على امتداد العقدين الأخيرين؛ والعالم العربي يمر بمرحلة خطيرة جدًّا، تتطلب من العلماء والأكاديميين والمفكرين والسياسيين، أن يجلسوا على طاولة حوار واحدة، ويناقشوا جُل الأزمات والتغيرات الجارية، وفي مقدمتها الانعطاف نحو الثورات، وقيام الثورات المضادة، وقوة العوامل الخارجية والداخلية التي أسهمت في تراجع الوهج الثوري، وكذا قياس مدى الفاعلية في التقدم وكيفية الاستفادة من معطى الثورات الشعبية، كإحدى آليات التغيير.
إن حالة من التشخيص الدقيق، المدعم بالأدلة والإحصاءات، دون تعسف، ولا عاطفة، ولا ضغوط، كفيل بإعانة الأمة على رؤية إجمالي مشهد التغيرات في العالم وليس في المنطقة فحسب، ووضع نظرية تسهم في إخراج الأمة مما يبدو تيهًا شديدًا، وغموضًا في تحركات القوى الكبرى والعظمى، وصراعها في المنطقة.
وإذ يشكرُ منتدى المفكرين المسلمين مركزَ الجزيرة للبحوث والدراسات الذي نظَّم هذه الندوة، كمحاولة منه لفهمها والاستجابة لما تطرحه من تحديات، وما تتطلبه من فهم وتقييم وتفعيل للقوى الحيوية في الأمة. فإنه ينوِّه إلى أنه كانت من منتدى المفكرين المسلمين مساهمات حيوية في هذا الشأن، لم تكتمل كافة محاورها بعد، استهدفت النظر في إجمالي الأزمات العظمى في الواقع الدولي والإقليمي، على المستوى الاستراتيجي. وفي ضوء ما أنجزناه من أبحاث ودراسات، خلال العامين الماضيين، ستكون ورقتي هنا، من باب المساهمة في تسليط الضوء على الواقع الراهن، وعلى الإشكالات الكبرى في العالم والأمة، ومن ثَمَّ في مستوى فاعلية القوى الإسلامية.
القسم الأول: حالة النظام الدولي
أولًا: الدولة القومية وفكرة النظام الدولي
فكرة إقامة نظام دولي ليست طارئة على الذهنية الأوروبية بل هي استحقاق أملاه خروج البشرية من العصور الفلسفية إلى العصور المعرفية، كمقدمة لدخول العصر الصناعي، بعد:
- التعرف على المادة.
- القدرة على التحكم بها.
- الحاجة إلى الموارد الأولية.
- ومراكمة الرأسمال.
لكن إقامة نظام دولي وإطلاق العربة الاستعمارية لجلب الموارد ورأس المال غير ممكن طالما يتواجد في أوروبا والعالم دول ممتدة. تحت هذا السقف نشأ الفكر القومي في أوروبا، ومنه الدولة القومية التي غدت الوحدة السياسية المركزية في النظام الدولي، وجرى تصديرها للعالم أجمع.
بل حتى تفكيك الدولة الممتدة في أوروبا لم يَكْفِ، ما لم يتم تفكيك الدولة العثمانية، باعتبارها أعظم دولة ممتدة في العالم، إلى دول قومية. في هذا السياق يقول د. أكرم حجازي في بحثه القيم "مرابط النظام الدولي" المنشور في موقع منتدى المفكرين المسلمين: "انطلقت الجيوش الاستعمارية الأوروبية نحو إفريقيا وآسيا وأميركا لتفكيك الإمبراطورية العثمانية الأخطر، باعتبارها"»الدولة الممتدة"، ليس عبر الحدود بل وعبر القارات. وهو ما سيعني بالمحصلة وجوب تفكيك العالم الإسلامي برمته. ولأنه عالَمَ ينتظم بموجب قيم عَقَدية لا وضعية، فقد كان من الطبيعي أن يجري استهدافه مبكرًا جدًّا على المستوى الثقافي، وتعريض الكتل السكانية الكبرى فيه، بما في ذلك القوى الحيوية التي تداولت الحكم عليه (العرب والترك والكرد)، إلى تمزيق شديد وبالغ التعقيد، ابتداءً من حدود المحيط الهادي شرقًا وانتهاءً بتخوم القارة الإفريقية على حدود الأطلسي غربًا. ولأن الدولة الإسلامية هي، في المبدأ والمنتهى، نظام حكم شرعي، ممثَّل بسلطان الخلافة، أكثر مما هي جغرافيا سياسية ممتدة، فقد عمد النظام الدولي، منذ صياغته الأولى، إلى تحطيمه وإلغائه بصورة تامة، كي لا يأتلف العالم الإسلامي مجددًا، لا على أساس شرعي تاريخي، ولا حتى على أساس "الدولة القومية"، ذات المرجعيات الوضعية الصرفة. على الرغم من أنه ما من فرصة لإقامة نظام دولي بدون تفكيك العالم الإسلامي، إلا أنه أيضًا ما من فرصة لِأنْ يستمر بموجب معاهدات ووثائق، ولا حتى عملاء وخونة لابد للزمن أن يطويهم. لذا كان لابد قبل ذلك من التفكير والبحث عن قوى مادية تمسك في النظام من جهة، ومن جهة ثانية تحول دون ائتلاف العالم الإسلامي ثانية، أو تهديد "أمن" النظام و"استقراره". هذه القوى هي التي نسميها بـ "المرابط" أو "المعاقد" أو "الأوتاد"(1)ا.هـ.
