ملخص
بمشاركة نخبة من قيادات ورموز الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها وعدد من الباحثين والخبراء في جماعات "الإسلام السياسي"، تدارست الندوة، التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات خلال يومي 24 و25 سبتمبر/أيلول 2016، "التحولات في الحركات الإسلامية" بعد ستة أعوام على الربيع العربي، الذي شكَّل مُنْعَطَفًا كاشفًا لتحوُّلات كثيرة في المشهد السياسي والنظام الإقليمي العربييْن، واختبارًا لكل التيارات الفكرية والسياسية وفي مقدمتها الحركات الإسلامية.
وأبرز المشاركون في الندوة، التي قُدِّمَت خلالها 23 ورقة فكرية، أن الحركات الإسلامية ليست نموذجًا واحدًا مُقَوْلَبًا، باعتبار السياقات السياسية والاجتماعية والتاريخية تُؤَثِّر في اختياراتها وتعاملها مع واقعها السياسي، وهو ما كشفته مسارات حركة الثورة التي بيَّنت أنماط تفكير "العقل السياسي" لهذه القوى في إدارته للمراحل المختلفة من "الثورة" إلى "الحركة المضادة للثورة". كما كشفت تجاربُ الحركاتِ الإسلامية اتجاهًا جديدًا في فهمها لمتغيرات واقعها بضرورة التفكير في مفهوم الدولة الوطنية، واعتماد الفصل بين الحقل الدعوي والمجال السياسي، وتأكيد أهمية الشراكة والتوافق السياسي بين مختلف القوى المجتمعية لإدارة المرحلة الانتقالية، والتخلِّي عن ثقافة الإقصاء ونظرية "البديل عن الآخر". وخلص المشاركون أيضًا إلى حاجة الحركات الإسلامية إلى ممارسة النقد الذاتي ومَأْسَسَتِه من أجل تحديد الاختلالات وضبطها، والتجديد الفكري وامتلاك قدرة التخطيط الاستراتيجي.
مقدمة
شكَّلت حركة التغيير، التي عرفها بعض البلدان العربية في أوائل العام 2011، مُنْعَطَفًا كاشفًا لتحولات كثيرة في المشهد السياسي والنظام الإقليمي العربيين؛ حيث برز دور فاعل للحركات الإسلامية في عملية "الانتقال السياسي"، وهو ما ظهر في الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حركة النهضة بتونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، ثم حزب الحرية والعدالة بمصر. كما كشفت موازينُ الصراعِ المحتدمِ في سوريا وليبيا واليمن والعراق مَوْقِعًا مُتَقَدِّمًا لهذه الحركات والأحزاب في مواجهة الخيار العسكري و"الحركة المضادة للثورة" التي انقلبت على الآلية الديمقراطية الناشئة. واليوم، بعد مرور ستة أعوام على انطلاق الربيع العربي، تواجه القوى السياسية التي تُنْسَب إلى "التيار الإسلامي" تحديات مختلفة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا إثر تَمَكُّن الدولة العميقة وشبكة المصالح الإقليمية والدولية من تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي والانقلاب عليها.
هنا، تَبْرُز إشكاليات متعددة ترتبط بمسؤولية الحركات الإسلامية عن "النجاحات" التي أحرزتها "الحركة المضادة للثورة" في دول الربيع العربي، وكيفية تعاملها مع مرحلة الانتقال السياسي ومحيطها الإقليمي والدولي، والتحولات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي شهدها "التيار الإسلامي" بمختلف مكوناته، وتباين توجُّهاته السياسية بشأن قضايا، مثل: الفصل الوظيفي بين المجال السياسي والمجال الدعوي، والمرجعية الوطنية الجامعة، والدولة الوطنية الحديثة ومستقبلها.
