نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر ندوة القضايا العربية والانتخابات الرئاسية الأميركية، وذلك يوم الثلاثاء 11 أكتوبر/تشرين الأول 2016. وتكتسب الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 8 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أهمية سياسية استثنائية ليس فقط لأنها ستحدِّد الرئيس القادم لأكبر وأقوى دولة في العالم، ولكن بالنظر لما تشهده هذه الانتخابات من متغيرات جديدة ومثيرة للاهتمام، سواء بالنسبة لأجواء الحملة الانتخابية وسخونة المنافسة بين المرشحين المتنافسين في هذه الانتخابات، أو فيما يخص المرشحين الأوفر حظًّا للفوز، وهما: هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب، مرشح الحزب الجمهوري؛ إذ إن أبرز ما يميز هذه الانتخابات أنها تشهد لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية خوض امرأة للمنافسة على منصب الرئيس في أول انتخابات بعد نهاية ولاية أول رئيس أسود في تاريخ البلاد بينما ينافسها في المقابل رجل أعمال مثير للجدل، ليس فقط بسبب تصريحاته ومواقفه، التي توصف بالمتهورة والمتطرفة، ولكن لأنه قادم من مربع المال والأعمال وليس من داخل تركيبة النظام السياسي الأميركي التقليدي.
ولمعرفة تأثيرها وانعكاساتها على القضايا والأزمات العربية بدءًا من القضية المركزية، وهي القضية الفلسطينية، مرورًا بالأزمة السورية والعلاقة مع إيران، والحرب على ما يسمى بالإرهاب، والعلاقات الخليجية-الأميركية لاسيما في ضوء قانون مقاضاة الدول المتورطة في أعمال إرهابية داخل الولايات المتحدة "جاستا" وغير ذلك من القضايا والأزمات التي تشتعل في المنطقة. ماذا أعدَّ العرب للتعاطي مع النتائج المرتقبة للانتخابات الأميركية؟ وما الخيارات والأوراق التي يملكونها؟ وهل يملك العرب رؤية أو مبادرة للتعامل مع الرئيس الأميركي القادم أيًّا كان، أم أنهم سيبقون في حالة انتظار؟ وما الدور الذي يمكن أن تلعبه الجاليات العربية في الانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة بالنظر إلى ما يُعتبر تحولًا في مواقف الكثيرين من أبناء تلك الجاليات؟
وقد ناقش هذه الأسئلة الأساتذة د. محمد الشرقاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج ميسن، ود. مروان بشارة، الباحث والمحلِّل السياسي بشبكة الجزيرة، ود. شفيق ناظم الغبرا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت والأستاذ الزائر بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، وعبد الرحيم فقراء، مدير مكتب الجزيرة في واشنطن.
ظاهرة المرشح دونالد ترامب ومحاولة فهمها
في البداية نبَّه الدكتور محمد الشرقاوي إلى أنه ينبغي في البداية أن نستوعب ونفهم ونحلِّل التحولات التي ظهر فيها كل من المرشحيْن دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، وكيف أصبحا خيرة المرشحين، ولتفكيك هذه التحولات هنالك أربع وقفات أساسية:
- الأزمة المالية سنة 2008: أي تلك السنة التي طبعتها أزمة عالمية خانقة أدَّت في النهاية إلى صعود اليمين الأميركي. تميزت هذه السنة بكون ما يُقدَّر بتسعة ملايين أميركي أصبحوا بدون وظائفهم، في حين فقد خمسة ملايين شخص بيوتهم نتيجة أزمة الرهن العقاري التي تفجرت عندما تهافتت المصارف على منح قروض عالية المخاطر، واجتاحت قطاع العقارات في الولايات المتحدة وغيره. كما بلغت البطالة هذه السنة في أميركا نسبة 10%، وهذه العوامل جعلت الكثير من البيض الأميركيين يلتفُّون حول خطاب اليميني المتشدد، وقد تبين ذلك بجلاء في حملات تيد كروز ودونالد ترامب مثلًا.
- ظهور رئيس من الأقليات: في 2008، تم انتخاب الرئيس باراك أوباما، وهو أول مواطن أميركي أسود يصل إلى البيت الأبيض. وينبغي ألا ننسى كذلك أن في اسمه الثلاثي لفظ "حسين"، وهي ملامح زادت من قوة موجة اليمين الذي يريد بشكل أو بآخر الحفاظ على "بياض أميركا"، بل إن هذا اليمين خاض ويخوض معركة معادية للأقليات. وهذا المد أو جنوح الخطاب إلى أقصى اليمين دفعت به للظهور الأزمة الاقتصادية كما عزَّزه ظهور رئيس من الأقليات.
