تقرير مفصل عن ندوة: التحولات في الحركات الإسلامية

f8c71dc8d99445149e52bd48b12b0228_18.jpg
الجلسة الأولى لندوة: التحولات في الحركات الإسلامية (الجزيرة)

مقدمة 

شكَّلت حركة التغيير، التي عرفتها دول المجال العربي في أوائل العام 2011، مُنْعَطَفًا كاشفًا لتحولات ومتغيرات كثيرة في المشهد السياسي والنظام الإقليمي العربيين؛ حيث برز دور فاعل للحركات والأحزاب الإسلامية في عملية الانتقال السياسي، والتي كانت أكثر تنظيمًا وحضورًا وثِقلًا سياسيًّا، وهو ما ظهر في الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حركة النهضة بتونس (23 أكتوبر/تشرين الأول 2011)، وحزب العدالة والتنمية في المغرب (25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011)، ثم حزب الحرية والعدالة بمصر (28 نوفمبر/تشرين الثاني 2011). كما كشفت موازينُ الصراعِ المحتدِم في سوريا وليبيا واليمن والعراق مَوْقِعًا مُتَقَدِّمًا لهذه الحركات والأحزاب في مواجهة الخيار العسكري بأبعاده الإقليمية والدولية والحركة المضادة للثورة التي انقلبت على الآلية الديمقراطية. واليوم، بعد مرور ستة أعوام على الربيع العربي، تواجه الكيانات والقوى "السياسية الإسلامية" تحديات مختلفة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا إثر تَمَكُّن الدولة العميقة وشبكة المصالح الإقليمية والدولية من تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي والانقلاب عليها والعودة إلى ممارسة الحكم بصورة أكثر تَوَحُّشًا في بعض الدول العربية؛ ما أَدَّى إلى تحولات عميقة في صلب هذه الكيانات والقوى؛ طالت مستويات متعددة فكرية وتنظيمية وسياسية. 

وهنا، تَبْرُز إشكاليات متعددة ترتبط بمسؤولية الحركات والأحزاب الإسلامية عن "النجاحات" التي أحرزتها الحركة المضادة للثورة في دول الربيع العربي، والتعثر في عملية التحول الديمقراطي، ومدى قدرة هذه الحركات والقوى على الحفاظ على المكاسب التي حقَّقتها في غمار حركة التغيير، لاسيما أن الدول التي حدث فيها انقلاب على الآلية الديمقراطية وشهدت عودة رموز "الحركة المضادة للثورة" إلى الحكم أخفقت في تقديم بدائل ناجحة؛ قادرة على تحقيق إنجازات سياسية واجتماعية واقتصادية ملموسة. وقد عَكَسَت هذه الإشكاليات اختلاف رؤى الحركات الإسلامية في التعامل مع مرحلة الانتقال السياسي ومحيطها الإقليمي والدولي والفاعلين فيها، وكشفت أيضًا اختلاف السياقات السياسية والتاريخية الـمُؤَثِّرَة في نشأتها وتطورها والتحولات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي شهدها "التيار الإسلامي" بمختلف مكوناته، وتباين توجُّهاته السياسية بشأن قضايا، مثل: الفصل الوظيفي بين المجال السياسي والمجال الدعوي، والمرجعية الوطنية الجامعة، والدولة الوطنية الحديثة ومستقبلها، والجدل حول مسألة الخلافة...وهي القضايا التي تجعل النقاش يثير أيضًا أسئلة الدروس المستفادة من تجربة حُكم الإسلاميين، والآفاق المحتملة لمستقبل هذه القوى. 

الإسلاميون وتنوع السياقات واختلاف الخيارات  

شكَّلت القضايا التي يُثِيرُها هذا العنوان محور أولى جلسات أعمال الندوة في يومها الأول، باعتبارها تُحَدِّد مسارات واختيارات الحركات الإسلامية وتُؤَثِّر فيها، وتتعلق هذه القضايا بهوية القوى الإسلامية ومجالات الخاص والمشترك في رؤى وبرامج الحركات التي تُنْسَب إلى "التيار الإسلامي"؛ إذ غالبًا ما تُؤَطَّر هذه الحركات تحت مِظَلَّة واحدة، لكن السياقات المحلية لكل منها، السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، تتباين بهذا القدر أو ذاك، ويتجلَّى ذلك في اختلاف المقاربات والأهداف، وفي تعامل كلٍّ منها مع واقعه، وهو ما أوضحه رئيس حركة الإصلاح الآن السودانية، غازي صلاح الدين، الذي أبرز أربعة سياقات مختلفة لِتَشَكُّل الحركات الإسلامية:

  • أولًا: القهر السياسي: وهو واحد من أهم السياقات، الذي شكَّل كثيرًا من الحركات الإسلامية، ونقيضه سياق التعايش حين تتحوَّل الحركة الإسلامية إلى شريك متعايش مع النظام.
  • ثانيًا: التقسيم الطائفي الذي تطغى فيه اتجاهات القطيعة والصراع على أساس طائفي أو مذهبي.
  • ثالثًا: المذهب الفقهي السائد في بلد ما: وهو أحد أَهَمِّ عوامل تشكيل الطابع والمزاج الفكري العام لأي بلد، بما في ذلك التصور السائد عن العلاقة مع الحاكم أو المؤسسة الحاكمة. ويمكن ملاحظة أثر المذهب بمقارنة الطابع الفكري في منطقة نفوذ الفقه المالكي ومنطقة نفوذ الفقه الحنبلي.
  • رابعًا: سياق تولي السلطة: أيْ ما تفعله الجماعة بالسُّلطة حين تتولَّاها وما تفعله السلطة بالجماعة أيضًا. وهنا، تبدو النتائج متباينة في أربع تجارب إسلامية: السودان ومصر وتونس وتركيا. 