الإسلاميون وتنوع السياقات واختلاف الخيارات
شكَّل هذا العنوان محور أولى جلسات أعمال الندوة في يومها الأول، وتناول قضايا جوهرية ترتبط بهوية القوى الإسلامية وسياقات تَشَكُّلِها، وقد حدَّد البعض هذه السياقات في القهر السياسي، والتقسيم الطائفي، والمذهبي، إضاقة إلى السياقين الإقليمي والدولي. ويميِّز رأي آخر بين لحظتين في مسار الحركات الإسلامية، أولاهما اللحظة التي كان يُنْظَرُ فيها للحركات الإسلامية، باعتبارها فروعًا لكيان جامع، هو جماعة الإخوان المسلمين. لكن التطوُّر الذي وصلت إليه هذه الحركات -ويُمَثِّل ذلك اللحظة الثانية- أَوْجَد حالات وطنية محلية تتأثَّر بواقعها المخصوص أكثر من الحالة العامة التي تجمع هذه الحركات. ولما جاء الربيع العربي ألقى هذا التمايز بظلاله على طريقة تعامل القوى الإسلامية مع مسارات الانتقال السياسي؛ حيث اختار بعضها الالتحاق والإسهام في إنجاح الثورات (تونس ومصر واليمن..)، بينما اختارت حركات أخرى التقليد والقياس رغم وجود الفوارق (موريتانيا)، وفضَّلت مدرسة أخرى وعي الخصوصية والاستفادة من أجواء الربيع العربي (الحالة المغربية).
التحولات الفكرية والتنظيمية في الساحة الإسلامية بعد الربيع العربي
اهتمت الجلسة الثانية في الندوة باستقصاء فرضية تأثيرات الربيع العربي في الحركات الإسلامية فكريًّا وسياسيًّا وتنظيميًّا، ومن أبرز ملامح التحولات التنظيمية التي عرفتها الحركات الإسلامية هو التمييز بين العمل السياسي والعمل الدعوي والتربوي في أدائها. وهنا، برزت فكرة التَّخصُّص الوظيفي بين الحقل السياسي والدعوي، لكن ذلك لا يعني، حسب بعض المشاركين، التمايز المطلق بينهما. كما يرصد هذا الرأي مَلْمَحًا آخر وهو التحول إلى العلنية والعمل ضمن الأطر الحزبية، مشيرًا إلى التغيير الذي طرأ على معيار اختيار القادة الذين كانوا من الأخفياء غير المشهورين إلى الرافعات الانتخابية.
بينما يعتبر البعض أن التحولات في الساحة الإسلامية لم تستقر بعد؛ لأن "المنطقة العربية لا تزال تعيش في الذروة من حالة السيولة والتدافع"، لكن ذلك لا ينفي التحول الفكري داخل هذه الحركات بشأن رؤيتها للدولة الحديثة في سياق ما أظهرته الثورات في طريقها للوصول إلى بناء الدولة المنشودة. كما أسهمت هذه الثورات بالدفع نحو إعادة حسابات الحركة الإسلامية لبنيتها التنظيمية، التي لطالما اعتمدت على النخبوية في انتقاء أعضائها. وكشفت مسارات الانتقال أن هذه النخب ليست كافية لإنجاز عملية التغيير، ما دفع بعض الحركات إلى تبني صيغ الأحزاب السياسية الموازية للجماعة.
وتُحَدِّد مقاربة ثلاثة تحديات تواجه الحركات الإسلامية، ويتعلق أولها بإدارة الشأن التنظيمي الداخلي لهذه القوى وحقيقة تحوُّلها إلى أحزاب مدنية مُمَأْسَسَة ديمقراطيًّا، ثم هناك التحدي المعرفي؛ إذ لا تزال الحركات الإسلامية تواجه فَقْرَ الأدبيات التي يمكن أن تُشَكِّل خلفيةً نظريةً لمشروع سياسي وبرنامج للحكم، وثالثًا: التحدي السياسي ويرتبط بقضية البعد الوطني؛ إذ لا يزال هناك ما يشبه الإحساس بالإثم من الانتساب إلى المرجعية الوطنية.