- فراغ سياسي في الوسط: تميز السياق العام الذي ظهرت فيه حملات الانتخابات الأميركية هذه السنة بغياب خطاب وسطي؛ حيث لا نجد اعتدالًا لا عند الديمقراطيين ولا منافسيهم الجمهوريين؛ فقد نحا تحت تأثير بيرني ساندرز ومن بعده هيلاري كلينتون من يسار الوسط إلى يسار اليسار، كما نحا تيد كروز ومن بعده دونالد ترامب نحو يمين اليمين؛ فهنالك فراغ وفجوة في الوسط.
- التعامل بذكاء مع الإعلام: مما يميز حملة دونالد ترامب تعامله الذكي مع وسائل الإعلام، بحيث طوَّر خطابًا "شعبويًّا" وجدت فيه شريحة واسعة من الأميركيين البيض أنفسهم، وبالتالي نجح ترامب من خلاله في جعل فئات واسعة من الأميركيين تتمسك به مرشحًا بغضِّ النظر عن تشدُّد خطابه ومنطقيته من عدمها. ولهذا السبب استطاع ترامب أن يهزم ستة عشر مرشحًا جمهوريًّا من بينهم حكام ولايات، مع أنه جاء من خارج المؤسسة السياسية في الولايات المتحدة؛ حيث كان من مجتمع رجال الأعمال، لكنه سوَّق إعلاميًّا خطابًا يمينيًّا متشددًا، ونال دعم جمهور عريض.
- زعيم أميركا البيضاء: الطابع العام لخطاب ترامب هو دغدغة مشاعر الشارع الأميركي الأبيض، وهو يقدِّم نفسه على أنه زعيم أميركا البيضاء مستغلًّا الخطاب القومي ومستعملًا أسلوبًا شعبويًا بلغة بسيطة ضمنت له حشدًا جماهيريًّا. ومن مظاهر الخطاب تركيزه على أن حصيلة حكم الحزب الديمقراطي كانت كلها ضياعًا بالنسبة لأميركا، فضلًا عن دعوة ترامب إلى عودة الماكينة الاقتصادية الأميركية من خلال الحصول على أكبر المكاسب وعقد الصفقات والمجد السياسي.
ولا شك أن ظاهرة ترامب، مهما كانت نتيجة الانتخابات الأميركية، تُلقي بظلالها على العلاقات العربية-الأميركية كما سنرى، فالقضايا العربية برزت بين المتنافسين هيلاري وترامب.
العلاقات مع العرب في الخارطة الانتخابية الأميركية
أوضح الدكتور شفيق ناظم الغبرا أن المتابع لتفاعل العلاقات العربية-الأميركية يلاحظ أن فيها التباسًا بنيويًّا ظل يلازمها خلال مسيرتها الطويلة؛ فأميركا في السابق كانت حليف شاه إيران الذي كان له مشروع في الشرق الأوسط قد لا يكون في مصلحة العرب، كما ظلَّت أميركا أهم وأبرز داعم لإسرائيل سواء في صراعها مع الفلسطينيين أو في غزوها للبنان، كما قامت أميركا بغزو العراق وتفكيك دولته وفتح بابه واسعًا أمام النفوذ الإيراني، كما قام الكونغرس الأميركي أخيرًا باستهداف السعودية وذلك بمصادقته على قانون "جاستا" المثير. وتأتي الانتخابات الأميركية في ظل هذا التاريخ السلبي في العلاقات الأميركية-العربية.
ولا شك أن الأزمة التي تعيشها الولايات المتحدة مع صعود الصين جعلت الموقف الأميركي من القضايا العربية فيه كثير من الارتباك، وليس أدل على ذلك من تراجع أميركا أمام التدخل الروسي في سوريا؛ وهذا ما يجعل العلاقات العربية-الأميركية وخاصة في سياق هذه الانتخابات تمر بمرحلة متوترة وضبابية.
والواقع أن حملة المرشحيْن هيلاري وترامب تركِّز كثيرًا على الحملة ضد الإرهاب وعلى أمن إسرائيل ولا نجد اهتمامًا ولا ذكرًا للقضايا العربية الأساسية، مثل: عسكرة الحكم في العالم العربي وغياب الديمقراطية والحرية وهي من الأسباب الأساسية في الأزمات العربية، والاهتمام بها أولوية. ليس هنالك حديث لدى مرشحي الرئاسة الأميركية عن الأمل في مستقبل العلاقات العربية-الأميركية وإنما عن الإرهاب ومكافحة الإرهاب. ولا شك أن مكافحة الإرهاب ضرورة لكنه لا يكافَح بالخنادق والجيوش والعسكرة وإنما بالتوافق السياسي وإحقاق الحقوق ووضع إصلاح شامل.