أما المرابط الثلاثة الكبرى، التي تم زرعها في قلب العالم الإسلامي، لتأمين النظام الدولي ومنعه من الانهيار، بعد الحرب الأولى فهي:
- المربط اليهودي في بيت المقدس.
- المربط الأمني في الشام بوصاية ورعاية الطائفة النصيرية.
- المربط العقدي، المسؤول عن تشريع الوضع القائم. وبموجبه تمت مصادرة الفتوى ووضع الدين برمته تحت وصاية وزارات الأوقاف، لكنه يتمثل في دول وجماعات إسلامية وعلماء وفقهاء وتربويين...إلخ، وكائن في شتى أنحاء العالم.
- بالإضافة إلى المربط الثقافي الأقدم، ومركزه مصر ثم بيروت.
من الطبيعي أن يكون قلب الأمة هو موطن المرابط الأربعة باعتبار المنطقة منطلق التغيير الأزلي، سواء سلبًا أو إيجابًا ولمنع الأمة من الائتلاف بموجب روابط مادية ومعنوية لها من القوى العسكرية والأمنية والعقدية والثقافية ما يجعل التغيير باهظ التكلفة مثلما هو الخضوع والهيمنة.
ثانيًا: نهاية النظام الدولي القديم
بعد نحو مئة عام على تأسيس النظام الدولي بدأت الأزمات الطاحنة تظهر سواء على مستوى قدرة المرجعيات الفلسفية والقانونية والحقوقية والأخلاقية والتشريعية والسياسية والأمنية على الصمود، أو في مستوى المعطيات الديمغرافية، أو في مستوى المنظومة الرأسمالية وقيمها.
وكمثال لا يقل بيانًا عن غيره، نجد أن النظام الدولي على المستوى الديمغرافي ظهر في وقت كان فيه عدد السكان خلال عشرينات القرن الماضي ما بين مليار ونصف وملياري إنسان! واليوم، ونحن في سنة 2016، بعد مئة عام تقريبًا، ثمة نحو 7.5 مليارات إنسان.
بطبيعة الحال، من المستحيل تخيل بقاء ذات النظام ليحكم نحو 12-15 مليار إنسان بعد نحو ربع قرن من الآن. فكيف ستكون الحال مع قواعده وتشريعاته ومؤسساته ومنظوماته السياسية والحقوقية؟!
لذا، لا نستغرب أن نجد أشد التصريحات فزعًا تجاه مصير النظام الدولي، وتصدع أركانه ومرابطه، وخاصة الدولة القومية أو الوطنية وكل الصيحات المنذرة، والهلعة، تصدر من الغرب نفسه.
وفيما يلي بعض النماذج، منها (وعلينا أن نتنبَّه لهذه التصريحات الغربية، فهي تعبِّر عن ما يحدث داخل أروقة النظام العالمي، ولم يلتفت إليها الكثيرون):
1- على المستوى السياسي
- شهادة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في مقابلة له مع صحيفة "نيويورك تايمز، 8 أغسطس/آب 2014" على موقعها الإلكتروني؛ حيث قال: "ما نراه يحدث في الشرق الأوسط ومناطق من شمال إفريقيا هو بداية تصدُّع نظام يعود إلى الحرب العالمية الأولى".