تطورات المواقف والتوجهات السياسية
في ثالث جلسة، بحث المشاركون تطورات مواقف الحركات الإسلامية وتوجُّهاتها السياسية في ظل المسارات التي آلت إليها حركة التغيير. وهنا أبرزت إحدى المقاربات تأثيرَ المناخِ السياسي العام في تجربة النهضة التونسية التي تحوَّلت من حركة معارضة جذرية إلى حركة تتَّجه لأن تكون حزبًا حاكمًا أو حزبًا يتحمَّل جزءًا من مسؤولية الحكم. ولعل التحوُّل الأبرز الذي عرفته الحركة هو التحوُّل من حزب شامل يُغطِّي مختلف مجالات العمل إلى حزب مُتَخَصِّص في إدارة الشأن السياسي. كما فرضت عملية الانتقال السياسي على حركة النهضة أن تختار بين مصلحة الحزب والتشبث بالحكم استنادًا إلى الشرعية الانتخابية أو ترجيح مصلحة البلد وحماية التجربة الديمقراطية الهشة الوليدة. وهنا، تبدو أهمية التوافقات السياسية في مرحلة الانتقال الديمقراطي؛ ما جعل حركة النهضة تقبل المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية ترجيحًا للمصلحة الوطنية وحماية الخيار الديمقراطي الهش.
تعتبر وجهة نظر أخرى أن الجماعات الإسلامية ليست سوى الوجه الآخر للسلطة، وأقصى ما تطالب به هو تقاسم السلطة مع النظام، أو على الأقل الشراكة في السلطة؛ إذ لم تبذل جهدًا في التأهيل السياسي لممارسة السلطة. وفي مستوى الأطروحة العقدية والهيكلة التنظيمية، يعتقد هذا الرأي أن بعض الحركات جماعات براغماتية، قَبِلَت العمل في الأطر السياسية المحلية والإقليمية والدولية وحتى الطائفية، وبعضها الآخر ذو أطروحات دعوية أو اجتماعية أو تربوية، بينما أَسَّسَت جماعات أطروحتها العقدية على أحاديث النبوءات الغيبية، وجميعها آلت إلى ما يشبه الجمود التام.
ومن التحولات التي رصدها المشاركون: "الحالة الطائفية في الإسلام السياسي"، التي لا تختلف عن العصبية، أو القبلية، وهي مسعى للوصول إلى السلطة. وهنا، يَبْرُزُ حزبُ الله اللبناني نموذجًا لـ"الشيعية السياسية"، والحوثيون في اليمن مُمَثِّلِين للزيدية السياسية التي تُجَسِّد مصالح المجتمع الزيدي؛ حيث تتحول الأقلية الطائفية إلى عصبية متضامنة من أجل الوصول إلى السلطة أو الدفاع عن امتيازاتها ومكاسبها.
ولاستكمال ملامح هذه التحولات أبرز النقاش موقف الغرب من ثورات الربيع العربي، ولاحظ البعض أن الخطاب الغربي الذي ساد في بداية الثورة كان يميل للاستسلام لأمر واقع جديد سيقود الحركات الإسلامية إلى الحكم لكن ثمة شعور مختلف اليوم، كما أن "الدولة (في الغرب) سَرَّها الذي حدث؛ لأن تَعَثُّر المشروع الإسلامي توافق مع رغباتها. ويميز هذا الرأي بين تيارين في الغرب وإِنْ كان كلاهما ينطلق مما يعتبره المصلحة؛ فهناك تيار غير مُؤَدْلَج قابل للفهم والحوار، وقد يصل الحوار معه إلى حالة من التقارب، وتيار مُؤَدْلَج يرى أن معظم التيارات الإسلامية تُمَثِّل فكرة مناقضة لما يقوم عليه الغرب؛ لذلك فإن معتنق تلك الفكرة يُعَدُّ خصمًا وعدوًّا.