إن عدم اهتمام مرشحي الرئاسة الأميركية بالقضايا المهمة في علاقة أميركا بالعرب سيفتح الباب أمام الموجة الثانية من الثورات في العالم العربي والتي ستكون أعنف وأشد مما كانت في 2011؛ فانحياز أميركا غير المشروط لإسرائيل، وحساباتها السياسية التي ربما تراهن على دور متعاظم لإيران في الشرق الأوسط، والسكوت عن المشروع الروسي في المنطقة أمور ستؤثِّر كثيرًا على العلاقة العربية مع أميركا.
الانتخابات الأميركية: ماذا يمكن أن تفعله أميركا للعرب؟
نبَّه الدكتور مروان بشارة إلى أن هنالك ثلاثة أطر يمكن من خلالها فهم المنحى العام لمرشحي الرئاسة الأميركية تجاه العرب وتقييم السياسات الممكنة لكل من ترامب وكلينتون تجاه العرب في حالة فوز أي منهما:
- القوة الذكية: تحدثت المرشحة هيلاري كلينتون في أكثر من مناسبة عمَّا تسميه: القوة الذكية في التعامل الأميركي مع القضايا التي تهم الوايات المتحدة بما فيها القضايا العربية. وتعني القوة الذكية بُعدًا ثالثًا في العلاقات الدولية ليس بالضرورة قوة صلبة ولا قوة ناعمة، وهو يعني عند هيلاري العودة العملية لأميركا إلى الساحة الدولية وإلى قيادة العالم كما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن تبقى تلك العودة مشروطة بالواقعية السياسية (Realpolitik) التي تجعل مصلحة أميركا فوق كل اعتبار.
- القوة الغبية: وهو ما يمكن أن يوصف به تعامل دونالد ترامب مع الملفات والقضايا العالمية بما فيها القضايا العربية؛ فترامب مثلًا مستعد للتعاون مع بوتين بل إنه معجب بالرئيس الروسي، وهنالك سعْي -ربما في حالة فوز ترامب- لأن يتقاسم النفوذ مع روسيا، معتمدًا هو الآخر على منهج الواقعية السياسية. هذا فضلًا عن تصريحه بأنه سيعترف بالقدس الشرقية عاصمة لإسرائيل.
- خيبة الأمل العربية: وفي سياق هذه الانتخابات يمكن رصد خيبة أمل عربية لا على مستوى الأنظمة لكن وبشكل أكثر حضورًا وأكثر تعبيرًا على مستوى الشارع العربي الذي لا يرى في المرشحين سوى تكريس لسياسة أميركية منحازة في أغلب الأحيان لجميع المشاريع المعادية للعرب في المنطقة وعلى رأسها المشروعان الإسرائيلي والإيراني.
ويبقى ترامب متميزا عن هيلاري في كون خطابه يقوم على مبدأ الخوف من الأجانب وتهويل الوجود الأجنبي بأميركا وهذا النمط من الخطاب يخلق إشكالات أكثر مما يعطي من تطمينات؛ مما يعطينا انطباعًا بأن ترامب إنما يعيد إنتاج ظاهرة موسوليني في ثلاثينات القرن الماضي بإيطاليا. وإذا كانت هيلاري في حالة فوزها ستكون بشكل أو بآخر امتدادًا لسياسة أوباما فإن ترامب في حالة فوزه ربما سيكون أكثر قربًا وتنسيقًا مع روسيا خصوصًا فيما يتعلق بالملفات العربية التي تهم روسيا وعلى رأسها الملف السوري. كما سيكون أقرب إلى نظام السيسي؛ حيث عبَّر ترامب في أكثر من مناسبة عن إعجابه بالرئيسن الروسي فلاديمير بوتين والمصري عبد الفتاح السيسي. في حين من المتوقع أن تقف كلينتون في وجه روسيا فيما يتعلق بالملف السوري دون أن تتحرك في اتجاه تسليح المعارضة السورية. كما قد تكون هيلاري أكثر صرامة مع إيران حول ضرورة تنفيذ بنود الاتفاق بشأن برنامج إيران النووي. وفي موضوع العلاقات مع الخليج قد يكون من أولويات هيلاري الاهتمام بأمن الخليج، في الوقت الذي يدعو ترامب إلى أن يتم تأمين الخليج بتمويل دول الخليج نفسها لهذا التأمين.