ويلاحظ الدكتور غازي، الذي كان جزءًا من الحكم لفترة حيث تَبَوَّأَ منصب الأمين العام للمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في السودان) من 1996 إلى 1998 قبل أن يخرج منه في نهاية 2013 لِيُؤَسِّس حركة الإصلاح الآن، أن سياق القمع السياسي والتقسيم الطائفي هما الأسوأ للحركات الإسلامية الإحيائية؛ لأنهما يَشْغَلاَنِها بنفسها، ويَسْتَنْفِدَا طاقتها ومواردها في الأنشطة الوقائية على حساب الأنشطة البنائية. 

غازي صلاح الدين (الجزيرة)

بينما يُمَيِّز رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الموريتاني، محمد جميل ولد منصور، بين لحظتين مفصليتين في مسار الحركات الإسلامية بالمجال العربي نشأةً وتطورًا، ويرى أن ثمة عاملين أسهما في الحديث عن حركة إسلامية واحدة -خلال النشأة التي تُمَثِّل اللحظة الأولى-، وهما: المرجعية الإسلامية الجامعة لفكرة الحركة الإسلامية، باعتبارها جاءت لإعادة المفهوم الصحيح فيما تَتَصَوَّرُه عن الرؤية والمرجعية الإسلامية التي لا تختلف باختلاف البلدان ولا باختلاف السياقات، وثانيًا: أن مرحلة التأسيس لجماعة الإخوان المسلمين كانت ردَّ فعل على سقوط شكل من أشكال الوحدة السياسية للأمة (الخلافة العثمانية)، وهكذا كان يُنْظَر للحركات الإسلامية في عدد من البلدان الإسلامية، خاصة في العالم العربي، باعتبارها فروعًا لكيان جامع أو لحركة تُمَثِّل الأصل وهي جماعة الإخوان المسلمين. 

لكن التطوُّر والسياق الزمني الذي وصلت إليه الحركات الإسلامية، ويُمَثِّل ذلك اللحظة الثانية، "يجعلنا أمام حركات وليس حركة واحدة، أي: حالات وطنية محلية تتأثر بواقعها المخصوص أكثر من الحالة العامة التي تجمع هذه الحركات، كما أن الاشتراك في الفكرة والمرجعية لا يُبَرِّر بالضرورة ولا يستلزم الاشتراك في التنظيم والترابط بالمعنى الإداري". ويسوق ولد منصور أسبابًا مختلفة تحكَّمت في هذا السياق والتطور؛ إذ إن طبيعة الدولة الوطنية في المجال العربي تأبى ذلك، كما أن طبيعة التَّوَجُّه السياسي الذي أصبح مُهَيْمِنًا على أداء الكثير من الحركات الإسلامية يُغَذِّي الاهتمام المحلي ويُعْلِي منه. أما العناوين التي وقع فيها الانتقال التاريخي للحركة الإسلامية من حال إلى حال وأَثَّر في رؤيتها للعلاقة بين الخاص والعام أو المحلي والعالمي، وجعلها حركات وليس حركة واحدة، فإنها ترتبط في معظمها بالاجتماع السياسي والممارسة السياسية. 

ويرى رئيس حزب "تواصل"، بناء على تجربته وممارسته للسلطة في مستواها التشريعي والخدماتي، حيث كان نائبًا سابقًا في البرلمان الموريتاني كما انتُخب في العام 2001 عمدة لأكبر بلديات العاصمة نواكشوط، أن الحركة الإسلامية انتقلت من التعميم إلى التفصيل؛ إذ إن الشعارات والكليات (التعميم) بطبيعتها تجمع ولا تُفَرِّق، لكن في التفاصيل يُسْأَل عن البرامج والمواقف، وهو ما أحدث التمايز والاختلاف بين الحركات الإسلامية. 

ولما جاء الربيع العربي ألقى هذا التمايز، كما يوضِّح ولد منصور، بظلاله على طريقة تعامل الحركات الإسلامية مع مسارات الانتقال السياسي؛ حيث اختار بعضها التَّبَنِّي والالتحاق والإسهام في إنجاح الثورات في مستويات مختلفة زمنيًّا (تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا)، بينما اختارت حركات أخرى التقليد والقياس رغم وجود الفوارق (موريتانيا)، وفضَّلت مدرسة أخرى وعي الخصوصية والاستفادة من أجواء الربيع العربي (الحالة المغربية). ويرصد رئيس حزب تواصل بروز مشكلتين كبيرتين في تعامل الحركات الإسلامية مع الربيع العربي؛ حيث فشل التيار الإسلامي في صناعة كتلة مُنَوَّعَة شاملة تقتضي المرحلة الانتقالية وجودها؛ فمؤمرات الأعداء وكيد الخصوم الذين رفضوا ذلك حال دون خلق هذه الكتلة وإِنْ كان بعض هذه الحركات قد استدرك الأمر ونجح نسبيًّا في ذلك. أما الإشكال الثاني، فإن مقتضيات العمل الثوري لا تنسجم مع كوابح منهج الإصلاح الذي يتوافق مع طبيعة ثقافة ومنهج تفكير "أهل السُّنَّة". وأمام هذا الواقع الذي انتهى بالحركات الإسلامية اليوم إلى تنوُّع السياقات واختلاف الخيارات، فإنها تحتاج -في نظر ولد منصور- إلى مراجعات ينبغي أن تطول جوانب فكرية وسياسية وتنظيمية:

