القوى السياسية العلمانية (حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل من أجل الحريات)، ولم يغفل الباحث دور القوى المدنية التي لعبت دورًا مهمًّا في إنجاح التجربة الديمقراطية في تونس. أمَّا النموذج الثالث فهو نموذج الإصلاح في المغرب؛ حيث كانت استراتيجية حزب العدالة والتنمية استراتيجية إصلاحية وليست ثورية، وكان هناك تعامل ذكي من قِبَل المؤسسة الملكية التي قامت بإجراء تعديلات دستورية.
والنموذج الرابع هو المسار الذي اختارته جماعة الإخوان في الأردن، والذي كان يميل إلى التصعيد والصدام؛ حيث قامت باستغلال الحراك الشبابي من أجل الضغط على النظام وكانت العلاقة بينهما متوترة قبل اندلاع الربيع العربي ولم تكن تتسم بقدر من التوافق؛ وكان ذلك خطأ جماعة الإخوان التي وظَّفت الحراك الشعبي من أجل تحقيق مكاسب سياسية خلافًا لتجربة العدالة والتنمية في المغرب.
أمَّا التجربة المغربية، التي رصدتها نزهة الوفي، النائبة البرلمانية المغربة ورئيسة منتدى مغرب الكفاءات، فقد عَزَتْ نجاحها إلى موقع المؤسَّسة المَلَكية في النظام السياسي بالمغرب؛ باعتبارها موضوع إجماع لدى الفاعلين في المجتمع السياسي والمدني، وأيضًا المجتمع غير التقليدي؛ أي المجتمع الافتراضي والحراك الشبابي؛ لأن المؤسسة الملكية كانت دائمًا تلعب دورًا تَحْكِيمِيًّا، فضلًا عن سمة الانفتاح التي تميزها وقيامها بمجموعة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. وتعتبر الوافي أن رئاسة الحكومة تعدُّ أهم لاعب في التجربة المغربية بجانب الملك؛ حيث استطاعت هذه المؤسسة (رئاسة الحكومة) استيعاب تشكيلة المحيط السياسي بالمغرب بالذكاء اللازم لإيمانها بمنطق الشراكة. وهذا لا يعني أن الطريق مُمَهَّدٌ أمام التجربة المغربية، حسب الوفي، فخصوم إرادة الإصلاح كانوا يريدون إغلاق القوس بعد الخريف العربي؛ وقد ظهر ذلك خلال الخروج غير الطوعي لحزب الاستقلال من الحكومة، كما قاد هؤلاء الخصوم مجموعة من الإضرابات باستغلال الورقة النقابية وجزء من المجتمع المدني باستدعاء قضايا ليست من أولويات المغاربة، مثل: قضايا المرأة.
أدوار ومسؤوليات القوى الإقليمية والدولية
ازدادت أهمية أدوار القوى الإقليمية والدولية في مسار الثورات العربية مع مرور الوقت، وتحوَّل في بعض الحالات من عامل مؤثِّر إلى عامل مُحدِّد في مسار الأحداث، لاسيما بعد تحوُّل الساحة السورية تحديدًا إلى مسرح لصراعات مُرَكَّبَة أضحت فيها المعادلة الداخلية مجرد عنصر ثانوي. وهذا ما توقف عنده الدكتور برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط المعاصر في جامعة السوربون بباريس ورئيس المجلس الوطني السوري سابقًا، الذي أكَّد أن الثورة السورية تحوَّلت من ثورة إنسانية ذات مطالب مشروعة إلى حرب إقليمية دموية وحشية تُسْتَخْدَم فيها الميليشيات والطائفية والأسلحة الكيماوية. وهنا يشير المتحدث إلى أربعة مشاريع إقليمية تتصارع في المنطقة؛ فهناك المشروع الإيراني الذي يهدف لأن تصبح طهران القوة المهيمنة على الإقليم مستخدمة القضية المذهبية لأهداف سياسية، ثم المشروع الإسرائيلي الذي يهدف إلى تحطيم جميع القوى التي يمكن أن تُشكِّل خطرًا على وجوده في المستقبل، واعتبر غليون أن هناك تقاطعًا بين المشروعين الإيراني والإسرائيلي من أجل تحطيم القوة العربية، وثالثًا: ثمة المشروع الروسي الذي وجد في التدخل العسكري بسوريا فرصة للرد على الغرب بعد تدخله في العراق وليبيا.