العرب والانتخابات الأميركية: ما هو كائن وما ينبغي أن يكون
وفي حديثه، أشار عبد الرحيم فقرا إلى أن العرب لا يزالون ينظرون إلى السياسة الأميركية انطلاقًا من تصور ما ينبغي أن تكون عليه علاقاتهم بواشنطن دون أن يهتموا بما هو كائن الآن، وطبيعة السياسة الأميركية نفسها. نحن نسمع الكثير عن مواقف ترامب السياسية لكن لا نعرف طبيعة تلك المواقف إذا وصل ترامب للسلطة. وعلى العرب أن يتعاملوا مع السياسة كما هي؛ فهيلاري كلينتون أو دونالد ترامب يجعلان على رأس اهتماماتهما قضية تنظيم الدولة ومحاربته، والتعامل الأميركي الراهن في عهد أوباما مع الأزمة السورية ظل في حدود اللامبالاة ولم نسمع بأية مبادرة أميركية تجاه سوريا، وقد تستمر هذه السياسة الأميركية التي لا تنظر إلى البُعد الإنساني في الأزمة السورية. وتعامل العرب مع السياسة الأميركية ينبغي أن يضع في الحسبان أن أميركا تمارس سياستها وستمارسها وفق مبدأ الواقعية السياسية. والإدارة الأميركية القادمة سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية لن تغيِّر كثيرًا في استراتيجية أميركا في الشرق الأوسط، فهمها الأكبر هو مكافحة الإرهاب خاصة في امتداداته الداخلية وتحصين أميركا, ولا نعرف حتى الآن كيف سيكون موقف هيلاري ولا ترامب في حالة فوز أي منهما، فذلك الموقف تحدده ارتباطات أميركا ومصالحها.
ويبقى للجاليات العربية والمسلمة في أميركا دور مهم في السياسة الأميركية تجاه العالمين العربي والإسلامي حيث نلاحظ أن هيلاري خطبت ودهم خلال حملتها، ومن المحتمل أن تكون أغلبية أصوات هذه الجاليات مع هيلاري. والسواد الأعظم من العرب والمسلمين يتخوفون من ترامب بسبب مواقفه من الهجرة والمهاجرين، كما أن بعض هذه الجالية يتخوف من هيلاري وخصوصًا الفلسطينيين الذين لا تعجبهم مواقفها من الصراع العربي-الإسرائيلي.
غير أنه ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن هذه الجاليات محدودة العدد في مختلف الولايات، فهل هي عشرة ملايين كما تقول بعض التقديرات أم أنها مليونان فقط كما تقول تقديرات أخرى أم هي بين هذا وذاك؟ والواقع أن الجاليات العربية لها نقاط قوة ولها العديد من نقاط الضعف؛ ذلك أنها جاليات متعددة الاهتمامات والمشارب، بعضها له اهتمامات قُطرية منصبَّة على بلده الأصلي وتتبع مصالح ذلك البلد وتعكس خلافاته، وقدرة هذه الجاليات على التأثير في صنع القرار في الوايات المتحدة ما زالت محدودة. وقد اكتوت هذه الجاليات بتداعيات أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وصار لزامًا عليها أن تعرف وتتعلم كيف تتعامل مع النظام السياسي الأميركي؛ هل باستطاعتها جمع الأموال للتأثير في الانتخابات، علمًا بأنه تثار حولها شبهات كثيرة وحول أموالها، لذلك فإن العديد من الساسة الأميركيين يبتعدون عن تلك التبرعات التي تأتي عن طريق الجاليات المسلمة والعربي؟ ولا شك أن الجاليات العربية والمسلمة في أميركا إذا تكتلت فهي قادرة على التأثير في بعض الولايات ويجب عدم التقليل منها ولا تضخيمها.
خاتمة
شُفعت الندوة بنقاش مستفيض تم من خلاله تعميق بعض الأفكار الواردة في المداخلات الرئيسية، وأكَّدت الندوة وما انجرَّ عنها من نقاش أن الانتخابات الأميركية تبقى حدثًا عالميًّا بارزًا ومؤثرًا في كثير من القضايا والاتجاهات والعرب مطالبون أكثر من أي وقت مضى بفهم السياسة الأميركية وطبيعة صنع القرار الأميركي.
_______________________________
سيدي أحمد ولد الأمير - باحث بمركز الجزيرة للدراسات