  • أولًا: تحتاج الحركات الإسلامية إلى التجديد بالمعنى الـمُؤَسَّسِي.
  • ثانيًا: الإطار الوطني أو التأسيس لحالات وطنية في إطار فكري عام.
  • ثالثًا: التمييز بين الوظيفة السياسية والدعوية، أو الحقل السياسي والحقل الديني في الممارسة، يحتاج نقاشًا وتنظيرًا؛ لأن هذه الأحزاب تتحرك في مجالات السياسة كأحزاب لها مرجعية إسلامية تمارس الشأن السياسي، والسياسة تتميز بتقلُّب أحوالها. 

وبموازاة المحددات الأربعة التي ساقها غازي صلاح الدين، واللحظتين المفصليتين اللتين رصدهما محمد جميل ولد منصور في نشأة وتطور الحركات الإسلامية، قَدَّم عضو المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، نزار أحمد كعوان مقاربة تُلامس مُحَدِّدَات ومتغيرات متنوعة تتميز بطابعها الشمولي بخصوص سياقات نشأة الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي أيضًا، ويأتي في مقدمتها (أولًا): السياق المرجعي والفكري الذي يعني مجموعة من الأفكار والقيم الأخلاقية الموجِّهة لصُنَّاع الفكر السياسي وتُشَكِّل المظلَّة الثقافية وتحدِّد معايير المعقول وغير المعقول والمطلوب وغير المطلوب، وأبرز مثال لهذا السياق هو الحركات الراديكالية الثورية في أقصى اليمين. ثانيًا: السياق التاريخي: إذ إن هناك موروثًا تاريخيًّا في كل دولة تنشأ فيها هذه الحركة الإسلامية أو تلك؛ فتجد نفسها مضطرة اضطرارًا للاشتباك مع ذلك الموروث ورموزه. ثالثًا: النسق الاجتماعي والاقتصادي؛ حيث وفَّرت المناطق التي تواجه أزمات اجتماعية واقتصادية فرصًا لظهور الحركات الإسلامية وبلورة أجندتها السياسية لمعالجة احتياجات المواطنين (تجربة نجم الدين أربكان ورجب طيب أردوغان). 

أما النسق الرابع، فهو النسق الطائفي، ويضرب نزار نموذجًا لذلك بالتجربة الإيرانية التي تقوم على نظرية ولاية الفقيه الشيعية، ويشترك في هذا النسق أيضًا حزب الله اللبناني وحزب الدعوة الإسلامية في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. ثم هناك النسق التنظيمي الذي تتعدد في إطاره تجارب الحركات الإسلامية بين نموذج الاندماج، والنموذج المختلط (جبهة العمل الإسلامي)، ونموذج الفصل (تجربة حزب العدالة والتنمية بالمغرب، وحركة النهضة التونسية...). سادسًا: النسق الديمغرافي: حيث تُؤثِّر التركيبة الديمغرافية في طبيعة المقاربة السياسية التي تطرحها الحركات الإسلامية بسبب التنوع الإثني أو الفئوي ومستوى القيادات. وأخيرًا، ثمة النسق أو السياق الإقليمي والدولي الذي يُؤَثِّر في الحركات الإسلامية ومستقبلها في ظل ملامح تشكُّل نظام إقليمي جديد وبروز مشروعات إقليمية، مثل المشروع الإيراني ومشروع الأنظمة العربية القديمة ثم المشروع الديمقراطي الذي تنحاز إليه الحركات الإسلامية. 

وتتقاطع الفرضية التي ينطلق منها أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط، عبد العلي حامي الدين، في مقاربته لنشأة الحركات الإسلامية، مع بعض مضامين الأطروحة التي قَدَّمَها نزار كعوان (عضو المجلس الأعلى للدولة في ليبيا)؛ إذ يرى أن السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي كان له دور أساسي في ظهور الحركات الإسلامية "بالشكل الذي هي عليه الآن، وأسهمت جملة من المعطيات الموضوعية في بناء اختياراتها الفكرية والسياسية، وتطوير منهجها في العمل العام"، معتبرًا إياها حركات اجتماعية بالدرجة الأولى، وتبقى كسائر التجمعات الإنسانية محكومة بقواعد الاجتماع البشري وبقوانين التطور وإِنْ كان الدِّين لعب دورًا مهمًّا في تشكيل تصوراتها ومواقفها حول قضايا الدولة والمجتمع. 

وفي تشريحه لتجربة حزب العدالة والتنمية المغربي الذي تم الاعتراف به رسميًّا عام 1996، حاول الدكتور عبد العلي حامي الدين التَّحُقَّقَ من فرضيته واخْتِبَارها؛ فأشار إلى التعايش الموجود تاريخيًّا واجتماعيًّا بين التعبيرات الثقافية والاجتماعية والقَبَلية والدينية في المغرب، وهو ما تؤكده الأصول التاريخية لتركيبة المجتمع المغربي، كما حصل نوع من التعايش بين النظام "التقليدي" والنظام الحديث؛ حيث ظل المغرب من الدول التي لم تحدث فيها قطيعة مع الماضي؛ إذ لا يزال يتمازج فيها الماضي بالحاضر.  