الندوة الثالثة: من اليمين: محمد المسفر، أحمد التويجري، سيف الدين عبد الفتاح، رفيق عبد السلام، وبرهان غليون (الجزيرة) |
وفي هذا السياق، أشار الدكتور سيف عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قطر، إلى أن الثورات جرى الالتفاف عليها سواء بتدخلات إقليمية أو دولية وتم تحويل بعضها إلى حالة من الحرب الأهلية أو الإبادة الجماعية، موضحًا أن المجازر التي تحدث اليوم في سوريا تؤكد أن القوى الإقليمية والدولية تدعم المستبد وتؤيده، وهو ما يُشعِر بالتواطؤ والتآمر من القوى الدولية التي تدخلت بقوة معتمِدة على الفُرقة والانقسام في الداخل. ويُلقي المتحدث باللوم على النُّخب المحلية التي سمحت بتدخل الأطراف الخارجية، بل أوصلت الشعوب إلى حالة من الاقتتال الأهلي عن طريق مجموعة من الممارسات غير المسؤولة كما أن هذه النخب لم تنجز توافقًا حقيقيًّا فيما عدا التجربة التونسية.
أمَّا الكاتب والمفكر السعودي، الدكتور أحمد التويجري، فاعتبر أن إسرائيل كانت البوصلة التي حدَّدت معظم ردود أفعال القوى الدولية تجاه الربيع العربي؛ إذ كان الهاجس الأكبر الذي يُحرِّكها هو حماية إسرائيل؛ لأن نجاح الثورات كان سيُحدث تحوُّلًا استراتيجيًّا كبيرًا في المنطقة والأدوار التي يمكن أن تلعبها الدول العربية خاصة تجاه إسرائيل، معتبرًا أن بشار الأسد لم يكن ليبقى في الحكم لولا ارتباط ذلك بأمن إسرائيل، مطالِبًا بالتصدي للمشروع الإسرائيلي وما سمَّاه: المشروع الصفوي بكل أبعاده العسكرية والسياسية والثقافية والدينية؛ لأن هذه القوى تكالبت للتصدي للربيع العربي. أمَّا بالنسبة للانتقادات التي تُوَجَّه للسعودية بشأن دعمها للثورات المضادة، فيرى أن المملكة تحرص أن يكون تدخلها إيجابيًّا بالحد الأدنى وحاولت الاستجابة لما حدث، وكان العامل الإنساني هو المؤثِّر في قرار المملكة بالتدخل في سوريا نتيجة لحجم القتل والتدمير من جانب النظام وأعوانه الطائفيين سواء النظام الإيراني أو حزب الله، موضحًا أن السعودية لم تتخذ موقفًا معاديًا من الثورة المصرية وإنما حاولت التقرب إليها عندما تمكَّنت وكان التحول الحقيقي عندما بدأت مؤشرات الانقلاب.
وعن الدور القطري في ثورات الربيع العربي، أكَّد الدكتور محمد المسفر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر، أن قطر ساندت الربيع العربي؛ لأنها كانت تشعر أن هناك أنظمة عربية تعاني مجتمعاتها من احتقان كبير ولابد من مساعدة القوى الوطنية التي تنشد المساواة والمشاركة السياسية، وعزا المتحدث الفوضى التي تعيشها المنطقة اليوم إلى قوى الثورة المضادة للتغيير؛ التي تتمتع بفاعلية على المستوى المالي والإعلامي من طرف قوى دولية بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة؛ موضحًا أن إيران استغلت التطاحن بين القوى العربية الفاعلة وغيابها على الساحة لإحكام قبضتها على بعض دول المنطقة، واعتبر أن تركيا تمثِّل السند الوحيد للعرب الآن لذلك يجب مساندتها، داعيًا إلى تشكيل محور يتكون من مصر وتركيا وقطر والسعودية ليكون قوة فاعلة ومؤثِّرة في الساحة العربية وأن لا يُعوِّل العرب على قوة خارجية.