- شهادة الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية "CIA"، مايكل هايدن، بتصريحات لقناة سي إن إن CNN الأميركية، 26 فبراير/شباط 2016، "الاتفاقيات العالمية التي عُقدت بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تنهار؛ ما سيغيِّر حدود بعض الدول في الشرق الأوسط"، وأن: "الذي نراه هو انهيار أساسي للقانون الدولي، نحن نرى انهيارًا للاتفاقيات التي تلت الحرب العالمية الثانية، نرى أيضا انهيارًا في الحدود التي تم ترسيمها في معاهدات فرساي وسايكس-بيكو، ويمكنني القول بأن سوريا لم تعد موجودة والعراق لم يعد موجودًا، ولن يعود كلاهما أبدًا، ولبنان يفقد الترابط وليبيا ذهبت منذ مدة»(2).
- شهادة المتحدث السابق باسم الخارجية الأميركية، آدم إيرلي؛ حيث قال خلال استضافته على برنامج "ما وراء الخبر"، 20 ديسمبر/كانون الأول 2014، الذي بثَّته قناة "الجزيرة" على وقع معركة عين العرب (كوباني) مع "تنظيم الدولة الإسلامية" بأن: "اتفاقية سايكس-بيكو لم تعد موجودة مع تلاشي الحدود بين سوريا والعراق"، ... وأن "المنطقة لن تشهد سايكس-بيكو جديدة". ومع ذلك، فقد ختم بالإشارة إلى "الحاجة إلى حدود جديدة وكيانات جديدة".
- شهادة الدبلوماسي الألماني، فولفغانغ إيشنغر، منظِّم مؤتمر ميونخ للأمن، ولعلها أسوأ المناسبات الصريحة تلك التي كانت في أعمال "المؤتمر السنوي للأمن والسلم العالمي، 6 فبراير/شباط 2015"، في مدينة ميونخ الألمانية؛ حيث كانت مناقشة "انهيار النظام العالمي" من ضمن جدول الأعمال إلى جانب "المسألة الأوكرانية"، و"محاربة الدولة الإسلامية". قال فولفغانغ إيشنغر: إن: "الاجتماع سيبحث الازدياد غير المسبوق بالأزمات العالمية خلال العام المنصرم، وعدم قدرة المجتمع الدولي على مواجهتها". وأضاف: إن "النظام العالمي ينهار حاليًّا"، وما يجري في الواقع هو أن: "الجميع يختبر القدرة على المواصلة".
- شهادة يوشكا فيشر، وزير خارجة ألمانيا الأسبق، في مقالة له بعنوان: "الغرب المنهَك(3)"، 26 أغسطس/آب 2014؛ حيث رأى أن: "المناقشة حول مستقبل النظام العالمي تدور في الأساس في الغرب وتحديدًا في أميركا الشمالية وأوروبا".
2- على المستوى الاقتصادي
تبرز مشكلات النظام الرأسمالي العالمي هنا في ثلاثة مستويات عالمية: الديون والعجز في الميزانية، والتباين المريع في توزيع الثروة، والتهرب الضريبي أو تلك المناطق التي توصف بأنها "Offshore" "الجنة الضريبية".
أ. الديون
أولًا: كتاب "حقائق العالم 2011" (وكالة المخابرات الأميركية CIA):
كان إجمالي حجم الديون سنة 2008 أكثر من 28 تريليون دولار، بعد سنتين ارتفع إلى أكثر من 36 تريليون دولار، بزيادة قدرها 12.8%.
ثانيًا: تقرير مركز الإحصاء الأوروبي "اليوروستات" للربع الأول من عام 2015:
حتى الربع الأول من سنة 2015، وفي منطقة اليورو (19 دولة)، تجاوزت الديون حدود الـ 90% سنة 2013 لتبلغ نحو 92% سنة 2014 من إجمالي الناتج القومي، ثم إلى 92.9 في منتصف العام 2015 بمعدل يتراوح ما بين 10.3 تريليونات إلى 11 تريليون دولار سنة 2013.