وفي السياق السياسي، يرى القيادي بحزب العدالة والتنمية أن طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي المغربي جعلته يعرف منذ الاستقلال انفتاحًا اجتماعيًّا وسياسيًّا نسبيًّا وتعددية سياسية نسبية أيضًا؛ لذلك لم يعتمد سياسة عدائية تجاه الحركة الإسلامية، ولم يختر أسلوب تجفيف منابع التَّدَيُّن لمحاصرتها، وهو ما انعكس إيجابًا على نمط التَّدَيُّن السائد بشكل عام وفي أوساط الحركة الإسلامية والذي اتسم بالاعتدال والوسطية وبالمرونة في الجانب السياسي. هذه السياقات لم يكن ممكنًا -يؤكد حامي الدين- أن يَقْفِز عليها حزب العدالة والتنمية، فهو امتداد لفكرة المشاركة السياسية التي تم تطويرها داخل حركة التوحيد والإصلاح التي وُلِدت رسميًّا عام 1996 على إثر وحدة اندماجية بين تنظيمات سابقة وبعد مسار مراجعات عديدة على الصعيد الفكري والسياسي والتنظيمي كان أبرزها مطلب القطيعة مع إقامة "الدولة الإسلامية"، وتَثْمِين المرتكزات التي تستند عليها شرعية النظام السياسي القائم وتركيز الوعي بأهمية كون الدولة في المغرب ذات جذور تاريخية، والوعي بأهمية المحافظة على الشرعية الدينية التي تستند عليها. وفي قلب هذه النقاشات تمت بلورة فكرة التخصيص وتمييز العمل السياسي عن باقي مناشط الحركة، بين مستلزمات العمل الدعوي والعمل السياسي "فحتى وإِنْ كانت منطلقات الممارسة السياسية تستند إلى المرجعية الإسلامية فإن المواضيع التي يشتغل عليها السياسي تبقى مواضيع محكومة بطبيعة المجال الذي تنتمي إليه، وهو المجال السياسي المحكوم بتنافسية البرامج والمشاريع والتي هي بطبيعتها اجتهادية وتتميز بالنسبية". 

عبد العلي حامي الدين (الجزيرة)

وقد فَعَلَت هذه السياقات فِعْلَها في الموقف الذي اتخذه حزب العدالة والتنمية إزاء حركة التغيير التي عرفها المغرب في 20 فبراير/شباط 2011؛ إذ "لعب دورًا محوريًّا في إنجاح التجربة المغربية، يقول حامي الدين، وتفاعل مع الربيع العربي بواسطة عرض سياسي تَمَثَّل في شعار الإصلاح في ظل الاستقرار". وبانتقال الحزب إلى ممارسة السلطة فإن هناك سياقًا آخر -وهو السياق الجيوسياسي- "يُلقي على العدالة والتنمية والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية مسؤولية الانتقال من وضع الدفاع المحكوم بالهواجس الهوياتية إلى وضع الفاعل في الحوار من أجل تطوير منظومة حقوقية كونية حقيقية تمثِّل رسالة رحمة للعالمين وتؤمن بالتعارف بين الشعوب والثقافات المتنوعة". 

وقد أثارت هذه القضايا نقاشًا واسعًا وتفاعلًا كبيرًا بين المشاركين والحضور في الندوة؛ حيث أبرز أحد المتدخلين أن هناك عاملًا مشتركًا بين جميع الحركات الإسلامية ويتمثل في طغيان العامل الاجتماعي على اهتمامات الإسلاميين؛ باعتباره الموجِّه الرئيسي للسلوك السياسي لهذه القوى؛ التي تُعْتَبر حركات إصلاحية وليست حركات ثورية؛ لأنها تريد المحافظة على المكتسبات الاجتماعية، وهو ما يشكِّل عائقًا أمام تحوُّلها باتجاه الحركات الثورية. 

واستأثرت أيضًا مسألة الطابع القومي أو الوطني للحركات الإسلامية باهتمام المشاركين؛ حيث أبرزت بعض المداخلات سياقات هذه المسألة التي ارتبطت باختيارات بعض القوى الإسلامية للاندماج في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين؛ فأصبحت المسألة القومية تمثِّل إشكالية بالنسبة إليها، وهو ما دفعها إلى التبرُّؤ من جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تُقَدِّم نفسها تنظيمًا قوميًّا يُعنى بالشأن المصري. واعتبر رأي آخر أن وجود تنظيم مركزي تدور في فَلَكه تنظيمات إسلامية أخرى يُشكِّل فكرة سيِّئَة، ويخشى أن يتم الانتقال إلى حالة أسوأ تتمثل في الاحتفاء بالانعزال والاندماج في الحالة القُطرية، وهو ما يخالف الواقع الدولي وحتى المصالح، بل هناك بعض القوى الإسلامية التي أصبحت تتحلَّل من التنسيق الفكري بينها، وهو مطلوب لتحافظ على فكرتها الأصلية لصالح الإنسان.

ويلاحظ أحد المتحدثين أن سياق التطور يدفع الحركات الإسلامية باتجاه ما يُسمِّيه عالم الاجتماع ماكس فيبر  بـ"أخلاق المسؤولية" التي تجعل رجل السياسة ينظر في مآلات الأفعال حتى وإِنْ كانت ضد قناعاته الفكرية، في الوقت الذي كانت فيه هذه القوى تتصرَّف -قبل تحمُّلها المسؤولية السياسية- وفقًا لـ"أخلاق القناعة"؛ حيث لا تكترث بنتائج طروحاتها وتداعياتها. كما أن هذا التطور دفع القوى الإسلامية للتخلي عن الحلول الجذرية؛ باعتبارها ليست الطرف الوحيد في المشهد السياسي. ففي مشهد التعددية والاختلاف هناك ثمن ينبغي أن يُدفع من القناعة الخاصة حتى يتمكَّن الإسلاميون من الاشتغال تحت سقف وطني واحد، وهو التوافقات الوطنية المتحركة بطبيعتها.  