ويرصد الدكتور رفيق عبد السلام، وزير الخارجية التونسي الأسبق ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية في تونس، ردود الفعل الأولى للقوى الدولية تجاه الثورات العربية فيلاحظ أن ما حدث فاجأ القوى الدولية التي اضطرُّت للتكيُّف مع ما حدث بدرجة متفاوتة؛ إذ واجهت فرنسا مثلًا صعوبة في البداية، أمَّا الولايات المتحدة فحاولت أن تُساير موجة التغيير بخلفية الاحتواء وليس الدعم، موضحًا أن انسحاب أميركا من المنطقة تَسبَّب في حدوث فراغ استراتيجي استفادت منه القوى التي أصبحت أكثر قدرة في الفاعلية والتأثير من القوى الدولية، وباتت إيران وإسرائيل وتركيا أكثر حضورًا بينما الغائب الحقيقي والحلقة الضعيفة هم العرب.
ويوضح عبد السلام أن أوروبا كانت المؤثِّر الأكثر في التجربة التونسية للقرب الجغرافي والعلاقات الاقتصادية، مشيرًا إلى أن السياسة الأوروبية تجاه الثورات كانت تسعى للحفاظ على الأمن والاستقرار بعد الفوضى التي حدثت في مصر خشية أن يمتد السيناريو الليبي إلى تونس. لكن العامل الحاسم كان إرادة القوى السياسية التونسية في الوصول إلى توافقات سياسية حمت التجربة التونسية.
آفاق وسيناريوهات المستقبل
خلال خمسة أعوام من الصراع أفرز التدافع بين الثورة والثورة المضادة مشهدًا سياسيًّا لا يزال بصدد التشكُّل، ولكنه في جميع الأحوال سيكون مختلفًا عن المشهد الذي ساد في المنطقة خلال العقود الماضية، لذلك يبرز هنا سؤال جوهري يطرح نفسه بإلحاح: هل تسير المنطقة في اتجاه الإصلاح السياسي وإقامة أنظمة ديمقراطية تحقق في إطارها أهداف الربيع العربي ومطالبه الأساسية أم ستشهد مزيدًا من الصراعات بما يرفع كُلفة التغيير ويعصف بوحدة بعض الدول ويغير شكل الخريطة الإقليمية الراهنة؟
للإجابة عن هذا السؤال يعقد الدكتور محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق في قطر، مقارنة بين الثورة المضادة الفرنسية والثورة المضادة العربية والفاعلين فيها والنتائج التي قادت إليها؛ معتبرًا أن بنية وأدوات الثورة المضادة الفرنسية قادت إلى اغتيال الاعتدال؛ حيث انتقلت الثورة الفرنسية من قادتها المعتدلين الذين كانوا يسعون إلى إقامة ملكية دستورية والالتقاء في منتصف الطريق بين الحكام والمحكومين إلى أيدي قادة راديكاليين يؤمنون بإبادة كل من يخالف الثورة، وكذلك اغتالت الثورات المضادة في المجال العربي الاعتدال وأصبحت السلفية الجهادية تتصدر المشهد، كما أنتجت تنظيم الدولة الإسلامية والتنظيمات المشابهة له. وإذا كانت بنية الثورة المضادة الفرنسية تتألَّف من الملك لويس السادس عشر وحاشيته ثم بقايا فلول النظام السابق من النبلاء الذين هربوا من فرنسا ولجؤوا إلى عواصم وحواضر الجوار الأوروبي وأسَّسوا جمعيات لاسترجاع الملكية؛ فهذا الأمر واضح في الثورة المضادة العربية؛ حيث لجأ فلول الأنظمة القديمة إلى حواضر عربية معروفة أو مَلَكيات أصابها الهلع فأرادت وأد الثورة في بلدان المنشأ قبل أن تصل إليها. ويشير الشنقيطي إلى دور الكنيسة الكاثوليكية والبابا بروما في الثورة المضادة الفرنسية؛ الذي يحاكيه اليوم دور بعض المؤسسات الدينية الإسلامية العريقة التي تم استغلالها خدمةً للثورة المضادة.