ثالثًا: دراسة "معهد ماكينزي العالمي"
في أحدث دراساته، فبراير/شباط 2015، كشف المعهد عن: (1) حجم المديونية العالمية. (2) نسبة نموها في الفترة ما بين نهاية سنتي 2007–2014. وقد بلغت 199 تريليون دولار، بنسبة زيادة قُدِّرت بـ 57 تريليون دولار، أو ارتفاع من 33 تريليون إلى 58 تريليون دولار. وفي مسح أجراه المعهد على 47 دولة تبيَّن أن نسبة الديون العامة إلى إجمالي الناتج العالمي ارتفعت من 269% إلى 286%.
ب. التباين والتهرب الضريبي أو ما يُعرف بمناطق "الجنة الضريبية"
أولًا: تقرير مؤسستي "كاب جيميني للخدمات المالية" و"آر بي سي لإدارة الثروات"، في 19 سبتمبر/أيلول 2012؛ حيث نقلت وكالة رويترز للأنباء عن تقرير مشترك للمؤسستين يفيد بأن:
- منطقة آسيا والهادي تحتضن 3.37 ملايين من أصحاب الثروات الذين تبلغ ثروة كل واحد منهم مليون دولار أو أكثر.
- 3.35 ملايين في أميركا الشمالية.
- 3.17 ملايين في أوروبا.
- 54% منهم يتركزون في اليابان و17% في الصين و5% في أستراليا.
- حتى سنة 2010 بلغ حجم ثرواتهم نحو 10.7 تريليونات دولار، وهو رقم قريب من أقرانهم في شمال القارة الأميركية (11.4 تريليون دولار).
ثانيًا: تقرير مصرف "كريدي سويس"(4):
- في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2014، بحسب التقرير، فإن إجمالي الثروة العالمية تضاعف من 117 تريليون دولار سنة 2000 إلى 263 تريليون دولار.
- 1% من سكان الأرض يمتلكون أكثر من 48% من الثروة العالمية.
- النصف السفلي من السكان يمتلك أقل من 1% من الثروة.
وعن توزيع الثروة بين الأغنياء:
الأميركيون الشماليون يحتلُّون المرتبة الأولى بنسبة 34.7%، ثم الأوروبيون بنسبة 32.4%، ثم الآسيويون ومواطنو الباسيفيك في المرتبة الثالثة 18.9%، فيما يحتل الصينيون المرتبة الرابعة والأخيرة بنسبة 8.1%.
ثالثًا: تقريرا البنك السويسري "يو بي إس" وشركة "ويلث إكس الاستشارية"
- في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، أشار تقرير البنك إلى أن 0.004% من سكان العالم يملكون نحو 30 تريليون دولار، بنسبة 13% من إجمالي ثروة العالم.
- ثلث المالكين لـ 30 تريليون دولار يعيشون في أميركا الشمالية، وأكثر من ربعهم في أوروبا، و23% منهم في آسيا.
رابعًا: تقرير "أوكسفام"
في 19 يناير/كانون الثاني 2014، قالت: إن 85 ثريًّا في العالم يمتلكون ما نسبته 48% من الثروة(5)، وأن ثروة هؤلاء ستبلغ 50% بحلول العام 2016. وهي نسبة تفوق بـ65 ضعفًا ثروة نصف سكان العالم الأقل فقرًا.
خامسًا: "شبكة العدالة الضريبية"
نشرت دراسة على موقعها في 22 يوليو/تموز 2012، قالت فيه:
- الأصول المالية النقدية المخبأة في مناطق "التهرب الضريبي" تبلغ نحو 32 تريليون دولار، تسبَّبت بخسارة نحو 280 مليار دولار من الإيرادات الضريبية.
- تلك الأموال الضخمة التي وضعتها الصفوة تؤثر في ميزانيات 139 دولة نامية.
- الأصول غير المالية، كالعقارات والذهب واليخوت وخيول السباق، تُقدَّر بما بين 21-32 تريليون دولار.
- أثرياء الدول النامية جمعوا منذ سبعينات القرن العشرين وحتى سنة 2010 ما بين 7.3-9.3 تريليون دولار "كثروة خارجية غير مسجلة".
- الثروات الخاصة في الملاذات الخارجية تشكِّل "ثقبًا أسود ضخمًا في الاقتصاد العالمي" وليس مجرد فجوة مالية كما يصفها البعض.