التحولات الفكرية والتنظيمية في الساحة الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي 

اهتمت الجلسة الثانية في الندوة باستقصاء فرضية تأثيرات الربيع العربي في الحركات الإسلامية فكريًّا وسياسيًّا وتنظيميًّا؛ حيث فرضت التحولات التي نجمت عن حركة الثورة العربية إعادة النظر في تصورات وسلوك وبِنَى مختلف الفاعلين في المشهد السياسي العربي، وفي مقدمتهم القوى الإسلامية. وظهرت، لاسيما في أوساط الحركات الإسلامية، كما يشير رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا، الشيخ محمد الحسن الددو، رؤى واجتهادات جديدة وإِنْ كان بعضها سابقًا على الربيع العربي، لكن حركة التغيير أكدته وزادت فيه، ومنها ما هو نِتَاج هذا الربيع؛ حيث أدركت الحركات الإسلامية أن هناك فرصًا للتعاون بين مختلف المكونات الفكرية في إقامة مشروع واحد، وهو مشروع الثورة، كما أدركت ضرورة الشراكة والحفاظ على السلم الاجتماعي مع مختلف مكونات الشعب الذي أصبح له دور بارز في هذه الثورات. ويلاحظ الددو أن الدولة الحديثة ومقوماتها ومصداقيتها واقتصادها أصبحت حاضرة في فكر الحركات الإسلامية منذ الربيع العربي وتُمَثِّل إحدى أولوياتها؛ وهي التي كانت في أغلبها بعيدة جدًّا عن الحكم مشاركةً وأصالةً.  

أما أبرز ملامح التحولات التنظيمية التي عرفتها الحركات الإسلامية -كما رصدها الشيخ الددو- فتتجسَّد في الفصل بين العمل السياسي والعمل الدعوي والتربوي في أدائها؛ إذ إن "قيادة السياسة تختلف عن قيادة العمل الدعوي، ومن العسير إيجاد قيادة مُؤَهَّلَة تقود العمل السياسي والعمل الدعوي في نفس الوقت؛ فاحتيج إلى أن يكون هناك قيادتان، قيادة تُوَجِّه في العمل السياسي مختصة في هذا الجانب، وقيادة تُوَجِّه في العمل الدعوي والتربوي مختصة في هذا الجانب". وهنا تبرز فكرة التخصص الوظيفي بين الحقل السياسي والدعوي، لكن ذلك لا يعني التمايز المطلق بينهما؛ إذ "يبقى التنسيق والتشاور والأطر الجامعة هي النَّاظم والضامن لعدم الانحراف في أي اتجاه من الاتجاهين...فالسياسي، حسب الشيخ الددو، يُقَوِّم الدعوي والدعوي يُقَوِّم السياسي والتعاون بينهما ضرورة". كما يرصد الشيخ ملمحًا آخر من التحولات التنظيمية والذي أكده الربيع وزاده قوة، وهو التحول إلى العلنية والأطر الحزبية والجمعيات؛ الأمر الذي يعتبره المستقبل في عمل الحركات الإسلامية، ملاحظًا أيضًا التغيير الذي طرأ على معيار اختيار القادة الذين كانوا من الأخفياء غير المشهورين إلى الرافعات الانتخابية التي لها شهرتها الشعبية وتأثيرها الاجتماعي، كما تأصَّلت الشفافية والتقويم والرقابة في عمل الحركات الإسلامية. 

ويرى أمين عام الجماعة الإسلامية في لبنان، عزام الأيوبي، أن التحولات والتغيرات في الساحة الإسلامية لم تستقر بعد؛ لأن "المنطقة العربية لا تزال تعيش في الذروة من حالة السيولة والتدافع"، لكن ذلك لم يمنعه من الحديث عن أَهَمِّ مظهر أو ملمح للتحول الفكري داخل هذه الحركات وهو رؤيتها للدولة الحديثة في سياق ما أظهرته الثورات في طريقها للوصول إلى بناء الدولة المنشودة، وهنا "تصرَّف الإسلاميون انطلاقًا من حرصهم على التمسك بالشعارات التي طالما رفعوها وقدَّموا أنفسهم لجمهورهم من خلالها، وربما باتوا أسرى لتلك الشعارات، من أمثال: الإسلام هو الحل". 