ويرى المتحدث أن السبيل للخروج من هذا الوضع هي الإصلاح الوقائي؛ الذي يتطلب إدراكًا عميقًا من قِبل الحكام بالتحوُّل الذي تعرفه المجتمعات العربية، وأن يتم الالتقاء في منتصف الطريق على صيغة تحقق للشعوب كرامتها وحريتها دون أن تخسر الدول قدراتها ومواردها، فما نحتاجه اليوم، يقول الشنقيطي، هو معادلة يفوز فيها الجميع.
الندوة الرابعة: من اليمين: فهد العرابي الحارثي، جورج صبرة، فهمي هويدي، توفيق بوعشرين، ومحمد المختار الشنقيطي (الجزيرة) |
ويرى توفيق بوعشرين، رئيس تحرير صحيفة أخبار اليوم المغربية، أن تجربة التحول السياسي في المغرب مفتوحة على سيناريوهين؛ الأول أن يصبح الذي جرى بعد 20 فبراير/شباط 2011 مشروع عقد اجتماعي وصيغة للإصلاح في ظل الاستقرار، خاصة إذا نجح المغرب في تنظيم انتخابات أفضل من سابقاتها تُفْرِزُ طبقة سياسية جديدة، وتم احترام المنهجية الديمقراطية، وتجاوز حزب العدالة والتنمية مشروع التطبيع مع القصر إلى التطبيع مع الإصلاح وتمت محاربة الفساد واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير وتعميق نهج الإصلاح.
أمَّا السيناريو الثاني، أَنْ يجري الالتفاف على هذه الإصلاحات، خصوصًا أن الربيع العربي تحوَّل إلى خريف وفي محيط سياسي لا يُشجِّع بعد أن أصبحت أولوية الغرب هي محاربة الإرهاب، علمًا بأن هذا الغرب تُزعجه ديمقراطية حقيقية ولا يرى مصالحه في دَمَقْرَطَة المنطقة. ولم ينس بوعشرين أن يشير إلى الكوابح الداخلية للتجربة ممثَّلة في المخزن (الدولة العميقة) التي تَجُرُّ باتجاه التراجع عن هذه الإصلاحات والعودة بعقارب الساعة إلى الوراء. لكن إذا كان هناك مجتمع مُتَيَقِّظ يمارس الضغط، وطبقة سياسية تريد التقدم إلى الأمام وإنجاز توافقات تاريخية ونزع فتيل الصراعات الأيديولوجية فهذا يمكن أن يُعمِّق مشروع الانتقال الديمقراطي.
ويبدو الكاتب والمفكر العربي فهمي هويدي حَذِرًا في تفاؤله بشأن مستقبل الثورات العربية؛ لأن الأمر في نظره سيطول أجله وهذا ليس مفاجئًا؛ لأن ما حدث هو ثورة أمة، مؤكدًا أن جميع الثورات انتكست وليست الثورات العربية خارج التاريخ، والعِبْرَةُ بظروفها وملابساتها لا الاستسلام للانتكاسة وآثارها. ويربط هويدي مستقبل الربيع العربي بوجود مشروع واضح وقوى مدنية حاملة لهذا المشروع، لكن حتى اليوم لم يتبلور هذا المشروع بشكل كاف؛ فلا القوى المدنية استطاعت خلال الأعوام الخمسة أن تستعيد عافيتها، ولا القوى السياسية أصبحت ناضجة بشكل يسمح لها أن تتبنى مشروعًا يُعبِّر عن الإجماع الوطني العام. لذلك، فإن غياب المشروع أدَّى إلى تَمَتْرُسِ كل فئة حول ذاتها وإضعاف الجميع وإتاحة الفرصة لقوى الثورة المضادة لتصفِّي حساباتها وتحقق انتصاراتها وإنجازاتها، موضحًا أن بعض الدول الخليجية قامت بجهد لا يستهان به في تعزيز مواقع الثورة المضادة وقد يضطرها تراجع عائداتها النفطية إلى تغييب بعض عناصر الضغط، لكن ستظل الثورة تحتاج إلى نفس طويل.