إذن، ومن خلال هذه الشهادات، والتي ذكرنا جزءًا منها فحسب، يتبيَّن أن النظام العالمي يحيق به الخطر، ويُنذر بوقوع كارثة تفكِّكه، ومن ثم ضرورة تغييره.
القسم الثاني: حالة القوى الإسلامية والدولة القومية
لا نشك، بأن النظام العربي، هو نتيجة للنظام الدولي، ويسير وفق منظومة النظام العالمي، وهو المكان الذي يمارس فيه النظام العالمي الدولي عمله وطغيانه ويصارع على النفوذ عليه، وكسب المصالح حول ثرواته ومصادره.
لهذا، كان لابد لهذا النظام أن يتأثر، بتأثر الأصل وهو النظام العالمي، بعدة اتجاهات: سياسية، ودينية، واقتصادية...إلى آخره.
أ. حالة الدولة القومية والطريق المسدود
- على مستوى المشروعية السياسية
منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001، وما بعده، ومقولة الرئيس الأميركي جورج بوش: "إما معنا أو ضدنا"، بدا النظام السياسي العربي فاقدًا للشرعية إلا بقدر ما يستجيب للأطروحة الأميركية. ليس فيما يتعلق فقط بـ"الحرب على الإرهاب" بل بما تشترطه السياسة الأميركية على الدول وما تطلبه، سواء تعلق الأمر باستعمال نظم الأمن والعسكر المحلية أو بالتدخل في المستويات الثقافية والشرعية والدينية والأخلاقية والتعليمية؛ وهذا يعني المزيد من تغييب المشاركة السياسية وإقصاء الشعب رغم أنه الفاعل الاستراتيجي؛ وهو ما أوصل الدولة والمجتمع إلى طريق مسدود، ارتفعت بموجبه سياسات الإقصاء والاستبداد بدعم دولي.
- على مستوى المشروعية الاجتماعية
تعرضت هذه المشروعية إلى ضربة في الصميم في ضوء الثورات الشعبية التي أطاحت بعدد من أقوى الزعامات العربية أما الثورات فبدت في تحركاتها المليونية وكأنها تستحضر فاعلًا استراتيجيًّا تم تغييبه، وهذه الثورات كان لها أثر كبير في تصدع النظام العربي والدولة، فشهادة رجل مثل يوشكا فيشر، في مقالة بعنوان "الفائزون والخاسرون في الشرق الأوسط"(6)، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2014؛ حيث قال: "بات من الواضح أن منطقة الشرق الأوسط تواجه أيضًا احتمال انهيار النظام القديم الذي ظلَّ قائمًا في المنطقة بلا تغيير تقريبًا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فضلًا عن تراجع القوى التقليدية المثبِّتة للاستقرار في المنطقة". فهذه الشهادة تدل على هذا التصدع وهذا الزلزال غير المرتقب.
بل خذ شهادة أشد وأكثر صراحة حول الدولة العربية والنظام، وهي شهادة مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كريستوفر هل، في مقالته "نهاية الدولة العربية"(7)، 29 يوليو/تموز 2014"؛ حيث يقول: "تشير أحدث جولة من جولات العنف في الشرق الأوسط إلى أن شيئًا أكبر يجري على قدم وساق، هناك بداية تفكك الدولة القومية العربية"؛ فقد "أصبحت الدول في الشرق الأوسط أضعف من أي وقت مضى، فالآن تبدو السلطات التقليدية، سواء الأنظمة الملكية الشائخة أو الأنظمة المستبدة العلمانية، عاجزة بشكل متزايد عن رعاية شعوبها. ومع تزايد ضعف سلطة الدولة، تزداد الولاءات القَبَلية والطائفية قوة". أما لماذا هذا الضعف؟ فلا شك أن: "هناك أسبابًا عديدة وراء ضعف الدولة القومية العربية"، لكن (وبحسب الكاتب) "فإن أكثر هذه الأسباب وضوحًا وقربًا هو إرث الربيع العربي".
- على مستوى الإنجازات
واقع الحال يؤكد أن الدولة القومية، لم تحقق أية إنجازات تذكر سوى ما توفر منه بالضرورة. فلا تعليم ولا معرفة ولا تنمية ولا اقتصاد ولا تجارة ولا صناعة ولا اجتماع ولا ثقافة ولا أية انطلاقة يعتد بها.