ويأخذ الأيوبي على هذا الفهم أن الدولة المنشودة لدى الإسلاميين ليست باسمها، فَكَمْ من دولة سُمِّيت بالإسلامية ونَصَّ دستورُها على مرجعية الشريعة الإسلامية، وهي لا تمتُّ إلى القيم الإسلامية بصلة! وفي المقابل "كَمْ من دولة نُصَنِّفُها بالكفر وهي أقرب ما تكون إلى قيمنا الإسلامية التي نتطلع إلى تحقيقها!...أضف إلى ذلك أن هناك إرثًا ثقيلًا من التشويه لصورة الدولة الإسلامية، صنعه أعداء الإسلام وخدمته بجهلها فئات من المسلمين أنفسهم"، ولتجاوز ذلك يدعو الأيوبي الإسلاميين إلى تحقيق أوسع حالة من الاستقرار والبُعد عن الاستنزاف والقبول بالقيم المشتركة مع الآخرين في عملية بناء الدولة. وفي مقابل هذا الاتجاه، يلاحظ أمين عام الجماعة الإسلامية أن هناك فريقًا آخر اعتبر سبيل الوصول إلى الدولة المنشودة لا يمكن أن يكون عبر الطرق السلمية، مُسْتَنِدًا إلى تجارب الانقلاب على نتائج الانتخابات في أكثر من بلد وفي أكثر من زمن، ويرى أن مفهوم الدولة لا يمكن أن يتحقق إلا بالإخضاع واعتماد مبدأ القوة. 

أما على المستوى التنظيمي، فقد أسهمت ثورات الربيع العربي بالدفع نحو إعادة حسابات الحركة الإسلامية لبنيتها التنظيمية، التي لطالما اعتمدت على النخبوية في انتقاء أعضائها، وكشفت مسارات الانتقال السياسي، يوضح الأيوبي، أن هذه النخب ليست كافية لإنجاز عملية التغيير للأنظمة، ومن ثم لبناء الدولة الحديثة، ثم إن هناك شريحة كبيرة تُمَثِّل أضعاف الأعداد المنخرطة داخل التنظيم، ممن يحملون الفكر الإسلامي وفق رؤية الحركة، لكنهم لم يكونوا مستعدين للدخول إلى قفص التنظيم، أو تحمل تبعات الانتساب إليه، أو ممن لا يحملون بالضرورة كل أفكار التنظيم لكنهم يلتقون معه في المشروع العام لبناء الدولة. هؤلاء جميعًا لم يعد ممكنًا أن تعتبرهم الحركة الإسلامية مجرد مؤيدين، دون أن يكونوا شركاء في صناعة القرار وصياغة التوجهات التي تتبناها الحركة في كل ملف من الملفات. هذا الأمر دفع ببعض الحركات إلى تبني صيغ الأحزاب السياسية الموازية للجماعة، والتي تعتمد شروطًا أسهل من شروط الجماعة في العضوية، من أجل استيعاب تلك الشرائح. 

سامي ابراهم (الجزيرة)

وينطلق الباحث بمركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية بتونس، سامي ابراهم، في تشخيص التحولات الفكرية والتنظيمية للحركات الإسلامية من أطروحة المراحل التي تحدد تَشَكُّل التنظيمات والقوى الاجتماعية الـمُتَحَفِّزَة للتغيير، ويلاحظ أن ثمة تداخلًا بين المراحل الأربعة (التأسيس، النمو، النضج، الاقتدار على التغيير) الـمُفَسِّرَة لِتَشَكُّل التنظيمات والقوى الاجتماعية الـمُتَحَفِّزَة للتغيير، ما يدل على عدم وجود قطيعة معرفية ونفسية بين وعي التأسيس ووعي النمو ووعي النضج ووعي الاقتدار على التغيير، والنموذج الذي يُعَبِّر عن هذا التداخل هو أحداث منصة "رابعة" بمصر؛ حيث كان الخطاب يعكس سَرْدِيَّة المحنة والمظلومية، فضلًا عن التحليل التبسيطي للأزمة.  

وهنا، تواجه الحركات الإسلامية ثلاثة تحديات، في نظر الباحث ابراهم، أولها تنظيمي ويتعلق بإدارة الشأن التنظيمي الداخلي للحركة الإسلامية وحقيقة تحولها إلى أحزاب ديمقراطية مُمَأْسَسَة مَأْسَسَةً ديمقراطية مدنيَّة تقطع مع تنظيم الجماعة الدينية التي يربط أعضاءَها عقدُ بيعة قائمة على الشورى الـمُعْلِمَة غير الـمُلْزِمَة. والتحدي الثاني معرفي؛ إذ لا تزال الحركات الإسلامية تواجه فَقْرَ الأدبيات التي يمكن أن تُشكِّل خلفية نظرية لمشروع سياسي وبرنامج للحكم، كما أن ثمة ضعفًا في المسألة الاجتماعية خاصة قضية العدالة الاجتماعية ونموذج التنمية؛ حيث يختزل "الاقتصاد الإسلامي" في المصرفية والزكاة والأوقاف. أما التحدي الثالث فهو سياسي، ويرتبط بقضية البُعد الوطني؛ إذ لا يزال هناك إحساس بالإثم من الانتساب إلى المرجعية الوطنية، مثل حزب التحرير وبعض الجماعات السلفية التي تعتبر الوطنية فكرة وثنية صنمية. 

وفي سياق التحول التنظيمي، يرى ابراهم أن جُلَّ "الحركات الإسلامية الديمقراطية" ارتأت ضربًا من الفصل بين السياسي والدعوي، وقد كان ذلك إجراء شكليًّا في بعض التجارب، بينما اختارت تجارب (حركة النهضة التونسية) تصورًا جديدًا أطلقت عليه التخصص الوظيفي، أي: فك الارتباط بين مهام الحزب السياسي والمهام الدعوية والخيرية...وعلى مستوى التحول السياسي، اختارت بعض الحركات التي وصلت إلى الحكم أن لا تعزل نفسها سياسيًّا مُحَاوِلَةً البحث عن شركاء ونسج تحالفات سياسية منخرطة في مسار تعاقدي؛ لأنها أدركت أن تأسيس نظام سياسي جديد لا يمكن أن يكون إلا تعاقديًّا توافقيًّا تشاركيًّا يسهم فيه مختلف مكونات المجتمع سواء كانت ممثَّلة أو غير ممثَّلة في مؤسسة القرار التشريعي أو التنفيذي. 