بينما يُقرُّ جورج صبرا، رئيس المجلس الوطني السوري، بالصراع الإقليمي والدولي حول سوريا، بل إن القضية تكاد تخرج من أيدي أصحابها وقد زاد الاحتلال الروسي من تعقيد هذا الوضع، وهو يستدعي محاور تهدِّد المنطقة على المستوى الاستراتيجي بعلاقات جديدة بين الدول تخلط الأوراق. لذلك يشعر السوريون، حسب صبرا، بأن سوريا أصبحت ساحة متروكة للروس والإيرانيين، محذِّرًا من الغزو الروسي الذي جاء ليرسم حدود نفوذه في المنطقة، وفي هذه المرحلة فإن مخاطر التقسيم تبدو أكبر؛ لأن هناك عوامل داخلية ترتبط بالنظام الذي لم يعد معنيًّا بسوريا وإنما بمنطقة يستطيع الدفاع عنها، كما أن الإيرانيين يريدون وضع أيديهم على منطقة نفوذ.
خلاصة
ولئن كان مرور خمسة أعوام على انطلاق الثورات العربية في أوائل العام 2011، يبدو فترة زمنية يسيرة في حركة التغيير -والتاريخ أيضًا- لا تسمح بتقديم رؤية تستوعب كل ما جرى خلال مسارات التحوُّل السياسي، فإنها تُقدِّم مؤشرات دالَّة على مسارات هذا التحول وصيرورته وأدوار الفاعلين فيه وإنجازاتهم وإخفاقاتهم، ومسؤوليات اللاعبين الإقليميين والدوليين في حركة التغيير وآفاقها ومستقبلها.
وأول ما يُستنتج هنا أن الفاعلين (التقليديين وغير التقليديين) في حركة التغيير لم يستطيعوا بلورة مشروع سياسي مناسب للحظة التاريخية، بل أخذت القوى التقليدية المبادرة؛ فزاد الانقسام والصراع السياسي، ثم انتكست تجربة التحوُّل السياسي، بعد تدخل الدولة العميقة التي سعت منذ اليوم الأول لهندسة المرحلة الانتقالية وتهيئة مشهد الانقلاب (نموذج الحالة المصرية واليمنية)، واتسع نطاق الصراع أفقيًّا وعموديًّا في الحالة الليبية، وتحوَّل بعضها الآخر إلى صراع عابر للحدود الوطنية؛ صراع إقليمي ودولي (التجربة السورية)، بينما تمكَّنت تجارب أخرى من العبور إلى شاطئ الأمان وتأسيس نظام ديمقراطي ناشئ (التجربة التونسية) رغم ما يتهدَّدها من مخاطر أمنية وضغوط اجتماعية واقتصادية تجعلها مفتوحة على سيناريو الانتكاسة، خاصة إذا لم يتم تعميق الإصلاح وكبح جماح إرادة التَّحكُّم (التجربة المغربية).
المسار الذي انتهى بانتكاسة بعض التجارب، أو تعثُّرها، لم يكن بمنأى عن الدور الـمُعَطِّل الذي نهجته القوى الإقليمية والدولية بدعم الثورة المضادة سياسيًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا، والسكوت على الجرائم التي ارتكبتها سلطة الانقلاب ضد المعارضين والمواطنين المطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والزَّج بهم في السجون ومصادرة حقهم في حرية الرأي والتعبير، وهو ما سمح باغتيال الاعتدال وبروز التنظيمات المسلحة والجماعات الجهادية المتطرفة.
وقد كشفت مسارات التغيير أن القوى الدولية الكبرى لا يعنيها دَمَقْرَطَة المجتمعات العربية، وإنما تحركُّها مصالحها السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية؛ فتخلَّت عن مبادئها وقيمها وسمحت بتحوُّل المنطقة إلى ساحة مفتوحة (النموذج السوري) لمشاريع بعض القوى الإقليمية والدولية؛ حيث يتصارع المشروع الروسي والإيراني والإسرائيلي، ويبدو المجال العربي مكشوفًا أمام هذه المشاريع لا يملك سوى ردود الأفعال.
ولهذه العوامل مجتمعة، فإن التحول السياسي في دول الربيع العربي سيأخذ وقتًا طويلًا؛ حيث تتجاذبه عوامل داخلية وخارجية؛ لذلك فإن المستقبل يحتاج إلى مشروع سياسي وقوى مدنية مؤهلة لحمل هذا المشروع وقوى سياسية ناضجة تستطيع أن تحقق الوفاق الوطني.
________________________________
د. محمد الراجي- باحث بمركز الجزيرة للدراسات