المقاومة الفلسطينية وتحولات الربيع العربي
تناولت الجلسة الختامية لأعمال الندوة في يومها الأول، والتي تحدث فيها خالد مشعل، موقف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إزاء الربيع العربي وتعاملها مع مراحله المختلفة؛ حيث استبشرت الحركة في المرحلة الأولى -بحسب قيادتها- بثورات الربيع واستفادت سياسيًّا بدعم خيار المقاومة. وفي هذه المرحلة لم تَأْلُ حماس جهدًا في نصح الحركات الإسلامية في دول الربيع العربي كي تتعامل بواقعية أكثر وتُحْسِن قراءة الموقف وتقديره. وفي المرحلة الثانية التي تميزت بعودة رموز الأنظمة القديمة إلى الحكم وجدت حماس نفسها أمام متغيرات كبيرة؛ فالتفتت إلى الذات ومضاعفة قدراتها على الصمود وتوفير البدائل للمقاومة، والحرص على ترتيب البيت الفلسطيني، وأخذ العِبَر مما يجري، والحفاظ على سياسة عدم التدخل، وإدارة العلاقات السياسية للحركة بانفتاح يمزج بين تحقيق المصالح ودرء المفاسد والانحياز لأخلاق ومبادئ الحركة.
وفي سياق تقييمها لتعامل الحركات الإسلامية مع ثورات الربيع العربي، لاحظت حماس أن هناك خطأين ارتكبتهما القوى الإسلامية، أولهما: المبالغة في تقدير الموقف بالنسبة للواقع العربي وسلوك القوى المتضرِّرة من الربيع محليًّا وإقليميًّا. ثانيًا: خلل ونقص في التعامل مع الشركاء في الوطن؛ فعلى الرغم من أن الأغلبية عبر صناديق الاقتراع مهمة، فإنها لا تكفي لكي تَزْهَدَ الحركات في الشراكة مع شركاء الوطن وتنفرد بالقرار، كما لاحظت الحركة أن نظرية البديل عن الآخر نظرية خاطئة.
دروس من تجربة حكم الإسلاميين
خلال اليوم الثاني، وفي أول جلسة بأعمال الندوة، عرض بعض قادة التيار الإسلامي تجارب حركاتهم، مثل تجربة التجمع اليمني للإصلاح الذي أسَّس ثقافته السياسية -بحسب أحد قادته- على الشراكة وتغليب مصلحة الوطن على المصالح الحزبية؛ وذلك في أول محطة انتخابية شارك فيها الحزب بعد الوحدة اليمنية في العام 1993. وكان الهدف في كل المحطات الانتخابية المحلية والنيابية والرئاسية التي شارك فيها الإصلاح، منفردًا أو ضمن أحزاب اللقاء المشترك، هو الدفع بالمجتمع للمشاركة السياسية وتبني العملية الديمقراطية باعتبارها طريقًا واحدًا للاستقرار والتنمية الشاملة. كما كانت مشاركة الإصلاح في العملية السياسية تهدف إلى دمج اليمنيين في الحياة العامة ومساعدتهم على تجاوز الانتماءات الضيقة للمجتمع.
ورغم اختلاف البيئة السياسية الجزائرية عن البيئة اليمنية، فإن تجربة حركة مجتمع السلم تأَسَّسَت في بدايتها أيضًا على المشاركة في الحكم مثل تجربة الإصلاح؛ إذ انتهجت حركة حمس سياسة المشاركة بالعودة إلى المسار الانتخابي الذي تم إلغاؤه في العام 1992. ورغم ذلك، فإن حركة الشيخ محفوظ نحناح لم تحقق، وفق هذا الرأي، نجاحًا سياسيًّا بارزًا بسياستها تلك، كما لم تحقق أهدافها السياسية، لكن في المقابل استطاعت الوصول إلى أهدافها الاستراتيجية. وتعيش الحركة اليوم حالة من الاستقرار وتعمل بعيدًا عن الضغوط أكثر من مثيلاتها في العالم العربي، وهي التي جرَّبت الحكم ورأت الآثار السلبية على الدعوة والعمل المجتمعي جرَّاء الصراع على السلطة؛ ما جعلها تتجه إلى الفصل المؤسسي بين وظائفها، كما أن الحركة بعد خروجها من الحكومة تمارس نوعًا جديدًا من المعارضة؛ فلا هي في صدام عدمي مع نظام الحكم ولا هي تسانده وتتوافق معه، بل تعارضه معارضة ذات نزعة وطنية تكسر بها احتكاريته للوطنية.