ولاحظ بعض المتدخلين أن مقاربات المشاركين بشأن التحولات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي عرفتها الحركات الإسلامية تنطلق من فرضية "إيجابية التحولات"، بينما يشير الواقع الراهن إلى أن هناك نكوصًا لدى بعض قوى التيار الإسلامي على مستوى المنهج -بحسب المتدخل- حيث عادت مثلًا جماعة الإخوان المسلمين إلى طرح السؤال حول جدوى العمل السياسي السلمي، والحديث عن العنف الدفاعي وليس بالضرورة العنف الهجومي، معتبرًا أن العودة إلى خطاب المحنة والمظلومية يزيد المشهد تعقيدًا؛ لذلك فالتحوُّل لا يعني انتقالًا إيجابيًّا. ونبَّه المتحدث أيضًا إلى التعميم الذي يكتنف بعض المقاربات التي تختزل القوى الإسلامية في مركزيتين رئيسيتين، هما: الحالة المصرية وانعكاساتها على جميع الحركات الإسلامية ومركزية الحالة الإخوانية؛ بينما توجد داخل الخريطة الإسلامية مكونات أخرى، مثل: السلفية السياسية؛ التي تعيش تحولات عميقة من السكون والثبات والاستسلام إلى الفاعلية والديناميكية السياسية، ثم هناك السلفية الجهادية التي كانت تستخدم العنف وأصبحت الآن جزءًا من العملية السياسية سواء في ليبيا أو مصر. 

وطالب أحد المتدخلين أيضًا الحركات الإسلامية بالوعي بحدودها وإمكاناتها؛ لأن التغيير والإصلاح لا يمكن أن تقوم به أو تنجزه التنظيمات وحدها، بل هو عبء أكبر من هذه الحركات، والوعي بالحدود يحررها ويدفعها نحو التعاون مع مختلف القوى الحية في المجتمع، معتبرًا أن أكبر وهم يمكن أن تعيشه حركة إسلامية عندما ترى نفسها بديلًا للمجتمع أو يمكن أن تحلَّ مكانه، مؤكدًا أن التنظيمات الإسلامية تحتاج إلى تطوير حقيقي حتى تصبح هيكلًا وظيفيًّا لأداء مهام ووظائف محدودة ليس أكثر. 

ومن واقع المسؤولية والممارسة السياسية اعتبر أحد المشاركين أن الحركات الإسلامية تواجه تحدي الدولة الحديثة التي تشتغل في بيئة اقتصادية وسياسية تتجاوز المعطيات المحلية؛ لأن المشاركة السياسية والإيمان بالديمقراطية والاشتغال داخل المؤسسات يفرز إشكالات تختلف تمامًا عن الإشكالات النظرية، وهو ما يدفع الفاعل السياسي إلى البحث عن حلول تتجاوز تلك النقاشات النظرية. فحينما يشتبك هذا الفاعل بقضايا الواقع المرتبطة بارتفاع نسبة العجز التجاري مثلًا وانخفاض معدل النمو وارتفاع مشاكل البطالة وانخفاض احتياطي العملة فإن الفاعل السياسي يُفكِّر بطريقة مختلفة تمامًا عن الطريقة التي يُفكِّر بها قبل ولوج العمل السياسي. لذلك، فإن الاشتباك مع الواقع والانخراط فيه -بحسب المتدخل- هو الكفيل بحل الكثير من المشاكل النظرية وليس العكس.    

تطورات المواقف والتوجهات السياسية 

في ثالث جلسة بالندوة، بحث المشاركون التطورات التي عرفتها مواقف الحركات الإسلامية وتوجهاتها السياسية في ظل المسارات التي عرفتها حركة التغيير والأوضاع التي عاشتها دول الربيع العربي بين "عودة مناخ التسلط والاستبداد السياسي وأجواء الانقلابات العسكرية وأوضاع الحروب الأهلية المدمِّرة وتمزق النسيج المجتمعي مع تصاعد الانقسامات الطائفية والإثنية والصراعات السياسية على السُّلطة". كما تناولت الجلسة تأثير هذه التطورات في الكشف عن تباين المصالح بين القوى الإسلامية المختلفة، وتَنْزِيلِها لرؤيتها بشأن الدولة الوطنية وتصاعد الجدل حول الخلافة، وتعامل الغرب مع مسارات التحول الديمقراطي في دول المجال العربي. وهنا، ينطلق وزير الخارجية التونسي الأسبق، رفيق عبد السلام، من أطروحة واقعية لتفسير التحولات التي عرفتها الحركات الإسلامية في تفاعلها مع هذه البيئة السياسية؛ مؤكدًا أن الإسلاميين فاعلون سياسيون وليسوا "كائنات ميتافيزيقية" خارج دائرة الزمان والمكان، فهم يتأثَّرون بطبيعة المناخ السياسي العام الذي يشتغلون ضمنه، وهو أيضًا يُؤَثِّر في اتجاهات وطبيعة تيارات الإسلام السياسي أو التعبيرات السياسية الإسلامية، وهذا ما يُفَسِّر برأيه التَّنَوُّع الحاصل بين التكوينات الإسلامية المختلفة تناسبًا مع اختلاف الأوضاع العربية.  