- على مستوى الانقسام الديني و الطائفي
فقد برزت فكرة الانقسام الطائفي الحادِّ، من خلال ما يحدث في العراق والبحرين والسعودية والكويت واليمن، بل قد وصل الأمر إلى القارة السوداء، وبدا الصراع الطائفي مشدودًا إلى فكرة البقاء للأقوى، وإلى مدى قوة التدخل الإيراني، وضعفه، وقد ميَّزت الساحة السورية بما لا يدع مجالًا للشك هذا التمايز الطائفي.
الخلافة: من جهة أخرى، هناك رؤية ورثت تاريخ القاعدة، وهي: الدولة الإسلامية، التي رفعت راية الخلافة، وقدمت مشروعها للعالم، واستطاعت جذب الشباب المسلم من كل أنحاء الأرض، الأمر الذي يدل على مدى إفلاس الدولة العربية في تقديم أنموذج صالح للبقاء، والعيش بحرية وسلام، والذي يدل كذلك على مدى تعطش الشباب المسلم لدولة الخلافة الراشدة، ومدى رومانسية الحلم لديهم. هذا ما يخص الدولة القومية والوطنية العربية، أما ما يخص الحركة الإسلامية فنقول:
ب. الحركات الإسلامية
ونعني بالحركة الإسلامية: كل جهد مبذول لصياغة حياة إسلامية، فرديًّا كان أم جماعيًّا.
فالحركة الإسلامية، قد عانت منذ خمسينات القرن المنصرم، إلى يومنا الحالي، التنكيلَ والمطاردات والقتل، والعنف، وجوبهت بكل أنواع الأسلحة من قبل الأنظمة العربية، والعالمية، ولكن مع كل هذا فقد جاءت الثورات، لتعطي هذه الحركة القوة الدافعة، والآليات الرشيدة، ولتدفعها نحو تغيير نهضوي في الدولة والعالم، فهل تمكنت هذه القوى من استثمار الثورات؟ وهل تمكنت من هامش الحريات في بعض البلدان؟
1- في مستوى الأطروحة السياسية والتأهيل: الجماعات الإسلامية هي الوجه الآخر للسُّلطة، بمعنى آخر هي معارضة في إطار السلطة، وأقصى ما تطالب به هو تقاسم السلطة مع النظام، أو على الأقل الشراكة في السلطة، كما لو أنها غنيمة أكثر منها مسؤولية، فوق كل هذا ثمة مشكلة تجديد القيادات، ولعل أطرف مشكلة واجهتها جماعات الإسلام السياسي أنها لم تبذل جهدًا في التأهيل السياسي لممارسة السلطة بل إنها بدت عاجزة حتى عن إدارة وزارة لكونها لا تمتلك أرشيفًا منظمًا وتراكميًّا عن أية وزارة في الدولة. فكيف يمكن لها أن تمارس سلطة بلا تأهيل؟! وكيف يمكن لهذه الجماعات أن تغفل عن اتهامات قوى السلطة لها طوال عشرات السنين بأنها غير مؤهلة أو فاقدة لأية خبرة وبرامج محددة، ولا تحرك ساكنًا؟!
2- في مستوى الأطروحة العقدية والهيكلة التنظيمية بعضها جماعات براغماتية، قبلت العمل في الأطر السياسية المحلية والإقليمية والدولية وحتى الطائفية، واعترفت بالواقع القائم كما هو، وبعضها الآخر ذو أطروحات دعوية أو اجتماعية أو تربوية، وبعض ثالث يقيم أطروحته العقدية على أحاديث النبوءات الغيبية، وجميعها آل إلى ما يشبه الجمود التام وإنْ أعادت النظر فإلى الوراء. فما هو مبرر انتمائها الإسلامي؟ وما الذي يجعلها متميزة عن الجماعات العلمانية، سواء في مستوى محلي أو في مستوى النظام الدولي؟
هذا ما تسبب في نمو التيارات الجهادية التي قدمت أطروحة عقدية تقوم على أساس تطبيق الشريعة مقابل منظومة الأحكام الوضعية، وترفض التعامل مع النظام الدولي، بل وتعلن الحرب عليه، وتقدِّم مشروعًا سياسيًّا يتمثل في الدولة الإسلامية والخلافة، بغضِّ النظر عن مدى اتفاقنا وافتراقنا حول هذا، ثم إن هذه الحركة الإسلامية لم تقدِّم برنامج عمل للخروج من ورطة الانقسام الطائفي الحاد، على أقل تقدير كل في بلده، بل شاركت وأسهمت في هذا الانقسام، وكانت فاعلة فيه بقوة.