وفي سياق مغاير للتجربتين الجزائرية واليمنية، عُرضت تجربة الجبهة الإسلامية في السودان، كما نوقشت ظروف الانقلاب الذي جاء بالحركة الإسلامية للسلطة. لذلك أصبحت في مرحلة من المراحل أقوى من الدولة. ولأن التجربة السودانية جاءت على غير مثال سابق، فإنها تُشكِّل تجربة مهمة وزاخرة للتأمل والاعتبار؛ فإذا جاءت أي حركة للسلطة انتخابًا ينبغي أن تُشْرِك القوى الأخرى في الحكم، وكذلك إذا جاءت انقلابًا ينبغي أن تُكَفِّر سريعًا عن الانقلاب بتحقيق أكبر قدر ممكن من المشاركة، وهو ما لم يحدث في التجربة السودانية. كما أن مشكلة جنوب السودان مَثَّلَت تحدِّيًا كبيرًا؛ ما ضخَّم دور الجيش وعَسْكَر الحركة، ومع تطور التجربة أصبح الأمن هو المتحكم فيها. وفي هذا الوضع غير الطبيعي انشقت الحركة على نفسها ما أَفْقَدَها المرجعية الفكرية والسياسية والقيمة الأخلاقية ثم انتهت بتقسيم السودان، وهذه عبرة بالغة الخطر.
وفي التجربة السورية التي تختلف كليًّا عن التجارب السابقة؛ حيث يبدو الوضع معقَّدًا جدًّا باعتبار أن الإسلاميين لم يحكموا في سوريا حتى الآن؛ فهناك تجارب ونماذج لحكم محلي وإدارة مناطق بدءًا بتجربة ريف دمشق أو غوطة دمشق الشرقية بشكل رئيسي وكان جيش الإسلام هو الرافعة لهذه التجربة، التي تآكلت -بحسب المتحدث- بعد أن دخل جيش الرحمن وجيش الإسلام في صراع بينهما. وثانيًا: تجربة حلب التي دخلتها المعارضة في منتصف عام 2012، وكانت تجربة سيئة؛ لأن النظام كان يستهدفها بشكل كبير، إضافة إلى فوضى المشاريع (مشروع لواء التوحيد والإخوان والأحرار والنصرة والجيش الحر)، ثم تجربة الرقة التي كانت في الربع الأول من عام 2013 عندما قامت جبهة النصرة وأحرار الشام بالتعاون مع فصائل إسلامية أخرى بالسيطرة على المدينة ووجدت المعارضة نفسها أمام مؤسسات دولة مطالَبة بإدارتها. وقد فشلت التجربة؛ لأن الحركتين لم تكن لديهما كوادر مدنية ما أدى إلى صراع مع المجتمع، ولذلك سقطت المدينة في يد تنظيم "الدولة الإسلامية". ورابعًا: تجربة إدلب، التي لم يعتبر فيها الإسلاميون من أخطائهم.
الآفاق المحتملة لمستقبل القوى الإسلامية
أثار أداء القوى الإسلامية واستجابتها لموجة "الحركة المضادة للثورة"، ولمجمل القضايا الكبرى التي فجَّرتها تحولات السنوات القليلة الماضية، الجدل من جديد حول مستقبل التيار الإسلامي السياسي. وفي هذا السياق، تتعدد الرؤى والأطروحات التي تحاول رسم ملامح الآفاق المحتملة للقوى الإسلامية؛ حيث يشير البعض إلى ثلاثة عوامل خارجية قد تُحدد مستقبل الحركات الإسلامية: أولًا: أن يفشل سيناريو الإقصاء والاستئصال. ثانيًا: فشل الحرب على الإرهاب. ثالثًا: أن تستعيد الحركات الإسلامية عافيتها وتتحوَّل إلى جزء من التيار العام. وبشأن العوامل الداخلية، التي قد تحدد أيضًا مستقبل هذه الحركات: أن تعيد القوى الإسلامية تموضعها داخل خريطة التغيير العربي وتبتعد عن الخطوات الإقصائية والانتقامية من شركائها في عملية التغيير. ثانيًا: أن تحافظ الحركات الإسلامية على تماسكها في مواجهة الهجمة الإقصائية. ثالثًا: أن تعيد النظر في القضايا المؤجلة وتبتعد عن سياسة الغموض الاستراتيجية.