ويبدو هذا العامل مُؤَثِّرًا في تجربة حركة النهضة التونسية التي تحوَّلت، كما يوضح الدكتور عبد السلام، من حركة معارضة جذرية في مواجهة نظام تَحَكُّمِي شمولي إلى حركة تتجه لأن تكون حزبًا حاكمًا أو حزبًا يتحمَّل جزءًا من مسؤولية الحكم. ولعل التحوُّل الأبرز الذي عرفته الحركة، وتناول وزير الخارجية التونسي الأسبق أبعاده المختلفة، هو التحوُّل من حزب شامل يُغطِّي مختلف مجالات العمل إلى حزب مُتَخَصِّص في إدارة الشأن السياسي، معتبرًا أن القضية ليست أيديولوجية ولا علاقة لها بمسألة الأَسْلَمَة والعَلْمَنَة، وإنما ترتبط بالنجاعة وتحسين الأداء السياسي من خلال الفصل الوظيفي بين المجال السياسي والمجال الثقافي والدعوي؛ لأن المجتمعات الحديثة تَتَّجِه إلى التركيب والتعقيد في الوظائف الاجتماعية. ويشدِّد القيادي بحزب النهضة على أن تجربة النهضة في الفصل بين السياسي والدعوي تختلف عن تجارب الحركات الأخرى في المغرب ومصر واليمن والأردن؛ فـ"لم يحصل الفصل بين الحزب والحركة الأم، بل الفصل بين الحزب والمجتمع المدني، بمعنى إحالة الوظائف الدعوية والثقافية والمناشط الاجتماعية العامة واندراجها بصورة طبيعية وتلقائية ضمن نسيج المجتمع المدني استحضارًا للخبرة والتجربة التاريخية في الاجتماع التاريخي الإسلامي؛ حيث كان ما يُسَمَّى بالمجتمع الأهلي هو الحاضنة الأساسية لمختلف المناشط الثقافية والدعوية والدينية". 

وفي هذا السياق، يشير الدكتور عبد السلام إلى تراجع الاهتمام بالقضايا الأيديولوجية الكبرى المرتبطة بمسألتي الأَسْلَمَة والعَلْمَنَة وتركيز الاهتمام على القضايا العملية التي ترتبط بأحوال الناس ومعاشهم من تنمية وشغل وتعليم وصحة...وهنا يطرح المتحدث سؤالًا مركزيًّا: كيف يمكن حماية الحدِّ الأدنى الديمقراطي ومجمل المكتسبات التي أتت بها ثورات الربيع العربي في ظل موجات الارتداد ومناخ الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية التي تمزق العالم العربي؟ لقد فرض هذا الوضع -يقول الدكتور عبد السلام- على حركة النهضة اختيارًا صعبًا ومكلِّفًا: هل تختار مصلحة الحزب أم تتشبث بالحكم استنادًا إلى الشرعية الانتخابية أم تُرَجِّح مصلحة البلد وحماية التجربة الديمقراطية الهشة الوليدة؟ ويجيب عن هذا السؤال بالتأكيد على أهمية التوافقات والتسويات السياسية في مرحلة الانتقال الديمقراطي؛ ما جعل حركة النهضة تقبل المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية ترجيحًا للمصلحة الوطنية العامة وأولوية حماية الخيار الديمقراطي الهش والضعيف على المصالح الحزبية الفئوية؛ إذ لم تنضج الأوضاع السياسية إلى الحدِّ الذي يمكن فيه إعمال الآليات الديمقراطية العادية وفق ثنائية الأغلبية والأقلية. 

عبد الرحمن الجميعان (الجزيرة)

ويُقَدِّم الأمين العام لمنتدى المفكِّرين المسلمين، عبد الرحمن الجميعان، في تَمَثُّلِه لتطورات مواقف الحركات الإسلامية وتوجُّهاتها السياسية، خمسة مستويات تُحَدِّد أطروحاتها السياسية والعقدية والهيكيلية التنظيمية ورؤيتها للدولة الوطنية الحديثة وتعاملها مع ثورات الربيع العربي، ويرى أن الجماعات الإسلامية تُمَثِّل الوجه الآخر للسلطة، وأقصى ما تطالب به هو تقاسم السلطة مع النظام، أو على الأقل الشراكة في السلطة كما لو أنها غنيمة أكثر منها مسؤولية، كما أنها تواجه مشكلة تجديد قياداتها، ولم تبذل جهدًا في التأهيل السياسي لممارسة السلطة. وفي مستوى الأطروحة العقدية والهيكلة التنظيمية، يلاحظ الجميعان أن بعض الحركات جماعات براغماتية، قَبِلَت العمل في الأطر السياسية المحلية والإقليمية والدولية وحتى الطائفية، واعترفت بالواقع القائم كما هو، وبعضها الآخر ذو أطروحات دعوية أو اجتماعية أو تربوية، بينما أَسَّسَت جماعات أطروحتها العقدية على أحاديث "النبوءات الغيبية"، وجميعها آلت إلى ما يشبه الجمود التام. 

وهنا، يتساءل الأمين العام لمنتدى المفكرين المسلمين: ما الذي يجعل الحركات الإسلامية متميزة عن الجماعات العلمانية، سواء في مستوى محلي أو في مستوى النظام الدولي؟ ويؤكد أن هذا الواقع تَسَبَّب في نمو التيارات الجهادية التي قدَّمت أطروحة عقدية تقوم على أساس ت