3- في مستوى الهوية السياسية للدولة القومية: لم تطرح الجماعات الإسلامية أي برنامج يتجاوز تقسيمات سايكس-بيكو، بل قبلت بالدولة القومية كما تسلمتها من القوى الاستعمارية، وبدا الحاضر والمستقبل بالنسبة لها كما لو أنه يبدأ من عند سنة 1916، بينما يتحدث الواقع والغرب عن انهيار في الدولة القومية وفي مشروعيتها وفي مرجعياتها التاريخية والفلسفية، وحتى انهيار في منظومة النظام الدولي ومرجعياته التي لم تعد صالحة بعد مضي مئة سنة عليها.
4- في مستوى تطبيق الشريعة: فيما عدا القوى الجهادية؛ في أحسن الأحوال بدا مطلب تطبيق الشريعة عبئًا على بعض الجماعات الإسلامية، ولدى البعض الآخر كان هناك تجاهل تام لهذه القضية، وفي مستوى التحرير لم تقدم أية جماعة، جهادية ولا غيرها، دراسات أو أبحاثًا ذات صلة بتطبيق الشريعة، في إطار هيمنة الأحكام الوضعية على العالم ونظم القانون والسياسة والاقتصاد والتجارة والمال والثقافة.
5- في مستوى الثورات العربية الشعبية: فشلت فشلًا ذريعًا في المحافظة عليها وقيادتها وتوجيهها وتطويرها، بل اكتفت، كما كانت قبل الثورات، بالتطلع إلى السُّلطة؛ واتخذت القرارات بعيدًا عن أية مشاركة شعبية! فكانت قراراتها غير محصنة من الفاعل الاستراتيجي الأقوى الذي فجَّر الثورات وجاء بها إلى السلطة؛ بل وحرصت على تكريس التواصل مع قواعد النظام والقوى المضادة تحت شعار التوافق وعدم الإقصاء؛ وتحاكمت مع مؤسسات الدولة العميقة في ملاعبها القضائية والإعلامية والأمنية والثقافية والعسكرية...ولم تكن لتفكر في إيجاد مؤسسات بديلة، ولا حتى أطروحة جديدة تتفاعل مع الفاعل الاستراتيجي الشعبي، والأسوأ أنها تركت الميادين والشوارع لقوى الثورة المضادة، وغالبًا ما كانت السبب المباشر في إجهاض حركة الشارع بعد الثورة.
كل هذا يجعلنا أن نؤمن بأن هذه التيارات والجماعات قد شكَّلت بنية من بنى النظام الدولي، وأنها بنى فاعلة فيه، إن لم تكن مربطًا من مرابطه.
____________________________________
عبد الرحمن الجميعان - الأمين العام لمنتدى المفكرين المسلمين
المصادر
1- أكرم حجازي: مرابط النظام الدولي، إبريل/نيسان 2016، موقع منتدى المفكرين المسلمين http://www.moslimon.com/searchs.php?do=view&id=79
2- "رئيس CIA السابق: ستتغير حدود الشرق الأوسط التي كنَّا نعرفها، هايدن: القانون الدولي ينهار"، 26 فبراير/شباط 2016، موقع عربي 21، على الشبكة: http://cutt.us/Vpa3C
3- يوشكا فيشر: الغرب المنهَك، 28 أغسطس/آب 2014. موقع بروجيكت سنديكيت، على الشبكة: http://cutt.us/U5qNg
4- نقلًا عن موقع: http://cutt.us/ujbx
5- يمكن متابعة الرابط التالي لمزيد من تفاصيل تقرير أوكسفام: http://cutt.us/1uu2w ، والرقم منقول عن تقرير "كريدت سويس": http://cutt.us/lqZn
6- يوشكا فيشر، الفائزون والخاسرون في الشرق الأوسط، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، موقع "بروجيكت سنديكيت"، على الشبكة: http://cutt.us/qP6oA
7- كريستوفر هل، نهاية الدولة العربية، 29 يوليو/تموز 2014، موقع بروجيكت سينديكيت، على الشبكة: http://cutt.us/LrWS