ولم يحسم النقاش حول هذا الموضوع ما إذا كانت القوى الإسلامية تتَّجه إلى مزيد من الانكفاء على الذات، أو الإصرار على السلمية ومحاولة احتواء النظام القديم، أو مساندة "الحركات المضادة للثورات"، أو الاتجاه نحو الخيار الذي يُمَثِّلُه تنظيم "الدولة الإسلامية". في هذا السياق، أبرز النقاش حاجة الكيانات الإسلامية إلى التقارب والعمل على بناء مشروع سياسي قادر على إعادة بناء المجتمع، والقيام بالنقد الذاتي، وتقديم هيكل جديد للقيادة، ونظرة جديدة للدولة والممارسة السياسية.
وتطرح وجهة نظر أخرى مدخلًا لاستكمال مشروع الحركات الإسلامية انطلاقًا مما تُسَمِّيه الضرورات التأهيلية للقوى الإسلامية حتى تكون مشاركًا فاعلًا في صناعة مستقبل أوطانها، وحدَّدها هذه الضرورات في: القدرة على النقد والتصحيح الذاتيين، والتجديد الفكري، والقدرة على التفكير الملموس وامتلاك مفاتيح الوضعية المحلية، والقدرة على التفكير والتخطيط الاستراتيجي.
خلاصة
كشف النقاش تحولات كثيرة في المشهد السياسي والنظام الإقليمي العربيين وتأثيرها في واقع الحركات الإسلامية واستجابتها لمراحل الربيع العربي، وانعكاس ذلك على أطروحاتها الفكرية والسياسية، ما يُبَيِّن أن الحركات الإسلامية في المجال العربي ليست نموذجًا واحدًا مُقَوْلَبًا، باعتبار أن السياقات السياسية والاجتماعية والتاريخية تُؤَثِّر في اختياراتها وتعاملها مع واقعها السياسي. وهو ما أبرزته مسارات حركة الثورة التي كشفت أنماط تفكير "العقل السياسي" للحركات الإسلامية في إدارته للمراحل المختلفة من الثورة إلى الثورة المضادة وتداعياتها في مصر وتونس والمغرب وليبيا واليمن وسوريا...كما بيَّنت تجارب الحركات الإسلامية اتجاهًا جديدًا في فهمه متغيرات واقعها بضرورة التفكير في مفهوم الدولة الوطنية، واعتماد الفصل بين الحقل الدعوي والمجال السياسي، وتسييس الأنشطة والممارسات الإسلامية وليس أَدْلَجَتها، وهو الاتجاه الذي قد يتعزَّز في مستقبل عمل هذه الحركات وفعلها السياسي.
وشدَّدت هذه التجارب أيضًا على ضرورة الشراكة والتوافق السياسي بين مختلف القوى المجتمعية والحركات السياسية لإدارة المرحلة الانتقالية التي تحتاج إلى جهود جميع الفاعلين والتخلِّي عن ثقافة الإقصاء و"البديل عن الآخر"، وخلص المشاركون إلى حاجة الحركات الإسلامية لممارسة النقد الذاتي ومَأْسَسَتِه من أجل تحديد الاختلالات وضَبْطِها، وامتلاك مفاتيح الوضعية المحلية، بالإضافة إلى التجديد الفكري والقدرة على التخطيط الاستراتيجي.